16 - 03 - 2023, 06:26 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
التجاؤه إلى الله العادل
"مَعَ أَنَّهُ لاَ ظُلْمَ فِي يَدِي،
وَصَلاَتِي خَالِصَة"ٌ. [17]
بقيت شهادة ضميره باستقامة لا تفارقه، إذ لم يذكر أنه ارتكب ظلمًا في حق إنسانٍ ما، ولا رفع صلاةً من أجل أمورٍ زمنيةٍ، ولا بسط يديه للصلاة وقد دنسهما بظلمٍ ما.
* "لم يكن في يده ظلم" (أي 16: 17)، قيل عن المخلص في الكتاب المقدس الموحي من الله: "لم يفعل إثمًا، ولا وجد في فمه غش" (إش 53: 9),
"كانت صلواتي نقية"، إذ كان المخلص نقيًا حتى من الغضب والسخط. كان واضحًا لليهود الذين صلبوه أنه صلى: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). لذلك كان أيوب نبيًا وحاملًا لله، هذا الذي استطاع بكلمات يقينية أن يرى آلام المسيح كما لو كانت قدامه. لهذا تكلم عن شخصه بقصد إظهار الآلام لأسلاف الشعب اليهودي حتى صار ممكنًا للناس إدراكها جيدًا، بعد ذلك قدم لنا ذات الحدث.
لم يقدم حديثه البار عن افتخار، وإنما ليقود أصدقاءه، وكل الأجيال التالية للإقتداء به.
في حديثه ترك لنا ختمًا صالحًا، صلواته النقية.
إنها تعزي وتعين الصديقين على نقاوة الصلاة، إذ يتأهلون للإيمان. إنهم يحفظون الصلاة النقية بنفس الطريقة التي يفهمها بولس أيضًا: "أريد أن يصلي الناس في كل موضعٍ، رافعين أيادٍ مقدسةٍ، بدون سخط أو ريب" (1 تي 2: 8). لأن الصلاة تكون طاهرة عندما تكون الأيدي طاهرة من الطمع ومن كل وصمة. لنعرف هذا، كيف يكون الإنسان بارًا ما لم يكن ذلك بسبب إنسانه الداخلي (رو 7: 22) المتحرر من الضغينة، ولا يسقط في الشك عندما يصلي. فإننا نتكلم مع الله نفسه، ونقترب إلى الملك العظيم الذي يغسلني تمامًا من إثمي، ويطهرني من الخطية (مز 51: 3).
*كما أذكر إنني قلت بأن الطوباوي أيوب، وهو يحمل رمزًا للكنيسة المقدسة، يستخدم أحيانًا صوت الجسد (الكنيسة)، وتارة صوت الرأس (السيد المسيح). وبينما يتكلم عن أعضائها، فجأة يتحدث بكلمات رأسها. لذلك يضيف هنا: "لقد عانيت من هذا دون إثم يدي، بينما أقدم صلواتي الطاهرة لله" (LXX). لقد عانى دون إثم من يده، هذا الذي لم يفعل خطية، ولا وجد إثم في فمه" (1 بط 2: 22). ومع هذا فإنه احتمل ألم الصليب لأجل خلاصنا. إنه وحده فوق كل الآخرين صنع صلوات طاهرة لله، إذ في احتماله كرْب آلامه صلى من أجل مضطهديه، قائلًا: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" لو 23: 24). كيف يمكن وصف نقاوة صلاة أكثر من هذه؟ من يقدر أن يفهمها أكثر من هذا؟
إنه يمنح حنو شفاعته حتى للذين مارست أياديهم الألم، فإن ذات دم مخلصنا الذي سفكه مضطهدوه في ثورتهم صاروا يشربونه بعد إيمانهم به، معلنين أنه ابن الله.
البابا غريغوريوس (الكبير) * تقوم نقاوة صلاته من هذه الظروف، أنه ليس بالأمر غير اللائق بالنسبة له إن سأل المغفرة في صلاته مادام بالحق يقدم عفوًا بنفسه عن الغير.
* تحرك بالصلاة، وأطلب الحنان بتواضعٍ، وخذ من واهب الحسنات...
إنه هو القابل كل الصلوات والطلبات، لا تدخل صلاة لأبيه بدونه، ولا تخرج عطية منه إلا بيديه...
لقد قبل صلاة حنة في هيكل القدس، وخرج إليها بالمراحم من بيت أبيه.
لقد أنصت إلى صلاة يونان في جوف الحوت، وأدخلها إلى أبيه كتقدمة.
لقد أنصت إلى الفريسي والعشار في هيكل القدس، لما قاما للصلاة وسمع الطلبة...
إنه يسمع لجميع المسكونة، ولا ينسى أن يقدمها كما خُدمت...
* الصلاة النقية تجد طريقها لدى الله، فهي تتحدث إليه، تسمعه وتثق فيه.
* لا تضجر في طلبك. لا تفكر بأن طلبك يعود فارغًا.
لا تقل: طلبت كثيرًا ولم أجد، ولعلني لا أجد أبدًا .
"يَا أَرْضُ، لاَ تُغَطِّي دَمِي،
وَلاَ يَكُنْ مَكَانٌ لِصُرَاخِي". [18]
يفسر البعض هذه العبارة بأنه يرى أصدقاءه قد سفكوا دمه البريء بصب اتهامات باطلة ضده، فيطلب من الأرض أن تشهد له ضدهم، وألا تحجز صرخاته في موضعٍ ما، بل تتركها تصعد إلى الله في الأعالي.
إن كان أصدقاؤه قد اتهموه بالشر والرياء، فها هو يُشهد الأرض إن كان قد سفك دمًا بريئًا أو ارتكب جريمة ما فلتكشف عنها وتعلنها (تك 4: 10-11؛ إش 26)، ولا تكتم نفسه فلا يصرخ.
* "لا تغطي"؛ ليت صراعات أيوب لا تُنسى، ليت عَرَقْ اضطرابي ذاته لا يُنزع، هذا الذي يتصبب في ممارسة الفضيلة، أنا الذي ارتديت كل أنواع أعمال الصبر. ليت قروح الصديق تُكشف لعيون العامة، حتى يطهروا أنفسهم بالرغبة في الإقتداء به.
*تذكروا ضميره الطاهر وصلاته التي بلا عيب: "يا أرض، لا تغطي دم جسدي" (أي 16: 18 LXX)، حتى تتوجه صلاته كبخورٍ نحو الرب (مز 141: 2)، ولا تُودع في الأرض.
صلاة القديس تخترق السحاب (سيراخ 35: 17)، أما الأرض فتفتح فاها وتخفي صلاة الخاطئ في دم الجسد، كما قال الله لقايين القاتل: "ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك، مادمت أنت أرضًا" (راجع تك 4: 11-12).
* "آه يا أرض لا تغطي دم جسدي، ليت صرختي لا تجد موضعًا لتختفي فيكٍ" (18 LXX). قيل للإنسان عندما ارتكب الخطية:" أنت تراب (أرض)، وإلى تراب تعود" (تك 3: 19). " هذه الأرض" لا تغطي دم مخلصنا، حيث كل خاطي يأخذ لنفسه ثمن خلاصه، فيعترف ويسبح ويعلن ذلك لكل أقربائه ما أمكن. علاوة على هذا فإن الأرض لم تغطِ دمه، حيث أن الكنيسة المقدسة كرزت بسرّ خلاصه في كل أجزاء العالم.
لاحظوا ماذا يضيف: "ليت صرختي لا تجد موضعًا لتختفي فيكِ". لأن ذات دم الخلاص الذي يؤخذ هو نفسه صرخة فادينا. يقول بولس: "ودم الرش يتكلم أفضل مما لهابيل" (عب 12: 24). قيل عن دم هابيل: "صوت دم أخيك يصرخ إليَّ من الأرض" (تك 4: 10). أما دم يسوع فيتكلم بأمورٍ أفضل مما لدم هابيل، لأن دم هابيل جلب موت أخيه، أما دم الرب فربح حياة لمضطهديه. لذلك فإن سرّ آلام ربنا لا تكون بلا نفع فينا، بل نلتزم أن نقتدي بما نأخذه ونكرز بما نعبده.
البابا غريغوريوس (الكبير)
"أَيْضًا الآنَ هُوَذَا فِي السَّمَاوَاتِ شَهِيدِي،
وَشَاهِدِي فِي الأَعَالِي". [19]
لكيلا يُتهم من جديد بأنه متكبر ينسب لنفسه برًا ذاتيًا، يطلب من السماء أن تشهد له، والساكن فيها أن يعلن عن استقامته.
* إن سألت: وأين شُهد له؟ أجبتك: في الأردن قائلًا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17)...
أوضح أنه ليس في الله صوت، وليس له صورة، لكنه هو أعلى من كل الأشكال والنغمات التي هذه صفتها.
* "شاهدي في السماء" ليس بسبب غناه، فإن الله ليس في حاجة إلى مكافأة، هذا الذي لا يخشى أعمال العداوة، ولا ينشغل بمحبة العالم (مت 6: 19-20).
"ومدافعي في العلا"، هذا الذي يعرف بالأكثر الأعمال والكلمات وتحركات الأفكار، هذا الذي يقدم لنا ذكرى أيوب التي لا تُنسى محفوظة في الأسفار الإلهية.
*"أيضًا ها شاهدي في السماء، وزمالة قلبي في العلا"(أي 16: 19 LXX). فعندما نزل الابن إلى الأرض كان له شاهد في السماء، إذ أن الآب هو شاهد للابن، الذي قال عنه في الإنجيل: "الآب نفسه، الذي أرسلني، يشهد لي" (يو 5: 37). بحق أيضًا دُعي "زمالة قلبي"، إذ لهما إرادة واحدة، ومشورة واحدة، يعمل الآب دومًا في اتحاد مع الابن...
يمكن أيضًا أن ينطبق هذا على صوت جسده، الكنيسة المقدسة، التي تحتمل مآسي هذه الحياة، من أجل النعمة العلوية التي تقودها نحو المكافآت الأبدية.
إنها تستتفه الموت الجسدي، إذ تهدف نحو مجد القيامة. ما تعانيه مؤقت، وما تتوقعه أبدي. ليس لها شك من جهة هذه البركات الأبدية. فإنها ترى بالذهن قيامة جسده، فتتقوى جدًا أن يكون لها الرجاء، فتحسب ما قد رأته قد عبر برأسها. وتترجى دون شك أن يتحقق في جسده، أي فيها...
هكذا ليت الشعب المؤمن حين يعاني من خصومة، عندما ينزعج بضيقات مرة، يرفع عقله إلى الرجاء في المجد العتيد، ويثق في قيامة الفادي، قائلًا: "الآن أيضًا أرى شاهدي في السماء، وزمالة قلبي في العلا".
بحق دعاه "زمالة"، إذ قد تعرف على طبيعتنا ليس فقط بخلقتها، وإنما أيضًا بأنه اتخذها لنفسه. فقد تحققت معرفته بأن اتخذ ما لنا...
لكن يمكن أن ينطبق هذا الصوت على كل واحدٍ منا مع الطوباوي أيوب، فإن كل إنسانٍ يهدف نحو المديح البشري فيما يفعله يطلب شاهدًا على الأرض. أما المشتاق إلى مسرة الله القدير بأفعاله، فيفكر أنه له شاهد في السماء.
غالبًا ما يحدث أن الأعمال الصالحة نفسها فينا تُحسب خاطئة بواسطة أناس طائشين، أما الذي له شاهد في السماء، فلا حاجة له أن يخاف من توبيخات البشر.
البابا غريغوريوس (الكبير) * إذ يحصل الحكماء على الخيرات, يرسلون جزءً منها أمامهم, كما قال أيوب: "شهودي في السماء" (أي 16: 19). وأيضا: "إخوتي ومحبيّ مع الله" (أي 16: 20). ويأمر ربنا الذين يحرزون ممتلكات أن يصنعوا لهم منها أصدقاء في السماء، وأن يكنزوا لهم هناك كنوزا.
"الْمُسْتَهْزِئُونَ بِي هُمْ أَصْحَابِي.
لله تَقْطُرُ عَيْنِي". [20]
لم يقف أصدقاؤه عند مقاومته فحسب، بل صاروا يشَّهرون به ويتآمرون عليه. إنه لا يتوقع منهم لطفًا ولا تعزية، إنما يسكب دموعه أمام الله وحده مصدر كل تعزية، مقدمًا له ذبيحة القلب المنكسر والمنسحق الذي لا يرذله! استهزأ الأصدقاء بصرخاته، فقدم دموعه تقدمه خالصة لله رجاء التعابى.
* "ليت طلباتي تأتي أمام الرب". فإنه إن بلغت صلاتي العلا، يهلك أعدائي (مز 92: 2)؛ الصديق يثبت (حك 5: 1)، الشبكة تنكسر، والعصفور إذ يتحرر يطير في حرية (مز 124: 7)؛ والمضطهدون يحنون رؤوسهم، والمضطَهَدين يفرحون (مت 5: 10-12).
* "ولتبكِ عيناي أمامه". لقد قال عن عمدٍ "أمامه"، أي أمام الله. بلياقة أضاف أيوب ذلك، لأن البكاء أمام الناس لا نفع له تمامًا بالنسبة للذين يصلون. فإنهم حتى إذا تزينوا بأفكار حكيمة، فمن الجنون أننا نقبل مجدًا من الناس.
لكن فلنسكب دموعنا أمامه (مز 56: 8)، فقدر ما نترك دموعنا تفيض في الصلاة أمام الرب يهرب المخادعون وينحلون (مز 5: 6)، بينما يلتحف الملك بالحنو.
فإن الدموع تغسل النفوس والأجساد، وتطهر كل دنس وتطهر بالكامل كل وصمة وتجعل الباكين يظهرون أبيض من الثلج (مز 51: 9).
*"أصدقائي مملوءون كلمات، وأما عيني فتسكب دموعًا لله" (LXX)، ماذا يعني بالعين إلا نية القلب؟ "إن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيرًا" (مت 6: 22).
البابا غريغوريوس (الكبير)
"لِكَيْ يُحَاكِمَ الإِنْسَانَ عِنْدَ اللهِ،
كَابْنِ آدَمَ لَدَى صَاحِبِه"ِ. [21]
يعلم أيوب أن ليس من إنسانٍ يمكنه أن يقضي لصالحه، لكنه يقف أمام الله فاحص القلوب والعالم بالأفكار والنيات، هو وحده يقدر أن يحاكمه فيبرره خلال نعمته الغنية.
يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن الإنسان المُشار إليه هنا هو ابن الإنسان، الابن الذي تجسد لأجلنا (يو 1: 12؛ رو 3؛ 1 يو 4: 2، 2 يو 7)، الجالس عن يمين الآب (مز 110: 1). يشفع فينا كمساوٍ للآب في الكرامة الملوكية، ويفند اتهامات إبليس المفتري علينا.
"إِذَا مَضَتْ سِنُونَ قَلِيلَةٌ،
|