|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مَثَل الكَنْز واللُّؤلُؤَةً والشَّبَكة الأحَد السَّابع عشر من السنة: َمَثَل الكَنْز واللُّؤلُؤَةً والشَّبَكة (متى 13: 44-52) النص الإنجيلي (متى 13: 44-52) 44 مَثَلُ مَلَكوت السَّمَوات كَمَثَلِ كَنْزٍ دُفِنَ في حَقْل وَجدَه رَجُلٌ فأَعادَ دَفنَه، ثُمَّ مَضى لِشِدَّةِ فَرَحه فباعَ جميعَ ما يَملِكُ واشتَرى ذلكَ الحَقْل. 45 ((ومَثَلُ ملكوت السَّمَوات كمَثَلِ تاجِرٍ كانَ يطلُبُ اللُّؤلُؤَ الكريم، 46 فَوجَدَ لُؤلُؤةً ثَمينة، فمضى وباعَ جَميعَ ما يَملِك واشتَراها. 47 ومَثَلُ ملكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ شَبَكةٍ أُلقِيَت في البَحر فجَمعَت مِن كُلِّ جِنْس. 48 فلَمَّا امتَلأَت أَخرَجَها الصَّيَّادونَ إِلى الشَّاطِئ وجَلَسُوا فجَمَعوا الطَّيِّبَ في سِلالٍ وطَرَحوا الخَبيث. 49 وكذلِك يكونُ عِنْدَ نِهايةِ العالَم: يَأتي المَلائِكَةُ فيَفصِلونَ الأَشرارَ عنِ الأَخيار، 50 ويَقذِفونَ بِهم في أَتُّونِ النَّار. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان. 51 ((أَفَهِمتُم هذا كُلَّه؟)) قالوا لَه: ((نَعَم)). 52 فقالَ لَهم: ((لِذلكَ كُلُّ كاتِبٍ تَتَلمَذَ لِمَلكوتِ السَّمَوات يُشبِهُ رَبَّ بَيتٍ يُخرِجُ مِن كَنْزه كُلَّ جَديدٍ وقَديم)). مقدمة يتابع إنجيل الأحَد تسليط الأضواء على تَعليم يسوع لتَلامِيذه عن المَلَكوت من خلال الأمثال الثلاثة الأخيرة من الفصل الثالث عشر: مَثَل الكَنْز واللُّؤلُؤَة والشَّبَكة (متى 13: 44-52). فدعاهم يسوع إلى فَرَح المَلَكوت من خلال مَثَل الكَنْز، وطلب المَلَكوت من خلال مَثَل اللُّؤلُؤَة (متى 13: 44-45) واختيار المَلَكوت من خلال مَثَل الشَّبَكة (متى 13: 47-50)؛ نعمة التمييز لما هو للملكوت يجب أن يكون في أولويات طلباتنا أمام الرّبّ، لانَّ مَلَكوت السماوات ثمين جداً، ويستحق التضحية بجميع ما يملك المرء للحصول عليه (متى 13: 44، 46)، لأنَّ المَلَكوت هو بالتحديد لقاء مع المسيح، الكَنْز واللُّؤلُؤَة الكريمة، بل أثمن الكنوز وأجمل اللآلئ، إذ من يختبر المسيح تتغيَّر حياته بشكل جذري وينال الخلاص، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 13: 44-52) 44 ((مَثَل مَلَكوت السَّمَوات كَمَثَلِ كَنْزٍ دُفِنَ في حَقْل وَجدَه رَجُلٌ فأَعادَ دَفنَه، ثُمَّ مَضى لِشِدَّةِ فَرَحِه فباعَ جميعَ ما يَملِكُ واشتَرى ذلكَ الحَقْل. تشير عبارة "مَثَلُ" إلى كلمات رمزية وإيحائية من خلال صور وتشابيه وليست أفكارًا مجرَّدة. أمَّا عبارة "مَلَكوتِ السَّمَوات " فتشير إلى مُلك المسيح الجَّديد الرُّوحي، كما وصفه بولس الرَّسول " فقَدِ استَكَنَّت فيه جَميعُ كُنوزِ الحِكمَةِ والمَعرِفَة" (قولسي 2: 3). أمَّا عبارة "كَنْزٍ" فتشير إلى ما هو ثمين، إلى شيء مرغوب فيه، وشيء لا يصنعه الإنسان بل يُعثر عليه في طريقه. وإذا عثر رَجُل عليه، فإنّه يكتسب قيمةً لا تُضاهى، لأنَّه يُثري الحياة. ويدل هنا الكَنْز على المَلَكوت السَّماوي، كالغنى الحقيقي، لانَّ فيه رضى الله والحَياة الأبدية والمِيراث الذي لا يُضمحل. أمَّا عبارة "كَنْزٍ دُفِنَ" فتشير إلى عادة قديمة حيث كان النَّاس قديمًا يخفون الفِضَّة في حَقْل لئلا تصل إليها أيدي اللُّصوص (أيوب 3: 21). إذ لم يعرف النَّاس في فلسطين، زمن يسوع، البُنوك ولا الخَزْنة الحديدية التي تملكها الشركات اليوم لإيداع مُدّخراتها، بل كانوا يدفنون أموالهم في الأرض أوقات الخَطر في مكان خَفيٍّ. وربما حدث أن مات مالك الكَنْز قبل أن يكشف عن المَخبأ. ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " إن بشارة الإنجيل مُخبّأة في هذا العَالَم ككَنْز مُخبّأ وقيمته غير مُدرَكة" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، العظة 47). والكنوز الرُّوحية تبقى مَخفيَّة عن عيون أهل العَالَم نتيجة عِمَى قلوبهم، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "عن غَيرِ المُؤمِنينَ الَّذينَ أَعْمى بَصائِرَهم إِلهُ هذِه الدُنْيا، لِئَلاَّ يُبصِروا نورَ بِشارةِ مَجْدِ المسيح، وهو صُورةُ الله" (2 قورنتس 4: 4)؛ فيسوع اختبأ في حَقْل العَالَم أملاً أن يتمكن الجميع من العثور عليه. وحياتنا ليست مُجرّد حَقْل، بل هي الحَقْل الذي فيه كَنْز مَخفي. أمَّا عبارة "وَجدَه" فتشير إلى رَجُل وجد كَنْزَا مَخفيًا آنذاك فشاع أمره بين الجميع. ويُذكرنا هذا الفعل إلى ما ورد في مَثَل الخروف الضال، عن مجهود الراعي وهو يبحث عن الخروف الضال حتى وجده ففرح فرحا عظيمًا (لوقا 15: 4-6). وإنَ العُثور على كَنْز مدفون، هو غريزة متأصّلةٍ في طبيعتنا، وحلم عريق وجذّاب. أمَّا عبارة "رَجُلٌ" فتشير إلى السيد المسيح الذي بذل كل ما عنده لاقتناء الكَنْز المكوّن من شعبه، أو يشير إلى الخاطئ الذي يبذل كلَّ شيء لاقتناء الخَلاص. أمَّا عبارة "أَعادَ دَفنَه" فتشير إلى غَيْرته وحِرْصه على الكَنْز خشية أن يخسره؛ والمراد من ذلك، بيان وجوب الاجتهاد في طلب مَلَكوت السَّماء، والاحتراس من كل ما يمنع من ذلك. ولكن لا حاجة من أن نخفي الكَنْز السَّماوي عن غيرنا حتى نتمتع به، فانه كافٍ لإغناء كل العَالَم، فاندراوس حين وجد المسيح الذي هو أعظم كنوز السَّماء أخبر فيلِبُّس، وفيلِبُّسُ أخبر نَتَنائيل "ولَقِيَ فيلِبُّسُ نَتَنائيل فقالَ له: "الَّذي كَتَبَ في شأنِه موسى في الشَّرِيعَةِ وذَكَرَه الأنبِياء، وَجَدْناه، وهو يسوعُ ابنُ يوسُفَ مِنَ النَّاصِرَة" (يوحنا 1: 43). يدعونا يسوع أن نسير على خطى اندراوس الرَّسول الذي لم يحتفظ بهذا الكَنْز لنفسه، فننطلق مسرعًين لنشارك الآخرين بالخيرات التي ننالها. وأمَّا عبارة "الفَرَح" فتشير إلى البهجة والغبطة وانشراح صدر الرَّجُل الذي وجد الكَنْز على غير انتظار، وهي النتيجة الذي يريد يسوع أن يصل إليها كل إنسان. هذا الاكتشاف يملأ حياة المرء فرحًا الذي يمنحه الشجاعة للمجازفة في بيع جميع ما يملك لشراء الحقل الذي فيه الكنز. أمَّا عبارة " فباعَ جميعَ ما يَملِكُ " فتشير إلى واجب بيع كل ما يملكه الإنسان والتَّضحية به لشِراء الحَقْل وحصوله على فَرَح المَلَكوت، كما قال السَّيد المسيح للشَّاب الغَني "إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنْز في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني" (متى 19: 21). يترك المَسيحي برضى كل شيء لأجل المسيح. فمن باع كل ما يملك لم يخسر شيئًا، بل كسب كلَّ شيء، لأنه كسب المسيح ومَلَكوته. قيمة الكنز تعادل كل ما يمتلكه المُشتري. أمَّا عبارة " اشتَرى ذلكَ الحَقْل" تُشير إلى الكنوز السَّماوية التي لا تُشترى بالمَال، لأنَّه " بِغيرِ فِضَّةٍ ولا ثَمَن " (أشعيا 55: 1)، إنَّما تَدلُّ أن طالب الخير السَّماوي يترك كل عائق يمنعه من إدراك ذلك الخير وَفقا لقول بولس الرَّسول " أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ " (فيلبي 3: 7). وقد تشير العبارة أيضًا إلى السَّيد المسيح الذي اشترى نفوسنا بدمه، كما ورد على لسان بولس الرَّسول " فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن" (1 قورنتس 6: 20)، وقد تشير أخيرًا إلى كل إنسان يبحث عن الفَرَح في امتلاك المسيح ومَلَكوته. 45 ((ومَثَلُ مَلَكوت السَّمَوات كمَثَلِ تاجِرٍ كانَ يطلُبُ اللُّؤلُؤَ الكريم، تشير عبارة "يطلُبُ اللُّؤلُؤَ الكريم" إلى البحث عن اللُّؤلُؤَة كما يفعل من يجمع الأشياء الثمينة، أي يذهب من مكان إلى مكان آخر يُفتِّش عنها. ولا يكفي أن نعثر على اللُّؤلُؤَة صدفة، كما هو الحال في مَثَل الكَنْز الدفين، بل علينا أن نبحث عنها؛ أمَّا عبارة "تاجِر" فتشير إلى رَجُل أعْمال يتاجر في السِّلع التي من إنتاج آخرين، لكسب الرِّبح. والتَّاجر هنا يمثل المسيح الذي قال عن نفسه" لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه"(لوقا 19: 10). أمَّا عبارة "اللُّؤلُؤَ" فتشير إلى درة، وهي نوع من الجواهر الكريمة يُتاجر بها (أيوب 28: 18). واللُّؤلُؤَ من الجواهر المستعملة كحلي النساء حتى في الزمن القديم (1 طيموتاوس 2: 9). وقد ذُكر في عدة أماكن إشارة إلى اللآلئ الثَّمينة. ويكون اللُّؤلُؤَ على هيئة كرات صغيرة في باطن الأصداف في أنواع كثيرة من الحيوانات الحَلزونيِّة. وهو يتألف من كربونات الكلس يتخلل طبقاتها أغشية. ويتكون أفضل اللُّؤلُؤَ وأكبره في البحار الهندية ولا سيما الخليج الفارسي والمياه المحيطة بجزيرة سيلان. وكان اقتناؤها قديمًا دليلاً على غنى مقتنيها وعظمته وشرفه، ولهذا رغب في اقتنائها المُلوك (متى 7: 6)، ولذلك يعبِّرون بها عن الجواهر " لا تُلْقوا لُؤلُؤَكُم إلى الخَنازير" (متى 5: 6)؛ ويرمز اللُّؤلُؤَ الكريم إلى معرفة الرَّبّ، كما جاء في سفر الأمثال "إِنِ التَمَستَه كالفِضَّة وبَحَثتَ عَنه كالٍ دَّفائِن ْفحينَئِذٍ تَفطَنُ لِمَخافةِ الرَّبّ وتَجدُ مَعرِفَةَ الله "(أمثال 2: 4 – 5)، وبالتالي إلى المسيح اللُّؤلُؤَة الحقيقية. 46 فَوجَدَ لُؤلُؤةً ثَمينة، فمضى وباعَ جَميعَ ما يَملِك واشتَراها تشير عبارة "لُؤلُؤةً ثَمينة" في الأصل اليوناني ἕνα πολύτιμον μαργαρίτην (معناها لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن) إلى الخير الأعظم الواحد ألا وهو: إمَّا مَلَكوت الله في نفس الإنسان، وإمَّا الخَلاص، وإمَّا معرفة المسيح وإمَّا المسيح نفسه، لأنَّ بالمسيح نجد كل بركات مَلَكوته. أمَّا عبارة " فمضى وباعَ جَميعَ ما يَملِك واشتَراها" فتشير إلى بيع ما نملك، بل إلى التَّخلي عن كل شيء لنحصل على الفَرَح الذي يُقدّمه المَلَكوت. كما يؤكد ذلك سفر الأمثال " إِشتَرِ الحَقَّ ولا تَبعْه وكَذا الحِكمَةَ والتًّأديبَ والفِطنَة " (أمثال 23: 23)، ويُعلق القديس إقليمنضس الإسكندري " البيع ليس عمليّة حرفيّة مظهريّة، لكنها انسحاب القلب نحو الله لاقتناء المَلَكوت السَّماوي كسرّ حياتنا". ومَن عَلم قيمة المسيح لا يُعيقه شيئًا لاتباعه"، كما يؤكِّده يسوع " مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" (متى 10: 39). وكما أنَّ ذلك التَّاجر سعى للحصول على اللُّؤلُؤَة لنفسه وأنفق كلَّ شيء لأجل ذلك، كذلك يجب على كل إنسان أن يسعى لإدراك المسيح بالإيمان، ويعلق القدّيس أوغسطينوس " كما أنّ ثمنَ اللُّؤلُؤَة هو ذهبُكَ كذلك ثمنُ حبِّكَ للمسيح، فهو أنتَ بنَفسِكَ" (العظة 34 عن المزمور 149). ملكوت السماوات هو بمثابة كَنْز عظيمٌ ولُؤلُؤةً ثَمينة لا يكفي أن نعثر عليه بل ينبغي شراؤه واقتناؤه. والتَّاجر بحث عن اللآلئ عثر عليها واشتراها. ونحن عمّا نبحث؟ 47 ((ومَثَلُ مَلَكوت السَّمَواتِ كَمَثلِ شَبَكةٍ أُلقِيَت في البَحر فجَمعَت مِن كُلِّ جِنْس. تشير عبارة "شَبَكةٍ" إلى الشَّبَكة الكبيرة، وهي نسيج طويل ذي عيون ضيقة، يثقل بقطع كثيرة من الرَّصاص من الأسفل، ويُخفَّف بقطع كثيرة من الفلِّين من الأعلى، ثم تُطرح في البَحر على دائرة كبيرة، ثم تُجر من الطَّرفين بكل ما فيها إلى الشاطئ؛ وتدل الشَّبَكة هنا على الكنيسة، وهي رمز للمَلَكوت على الأرض، لأنَّها جامعة لأعضائها من كل العَالَم؛ ويرى بعض الباحثين أنَّ الشَّبَكة تُمثل الإنجيل، كما يؤكد ذلك بولس الرسول "بِشارةِ الَّتي سَمِعتُموها وأُعلِنَت لِكُلِّ خَليقَةٍ تَحتَ السَّماء" (قولسي 1: 23). أمَّا عبارة "أُلقِيَت في البَحر" فتشير إلى انتشار الإنجيل في العَالَم تتميما لوصية المسيح "اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إلى الخَلْقِ أَجمَعين " (مرقس 16: 15). وبدأت تتحقَّق هذه النبوءة منذ يوم العنصرة إلى يومنا هذا (أعمال الرسل 2: 1-11). أمّا عبارة "البَحر" فتشير إلى "بَحر الجليل" (متى 4: 18)، "البَحر" (يوحنا 6: 16) بحيرة طبرية "نسبة إلى المدينة التي بُنيت عليها وسُمِّيت " طبرية " تكريمًا للإمبراطور طيباريوس قيصر (متى 4: 18، مرقس 1: 16، يوحنا 6: 1) وتسمَّى بُحَيْرَةِ جِنَّاسَرِت (لوقا 5: 1)؛ وفي العهد القديم كانت تُسمَّى "بَحر كنارة" (العدد 34 :11) و " كِنَّروت " (يشوع 11: 2). وتقع بحيرة طبرية بين منطقتي الجَليل والجُولان على الجزء الشِّمالي من مسار نهر الأردن وهي أكبر خزان طبيعي للمياه العذبة. ويبلغ محيطها 53 كم، وأعمق نقطة فيها تصل إلى 45 متراً، وطولها 23 كم، بينما يصل عرضها إلى 14 كم، ومتوسط انخفاضها تحت سطح البَحر هو 212 متراً. أمَّا مساحتها فتصل إلى 160 كم 2. تُغذِّيها مياه جبل الشيخ لتُشكل مجموعة من الينابيع التي تتجمع بدورها لتكوِّن نهر الأردنّ، الذي يسير جنوبًا إلى البَحر المَيت. ويرمز البَحر هنا إلى الأمم الخاطئة الغَارقة في طين الشَّهوات والمَلذَّات، كما جاء في نبوءة أشعيا " أَمَّا الأَشْرارُ فكالبَحر الهائج الَّذي لا يُمكِنُ أَن يَهدأ ومِياهُه تَقذِفُ بِوَحْلٍ وطين" (أشعيا 57: 20). أمَّا عبارة "فجَمعَت مِن كُلِّ جِنْس" فتشير إلى طبيعة هذا النوع من الشِّباك التي لا تختار ولا تُميّز بين أنواع السمك، إنَّها تجمع خليطًا من السَّمك الجَيِّد والرَّديء، كما ورد في مَثَل وليمة المَلك "فجمَعوا كُلَّ مَن وجَدوا مِن أَشْرارٍ وأَخيار" (متى 22: 10). وتدل هذه العبارة على النَّاس الذين يدخلون الكنيسة من كل الأجناس والفئات ويتمُّ التَّعايش بين الأبرار والأشرار، وهو واقع يتعذَّر اجتنابه، ولن يأتي الفصل والمكافأة على أعمال كلّ فرد سوى في نهاية الأزمنة. ولم يرد يسوع أن ينشئ كنيسة مكوّنة من الأبرار فقط، بل كنيسة تجمع من كل جنس من أخيار وأشرار بانتظار الكمال في الحَياة الأخرى. فالمَلَكوت مفتوح للجميع الّذين يقبلون الدَّعوة منه ويؤمنوا به. 48 فلَمَّا امتَلأَت أَخرَجَها الصَّيَّادونَ إلى الشَّاطِئ وجَلَسُوا فجَمَعوا الطَّيِّبَ في سِلالٍ وطَرَحوا الخَبيث. تشير عبارة "فلَمَّا امتَلأَت" إلى رمز إتمام عدد مختاري الله؛ أمَّا عبارة "الصَّيَّادونَ" فتشير إلى نسبة كبيرة من أهل الجليل في عصر المسيح الذين كانوا يشتغلون في صناعة صيد الأسْماك، وكان السَّمك من أهم أنواع الغذاء لهم، وكانوا يُجفِّفون الفائض منه ويُصِّدرونه إلى الخارج. ويرمز الصَّيَّادون إلى المُبشِّرين الذين يُقدِّمون الإنجيل للنفوس لربحها للمسيح، ثم جذبها إلى الشَّاطئ، ثم فرز الصالح من الخبيث؛ وهم يمثلون الذين يعملون على إعلان المَلَكوت. أمَّا عبارة "جلسوا" فتشير إلى الصَبر الذي يجب أن يتحلَّى به المُبشرين، وهم يقدِّمون كلمة الله للنفوس. وتدل هذه العبارة أيضا على جلوس المسيح ورسله على كرسي الدَّينونَة، كما جاء في تعليم يسوع لرسله " أَنتُم الَّذينَ تَبِعوني، متى جلَسَ ابنُ الإِنسانِ على عَرشِ مَجدِه عِندما يُجَدَّدُ كُلُّ شَيء، تَجلِسونَ أَنتم أَيضًا على اثنَي عَشَرَ عَرْشاً، لِتَدينوا أَسباطَ إِسرائيلَ الاثَنيْ عَشَر"(متى 19: 28)؛ أمَّا عبارة "فجَمَعوا الطَّيِّبَ في سِلالٍ وطَرَحوا الخَبيث" فتشير إلى الصَّيَّادين الذي يضعون السَّمك الطَّيّب في سِلال، ويطرحون السَّمك الرَّديء بعيدًا. فهؤلاء الصَّيَّادونَ هم رمز للملائكة الذين جاؤوا باسم ابن الإنسان ليفصلوا الأشرار عن الأبرار. فالسَّمك الطَّيِّبَ يرمز إلى المؤمنين الذين سمعوا كلمة الله فتابوا وآمنوا ونالوا الخلاص، والسَّمك الخَبيث رمز إلى المُراءين، وهم إمَّا كانوا مَخدوعين وإما هم مُخادِعون. فلا عجب من أن نجد في الكنيسة من كل نوع فكان يهوذا الإسخريوطي من بين الرُّسل، وسمعان السَّاحر من بين المعتمدين في السامرة (أعمال الرسل 16-18). ونحن من أي الفريق؟ أمَّا عبارة "سِلالٍ" فتشير إلى "الأهراء" (متى 13: 30) وهي رمز إلى "مَنازِلُ كثيرة" (يوحنا 14: 2) وإلى " المَساكِنِ الأَبَدِيَّة" (لوقا 16: 9). أمَّا عبارة "وطَرَحوا الخَبيث" في الأصل اليوناني τὰ δὲ σαπρὰ ἔξω ἔβαλον (معناها رموا في الخارج السَّمك الرَّديء) فتشير إلى الظُلمة الخَارجيَّة، كما جاء في إنجيل متى " فقالَ المَلِكُ لِلخَدَم: ((شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه، وأَلقوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان " (متى 22: 13). ويُحذِّرنا يسوع من خلال هذا المَثَل فصل الصَّالحين عن الأشرار، والتأكيد على أنّه في الأبديّة، سوف يكونون جميعاً في السَّماء. 49 وكذلِك يكونُ عِنْدَ نِهايةِ العالَم: يَأتي المَلائِكَةُ فيَفصِلونَ الأَشرارَ عنِ الأَخيار، تشير عبارة "عِنْدَ نِهايةِ العالَم" إلى التَّصفية النِّهائية التي هي من عمل الله. وكلُّ فصل أو فرز سابقٍ لأوانه مرفوض. يقول القدِّيس يعقوب "لَيسَ هُناك إِلاَّ مُشتَرِعٌ واحِدٌ ودَيَّانٌ واحِد، وهو القادِرُ على أَن يُخَلِّصَ ويُهلِك. فمَن أَنتَ لِتَدينَ القَريب؟ " (يعقوب 4: 12). أمَّا عبارة " المَلائِكَةُ " فتشير في الأصل اليوناني ἄγγελοι (معناها الرَّسل) إلى أَرواحٍ مُكَلَّفينَ بِالخِدْمَة، يُرسَلونَ مِن أَجْلِ الَّذينَ سَيَرِثونَ الخَلاص" (عبرانيين 1: 14) وسيحضرون الدَّينونَة الأخيرة (متى 13: 14). فظهر المَلاك لمريم (لوقا 1: 26) وللرُّعاة (لوقا 2: 8-15) وليوسف (متى 2: 13) وللمسيح عند تجربته (متى 4: 11) وجهاده في البستان (لوقا 22: 43) وقيامته (متى 28: 2) وكلم ملاك الرَّبّ فيلِبُّس (أعمال الرسل 8: 26) وأتى إلى بطرس في السِّجن وخلصه (أعمال الرسل 12: 7-10)، وللمؤمنين ملائكة لحراستهم (لوقا 15: 10)، وهم حصّادو النَّاس للدَّينونة (متى 25: 31-33). يكون عادة صيَّادي السَّمك هم الذين يطرحون الشَّبَكة، وهم الذين يفرزون السَّمك الطيَّب عن السَّمك الخبيث، ولكن الأمر في الرُّوحيات ليس كذلك، فان البشر يكونون صيَّادي النَّاس، ولكنَّ الملائكة هم الذين يجرُّون القضاء لله ويُفصلون الأشرار عن الأبرار كما وردفي إنجيل متى: " يُرسِلُ ابنُ الإِنسانِ مَلائكتَه، فَيَجْمَعونَ مُسَبِّبي العَثَراتِ والأَثَمَةَ كافَّةً، فيُخرِجونَهم مِن مَلَكوته" (متى 13: 41). وهذا الفصل ليس من عمل الإنسان، بل هو من عمل الرَّبّ. فواجبنا أن نجمع كلّ من يأتي، ولا نفرز أحداً، ولا ندين أحداً، بل نترك الدَّينونَة للربّ وحده. فإنّ الرَّبّ وحده هو القادر على الحكم والدَّينونَة. 50 ويَقذِفونَ بِهم في أَتُّونِ النَّار. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان. تشير عبارة "ويَقذِفونَ بِهم" إلى التَّحذير من خطورة الموقف حول مصير الأشرار، وهو طرحهم في أتون النَّار، أي الموت الأبدي، وفي نفس الوقت هو نداء للأبرار كي يختاروا فَرَح المَلَكوت لا البُكاء. أمَّا عبارة "أَتُّونِ" في الأصل اليوناني κάμινος (في العبرية תַּנּוּר معناها فرن ولعَّلها مستعارة من الكلمة الأكادية "أتونو") فتشير إلى فرن لحرق الطوب أو لصهر المعادن، وقد وردت الكلمة في سفر دانيال (3: 6). وكثيرًا ما تستخدم مرادفًا لجَهَنَّم مسكن الأبالسة، والهالكين من النَّاس، ومصير العُصاة غير التائبين (متى 13: 5). ومن هذا نرى أن كلمة " أتون " تستعمل في أغلب الحالات مجازيًا للدلالة على دَينونة الله. أمَّا عبارة "فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" فتشير إلى الحزن والألم واليأس والموت وفشل الحياة، وهي ترمز إلى الظُلمة الخارجية، كما جاء في إنجيل متى: "فقالَ المَلِكُ لِلخَدَم: ((شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه، وأَلقوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" (متى 22: 13). وهناك بعض الباحثين يرون في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة مكان للانفصال عن الله. وكثيرًا ما تستخدم هذه العبارات للدلالة على الدَّينونَة الآتية. أمَّا عبارة "البُكاءُ" فتشير إلى الحزن أو النَّدم؛ وأمَّا عبارة "صَريفُ الأَسنان" فتشير إلى صريف المرء بأسنانه علامة الخوف والغضب واليأس والندم (متى 8: 12)، وهو ردُّ الفعل للقلق المُفرط، وإلى استياء الكفَّار وغضبهم أمام سعادة الأبرار (متى 16: 9)، كما وصف صاحب المزامير "مع الفُجَّارِ يَسخَرون وعلَيَّ الأَسنان يَصرِفون" (مزمور 35: 16). والآية هي رموز معبّرة وقوية يريد يسوع بها إيقاظ ضمائرنا وتحذيرنا. 51 ((أَفَهِمتُم هذا كُلَّه؟)) قالوا لَه: ((نَعَم)). تشير عبارة "أفَهِمتُم" إلى سؤال يبعث إلى الانتباه إلى تعليم يسوع والالتزام في طاعة جديدة. الفهم يتكوّن من الإصغاء إلى تعليم يسوع ثم الالتزام بما يطلبه، كما قال يسوع للجمع "اِسمَعوا وافهَموا"(متى 15: 10). ولفعل "فهم" دور هام في إنجيل متى. فالمطلوب من الإنسان تجاه يسوع وأمام أسرار المَلَكوت وأسئلة التي تتناول المسائل العلمية أن يُصغي ويفهم (متى 13: 13 -14 و16: 12). أمَّا عبارة "نَعَم" فتشير إلى حَرْفُ جَوَابٍ يعني الإِعْلاَمُ بَعْدَ الاسْتِفْهَامِ. 52 فقالَ لَهم: ((لِذلكَ كُلُّ كاتِبٍ تَتَلمَذَ لِمَلكوتِ السَّمَوات يُشبِهُ رَبَّ بَيتٍ يُخرِجُ مِن كَنْزه كُلَّ جَديدٍ وقَديم)). تشير عبارة "كاتِبٍ تَتَلمَذَ لِمَلكوتِ السَّمَوات" إلى كلِّ سامع ٍ"فهم" تعليم يسوع؛ هذا يعني انه كان بين سامعي يسوع، فئة من المُتعلِّمين، وليس جميعهم من الأمُّيِّين (أعمال الرسل 4: 13)، ولا من الرُّعاع (يوحنا 7: 49). أو يشير إلى متى الإنجيلي الذي صار مسيحيًا. أمَّا عبارة "كَنْزه" فتشير إمَّا إلى تعليم الكتبة اليهود التقليدي بعد أن جدّده الإيمان بالمسيح، وإمّا يشير إلى تعليم العهد القديم، كما تمّ في فم يسوع، وأُعلن بواسطة الرسل في الجماعات المسيحية الأولى. وقد وصفه متى الإنجيلي هنا بأنه ينبوع الأمور القديمة والجديدة التي يسعى إلى عرضها على جماعته. وهناك فوائد مُزدوجة لمن يفهمون ويستخدمون العهدين القديم والجديد. فأسفار العهد القديم تُعرفنا الطريق إلى يسوع المسيح، وقد أيَّد يسوع سلطانها وجدارتها. أمَّا العهد الجديد فيعلن لنا المسيح نفسه المُتاح الآن لكل من يقبل ملكوته الرُّوحي. ولكن قادة الدِّين اليهودي كانوا يتطلعون إلى مَلَكوت دنيوي زمني، لذا كانوا عُميانًا بالمعنى الرُّوحي للملكوت الذي أتى به المسيح. أمَّا عبارة "كُلَّ جَديدٍ وقَديم" فتشير إلى الأشياء الجديدة والعتيقة. إن التلاميذ يجب أن يصيروا هم أنفسهم مُعلمين يُخرجون مواد الحق الجديد من كَنْز ما تعلموه من السَّيد المسيح، وفي نفس الوقت يُخرجون الجمال الداخلي والمعنى الصادق من كَنْز تعليم العهد القديم من المواعد التي تمّ التنبؤ عنها عبر القرون وتحققت بيسوع المسيح. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 13: 44-52) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 13: 44-52)، نستنتج انه يتمحور حول قيمة فَرَح مَلَكوت الله وحول التَّحذير من إمكانية خسارته، وذلك من خلال ثلاثة أمثال: مَثَل الكَنْز واللُّؤلُؤَة (متى 13: 44-45). ومَثَل الشَّبَكة (متى 13: 47-50). 1) دعوة إلى فَرَح المَلَكوت من خلال مَثَل الكَنْز مَثَل الكَنْز هو المَثَل الخامس من أمثال مَلَكوت السماوات في إنجيل متى الفصل الثالث عشر. والفكرة الرَّئيسية لهذا المَثَل هي الفَرَح العظيم في قلب الإنسان لدى اكتشافه كَنْز مَلَكوت الله. الكَنْز، الموجود قبلنا، وينتظر أن نقبله، وأنه ليس نتاج أعمالنا. وهذا الاكتشاف يستحق كل التَّضحيات، لذلك لا بُدَّ من الاستعداد الذي يؤهلنا الدُّخول في فَرَح المَلَكوت حيث لا تشبع فقط رغباتنا، بل تَفيض بالمجد، كما يؤكده الرَّبّ بقوله: " أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" (متى 25: 21). لأنّه إن رَغِب أحدٌ بالمَسرّات، فهناك تكون البهجة السَّامية والكاملة، لأنّها تكمن في الخير الأسمى الّذي هو الله نفسه، كما يقول صاحب المزمور: " أَمامَ وَجهِكَ فَرَح تامّ وعن يَمينكَ نَعيمٌ على الدَّوام" (مزمور 16: 11). ومن هذا المنطلق، على الإنسان أن يكون حكيما فيقرِّر أنّ يبيع كلّ شيء لأجل أن يشتري الحقل الذي وجد فيه الكنز، لأن الكنز وهو رمز الملكوت الذي يستحق أنّ يغُير مسّار حياة كل إنسان نهائيا. الإنسان في فَرَحه يُعطي كل شيء. وفي النهاية، إن ما يُعطينا الفَرَح سيعطينا أيضًا القوَّة لتغيير أولوياتنا وحياتنا بطريقة جذرية. ومن ذاق فَرَح ذلك المَلَكوت يفهم أنَّ الكَنْز الحقيقي هو فيه، ويلتزم به من كل قلبه. لذلك واجب بيع كل شيء للحصول على المَلَكوت. وقد وجّه يسوع هذا المَثَل للتَّلاميذ وليس للجُموع، أي لمن يريد أن يدخل في العمق حُبًّا في المسيح. فإن البحث عن يسوع والالتقاء به هو الكَنْز الأعظم! يُظهر مَثَل الكَنْز قيمة المَلَكوت. والمَلَكوت ثمينٌ جدًا، وقيمته لا تُضاهى، وهذا الملكوت هو يسوع ذاته وكل ما ينجم عن لقائه من تغيير أسلوب معيشتنا. ويستحقُّ المَلَكوت أن نبذل من أجله الغالي والرَّخيص، لأنَّ امتلاكه يُغيّر كل شيء في حياتنا بطريقة جذرية. وخير مثال على ذلك هو القديس فرنسيس الأسيزي: لقد كان مسيحيًّا بالاسم فقط، ولكنه عندما قرأ الإنجيل في مرحلة مصيرية من مراحل شبابه التقى بيسوع واكتشف مَلَكوت الله فتلاشت عندها جميع أحلام المجد الأرضي التي كانت تراوده. لا يكفي العثور على الكَنْز، بل ينبغي القرار على اقتناؤه، وقيمة الكَنْز تُعادل كلّ ما يمتلكه المشتري. إنّه شيء يُعادل الحَياة بأكملها، لأنه كَنْز الحَياة. ولذلك فإن عثر عليه رَجُل، يُطلب منه أن يضحِّي بكل شيء لكي يحصل عليه. ولا يحصل عليه بالمال، بل بالتَّخلي عن المال، والترفع عن الأمور الأرضية لكي ينفتح على المسيح. وهذا الانفتاح يتطلب أن يبيع المرء كل ما يملك لكي يحصل على فَرَح كَنْز المَلَكوت. وهذا ما فعله الرُّسل: "ها قد تَركْنا نَحنُ كُلَّ شَيءٍ وتَبِعناكَ". فقالَ يسوع: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما مِن أَحَدٍ تَرَكَ بَيتاً أَو إِخوَةً أَو أَخَواتٍ أَو أُمَّا أَو أَباً أَو بَنينَ أَو حُقولاً مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة إِلاَّ نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِائةَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، ونالَ في الآخِرَةِ الحَياة الأَبَدِيَّة." (مرقس 10: 28-29). والعثور على الكَنْز يملأ الحَياة فَرَحا. لا يُقدَّر مَلَكوت السَّماوات بثمن، ومع ذلك فهو يكلّفُ تمامًا كلّ ما يملك المرء. لقد كلّفَ بطرس وأندراوس مجموعة من مراكب الصَّيد، وكلّفَ الأرملة فِلسَين (لوقا 21: 2)؛ وكلّفَ شخصًا آخر كأس ماء بارد (متى10: 42). فالله ينظرُ إلى القلب، وإلى نيّة الذي يُقدّمُها وليس إلى الثروة المَاديّة. هل نجد ما هو أسهل من مَلَكوت السَّماوات لنَكتسبه، وما هو أثمن منه لنَمتلكه؟ لذا يدعونا يسوع بقوله: " فلا تَكَنْزوا لأنفُسِكم كُنوزًا في الأرض بلِ اكَنْزوا لأنفُسِكم كُنوزًا في السّماء"(متى 6: 20). ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "هنالك شرطان ضروريّان للحصول على هذا الكَنْز: التَّخلّي عن خيرات العَالَم، وشجاعة ثابتة " (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، العظة 47). الكَنْز أولاً هو المسيح، ويعلق القدّيس بِرنَردُس "إن الله قد أرسل على الأرض كَنْز رحمته، هذا الكَنْز الّذي يجب أن يُفتَح بواسطة الآلام، لينشر ثمن خلاصنا الّذي كان مَخفيًّا فيه... "لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ" (أشعيا 9: 5)، "فِيه يَحِلُّ جَميعُ كَمالِ الأُلوهِيَّةِ حُلولا جَسَدِيًّا" (قولسي 2: 9)، (العظة الأولى عن عيد الظهور الإلهي). يقوم دور المؤمن بالجِهاد المستمر لاكتشاف المسيح "الكَنْز المدفون في الحَقْل". وهذا الاكتشاف بحاجة لِمَن يفتش عنه، يتعب ويبحث باذلاً كل الجهد ليجد هذا الكَنْز. ومن اكتشف هذا الكَنْز يبيع كل شيء حاسبًا إيَّاه نفاية، أي يستغنى بالكامل عن كل ملذَّات العَالَم، إذ يصير العَالَم في عينيه بلا قيمة، ويشترى الحَقْل أي يعيش لله فقط، كما فعل بولس الرسول "إِلاَّ أَنَّ ما كانَ في كُلِّ ذلِكَ مِن رِبْحٍ لي عَدَدتُه خُسْرانًا مِن أَجلِ المسيح، بل أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ " (فيلبي 7:3-8). الكَنْز هو أيضا الإيمان الحقيقي. فمن حصل على الإيمان حصل على كلِّ شيء ضروري للخلاص، لأنَّه بالإيمان نقدر أن نكتشف ما علينا عمله للخلاص. وبالإيمان نبني مَلَكوت الله على الأرض، مع يسوع المسيح، الذي جاء وسكن بيننا. وبالإيمان نعرف أن الله معنا " إذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟ ...ومَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟ ...وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ " (رومة 8: 31 -35). كَنْز الإيمان يستحق التضحية له بكل شيء. الكَنْز هو أيضا الخلاص. آخرون يرون في المَثَل كإشارة عن الخاطئ الذي يبذل كل شيء ليقتني الخلاص، وهذا ما فعله زكَّا العشَّار إذ لمَّا رأى الرَّبّ يمرُّ في أريحا صعِدَ إلى شجرة الجميزة، لأنَّه كانَ قصيرَ القامة، فلمَّا رأى يسوعَ وجدَ النور. رآه وأعطاه كلَّ ما لَهُ، وكانَ من قبل يأخذُ زكا ما ليسَ له. ولنا شهادة أيضا في حَياة فرنسيس الأسيزي الذي قَبْلَ موته بسنتين تألم كثيرًا، فطلب من الرَّبّ النجدة. "وفجأة سمع صوتًا في روحه: "قل لي يا أخي: إذا أعطيتك مقابل آلامك ومحنك كَنْزا كبيرًا وثمينًا... ألن تفرح؟" (حَياة القدّيس فرنسيس الأسيزي المعروفة بـ "مجموعة بيروجا" الفقرة 43.) ها إن الله قد أرسل على الأرض كَنْز رحمته، هذا الكَنْز الّذي يجب أن يُفتَح بواسطة الآلام، ليُعلن ثمن خلاصنا الّذي كان مَخفيًّا فيه. الكَنْز أخيرا هو الكتاب المقدس. ويعلق العلامة أوريجانوس "ما هو هذا الحَقْل إلا الكتاب المقدّس بعهديه الذي يحوي في داخله سرّ المسيح ككَنْز مَخفي، لا يتمتّع به غير المُثابرين بالبحث المستمر في الكتاب؟ لهذا يليق بالمؤمن أن يبيع كل شيء ليقتني هذا الحَقْل الحاوي للكَنْز. حقًا إن الحَقْل كما يبدو لي حسب ما جاء هنا هو الكتاب المقدّس الذي فيه زُرع ما هو ظاهر من كلمات من التاريخ والناموس والأنبياء وبقيّة الأفكار؛ أمّا الكَنْز المدفون في الحَقْل فهو الأفكار المختومة والمَخفية وراء الأمور المنظورة، الحكمة المَخفيّة في سِرّ، المسيح الذي "استَكَنَّت فيه جَميعُ كُنوزِ الحِكمَةِ والمَعرِفَة " (1 قولسي 2: 3). 2) دعوة إلى البحث عن المَلَكوت من خلال مَثَل اللُّؤلُؤَة مَثَل اللُّؤلُؤَة هو المَثَل السادس من أمثال مَلَكوت السماوات في إنجيل متى في الفصل الثالث عشر. ويقدِّم لنا السيد المسيح قيمة المَلَكوت وثمنه عن طريق مَثَل اللُّؤلُؤَة. فيصف هذا المَثَل إنسانًا خبيرًا يعرف قيمة اللآلئ فيفتش بجهد حتى يجد لؤلؤة غالية الثمن. وقد كانت اللُّؤلُؤَة عند القُدماء أجمل الحجارة الكريمة، وأثمنها وأكثرها إثارة للتأمّل والإعجاب. اللُّؤلُؤَة الواحدة الغالية الثمن ترمز إلى شخص المسيح. ولا يستطيع أحدٌ أن يملك السيد المسيح، اللُّؤلُؤَة الثمينة ما لم يبعْ ما يَملك، كي يحصل على الفَرَح الذي يقدِّمه المَلَكوت. والبيع هنا ليس عملية حرفيّة، لكنه انجذاب القلب نحو الله لاقتناء المَلَكوت. ويُعلق العلاَّمة أوريجانوس " هذه اللُّؤلُؤَة التي من أجلها يترك الإنسان كل ما يمتلك ويحسبه نفاية: لكي يربح المسيح، كما عمل بولس الرَّسول " بل أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ" (فيلبي 3: 8)، قاصدًا بكل الأشياء اللآلئ الصالحة، حتى أربح المسيح، اللُّؤلُؤَة الواحدة غالية الثمن". وكذلك عمل متّى العشَّار عندما دعاه يسوع ليتبعه (متى 9: 9-10)؟ وعكس ذلك الشَّاب الغَنيّ الذي سأل يسوع عن الحياة الأبديّة. لكنه غادر بوجه حزين، لأنَّه غير قادر على "بيع كل شيء" لشراء ملكوت السَّماوات، اللؤلؤة ذات القيمة الثمينة (متى 19: 16-22). ويقول الكتاب الاقتداء بالمسيح "إن حصلتَ على المسيح، فأنت غنيٌّ، وهو حَسبكَ" (الكتاب الثاني 1: 1). تجدر الإشارة هنا أن هذا العَالَم لهُ إغراؤه وحلاوته وجذبه، ولكن إذا اكتشفنا شخص المسيح سنكتشف في الوقت نفسه تفاهة كل ملذَّات الدنيا. وكل أهل الأرض مَثَل ذلك التَّاجر الذي كانَ يطلُبُ اللُّؤلُؤَ الكريم، (متى 13: 45). انهم يطلبون الخير الأعظم لكنهم يخطئون عندما يطلبونه حيث لا يوجد، لظنِّهم إيَّاه في المال أو المراتب العالية أو زيادة العلم، وقد فاتهم انه لا يوجد إلاَّ عند الله. فمتى طلبوا الغِنى السَّماوي برغبة التَّاجر في اللُّؤلُؤَ الكريم فلا بدَّ من أنَّهم يجدونه. يسوع هو اللُّؤلُؤَة الحقيقية الغالية الثمن، ويعلق القديس غريغوريوس الكبير قائلا "فإن قورنت تلك العذوبة التي صارت له، لا يجد لشيء ما قيمة، فتتخلَّى نفسه عن كل ما اقتنته، وتُبدِّد كل ما قد جمعت". يعلق القديس ايرونيموس "يرى في اللآلئ التي يبيعها الإنسان إنَّما هي الطرق المُتعدِّدة التي يتركها ليدخل الطريق الوحيد الذي هو المسيح. "قِفوا في الطُّرُقِ وانظروا واسألوا عنِ المَسالِكِ القَويمة ما هو الطَّريقُ الصَّالِحُ وسيروا فيه فتَجِدوا راحةً لِنُفوسِكم" (ارميا 6: 16). ويعلق القدّيس أوغسطينوس " اسهَروا على هذا الكَنْز كي تكونوا أغنياءَ داخليًّا" (العظة 34 عن المزمور 149 "الاغتناء عند الله"). ونستنتج ما سبق أن مَثَل اللُّؤلُؤَة يشبه مَثَل الكَنْز في ثلاثة أمور: عظمة قيمة الموجود، ووجوب أن يكون مُلكا خاصا بالواجد، وان يترك عند وجدانه كل شيء لأجله، إذ اعتمد شيئا واحد وهو الحصول على النفيس باي نفقة كانت. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "إنّ الشبه الذي يمكننا رؤيته بين مَثَل الكَنْز ومَثَل اللُّؤلُؤَ هو انه يجب تفضيل الإنجيل على أيّ كَنْزٍ آخر... غير أنّه يوجد أمرٌ آخر أكثر جدارة: يجب تفضيل الإنجيل بفَرَح وسرور ومن دون تردّد. يجب ألاّ ننسى أبدًا أن التّخلّي عن كل شيء في سبيل اتّباع الله هو ربحٌ أكثر ممّا هو خسارة" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، العظة 47). ويختلف المَثَلان في امرين: أولا أنَّ واجد الكِنْز، وجده عن طريق الصُدفة، وواجد اللُّؤلُؤَة الكريمة كانَ يطلُبُ اللُّؤلُؤَ الكريم، وجدها بعد بذل جهده في الطلب والتفتيش. والأمر الثاني أن من وجد الكَنْز صدفة فَرَح، أمَّا تاجر اللُّؤلُؤَ لم يُذكر انه فَرَح، وذلك أن من يجد النفيس بعد البحث والطلب اقل من الذي يجده صدفة بلا طلب. فمثال الأول المرأة السامرية فإنها جاءت إلى البئر لمجرد الماء فوجدت المسيح هناك (يوحنا 4: 4-30، 39-42)؛ ومَثَلها مَثَل بولس فانه لم يقصد أن يجد المسيح في طريقه إلى دمشق (أعمال الرسل 9: 1 -9)، وأمَّا مثال المَثَل الثاني فهو المَجوس الذين أتوا من المشرق يطلبون مشاهدة الملك المولود حديثا (متى 2: 1-16). وكمثلهم الخصي الحبشي فانه وجد المسيح بقدومه إلى اورشليم للسجود ودراسة كلام الأنبياء عن المسيح (أعمال الرسل 8: 27). يدعونا يسوع من خلال هذين المَثَلين إلى بيع كل شيء للحصول على فَرَح المَلَكوت خاصة أن المَثَلين يقعان في إطار تهديدين شديدين، التهديد الأول "يَقذِفونَ بِهم (الأَثَمَةَ كافَّةً) في أَتُّونِ النَّار، فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" (متى 13: 42)، والتهديد الآخر هو " يَقذِفونَ بِهم في أَتُّونِ النَّار. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" (متى 13: 50). هل مَلَكوت الله هو في نظرنا الخير الأسمى الذي يفوق كل الخيرات؟ ونستنتج مما سبق، أن الكنز يمَثَل مملكة المسيح، واللُّؤلُؤَة هي شخص المسيح، من يفهم المسيح وعمل لأجله سيترك كل الماضي أي ما كان يؤمن به سابقا ليتبع المسيح. وقد كشف لنا يسوع عن ذاته بكل مَثلٍ رواه. ونحن به نمتلك الكَنْز الدَّفين ونملك اللُّؤلُؤَة الكريمة. وبسببهما قال بولس الرَّسول: "مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ (فيلبي 3: 8). وفي هذا الصدد يقول يسوع " فحَيثُ يَكونُ كَنْزكُم يَكونَ قَلبُكم" (لوقا 12: 34). وهكذا يوصيك القدّيس كيرِلُّس الاورشليمي " تسلّم الكَنْز السَّماوي... اترك الحاضر وآمن بالمستقبل" (تعليم عمادي 1,5). 3) دعوة إلى اختيار المَلَكوت من خلال مَثَل الشَّبَكة (متى 13: 47-50) مَثَل الشَّبَكة هو المَثَل السابع من أمثال مَلَكوت السماوات في إنجيل متى، الفصل الثالث عشر. يُشبه مَثَل الشَّبَكة مَثَل الزؤان، وهو مأخوذ من مشهد مألوف في حَياة الصَّيَّادين في بحيرة طبرية. والشِّباك تتفاوت في الحجم والتفصيل، ولكن الفكرة العامة، هي أنَّ الشَّبَكة تُطرح عادة على مسافة قصيرة من الشاطئ، وتكون مثقَّلة في أطرافها بقطع من الحديد، وتدخل الأسماك فيها من كل جنس، ثم تقفل من جوانبها كلما اقتربت من الشاطئ. ولِعلَّ يسوع اختار هذا المَثَل من الصَّيد، لأنَّه كان على الأقل أربعة من تلاميذه صيَّادين، فأورده كذلك لزيادة تأثيره في قلوبهم، ولأنَّهم كانوا مستعدين لان يكونوا "صَيَّادَيْ بَشر" (متى 4: 19). ويُشدِّد مَثَل الشَّبَكة (متى 13: 47-48) على وجود الأشرار والأبرار معًا إلى آخر الأزمنة. ويتم الفصل بينهم في نهاية الأزمنة عندما تصل الشَّبَكة على الشاطئ. وهكذا يكون الأبرار والأشرار معًا في الكنيسة. لكن مَثَل الشَّبَكة لا يلفت الانتباه إلى صبر المؤمنين، كما هو الحال في مَثَل الزؤان (متى 13: 24-30)، بل إلى التهديد الذي يتعرض له الأشرار في نهاية العَالَم من ناحية، وتحذير الأبرار من هذا المصير لاختيار المسيح من ناحية أخرى. فقرار اختيار المسيح يقتضي اختيارًا كاملاً، لا يسمح به بأي تنازلات أو مساومات. وتمَثَل البُحيرة العَالَم، والمسيح أرسل تلاميذه ليكونوا صيّادي بَشر. والشَّبَكة هي الكنيسة، وقد أمسكت شباكهم أصناف شتى من أبناء الإنسانية من كل الأمم والألسنة، من الأبرار والأشرار ليكونوا في داخل الكنيسة. والكنيسة ليس هي النهاية وضمان الخلاص. ويعلق القديس غريغوريوس الكبير " تُقارن الكنيسة المقدّسة بشبكة، إذ هي أيضًا سُلِّمت إلى صَيَّادين، وضمَّت كل أنواع السَّمك، إذ تقدّم مغفرة الخطيئة للحكماء والجهلاء، للأحرار والعبيد، للأغنياء والفقراء، للأقوياء والضعفاء. لهذا يقول المرتّل لله: "إليكَ يا مُستَمعَ الصَّلاة مساُر كُلِّ بَشَر" (مزمور 65: 2). وفي نهاية الزمن يُفصل السَّمك الجيد ويحفظ، بينما يُطرح الرَّديء خارجًا، إذ يسلَّم الجيِّد للراحة الأبديّة. أمَّا الأشرار، فإنهم إذ فقدوا نور المَلَكوت الداخلي يُطردون إلى الظلمة الخارجيّة. حاليًا هنا يختلط الأبرار مع الأشرار، كالسَّمك في الشَّبَكة، لكن الشَّاطئ سيُخبرنا عمّا كان في الشَّبَكة، أي في الكنيسة المقدّسة. إذ يُحضَر السَّمك إلى الشاطئ، لا تصير له فرصة التغيير، أمَّا الآن ونحن في الشَّبَكة، فيمكننا إن كنّا أشرّارًا أن نتغيّر ونصير صالحين. إذن لنفكِّر حسنًا يا إخوة، إذ لا يزال الصَّيد قائمًا، لئلاّ ينبذنا الشَّاطئ فيما بعد. يدعو يسوع الجميع إلى الكنيسة كشَبكة مطروحة في بَحر هذه العَالَم. يدخل الكل للكنيسة، ولكن هناك من يجاهد لكي يكتشف شخص المسيح فيبيع العَالَم لأجله، وهناك من يجذبه العَالَم فيبيع المسيح لأجل العَالَم، فمن باع العَالَم لأجل المسيح فهؤلاء هم القمح، ومن باع المسيح لأجل ملذَّات العَالَم فهم الزُّؤان، والشَّبَكة ستُسْحَبْ للشاطئ يوم الدَّينونَة. فالشَّاطئ يشير لنهاية الزمان، يوم يترك كل النَّاس البَحر أي العَالَم. هذا المَثَل يشبه مَثَل عُرس ابن المَلك (مت 1:22-14) الذي دعا إلى عُرس ابنه كل النَّاس، ولكن أخيرًا أخرج غير المُستعدِّين "لأَنَّ جَماعَةَ النَّاس مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون (متى 22: 14). فتعليم الرَّبّ يسوع هذا يوقظنا من الغفوة ومن الأمان الزائف. يدعونا يسوع أيضا من خلال هذه المَثَل ألاَّ نكتفي أن نكون في الشَّبَكة الإنجيلية، كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلَيسَ جَميعُ الَّذينَ هم مِن إِسرائيلَ بِإِسرائيل " (رومة 9: 6) بل يتوجب علينا أن نجاهد لنيل المَلَكوت "ضاعِفوا جُهْدَكم يا إِخوَتي في تَأييدِ دَعوَةِ اللهِ واختِيارِه لَكم" (2 بطرس 1: 10). ومَثَل الشَّبَكة كمَثَل الزارع والزؤان يتطلب منا أن نخبّر الآخرين بنعمة الله ووجوده ولكن ليس لنا أن نقول مَن هم مِن المَلَكوت (الأبرار) ومَن ليسوا منه (الأشرار). فهذا التصنيف يتمُّ في الدَّينونَة الأخيرة. يذكرنا مَثَل الشَّبَكة مصير الأشرار كي يدعونا بان نختار فَرَح المَلَكوت لا البُكاء والدُّموع والنَّار. وأخيراً يدعو يسوع تلاميذه أن يصيروا هم أنفسهم مُعلمين وكتبة (متى 13: 51-52) يُخرجون من كَنْز ما تعلموه من المسيح الذي وجدوه، وفي نفس الوقت يُخرجون المعنى الصادق من كَنْز تعليم العهد القديم (متى 13: 51). لا شيء يمكن أن يسقط من تاريخنا وماضينا سواء من العهد القديم أو من العهد الجديد. فأسفار العهد القديم تُعرفنا الطريق إلى يسوع. أمَّا أسفار العهد الجديد فتُعلمنا عن المسيح نفسه الكَنْز واللُّؤلُؤَة. ويُعلق القدّيس ايرينيوس "على ضوء القراءة المسيحيّة، كانت الشريعة في الماضي كَنْزًا مخفيًّا في حَقْل، ولكن صليب الرَّبّ يسوع المسيح كشف عنها وفسَّرها؛ إنّها تظهر حكمة الله، وتكشف عن مخطّطه الخلاصي للإنسان، وتعطي صورة مسبقة عن مَلَكوت الرَّبّ يسوع المسيح" (ضد الهرطقات، الجزء الرّابع، 26). فإن قرأ أحد الكتاب المقدّس على هذا النحو، سيكون تلميذًا مثاليًّا "يُشبِهُ رَبَّ بَيتٍ يُخرِجُ مِن كَنْزه كُلَّ جَديدٍ وقَديم" (متى 13: 52). وهكذا يحثُّ يسوع تلاميذه إلى طلب المَلَكوت الموجود. واليوم، من يخطر على باله بطلب هذا المَلَكوت؟ من يفكر بالاستغناء عن كل الأفراح الدُّنيوية، مقابل الحصول أو الدّخول في مَلَكوت الله وامتلاك المسيح؟ الخلاصة ضرب يسوع سبعة أمثال: أربعة منها للجموع والثلاثة الأخيرة إلى تلاميذه فقط. وهذه الأمثال لها غاية واحدة: فالمَثَل الأول هو مَثَل الزراع الذي يُبيِّن أسباب نجاح كلمة الله، والمَثَل الثاني هو مَثَل الزؤان يبُين الموانع الداخلية لنشر كلمة الله، والمَثَل الثالث هو حَبَّة الخَرْدل الذي يشير إلى امتداد كلمة الله ظاهرًا، والمَثَل الرابع مَثَل الخميرة، والمَثَلان الخامس والسادس مَثَل الكَنْز واللُّؤلُؤَة يُبيِّنان قيمة مَلَكوت الله لكل فرد من النَّاس ووجوب ترك كل شيء بغية اقتنائه، والمَثَل الأخير، مَثَل الشَّبَكة يشير إلى الفصل الأخير بين الأبرار والأشرار المُجتمعين معا في الكنيسة، وان الله هو الذي يُجري ذلك الانفصال في وقته وفي الطريق التي يختارها. مَثَل الكَنْز هو السيد يسوع المسيح الذي فيه نجد كل ما هو نفيس ونافع. وفي هذا الصَّدد يقول الرَّسول بولس "جَميعُ كُنوزِ الحِكمَةِ والمَعرِفَة " (1 قولسي 2: 3)، كنوز البِرِّ والقداسة والنَّعمة والسَّلام، فان وجدناها كانت هذه كلها من نصيبنا. لذلك علينا أن نحسب كل شيء خسارة لكي نربح المسيح حتى نوجد في المسيح. نحن لا يمكننا أن نفرط فيما بين أيدينا من ملذات العَالَم ونبيعها، ما لم نكتشف أولًا هذا الكَنْز كما ورد على لسان ابن سيراخ "الحِكمَةُ المَكْتومَة والكَنْز الدَفين أَيُّ مَنفَعَةٍ فيهِما؟" (سيراخ 20: 30). فمن يريد الكَنْز، ليكن مستعداً لترك كل شيء وليبحث عنه فيجده. مَثَل اللُّؤلُؤَة الثمينة هي يسوع المسيح. إنها لؤلؤة لا تقدَّر قيمتها، فمن يطلبها يَجدها، ويشتريها بكل ما يملك، ويصيح غنيَّاً فيما للربّ، ويكون لديه ما يكفيه كي يكون سعيدًا هنا وإلى الأبد. سواء كان الاكتشاف قد تمّ بشكل عارض، كما هو الحال في الكَنْز أو بعد بحث الطويل والطلب، كما هو الحال في اللُّؤلُؤَة، ففي كلتا الحالتين نجد النتيجة واحدة، وهي أن الإنسان باع كلّ ما كان له ليملك المسيح، الكَنْز الحقيقي واللُّؤلُؤَة الثمينة. لقد فهم الرَّجُل والتَّاجر أنَّ قيمة ما وجداه، فكانا مستعدِّين لخسارة كل شيء ليمتلكاه. ما أمس الحاجة اليوم إلى أن نصبح مثل كاتب أصبح تلميذًا لملكوت السماوات وعرف كيف يُخرِجُ مِن كَنْزه كُلَّ جَديدٍ وقَديم (متى 13: 52). مَثَل الشَّبَكة المُلقاة في البَحر وجَمعَت مِن كُلِّ جِنْس ترمز إلى التَّعايش بين الأبرار والأشرار، الذي هو واقع في مَلَكوت الرَّبّ على الأرض. إنّ المَلَكوت مفتوح لجميع النَّاس، منهم الأبرار ومنهم الأشرار، وسوف يستمرّ هذا الواقع حتى نهاية الأزمنة. وليس لنا أن نحكم أو ندين. ولكن لا يدخل في هذا المَلَكوت في السَّماء سوى أولئك الّذين قد تقيّدوا بالإنجيل وعملوا مشيئة الرَّبّ في حياتهم. ولن يأتي الفصل والمكافأة على أعمال كلّ فرد إلاّ في نهاية الأزمنة عند الدَّينونَة الأخيرة، وهذا الفصل ليس من عمل الإنسان، بل من عمل الرَّبّ. دعاء أيها الآب السماوي، اجعلنا نجد في يسوع ابنك الحبيب الكَنْز الثمين الذي يُغنينا، اللُّؤلُؤَة الثمينة التي نبحث عنها، فنكون من المُستحقين دخول شَبَكةٍ مَلَكوت الرَّبّ الأبديّة ونَجذب الآخرين إليها ونشاهد جميعًا وجهك البهي في السَّماء. آمين. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|