|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مع الرجاء في الوسيط! جاء جواب أيوب لأليفاز (ص 16، 17) في الحلقة الثانية من الحوار أنه قد تعب من سخافة أصحابه الذين لم يكونوا في عينيه سوى معزين متعبين. ينظر إلى كلماتهم بعين الاحتقار، وذلك بسبب تكرار الكلام بلا مبررٍ، وعنادهم، وعدم مراعاة ظروفه. وحسب نفسه أنه لو كان مكانهم لكان يشددهم وينطق بما أمكن ليخفف عنهم حزنهم. يتكلم أيوب بمرارة عن الله الذي أرسل عليه الضربات فجأة وهو مطمئن في بيته السعيد. يرى أن الله نفسه قد صار كمحاربٍ ضده، يصوِّب عليه الضربات، ويمزقه إربًا، ويحطم حصونه مثل مدينة أسوارها مهدمة (16:12-14). يقول أيوب إنه لا تزال لا توجد إجابة على سبب ضربات الله لجسده، التي جعلته طريدًا مرذولًا، وأنتن جلده، فصار ذلك شهادة على جُرمه في أعين أصدقائه. ظن أن الله تحول عنه، ودفعه إلى أيدي الظالمين، يحتقرونه. مع ذلك يرتدي أيوب مسوح التواضع والحزن بالرغم من عجزه عن رؤية أية خطيةٍ خطيرةٍ ارتكبها (16: 15-17). تمسك أيوب ببراءته، لكنه يلتجئ إلى الله لكي يحل ألغاز غايته الغامضة، ويكشف عما وراء هذه التأديبات، وأن يوضح ما هو محير لعقل مخلوقه المفكر المتألم وضميره. إنه كمن يلتجئ من الله بالله نفسه، من الله الذي يخفي نفسه، إلى الله الذي هو نور وليس فيه ظلمة، يلجأ إليه بروح الإيمان والرجاء في عمل الله الخلاصي. وسط كل هذه المرارة من نحو أصدقائه الذين أرادوا تحطيم نفسيته تمامًا، فصاروا بالنسبة لأيوب معزين بطّالين، وتطلعه إلى الله الذي سمح له مع كل هذه التجارب بموقف هؤلاء الأصدقاء القاسي، فحسبه كمحاربٍ ضده، لم يجدف عليه، ولا جحده، كما توقع عدو الخير إبليس. إنما رأى صورة عجيبة، أن الله قد سمح بتخلي كل الأذرع البشرية عنه لكي تحمله الأذرع الإلهية. أدرك أيوب أنه لا ملجأ للهروب من الله إلا بالالتجاء إليه. هكذا انكشف له شعاع خفيف من العمل المسياني، حيث لا ملجأ من الغضب الإلهي والسقوط تحت العدالة الإلهية إلا بظهور كلمة الله نفسه متجسدًا لكي بصليبه يضمه إليه كملجأ أبدي أمين. تحولت حيرة أيوب إلى معرفةٍ للحق الإلهي الإنجيلي خلال الظلال، حتى يشرق شمس البرّ على الجالسين في الظلمة، ويتمتع المؤمنون بالمجد الأبدي. يرى أيوب أن الراحة الوحيدة له الآن هي في الخروج من العالم بروح الإيمان، والرجاء في عمل الله الخلاصي. بهذا هزم أيوب الشيطان الذي كان يظن أنه سيسب الله ويجحده، فإذا به يلجأ إلى الله بكونه مصدر العزاء الوحيد له. أيوب رمز المسيح المتألم كوسيطٍ وشفيعٍ كفاري إذ يرد أيوب على أليفاز بلغةأسيفة يرثى فيها حاله، يقدم في مرثاته نبوات رائعة عن السيد المسيح المتألم كوسيطٍ وشفيعٍ كفاري. هذا ما شغل أذهان آباء الكنيسة في تفسيرهم لهذا الأصحاح، خاصة الأب هيسيخيوس الأورشليمي والبابا غريغوريوس (الكبير)الذي كان يعشق كتابات الآباء الشرقيين واستخدم أحيانًا الترجمة اليونانية السبعينية (LXX) للعهد القديم مع الفولجاتا. 1. لومه أصدقائه على قسوتهم "فَقَالَ أَيُّوبُ: قَدْ سَمِعْتُ كَثِيرًا مِثْلَ هَذَا. مُعَزُّونَ مُتْعِبُونَ كُلُّكُمْ!" [1-2] احتدت المناقشة بطريقة مؤلمة، حتى ملت أذنا أيوب الاستماع إلى أصدقائه فصرخ: "قد سمعت كثيرًا مثل هذا؛ معزون متعبون كلكم". هذا هو ما بلغت إليه نفس أيوب. يقول الحكيم: "ابتداء الخصام إطلاق الماء، فقبل أن تدفق المخاصمة أتركها" (أم 17: 14). حتى إن قالوا كلمات تعزية فهي مؤلمة، لأنها تصدر عن قلوبٍ لا تشاركه آلامه، ولا تشعر بأحاسيسه. وكما يقول الحكيم: "يغنون أغاني لقلب كئيب" (أم 25: 20) بلا أي نفع. جاء في مقدمة الأب هيسيخيوس الأورشليمي حديث رائع عن صبر أيوب خاصة في مواجهة أصحابه المقاومين له والمستهزئين به، وقد امتدح فضيلة الصبر أو طول الأناة. * يمكن للشخص أن يكتشف خلال التعقل بطريقة عميقة أن الصبر هو أساس الفضائل. خلال الصبر صار إبراهيم أبًا للأمم (تك17: 5؛ ابن سيراخ 44: 20؛ رو4: 17)، وصديق الله (يع 2: 23). بالصبر إسحق الذي على مثال الابن الوحيد صار ذبيحة (تك22: 2). وبالصبر أيضًا حمل يعقوب عصا كصليبٍ (تك32: 10؛ عب11: 21)؛ وذاك الذي هرب (تك27: 34) جعله الصبر يعود مملوء غنىً (تك32: 22-23). بمثل هذا الصبر أيضًا جاهد أيوب ورفع لواء النصرة. بالرغم من أن خصومه كانوا كثيرين وأصحاب سطوةٍ. ومع أنه كان عاريًا تمامًا، بدا كإنسانٍ مسَلَّح، مهوب أمام مصارعيه. وجد أيوب نفسه مطروحًا أرضًا، والذين أرادوا أن يخلقوا عقبات (الشياطين) كانوا يطوفون حوله في الهواء (أف 2: 2). الذين سبوه ارتدوا الأرجوان، أما هو فارتدى القروح. لكن قوات السماوات حسبته بهيًا... الفقراء يمجدونه؛ والأغنياء يخدمونه، وكل الأجيال ركزت أنظارها على أيوب كانعكاسٍ للبرّ. أية حاجة إلى كلامٍ كثيرٍ عنه؟ أتريد أن تتعلم قوة الصبر القائم في أيوب؟ كان يوجد ثلاثة أصدقاء يسبونه، كانوا أصحاء جسديًا، مفعمين بالحيوية بسبب فيض بركاتهم الزمنية. وإذ كانوا يتعبون من الكلام كان كل منهم يستريح بالتناوب. أما عن أيوب فكان وحده جسمه مُغطى بالقروح، حزين النفس. باحتماله، غلب هؤلاء الأقوياء، وبصبره، هدأ من الثرثرة الملتهبة المهذارة للذين يهينونه معتمدين باطلًا على ثرثرتهم. الأب هيسيخيوس الأورشليمي الآن بهذه الإجابة يشير الطوباوي أيوب إلى عصر الكنيسة، عندما يُنظر إليها بسبب ضغط خصومها أنها صارت مُلقاة على الأرض بسلطانهم المؤقت. لذلك قيل: "معزون متعبون كلكم" (أي 16: 2)، سواء كانوا هراطقة أو من الأشرار، متطلعة إلى الأتعاب الصالحة في المحنة. عندما يقصدون أن يعزوها يثيرون أمورًا خاطئة في أذهانهم. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس يوحنا الدرجي "هَلْ مِنْ نِهَايَةٍ لِكَلاَمٍ فَارِغٍ؟ أَوْ مَاذَا يُهَيِّجُكَ حَتَّى تُجَاوِبَ؟" [3] شعر أيوب أنهم يدورون في حلقة مفرغة، فليس لهم إلا كثرة الكلام الذي بلا هدفٍ واضحٍ، ليس فيه من جديدٍ نافعٍ. ولعله حسب كلامهم نكبة كسائر النكبات التي حلت به، إن لم تزد عن كل النكبات السابقة. شعر أن أصدقاءه يهيجون عليه بلا سبب، ويسيئون إليه بلا نفع لهم. * "هل من نهاية لكلامٍ فارغٍ؟" إنه كلام فارغ ذاك الذي يخدم زهوًا وقتيًا، وليس غايته البرّ. البابا غريغوريوس (الكبير) إذ يفقد الإنسان الحب الحقيقي يعاني قلبه من الفراغ، فلا يمارس الصداقة المخلصة، إنما يسلك في سلبيةٍ تامة، متجاهلًا أصدقائه المتألمين، أو يجد الكثير من العلل لاتهامهم بالشر، وعوض تعزيتهم يسَّفه من شخصياتهم وتصرفاتهم. هكذا كان أصدقاء أيوب في صمتهم كما في كلماتهم!فقدان الحب يحرم الإنسان من تقديس عطيتي الصمت والكلام. فإن صمت لا يحمل صمته حبًا بل تجاهلًا لمن هم حوله، وإن تكلم ينطق بالباطل، ويحطم نفسه ونفوس الغير. يحذرنا الكتاب المقدس من اللغو الباطل كما من الصمت الباطل، حتى متى تقدسنا يتقدس صمتنا كما كلامنا، فيكون للكلام وقت وللسكوت وقت، ويعمل كلاهما لبنيان الإنسان ولتعزية اخوته كما لمجد الله. "الكلام في غير وقته كالغناء في النوح" (سيراخ 22: 6). "كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أما الضابط شفتيه فعاقل" (أم 10: 19). "الجاهل يكثر الكلام، لا يعلم إنسان ما يكون وماذا يصير بعده من يخبره" (جا 10: 14). "الكثير الكلام يمقت، والمتسلط جورًا يبغض" (سيراخ 20: 8) "لا تعّود فاك فحش الكلام، فإن ذلك لا يخلو من خطية" (سيراخ 23: 17). "في الكلام كرامة وهوان، ولسان الإنسان تهلكته" (سيراخ 5: 15). "الحكيم في الكلام يشتهر، والإنسان الفطن يرضي العظماء" (سيراخ 20: 29) "الكلام الحسن شهد عسل، حلو للنفس، وشفاء للعظام" (أم 16: 24). "لا تمتنع من الكلام في وقت الخلاص، ولا تكتم حكمتك إذا جمل إبداؤها" (سيراخ 4: 28). "لا تكثر الكلام مع الجاهل، ولا تخالط الغبي" (سيراخ 22: 14). * العاقل هو من يسعى في إرضاء الله، ويُكثر من الصمت، وإن تكلم يتكلم قليلًا، ينطق بما هو ضروري ومرضى لله. * في الصمت ترى عقلك، ولكن عندما تستخدم عقلك، فإنك تتكلم في داخل نفسك. لأنه أثناء الصمت يلد العقل الكلمة، وكلمة الشكر التي تُقدم لله هي خلاص الإنسان . * من يتكلم بغباءٍ ليس له عقل، إذ يتكلم دون أن يفكر في كل الأمور. لذلك امتحن ما هو مفيد لك، لأجل خلاص نفسك، لكي تفعله. القديس أنبا أنطونيوس الكبير * لا يقدر العقل أن يتحرر من التغير (الطبيعي) في كل الأشياء إذا لم يخرج من دائرة ذاته، ويجعل له مكانًا في الصمت، الذي هو أسمى من الفكر.* لا يقدر العقل أن يصمت ما لم يصمت الجسد، ولا يمكن للحائط الفاصل بينهما أن يتحطم إلا بالصمت والصلاة. القديس مرقس الناسك في رسالة لمار فيلوكسينوس إلى الرهبان الآمديين، كتبها من منفاه، حثًّهم فيها على الجهاد من أجل الإيمان المستقيم وعدم الصمت عن الشهادة للحق، جاء فيها:[الراهب الذي يسكت عن الإيمان رياءً، لا يعرف الله. الراهب الذي يفتر عن الغيرة حياءً من السلطان، لا يعرف المسيح. الراهب الذي يكون مع كل أحد مثله (يتلوّن ويجاري كل واحدٍ) رياءً، يلبس وجه شيطان. الراهب الذي يلبس المسيح ويصمت عن الحق، فإن لباسه هو برص جيحزي. الراهب الذي تفتقده النعمة ويسكت عن الإيمان، فسيُسد فمه في اليوم الأخير مثل لجيؤن الشياطين.] "أَنَا أَيْضًا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ مِثْلَكُمْ، لَوْ كَانَتْ أَنْفُسُكُمْ مَكَانَ نَفْسِي، وَأَنْ أَسْرُدَ عَلَيْكُمْ أَقْوَالًا، وَأَهُزَّ رَأْسِي إِلَيْكُمْ". [4] ماذا يشتهي أيوب البار لأصدقائه؟ هل حمل كراهية وبغضة، وفي ضيق نفسه طلب أن يحل بهم ما حلّ به، ويأخذ موقف المعزي؟ هل يشتهي أن يسخر بهم في تجاربهم، فيهز رأسه في استخفاف بهم، لأن هز الرأس في الشرق هو علامة الاحتقار (إش 22:37، إر 16:18، مت 39:27)؟ يرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن ما يتحدث به أيوب إنما هو صلاة تصدر عن إنسانٍ محبٍ، يعلم أنهم لن يتعلموا الحب العملي إلا بدخولهم في خبرة الضيق والتجارب. فالدافع ليس تدميرهم، بل خلال الضيق الخارجي تُصلح قلوبهم وأعماقهم الداخلية. أما أنه يسرد أقوالًا في الهواء (باطلة) ويسخر بهم بهز رأسه، فهذا ما لا يقبله أيوب، ولا فعله حين رجعوا إليه يطلبون الصلاة وتقديم الذبائح عنهم. ما ينطق به هنا إنما لتوبيخهم ومراجعة أنفسهم، ليدركوا أنهم ينطقون بكلمات جوفاء، ويسخرون من إنسانٍ متألمٍ! كأنه يقول لهم: يليق بكم أن تفعلوا ما تريدون أن يفعله الآخرون بكم. هذا وإذ يمثل أيوب الكنيسة المتألمة فإنها في محبتها لخلاص الأشرار تطلب أن تمتد عصا الرب للتأديب وليس للانتقام، حتى يتعلموا من الأحزان في الخارج كيف يتمتعون بالحب الداخلي. * يقول: "آه، ماذا لو كانت أنفسكم مكان نفسي. وأن أريحكم بكلماتٍ، وأنغص رأسي إليكم، وأحرك شفتي لراحتكم" (أي 16: 4-5). أحيانًا توجد ضرورة بالنسبة للأذهان الشريرة العاجزة عن الإصلاح بكرازة إنسان أن تُضرب من الله. هذا ما يطلبه الكارز (أيوب) لهم للترفق بهم. فإنه إذ يحدث هذا عن غيرةٍ عظيمةٍ للحب، واضح أنه لا يطلب لهم ذلك كعقوبةٍ، وإنما لإصلاح المخطئين، فيكون ذلك صلاة من أجلهم، وليست لعنة ضدهم. يظهر أيوب الطوباوي في هذه الكلمات أنه يهدف إلى هذا: أصدقاؤه الذين لم يعرفوا أن يتعاطفوا معه بالحب في حزنه، يلزمهم أن يتعلموا بالخبرة كيف يجب أن يترفقوا في أحزان الغير، وبهذا يعيشون في حالة داخلية أفضل، مدركين شيئًا عن الضعف الخارجي... الآن نحن نعزي الأشرار بسقوطهم تحت العصا، عندما نشير إلى الحزن الخارجي لتشييد صحة داخلية فيهم. ونحرك رؤوسنا عندما يميل عقلنا - الجزء القائد فينا - نحو الحنو. ونسندهم وسط ضربات المحن عندما نخفف من قوة حزنهم بكلماتٍ رقيقة. البابا غريغوريوس (الكبير) * يحتمل الله كل ضعفات البشر، لكنه لن يسمح بترك الإنسان الدائم التذمر بدون تأديب. * صديق ينتهر آخر سرًا هو طبيب حكيم، أما من يريد أن يشفي أمام عيون كثيرين ففي الحقيقة هو شتَّام... الإنسان البار يتشبه بالله، لن يؤدب إنسانًا للثأر والانتقام من شره، بل ليصلحه أو لكي يخاف الآخرون. القديس مار اسحق السرياني "من يحب التأديب يحب المعرفة، ومن يبغض التوبيخ فهو بليد" (أم 12: 1). "فقر وهوان لمن يرفض التأديب، ومن يلاحظ التوبيخ يكرم" (أم 13: 18). "الأحمق يستهين بتأديب أبيه، أما مراعي التوبيخ فيُذكى" (أم 15: 5). "الأذن السامعة توبيخ الحياة تستقر بين الحكماء" (أم 15: 31). "من يرفض التأديب يرذل نفسه، ومن يسمع للتوبيخ يقتني فهمًا" (أم 15: 32). "التوبيخ الظاهر خير من الحب المستتر" (أم 27: 5). "العصا والتوبيخ يعطيان حكمة، والصبي المطلق إلى هواه يُخجل أمه" (أم 29: 15). "من مقت التوبيخ فهو في أثر الخاطئ، ومن اتقى الرب يتوب بقلبه" (سيراخ 21: 7). "الإنسان الخاطئ يجانب التوبيخ، ويجد حججًا توافق مبتغاه" (سيراخ 32: 21). "بَلْ كُنْتُ أُشَدِّدُكُمْ بِفَمِي، وَتَعْزِيَةُ شَفَتَيَّ تُمْسِكُكُمْ". [5] في صراحة تحدث أيوب مع أصدقائه أنهم حتى على المستوى الاجتماعي العادي لم يراعوا أبسط قواعد الصداقة. وأنه لو حدث تبادل في المواقف لكان يمكنه أن يفعل معهم ما فعلوه معه، وهو تقديمه تعزيات بالفم واللسان والتظاهر بكلمات الحكمة دون مشاركة المشاعر الصادقة. وكأنه يطالبهم أن يبادلوه موقفه ولو إلى برهة حتى يشعروا بالسهام التي يصوبونها ضده بكلمات تعزية فارغة. كان يليق بهم أن يجبروا عظامه المكسورة بكلماتهم اللينة مع قلب محبٍ، لا أن يكسروا عظامه بعنف قلوبهم. يقول إشعياء النبي: "أعطاني السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أغيث المعيي بكلمة" (إش 50: 4). فالذي انهار وصار مريضًا جدًا يحتاج إلى دهن طيب يسنده، لا إلى كلمات لاذعة تحطمه بالأكثر. 2. مرثاته لحاله سبق أن أشرت إلى أن مرثاته لحاله حملت نبوات رائعة عن السيد المسيح المتألم كوسيطٍ وشفيعٍ كفاريٍ عنا أمام الآب. وفي نفس الوقت يمثل الكنيسة المتألمة المشاركة لمسيحها آلامه وصلبه من الذين في الخارج، كما من الهراطقة المقاومين للحق الإلهي. "إِنْ تَكَلَّمْتُ، لَمْ تَمْتَنِعْ كَآبَتِي. وَإِنْ سَكَتُّ، فَمَاذَا يَذْهَبُ عَنِّي؟" [6] صار أيوب في حيرة، إن تكلم فما نفع كلماته مع أناسٍ قساةٍ لا يراعون مشاعره، وإن صمت، فهل يُبطل الصمت مرارة نفسه. إن سكب شكواه أُتهم بالتذمر وأسيء فهمه، فيزداد حزنه. وإن صمت أُتهم بالكآبة. إن دافع عن نفسه حسبوه متمسكًا بالبرّ الذاتي، وإن سكت حسبوه شريرًا يستحق تأديبًا أعظم! الإنسان الجاد في حياته الذي يطلب خلاص نفسه، ينتفع من كلمات أولاد الله، كما ينتفع من صمتهم. إن تكلموا يتقبل الكلمات بروح الله لأجل بنيانه، وإن صمتوا يتلامس مع تأملاتهم الداخلية وتمتعهم بالحياة السماوية. أما الذي في استهتار أو في إصرار لا يطلب الحق ولا الحياة الأبدية، فيتعثر من كلمات الأبرار، وأيضًا من صمتهم. لقد عبَّر أيوب عن موقف السيد المسيح، الذي إن تكلم بالحق الإلهي أُتهم أنه مجدف (مت 26: 65)، وإن صمت على الصليب قالوا: "خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها" (مت 27: 42). كانت نفسه حزينة حتى الموت، ليس من أجل الألم، وإنما لأجل مرارة الخطية التي حملها عنا ليقتلها بموته. إن كانت نفس السيد المسيح حزينة، تبقى الكنيسة عروسه تئن كل أيام غربتها حتى يكمل المختارون جهادهم، ويتمتع المؤمنون بشركة الأمجاد في مجيء الرب الأخير. * "ماذا أفعل؟ إن تكلمت لا تُنزع عني كآبتي، وإن احتملت (في صمت) فلا تفارقني"... ليس من أحدٍ يجهل أن هذا ينطبق على شخص أيوب الطوباوي،. أما بالنسبة للكنيسة الجامعة، فإنها عندما تتكلم "لا يتوقف حزنها"، إذ لا ترى الأشرار ينصلحون بكلماتها. وإن صمتت فإن موقفها نفسه بالصمت يحزنها بالأكثر، إذ وهي صامتة ترى خطية الأشرار تتزايد متعالية. البابا غريغوريوس (الكبير) عظيم هو جمال من تكثر آلامه. وهكذا يصير الإكليل جميلًا بقدر قسوة الضيق. فالروح المعزي الذي يجعلكم حكماء يعرف أن يتكلم فيكم، ويقول: "آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا" (رو 8: 18). إن ضيق زمن قصير، يقربكم لتحفظوا الحياة الدائمة التي لا نهاية لها، وعندما تموتون عن العالم تظهرون بالموت الحياة مع المسيح. من لا يشتهي أن يجني الحياة الأبدية من ضيقات الزمان؟ العالم ينحل ويذبل جماله، ويترك غناه، وتزول سلطته ويُرذل بهاؤه، وتبطل مرتبته، وتنتهي حياته، وتتغير أشكاله، ويتناثر كالورد، ويذبل كالزهر، ويهرب كالظل، ويُطوى ويسرع كالعجلة، وتزول معه كل الأمور التي تجري فيه، إن كانت الراحة أو العذاب، الكرامة أو الإهانة؛ كل خواصه تظل معه ومثله. ضيقاته لا تطول، وراحته ليست حقيقية. القديس مار يعقوب السروجي "إِنَّهُ الآنَ ضَجَّرَنِي. خَرَّبْتَ كُلَّ جَمَاعَتِي". [7] إذ شعر أيوب بعدم صدق نية أصدقائه، في مرارة أعلن لهم ارتباكه، فهو يعلم أن ما قد حلّ به هو بسماح من الله، فصار في ضجرٍ وارتباكٍ. لقد ضجر من عدم قدرته على أخذ القرار السليم: أيتكلم أم يصمت؟ وضجر أيوب من أصدقائه كما من حياته نفسها. أما ما أضاف إليه أحزانًا، فهو خراب كل جماعته. أبناؤه وخدمه ماتوا، والعاملون معه تشتتوا، والأصدقاء صاروا مقاومين له، شامتين ببليته. "قَبَضْتَ عَلَيَّ. وُجِدَ شَاهِدٌ. قَامَ عَلَيَّ هُزَالِي يُجَاوِبُ فِي وَجْهِي". [8] يرى بعض الآباء أن أيوب وهو رمز للسيد المسيح يرى في كل ما حلّ به إنما ظلال لما سيحل بالسيد المسيح. فإن كانوا قد اجتمعوا على أيوب لتحطيمه، فإن قوات الظلمة تكاتفت ضد السيد المسيح، وأبناء الظلمة قبضوا عليه لصلبه، وللأسف قام أحد تلاميذه بتسليمه. صار أيوب كمن قُبض عليه في أسرٍ مريرٍ، وصار في هزالٍ شديدٍ حيث بلي لحمه بسبب القروح التي ملأت كل جسمه، صار هزاله موضوع حديث يُعلن على وجهه، بمعنى أن ملامحه تشهد لما بلغه من هزال. يترجم البعض هذه العبارة: "ملأتني تجعيدات، وهذا شاهد علي، وهزالي قام علي ليشهد لوجهي". صار وجهه كله تجعيدات لا بسبب تقدم السن، بل بسبب شدة الأمراض. منظر وجهه يشهد بأنه لم يشكُ من فراغ وبلا مبررٍ. * يبرهن أيوب أنه اقتنى ربحًا عظيمًا من هجوم المقاتل (الشيطان)، إذ لم يعرف الأخير أن أيوب يُكَلَل بذات الوسائل التي يظن أنه يخدعه بها. لذلك يقول أيوب: "إذ قبضت عليّ، صرت شاهدًا ضدي" (أي 16: 8). فالعدو لم يقبض فقط على خيرات أيوب وأبنائه وبناته، بل قبض أيضًا على أيوب في شخصه، حيث أن المفتري أمسك به ليصارع معه ويغتصبه. هذه شهادة ضد البار، حُملت بدقة بواسطة الأعداء. ولهذا فبعد فترة قصيرة من هذه المعارك قدم الله تلك الأفكار لأيوب: تظن إني أتحدث معك بطريقٍ آخر... لكنني سأظهر برّك، ستظهر كحامل الله. في كل الأحوال هذه الشرور أيضًا تحمل شهادة لصالح أيوب. الأب هيسيخيوس الأورشليمي إنها حرب دائمة بين الله وإبليس، أو بين مملكة الظلمة ومملكة النور. في القديم قام أصدقاء أيوب بتمثيل مملكة الظلمة، وفي أيام السيد المسيح ظهرت بشاعتها في التلميذ الخائن المتكاتف مع المقاومين، وبعد صعود السيد المسيح إلى السماء يقاومها أعداء المسيح الكثيرون إلى يوم ظهور ضد المسيح علانية في معركة حاسمة ومُرة. * "قام عليّ هزالي (باطلي)". يتحدث أيوب عن يهوذا، فقد كان تلميذ السيد (لو 14: 26، 27، 33) ورسوله، لكنه وُجد كذَّابًا (باطلًا يو12: 6)، وخائنًا (لو6: 16). * "يجاوب (يتحدى) في وجهي". عندما قلت لتلاميذي: "الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني" (يو 13: 21). تجاسر فقال في وجهي في غير خجل: "هل أنا هو يا سيدي؟" (مت 26: 25) الأب هيسيخيوس الأورشليمي القديس جيروم القديس يوحنا ذهبي الفم الأب ثيؤدورت العلامة أوريجينوس لكن يجب أن نتحقق أننا إذ نواجه مثل هذه الأمور من أيدي أناس جسدانيين هؤلاء الذين يقتلوننا بعنفٍ، فإنهم ليسوا في عنف الروح الشرير الذي يسود أذهانهم، كقول بولس: "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر" (أف 6: 12). البابا غريغوريوس (الكبير) أتى إلى خاصته، وخاصته لم تقبله، بل أخرجوه بالهزء من عندهم! خرج ليموت مع الأثمة بغير زلةٍ، حينئذ ندم يهوذا - السراج الذي انطفأ من بين أصحابه - وخزي من الفعل الشرير الذي صنعه. الذي أسلمه رد الفضة للذين امسكوه حيث ازدرى بنفسه، واعترف أنه أسلمه بالشر... وأيضًا هرب الصالبون كأنهم غير قريبين، وقالوا: ما علينا أنت تعرف. الدم الزكي طرح الرعب على من سفكوه، وبدأوا يرتعبون ويرتعشون منه قبل أن يهرقوه! القديس مار يعقوب السروجي "غَضَبُهُ افْتَرَسَنِي وَاضْطَهَدَنِي. حَرَّقَ عَلَيَّ أَسْنَانَهُ. عَدُوِّي يُحَدِّدُ عَيْنَيْهِ عَلَيَّ". [9] من هو هذا العدو الذي يفترسه بغضبه عليه؟ هل أليفاز ومن معه الذين سحقوه باتهاماتهم ضده ظلمًا؟ أو هل الشيطان الذي لن يستريح براحة إنسان يعبد الله بالحق، فيثير الأشرار عليه؟ يرى البعض أنه في ضعفه يرى عدوه هو الله نفسه الذي سمح له بالتجارب القاسية، والتي لا يعرف أيوب علةً لذلك. إن كان "غضب الملك رسل الموت" (أم 16: 14)، فماذا يكون غضب ملك الملوك؟ لكن واضح من سياق الحديث أنه لا يُقصد ذلك. *"جمع غضبه ضدي، وهددني، وصرّ أسنانه عليَّ، تطلع إليَّ عدوي بعينين مرهبتين" (أي 16: 9) LXX. من هم الأشرار إلاَّ أعضاء الشيطان؟ لذلك يعمل هو بهم بما يضعه في قلوبهم ويلتزمون به. فالشيطان حتى الآن يضمر غضبًا على الكنيسة المقدسة، لكن غضبه يتشتت، لذا يضع تجاربه الخفية خلال وكالة أفراده... أسنان هذا العدو هم المضطهدون ومنفذو العذابات على الصالحين، الذين يشوهون أعضاء الكنيسة عندما يصبون المحن على مختاريها باضطهاداتهم لهم. أما عينا هذا العدو فهم الذين يخططون ما هو لضررها للتنفيذ، وبمشورتهم يلقون ضوءً على قسوة مضطهديها. لذلك فإن عدوها القديم يصر بأسنانه عليها، مادام يصطاد خلال أبناء الهلاك القساة حياة الصالحين فيها. يتطلع عليها بعينين مرهبتين، وذلك خلال مشورات الأشرار. فلا يكف عن أن يضع خططًا للمحن لكي يعذبها أكثر فأكثر. وكما أن الحق المتجسد (السيد المسيح) في كرازته اختار أشخاصًا فقراء من العامة وبسطاء، فمن الجانب الآخر الملاك المرتد، الإنسان الملعون، سيختار في نهاية العالم للكرازة ببطلانه ماكرين وملتوين لهم معرفة هذا العالم. البابا غريغوريوس (الكبير) احتقرت أباها وأبغضته من سيناء، ولما تجسد ابنه لخلاصها أمسكته ووضعته على الصليب، ووقفت ترقص وتضحك وتزدري وتهزأ. تعال يا موسى، أنظر العروس التي أخرجتها من مصر، ماذا تعمل بعريسها الطاهر! تعال، انظر الوليمة التي وضعتها أمامه. أحضرت المر، مزجت الخل، استلت السيف. عوض المن أعطته الخل. عوض المياه المرة التي جعلها لها حلوة، وضعت له المر في المياه الحلوة. الكرمة المختارة صنعت عنبًا رديئًا. القديس مار يعقوب السروجي "فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ. لَطَمُونِي عَلَى فَكِّي تَعْيِيرًا. تَعَاوَنُوا عَلَيَّ جَمِيعًا. [10] أما بالنسبة للسيد المسيح الذي تكاتفت كل قوى الشر ضده، فقد قيل عنه: "فغروا عَليّ أفواههم" (مز 22: 13)، كما قيل: "يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده" (مي 5: 1)، وقد تحقق ذلك حرفيًا (متى 26: 27). * "لطموني على خدي، كملوا ملء عقوباتي" (أي 16: 10)... هكذا يلطم الأشرار خد الكنيسة المقدسة عندما يضطهدون الكارزين الصالحين. يظن الخطاة المفقودون أنهم يمارسون عملًا عظيمًا حين يضعون نهاية لحياة الكارزين. بعد اللطم على الخد لاق القول: "كملوا ملء عقوباتي"، فإن هذه العقوبات تكمل شبعهم، هذه التي تؤدب ذهن الكنيسة بطريقة خاصة. البابا غريغوريوس (الكبير) لطموا بالقصبة الرأس المرتفع، فارتعبت الملائكة! بهذه الأمور الفاسدة الشريرة كافئوه بجنون...! صاروا في جنون ليحجبوا وجه شمس البرّ، لئلا يُشرق، فينظر العالم فسادهم. حجبت العروس الجاهلة العريس، لئلا ينظر فجورها وفسادها. حجبوا الطبيب، لئلا يضمد جراحاتهم ويشفيهم! أنظر في المسيح، كم احتمل من الأثمة؟! ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل في وجهه! كيف تجاسرت أيها اللسان أن تنضح بالبصاق...؟! كيف احتملتِ أيتها الأرض هزء الابن...؟! نظرة مخوفة، مملوءة دهشًا، أن ينظر الإنسان الشمع قائمًا ويتفل في وجه اللهيب... وهذا أيضًا من أجل آدم حدث، لأنه كان مستحقًا البصاق لأنه زل! وعوض العبد قام السيد يقبل الجميع! قدم وجهه ليستقبل البصاق، لأنه وعد في إشعياء أنه لا يرد وجهه عن احتمال خزي البصاق...! شفق سيد (آدم) على ضعفه، ودخل هو يقبل الخزي عوضًا عنه! القديس مار يعقوب السروجي "دَفَعَنِيَ اللهُ إِلَى الظَّالِمِ، وَفِي أَيْدِي الأَشْرَارِ طَرَحَنِي". [11] لم يكن للأشرار سلطان على ربنا يسوع المسيح، لكنه إذ قبل أن يكون ذبيحة إثم عن العالم، حبًا في البشرية وطاعة للآب محب البشر، أُعطاهم سلطانًا من فوق (يو 19: 11). هكذا كانت تطلعات أيوب البار، كان يحسب أن كل حياته في يد الرب، حتى ما يصيبه من الأشرار إنما بسماح من الله، لذا يقول: "دفعني الله إلى الظالم". بنفس الروح عندما سبّ شمعي داود النبي حسب ذلك من قبل الله (2 صم 16: 5-13). يستخدم الله حتى الأشرار مع تمتعهم بكامل حريتهم ليكونوا سيفًا ضد الأشرار اخوتهم، أو لتأديب أولاده (إش 10: 5) أو تزكيتهم. * يقول أيوب إن هذا يتم بواسطة "الله". واضح أنه يقصد الآب، لأن الابن الوحيد خضع لهذه (الآلام)، ليس فقط بكامل إرادته، بل وأيضًا حسب إرادة أبيه، لأن إرادة الآب والابن واحدة، إذ يريد أن يتمم عمله العجيب لأجلنا، ويتألم لأجل خلاصنا. حسنًا! لنقارن كلمات أيوب هنا بكلمات المخلص... "دفعني الرب إلى الظالم"، أي إلى قيافا، هذا الذي استجوبه قائلًا: "استحلفك بالله الحيّ أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله" (مت 26: 63). وقد نال إجابة لم يكن يستحقها، ولكن من أجل أنه استحلفه سمع هذه الإجابة على سؤاله: "من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة، وآتيًا على سحاب السماء" (مت 26: 64)، فمزق قيافا ثوبه كمن هو أمام مجدفٍ. "وفي أيدي الأشرار طرحني"، أي في حضور قيافا وقادة اليهود الآخرين. إذ كيف لا يكونون أشرارًا، هؤلاء الذين صرخوا لبيلاطس: "خذ هذا (للموت)، وأطلق لنا باراباس، هذا الذي طُرح في السجن لأجل فتنةٍ حدثت في المدينة، وقُتلٍ" (لو 13: 18-19). الأب هيسيخيوس الأورشليمي "كُنْتُ مُسْتَرِيحًا فَزَعْزَعَنِي، وَأَمْسَكَ بِقَفَايَ فَحَطَّمَنِي، وَنَصَبَنِي لَهُ هَدَفًا". [12] كان أيوب مستريحًا في تمتعه بخيرات الرب الزمنية له قبل التجربة، لكنه في وسط التجربة شعر أن كل ما يحدث له ليس جزافًا، ولا هي أحداث عارضة. إنما كأن الله قد زعزعه، وأمسك بعنقه، كما يمسك الأب ابنه في ثورته. كأنه اختاره من بين كل البشرية لينصبه غرضًا أو هدفًا له يُوجه إليه كل سهامه، كأن الله قد أفرزه لهذا الهدف. *"حين كنت مستريحًا زعزعني، وأمسك بشعري واقتلعه" (LXX). بحق يمكن القول بأن السيد المسيح يدعو رسله "شعره" ماداموا زينة الرأس، فقد كان معهم هو في سلام. لكنهم إذ تركوا المسيح بسبب الآلام، تشتت التلاميذ، ولهذا قال أيوب هذه العبارة. كيف تحقق ذلك؟ قال المسيح نفسه لتلاميذه: "كلكم تشكُّون فيَّ في هذه الليلة" (مت 26: 31)... أضاف يسوع بعد ذلك: "لأنه مكتوب: إني أضرب الراعي، فتتبدد خراف الرعية" (مت 26: 31؛ زك 13: 17). البابا غريغوريوس (الكبير) الشمس الذي احتضن العمود (الذي رُبط السيد حوله ليُجلد)، النار التي تُجلد بالسياط (مت 27: 26)، النور الذي تحتقره الظلمة (يو 8: 12؛ 1: 5)، رب جبرائيل الذي ضربه عبد قيافا (يو 18: 22)، شبل الأسد الذي تنهشه الثعالب الحقيرة (هو 5: 14). البحر الكبير الذي يحكم عليه التراب. المخوف الذي على الكاروبيم ركب شجرة الصليب. واهب السوسن المجد، والورود الألوان المتنوعة (مت 6: 28)، معلق عاريًا في عارٍ. غارس الفردوس يُعطَى له الخل والمرارة (تك 2: 8؛ مت 27: 34). اللهيب يُطعن بالحربة (يو 19: 34). مكلل الشمس بالأشعة وُضع على رأسه إكليل شوك (مت 27: 29). القديس مار يعقوب السروجي "أَحَاطَتْ بِي رُمَاةُ سِهَامِهِ. شَقَّ كُلْيَتَيَّ، وَلَمْ يُشْفِقْ. سَفَكَ مَرَارَتِي عَلَى الأَرْضِ. [13] حسب أيوب الذين ساهموا في حلول بلاياه أشبه برماةٍ خاصين بالله، صدر إليهم الأمر الإلهي بتصويب سهامهم نحوه. وقد جاءت السهام صائبة، بلغت إلى كليتي أيوب فشقتهما دون رحمة، كأن غاية السهام هي قتله بلا شفقة. "سفك مرارتي على الأرض". أخذ هذا التشبيه عما يفعله الصيادون حينما يصطادون وحشًا بريًا ويذبحونه، يلقون بمرارته على الأرض في اشمئزاز. حسب نفسه قد صار بالفعل قتيلًا مُستهدفًا. "يَقْتَحِمُنِي اقْتِحَامًا عَلَى اقْتِحَامٍ. يَهْجِمُ عَلَيَّ كَجَبَّارٍ". [14] لم يُصب أيوب بضربة واحدة قاضية، يموت فيستريح، لكنه أُصيب بضربات متوالية، ضربة تلو الأخرى، وجرح على جرحٍ. فمن جهة لم يسترح بموته، ولا أخذ أنفاسه بين الضربة والأخرى، بل صار يتوقع المزيد، فلا أمل من انتهاء متاعبه، أو حتى التوقف عند الحد الذي بلغ إليه. ربما شعر كأن الله يقتحمه كجبارٍ، كما كان الملوك القساة حين يغلبون يأتون بأعضاء الأسرة الملكية المنهزمة، ويلقون بهم على الأرض، ويطأ الملك بقدمه على رقابهم، كنوِع من الاستعباد والإذلال والتشهير بهم. يرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن أيوب يتحدث عن عدو الخير الذي لن يتوقف عن اقتحام الكنيسة ليسلب الأعضاء الضعيفة كأسرى تحت سلطانه، فيهجم على الكنيسة كماردٍ جبارٍ. يحارب العدو الكنيسة كجماعةٍ، كما يحارب كل عضوٍ فيها بكل الوسائل الممكنة، حتى يحطم إن أمكن الكثيرين. * "يقتحمني اقتحامًا على اقتحامٍ". تنكسر الكنيسة المقدسة باقتحامٍ على اقتحامٍ خلال أعضائها الضعيفة، عندما تُضاف خطية على خطية، حتى يبلغ الإثم إلى درجةٍ خطيرةٍ. ينطبق هذا على من يدفعه الطمع إلى السرقة، والسرقة إلى الخداع، فيدافع عن الخطية بالكذب... "يلتقي به مثل المارد" (LXX). يمكن مقاومة العدو بسهولة إن كان الشخص لا يوافقه، سواء من جهة الارتداد عن الإيمان أو الاستمرار فيه. ولكن إن اعتادت النفس على الخضوع إلى إقناعاته، فبقدر ما تخضع لها، يصعب عليها جدًا أن تصارع ضده في قليلٍ أو كثيرٍ. عدونا الشرير "مثل مارد" يحارب ضدها عندما تُغلب بعادة شريرة. ولكن غالبًا ما ترد الكنيسة المقدسة أذهان المؤمنين إلى التوبة، حتى بعد ارتكاب الخطايا وتغسلها من ممارسة الخطايا بفاعلية تأديب الإنسان لنفسه باختياره. البابا غريغوريوس (الكبير) في الجيل الأول في جنة عدن، ألقى العداوة بين الله وصورته (آدم وحواء). وفي الجيل السابع علَّم الإنسان الزنا، ودنّس أولاد الله (أولاد شيث الطاهر) ببنات قايين الطريد وجمالهن المزركش. وفي الجيل العاشر امتلأت الأرض بالأثمة. أرسل الله الناموس الإلهي، يمد يد موسى كمصباحٍ ينير الأرض التي أظلمت. وفي الجيل الرابع عشر امتلأت الأرض بعبادة الأصنام، ونُسي الله حتى في وسط شعبه. فأرسل الله إيليا النبي -موسى الثاني- ليعلن عن غيرته على مجد الله ضد الضلالة. وفي آخر الأزمنة أرسل الله ابنه متجسدًا، وصار واحدًا منا، ليجعلنا معه ومثله، وأعطانا نفسه ليأخذنا لأبيه، ونزل إلى أسفل العمق ليرفعنا إلى قوة العلو، وتواضع غاية التواضع ليحتقر بتواضعه الأثيم ذاك الذي أراد أن يصير إلهًا بالاختلاس. * يشن العدو حربًا ليخرج (المرء) من شكل إلى شكل آخر. وعندما يخرجه من ذلك الشكل، يبدأ يلوم نفسه بأفكار الكآبة التي يلقيها الشيطان في عقله، فيفكر أنه أساء التصرف يوم بدّل عمله والتحق بعملٍ آخر. إنه يقلقه في كل الفرص، وفي كل ما يعمله، لكي يستقطبه، جاذبًا إياه إلى مشوراته الماكرة والمعاكسة. القديس مار يعقوب السروجي "خِطْتُ مِسْحًا عَلَى جِلْدِي، وَدَسَسْتُ فِي التُّرَابِ قَرْنِي". [15] لم تعد ثيابه الفاخرة تليق بجسمه المملوء قروحًا، ولا تناسب من هو في كربٍ كهذا، لهذا خاط لنفسه مُسحًا؛ خاط المسح بنفسه، إذ لا يوجد من يشفق عليه ليخيطه له وسط آلامه الشديدة. كان "القرن" يشير إلى السلطة والقوة؛ فداس بنفسه في التراب قرنه، علامة رفضه التام أية كرامة أو رفعة. لقد حسب أيوب أن التراب هو أفضل موضع لا للجلوس في وسطه فحسب، بل وليردم فيه كرامته وسلطانه. * ماذا يقصد بالمُسح والرماد سوى الندامة، والجلد والجسد سوى خطايا الجسد؟ البابا غريغوريوس (الكبير) "اِحْمَرَّ وَجْهِي مِنَ الْبُكَاءِ، وَعَلَى هُدْبِي ظِلُّ الْمَوْت"ِ. [16] لم يفقد أيوب الفرح فحسب، وإنما صار الوقت لائقًا أن يذرف الدموع من أجل خطاياه، ومن أجل تأديبات الرب له، وقسوة أصدقائه عليه، فصار وجهه محمرًا من البكاء، وحملت عيناه علامات الموت. العجيب أن أيوب قد أحمر وجهه كله، وليس فقط عيناه، وذلك بالدموع الكثيرة، لكنه لم يخشَ الموت، إذ صار بلا سلطان عليه. رآه ظلًا عابرًا بعد أن قاد المسيح بنفسه عجلة الموت ليحطم بها الموت نفسه، ويهبنا قوة قيامته. هذا ما تتغنى به الكنيسة مسبحة القائم من الأموات: "بموته داس الموت!" * "على جفون عيني ظلال الموت" (أي 16: 16). ليس الموت بل "ظلال الموت"، لأن المخلص نائم. لهذا تنبأ الأب يعقوب عن موت المخلص من أجلنا، ناطقًا بالكلمات التالية في بركته: "من نسلي يا ابني تصعد، ترقد كأسد ومثل شبل، ومن عندئذ يوقظه؟" ( راجع تك 49: 9). فإنه ليس بمحتاج إلى أحد يوقظه، هذا الذي يقيم كل البشرية. إنما قام بنفسه بإرادته. الأب هيسيخيوس الأورشليمي البابا غريغوريوس (الكبير) في نهار الأحد فُتح لهم باب السماء الذي كان موصدًا يوم الجمعة في وجه الملائكة لئلا ينزلوا إلى الجلجثة، فأسرعوا لينحدروا بثيابهم البيض، ليستقبلوا ملكنا الذي خلص المسبيين وعاد عند أبيه. صار القبر الجديد بيت العرس، أُنشأ في الحديقة للعريس المذبوح، الذي أعاد العروس من حرب الأعداء. اجتمع وحضر إلى الباب الحسن الملائكة في ثيابهم البيض، والتلميذات بأطيابهن (لو 23: 56). سمعان ويوحنا يركضان بسبب الأخبار السارة (يو 20: 3-8). كليوباس وأخوه (سمعان) تنفتح أعينهما بخبز البركة لينظرا القيامة علنًا. الأصدقاء يكشفون عن وجوههم، والمبغضون يطأطئون رؤوسهم. حنان خجل، وقيافا لا يستطيع أن يتكلم. يهوذا مشنوق، ورؤساء المجمع يلطمون على وجوههم. أُغلق باب الهاوية، وفُتح باب المعمودية. نُصب الصليب في مجاري المياه. جاء القطيع الناطق ليرتوي من المياه التي سالت من الصليب. نظر إليه وهو لابس النور، وواقف على الينبوع، فحبل وولد على شبه منظر نوره الحسن. لبس بياضًا ناصعًا كالنور، وجعله أبيض كالثلج... القطيع كله أبيض، لأن الصليب كله متشح بالنور. القديس مار يعقوب السروجي * أما تعرف كيف أصلح الصليب أخطاء كثيرة؟ ألم يحطم الموت، ويمسحُ الخطية، وينهى قوة الشيطان، وُيشبع كيان جسدنا الصالح؟ ألم يصلح العالم كله، ومع هذا لا تثق أنت فيه؟ * من يخبر عن أعمال الرب القديرة؟ (مز 2:105) من الموت صرنا خالدين، هل فهمتم النصرة والطريق التي بلغتها؟ تعلموا كيف اُقتنيت هذه الغلبة بدون تعب وعرق. لم تتلطخ أسلحتنا بالدماء، ولا وقفنا في خط المعركة، ولا جُرحنا، ولا رأينا المعركة، لكننا اقتنينا المعركة. الجهاد هو (تمتعنا) بمسيحنا، وإكليل النصرة هو لنا. مادامت النصرة هي لنا، إذن يليق بنا كجنودٍ أن نرتل اليوم بأصوات مفرحة بتسابيح الغلبة. لنسبح سيدنا قائلين: "قد أُبتلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت أين شوكتك يا هاوية؟" (1 كو 54:15-55). القديس يوحنا الذهبي الفم "مَعَ أَنَّهُ لاَ ظُلْمَ فِي يَدِي، وَصَلاَتِي خَالِصَة"ٌ. [17] بقيت شهادة ضميره باستقامة لا تفارقه، إذ لم يذكر أنه ارتكب ظلمًا في حق إنسانٍ ما، ولا رفع صلاةً من أجل أمورٍ زمنيةٍ، ولا بسط يديه للصلاة وقد دنسهما بظلمٍ ما. * "لم يكن في يده ظلم" (أي 16: 17)، قيل عن المخلص في الكتاب المقدس الموحي من الله: "لم يفعل إثمًا، ولا وجد في فمه غش" (إش 53: 9), "كانت صلواتي نقية"، إذ كان المخلص نقيًا حتى من الغضب والسخط. كان واضحًا لليهود الذين صلبوه أنه صلى: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). لذلك كان أيوب نبيًا وحاملًا لله، هذا الذي استطاع بكلمات يقينية أن يرى آلام المسيح كما لو كانت قدامه. لهذا تكلم عن شخصه بقصد إظهار الآلام لأسلاف الشعب اليهودي حتى صار ممكنًا للناس إدراكها جيدًا، بعد ذلك قدم لنا ذات الحدث. لم يقدم حديثه البار عن افتخار، وإنما ليقود أصدقاءه، وكل الأجيال التالية للإقتداء به. في حديثه ترك لنا ختمًا صالحًا، صلواته النقية. إنها تعزي وتعين الصديقين على نقاوة الصلاة، إذ يتأهلون للإيمان. إنهم يحفظون الصلاة النقية بنفس الطريقة التي يفهمها بولس أيضًا: "أريد أن يصلي الناس في كل موضعٍ، رافعين أيادٍ مقدسةٍ، بدون سخط أو ريب" (1 تي 2: 8). لأن الصلاة تكون طاهرة عندما تكون الأيدي طاهرة من الطمع ومن كل وصمة. لنعرف هذا، كيف يكون الإنسان بارًا ما لم يكن ذلك بسبب إنسانه الداخلي (رو 7: 22) المتحرر من الضغينة، ولا يسقط في الشك عندما يصلي. فإننا نتكلم مع الله نفسه، ونقترب إلى الملك العظيم الذي يغسلني تمامًا من إثمي، ويطهرني من الخطية (مز 51: 3). الأب هيسيخيوس الأورشليمي إنه يمنح حنو شفاعته حتى للذين مارست أياديهم الألم، فإن ذات دم مخلصنا الذي سفكه مضطهدوه في ثورتهم صاروا يشربونه بعد إيمانهم به، معلنين أنه ابن الله. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس أغسطينوس إنه هو القابل كل الصلوات والطلبات، لا تدخل صلاة لأبيه بدونه، ولا تخرج عطية منه إلا بيديه... لقد قبل صلاة حنة في هيكل القدس، وخرج إليها بالمراحم من بيت أبيه. لقد أنصت إلى صلاة يونان في جوف الحوت، وأدخلها إلى أبيه كتقدمة. لقد أنصت إلى الفريسي والعشار في هيكل القدس، لما قاما للصلاة وسمع الطلبة... إنه يسمع لجميع المسكونة، ولا ينسى أن يقدمها كما خُدمت... * الصلاة النقية تجد طريقها لدى الله، فهي تتحدث إليه، تسمعه وتثق فيه. * لا تضجر في طلبك. لا تفكر بأن طلبك يعود فارغًا. لا تقل: طلبت كثيرًا ولم أجد، ولعلني لا أجد أبدًا . القديس مار يعقوب السروجي "يَا أَرْضُ، لاَ تُغَطِّي دَمِي، وَلاَ يَكُنْ مَكَانٌ لِصُرَاخِي". [18] يفسر البعض هذه العبارة بأنه يرى أصدقاءه قد سفكوا دمه البريء بصب اتهامات باطلة ضده، فيطلب من الأرض أن تشهد له ضدهم، وألا تحجز صرخاته في موضعٍ ما، بل تتركها تصعد إلى الله في الأعالي. إن كان أصدقاؤه قد اتهموه بالشر والرياء، فها هو يُشهد الأرض إن كان قد سفك دمًا بريئًا أو ارتكب جريمة ما فلتكشف عنها وتعلنها (تك 4: 10-11؛ إش 26)، ولا تكتم نفسه فلا يصرخ. * "لا تغطي"؛ ليت صراعات أيوب لا تُنسى، ليت عَرَقْ اضطرابي ذاته لا يُنزع، هذا الذي يتصبب في ممارسة الفضيلة، أنا الذي ارتديت كل أنواع أعمال الصبر. ليت قروح الصديق تُكشف لعيون العامة، حتى يطهروا أنفسهم بالرغبة في الإقتداء به. الأب هيسيخيوس الأورشليمي صلاة القديس تخترق السحاب (سيراخ 35: 17)، أما الأرض فتفتح فاها وتخفي صلاة الخاطئ في دم الجسد، كما قال الله لقايين القاتل: "ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك، مادمت أنت أرضًا" (راجع تك 4: 11-12). القديس أمبروسيوس لاحظوا ماذا يضيف: "ليت صرختي لا تجد موضعًا لتختفي فيكِ". لأن ذات دم الخلاص الذي يؤخذ هو نفسه صرخة فادينا. يقول بولس: "ودم الرش يتكلم أفضل مما لهابيل" (عب 12: 24). قيل عن دم هابيل: "صوت دم أخيك يصرخ إليَّ من الأرض" (تك 4: 10). أما دم يسوع فيتكلم بأمورٍ أفضل مما لدم هابيل، لأن دم هابيل جلب موت أخيه، أما دم الرب فربح حياة لمضطهديه. لذلك فإن سرّ آلام ربنا لا تكون بلا نفع فينا، بل نلتزم أن نقتدي بما نأخذه ونكرز بما نعبده. البابا غريغوريوس (الكبير) "أَيْضًا الآنَ هُوَذَا فِي السَّمَاوَاتِ شَهِيدِي، وَشَاهِدِي فِي الأَعَالِي". [19] لكيلا يُتهم من جديد بأنه متكبر ينسب لنفسه برًا ذاتيًا، يطلب من السماء أن تشهد له، والساكن فيها أن يعلن عن استقامته. * إن سألت: وأين شُهد له؟ أجبتك: في الأردن قائلًا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17)... أوضح أنه ليس في الله صوت، وليس له صورة، لكنه هو أعلى من كل الأشكال والنغمات التي هذه صفتها. القديس يوحنا الذهبي الفم "ومدافعي في العلا"، هذا الذي يعرف بالأكثر الأعمال والكلمات وتحركات الأفكار، هذا الذي يقدم لنا ذكرى أيوب التي لا تُنسى محفوظة في الأسفار الإلهية. الأب هيسيخيوس الأورشليمي يمكن أيضًا أن ينطبق هذا على صوت جسده، الكنيسة المقدسة، التي تحتمل مآسي هذه الحياة، من أجل النعمة العلوية التي تقودها نحو المكافآت الأبدية. إنها تستتفه الموت الجسدي، إذ تهدف نحو مجد القيامة. ما تعانيه مؤقت، وما تتوقعه أبدي. ليس لها شك من جهة هذه البركات الأبدية. فإنها ترى بالذهن قيامة جسده، فتتقوى جدًا أن يكون لها الرجاء، فتحسب ما قد رأته قد عبر برأسها. وتترجى دون شك أن يتحقق في جسده، أي فيها... هكذا ليت الشعب المؤمن حين يعاني من خصومة، عندما ينزعج بضيقات مرة، يرفع عقله إلى الرجاء في المجد العتيد، ويثق في قيامة الفادي، قائلًا: "الآن أيضًا أرى شاهدي في السماء، وزمالة قلبي في العلا". بحق دعاه "زمالة"، إذ قد تعرف على طبيعتنا ليس فقط بخلقتها، وإنما أيضًا بأنه اتخذها لنفسه. فقد تحققت معرفته بأن اتخذ ما لنا... لكن يمكن أن ينطبق هذا الصوت على كل واحدٍ منا مع الطوباوي أيوب، فإن كل إنسانٍ يهدف نحو المديح البشري فيما يفعله يطلب شاهدًا على الأرض. أما المشتاق إلى مسرة الله القدير بأفعاله، فيفكر أنه له شاهد في السماء. غالبًا ما يحدث أن الأعمال الصالحة نفسها فينا تُحسب خاطئة بواسطة أناس طائشين، أما الذي له شاهد في السماء، فلا حاجة له أن يخاف من توبيخات البشر. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس أفراهاط "الْمُسْتَهْزِئُونَ بِي هُمْ أَصْحَابِي. لله تَقْطُرُ عَيْنِي". [20] لم يقف أصدقاؤه عند مقاومته فحسب، بل صاروا يشَّهرون به ويتآمرون عليه. إنه لا يتوقع منهم لطفًا ولا تعزية، إنما يسكب دموعه أمام الله وحده مصدر كل تعزية، مقدمًا له ذبيحة القلب المنكسر والمنسحق الذي لا يرذله! استهزأ الأصدقاء بصرخاته، فقدم دموعه تقدمه خالصة لله رجاء التعابى. * "ليت طلباتي تأتي أمام الرب". فإنه إن بلغت صلاتي العلا، يهلك أعدائي (مز 92: 2)؛ الصديق يثبت (حك 5: 1)، الشبكة تنكسر، والعصفور إذ يتحرر يطير في حرية (مز 124: 7)؛ والمضطهدون يحنون رؤوسهم، والمضطَهَدين يفرحون (مت 5: 10-12). * "ولتبكِ عيناي أمامه". لقد قال عن عمدٍ "أمامه"، أي أمام الله. بلياقة أضاف أيوب ذلك، لأن البكاء أمام الناس لا نفع له تمامًا بالنسبة للذين يصلون. فإنهم حتى إذا تزينوا بأفكار حكيمة، فمن الجنون أننا نقبل مجدًا من الناس. لكن فلنسكب دموعنا أمامه (مز 56: 8)، فقدر ما نترك دموعنا تفيض في الصلاة أمام الرب يهرب المخادعون وينحلون (مز 5: 6)، بينما يلتحف الملك بالحنو. فإن الدموع تغسل النفوس والأجساد، وتطهر كل دنس وتطهر بالكامل كل وصمة وتجعل الباكين يظهرون أبيض من الثلج (مز 51: 9). الأب هيسيخيوس الأورشليمي البابا غريغوريوس (الكبير) "لِكَيْ يُحَاكِمَ الإِنْسَانَ عِنْدَ اللهِ، كَابْنِ آدَمَ لَدَى صَاحِبِه"ِ. [21] يعلم أيوب أن ليس من إنسانٍ يمكنه أن يقضي لصالحه، لكنه يقف أمام الله فاحص القلوب والعالم بالأفكار والنيات، هو وحده يقدر أن يحاكمه فيبرره خلال نعمته الغنية. يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن الإنسان المُشار إليه هنا هو ابن الإنسان، الابن الذي تجسد لأجلنا (يو 1: 12؛ رو 3؛ 1 يو 4: 2، 2 يو 7)، الجالس عن يمين الآب (مز 110: 1). يشفع فينا كمساوٍ للآب في الكرامة الملوكية، ويفند اتهامات إبليس المفتري علينا. "إِذَا مَضَتْ سِنُونَ قَلِيلَةٌ، 4. العبور من العالم أَسْلُكُ فِي طَرِيقٍ لاَ أَعُودُ مِنْهَا". [22] شعر أيوب أن الموت على الأبواب، تعبر سنوات قليلة فيدخل إلى بيته الأبدي، ولا يعود بعد إلى هذا العالم. * "سنواتي محصية، ونهايتهم قادمة" (أي 16: 22)، بمعنى إنني لست أسأل هذا باطلًا، وإنما لأن نهاية حياتي قد بلغت، وانهيار تلك الحياة قريب...! "إنني اذهب إلى الطريق الذي ليس له عودة، هذا الذي قال عنه داود: "أنا سائر في طريق البشر كلهم" (1 مل 2: 2). الرجوع إلى هنا، أي أسفل، أمر مستحيل بالنسبة للإنسان. يشهد داود النبي نفسه عن ابنه الذي مات، قائلًا: "أنا ذاهب إليه، أما هو فلا يأتي إلي" (2 صم 12: 23). من جانب آخر، فإننا إذ نذهب في طريق يستحيل بعده العودة إلى هنا، لنبادر ونهيئ زاد السفر، أي الفضائل. في هذا الطريق لا نجوع ولا نعطش، ولا نتعرى ولا نفقد مجد الحياة. الأب هيسيخيوس الأورشليمي إذ حطم الرب سلطان الموت، وأشرق علينا ببهاء قيامته، صار المؤمنون يبكون، لا خشية الموت بالنسبة لهم أو لأحبائهم، لكنهم بالأكثر يبكون على خطاياهم كما يبكون شوقًا للانطلاق إلى السيد المسيح. * بحسب النظام الطبيعي نبكي من أجل الأموات، هكذا يليق بنا أن نبكي من أجل خلاصنا، بطريقة لا يُعلي عليها. نبكي بشوقٍ هكذا وشجاعة حتى يكون كل شيءٍ لخدمتنا... لنتذكر الخلاص. الذين يفقدون أبناءهم وزوجاتهم لا يفكرون في شيءٍ سوى الذين فقدوهم، بينما نحن الذين فقدنا ملكوتًا سماويًا نفكر في أي شيءٍ ماعدا هذا. ليس من إنسانٍ يفقد والده (أو والدته أو أحد أقربائه) يخجل من الخضوع لناموس الحزن، حتى وإن كان من سلالةٍ ملوكيةٍ. فإنه يسقط على الأرض ويبكي بمرارة، ويستبدل ثيابه، وبإرادته يمارس كل التصرفات التي تليق بمثل هذا الزمن. هذا لا يقوم بناء على تدريبٍ، ولا عن ضعفٍ يخص مثل هذا الحزن، وإنما يمارس هذا كله دون أية صعوبة... وأما نحن الذين نحزن، لا على زوجة، ولا على طفلٍ، بل على نفسٍ، لا لآخر، بل على نفوسنا، فنقدم عذرًا لأنفسنا بدعوى تعب الصحة أو أننا أصحاب تعليم عالٍ... لكننا نهمل حتى ما لا يتطلب مجهودًا جسمانيًا. إني أسأل: أي مجهود نحتاج إليه لممارسة ندامة القلب، والسهر في الصلاة، والتفكير في خطايانا...؟ هذه الأمور التي تجعل الله مترفقًا بنا. لكننا لا نفعل مثل هذه . القديس يوحنا الذهبي الفم [عندما بدأت أتذكر فيضان دموعه، بدأت أنا نفسي أبكي، إذ كان يصعب جدًا أن أعبر بعيون جافة خلال محيط دموعه. لم يوجد قط نهار أو ليل أو جزء من النهار أو الليل، أو أية لحظة، مهما كانت قصيرة، لم تظهر فيها عيناه الساهرتان تسبحان في الدموع. وكما قال، إنه أحيانًا كان يبكي من أجل شقاء الكل وغباوتهم بصفة عامة، وأحيانًا كان يبكي من أجل رذائل معينة. تجده باكيًا ونائحًا ليس فقط عندما كان يتكلم عن الندامة والأخلاقيات وضبط الحياة، بل وحتى أثناء صلوات التسبيح.] * النفس ميته بالخطية. هذا يتطلب الحزن والبكاء والدموع، الحداد والنحيب على الإثم الذي نزل بها إلى الدمار. الصراخ والبكاء والنوح يردها إلى الله... يحزن الله على الصورة التي فُقدت (بسبب خطايانا). النفس عند الله أكثر معزة بكثير من كل خليقته. بالخطية صارت ميتة، وأنت أيها الخاطي أما تبالي...؟! أسكب الدموع وأقمها! قدم لله هذا الفرح، يفرح بأنك تقيم نفسك. القديس مار أفرام السرياني * الدموع هي الفيضان الذي يسقط على الخطايا، وهي تطهر العالم. القديس غريغوريوس النزينزي من وحي أيوب 16 مُعَزُّونَ مُتْعِبُونَ كُلُّكُمْ! * كثيرًا ما أشتاق أن أسمع كلمة تعزية من إنسانٍ. لكنني أدركت أنهم جميعًا معزون متعبون. ليس من يقدر أن يدخل أعماقي، ويشاركني مشاعري، ويئن لأناتي، سواك يا محب لكل نفسٍ بشرية! قد ينطقون بشفاههم بكلمات عذبة، لكن هل لهم القلب المتسع ليحمل ضعفاتي؟ وإن نطقوا بكلمات لينة، لكن عيني الإنسان تنتقدان، أما عيناك فتنظران كل ما هو صالح وجميل فيّ! * هب لي ألا أتكئ على تعزيات بشرية، أنت هو اتكالي وعزائي وبهجة قلبي. حتى إن جَرَحتنيْ، فجراحاتك تحمل دواءً لشفائي. مع تأديباتك أتلمس عذوبة حبك الفائقة! * هب لي وسط آلامي ألا انشغل بنظرة الناس ولا بكلماتهم. لكنني أتطلع إليك يا مصدر كل تعزية! * ليستخف بنو البشر بي، فإني أرى في سخريتهم دواءً نافعًا لأعماقي! لأحتمل كل تسخيفٍ، فأنت وحدك تشرق عليّ، فتبدد ظلمتي، يا شمس البرّ. * عجبي إن صَمَتَ الناس، أشعر بتجاهلهم لي. وإن تكلموا يرشقون بكلماتهم قلبي كما بسهامٍ قاتلةٍ! أما أنت ففي صمتك، تحملني لرؤية أمجادك، وفي كلماتك، تلهب قلبي بحبك! علمني كيف أصمت، وكيف أتكلم! ليكن ناموس حبك هو قائد صمتي وكلماتي! * لأحملك في أعماقي، وأقدمك لإخوتي، أقدمك لهم بصلواتي عنهم، وبكلماتي الحاملة عذوبة حبك! أقدم لهم لا سهام النقد الذي يهدم، بل سهام حبك التي وإن جرحت تشفي! * تعزياتك لي هي إعلان حضرتك داخلي! أراك أيها المصلوب، فأستعذب الألم حتى الموت! أراك تحطم بالصليب سلطان إبليس، فأدرك أن مقاومة عدو الخير إنما لنصرتي. ليضرب بكل قوته، فإني مختفٍ فيك. بك أتمتع بإكليل مجدٍ لا يفنى! * عدوي الذي يشهد ضدي يفتح لي باب النصرة عليه! هي حرب لا تتوقف، لكن ماذا يقدر إبليس أن يفعل بك يا مخلصي؟ هل يمكن للظلمة أن تطفئ النور؟ هل يمكن لضد المسيح أن يغتصب ملكوتك؟ يا له من عدو تافه؟ هو مخادع وخبيث، لكنك أنت هو الحق الذي لا يُقاوم! * في وسط ضيقي افتح عيني، فأراك وإن سمحت بالتأديب فأنت أب. وإن اشتدت الضيقة للغاية عيناك تترفقان بي! ليس لإبليس أي سلطان عليّ! قد يشّوه صورتي، ويضيِّق عليّ! لكن أنت سرّ بهائي الأبدي، وراحتي السماوية! * عدو الخير يود أن يلطمني على خدي، كي لا أنطق بكلمة شهادة لك. لكن كلمتك في فمي نار ملتهبة. لن يقدر العدو أن يطفئ لهيبها، ولا يستطيع أن يكتمها! * حقًا إن عدو الخير كماردٍ خطيرٍ، لن ييأس عن محاربة الكنيسة ككل، وكل عضوٍ فيها. بدأ حربه مع الإنسان الأول في الجنة، ويبقى يحارب في كل الأجيال بطرقٍ متنوعةٍ، لن يتوقف حتى منتهى الدهور. يعمل بكل قوةٍ خلال ضد المسيح! يعمل بكل خداعٍ ومكرٍ، منتهزًا كل فرصة لتحطيمنا! يحَّول حياتنا إلى جحيم، حتى نفقد الرجاء في خلاصنا! تظلّم عيوننا باليأس، ونحسب أن الموت قد سبانا إلى الأبد! لكن موتك وهبنا القيامة، وصعودك فتح أبواب السماء أمامنا! لن يقدر إبليس بعد أن يحبسنا في الهاوية حيث الظلمة الأبدية! لن نخشاه بعد، لأنك أنت أيها الفادي هو نصرتنا! أنت قيامتنا وإكليلنا! * ليضرب العدو بكل قوته، فإن الأرض نفسها تصرخ. لن تقبل الأرض أن تشرب دمًا بريئًا، بل تصرخ إليك. لم تستطع الأرض أن تحبسك في القبر، لأنك السماوي. لأتحد بك، فلا أعود إلى تراب الأرض، بل بك أصير سماويًا، وأتمتع بشركة الأمجاد السماوية. * وسط آلامي أراك شاهدًا لي في السماء! تشهد بموتك وقيامتك وصعودك لي، فإني إذ أشاركك آلامك، أتمتع بشركة أمجادك! * وسط آلامي تنهمر دموعي، لا أمام الناس، بل أمامك. فالبشر معزون متعبون، أما أنت فتعتز بدموعي! * وسط آلامي أترقب عبوري إليك. سنواتي قليلة، ونهاية حياتي الأرضية قادمة. إني ذاهب في طريق الأرض كلها! لكن ليس وحدي، لأنك معي! وإليك أذهب لأستقر أبديًا! _____ |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أيوب | الوسيط الواحد |
أيوب | مرثاة مُرة |
أيوب | الرجاء في الوسيط الإلهي |
أيوب إذ قدم مرثاة، مشتهيًا لو كان قد مات في الرحم |
مرثاة أيوب |