|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
حقيقة ما يسمى بالإنجيل القديم! تردد مؤخراً بين الأوساط المهتمة بالشأن الثقافي السرياني حديث عن اكتشاف انجيل سرياني قديم يبلغ عمره أكثر من 1500 سنة. وقد شغل هذا “الخبر المفرح” الكثير من الناس وتحمس كتّابنا الاعزاء للكتابة عنه ونشرتْ بعض المواقع الالكترونية خبر اكتشافه الهام لتزف البشرى للجميع فخلقوا ضجيجاً صاخباً، فتذكرت القول الانكليزي Much ado about nothing، لأنّ هذا الكتاب الذي روّج له البعض وسمّوه “انجيل” هو كتاب “مزيّف”. قبل عدة سنوات اتصل بي كاهن فاضل ليعلمني ويستشيرني بموضوع هام للغاية بان السفارة الفاتيكانية في استوكهولم مقبلة على شراء إنجيل سرياني قديم جداً، وطلبوا مني ان افحص هذا الانجيل السرياني قبل عملية الشراء لكوني خبيراً في اللغة السريانية وآدابها. وعلمتُ بأنّ الاشخاص الذين يريدون ان يبيعوا هذا الانجيل هم من العراق، ويدعون بانهم اكتشفوه ضمن وعاء معدني قديم جداً في خرائب احدى القرى المهجورة في شمال العراق. فطلبتُ من مندوب السفارة ان يجلب لي هذا الانجيل لأقوم بفحصه، فكان الجواب بأنّ هذا غير ممكن. فطلبتُ أن أحصل على صورة لبعض صفحات هذا الكتاب، بحيث تُؤخذ من مقدمته ومن منتصفه والبعض الآخر من نهايته. وبالفعل حصلتُ على صور لحوالي عشر صفحات منه، أُرسلت لي بالطريقة الإلكترونية. وبالاعتماد على خبرتي الواسعة في مجال اللغة السريانية وتراثها، ومعرفتي بنشأة الكتاب المقدس السرياني بعهديه وبترجماته السريانية المختلفة وبمخطوطاته السريانية القديمة، وبعد دراسة عميقة لمضمون الصفحات المرسلة وتحليل لغتها السريانية حرفاً حرفاً، توصلت الى نتيجة وهي “أنّ هذا الكتاب ليس انجيلاً“. وللحال أخبرتُ السفارة الفاتيكانية عن نتيجة تحليلي للكتاب المذكور فرفعتْ السفارة يدها عنه وصرفتْ اصحابه بعد ان كانت قد قطعت معهم عدة اشواط، وأيضاً الاتفاق على سعر الشراء الذي كان مبلغاً كبيراً جداً. بعد كشف حقيقة “المخطوطة” ورفض السفارة شراء الكتاب انتهى امره عند هذا الحد ولم نسمع عنه شيئاً حينها. بالاستناد الى الصفحات التي قمتُ بتحليلها أقول إنّ الكتاب الذي نحن بصدده مدوّن بأحرف سريانية، لكن لا مضمون له. فإنّ الذين صنعوه ليس لهم معرفة جيدة باللغة السريانية، ولا بخطوطها ولا بنظام التنقيط المستعمل في المخطوطات السريانية القديمة للكتاب المقدس، وليس في هذا الكتاب جملة مفيدة صحيحة. لان كل جملة أو كلمة فيه تقريباَ لا علاقة لها بالكلمة التي بعدها. إنّ الذين كتبوه خلطوا الخط السرياني الشرقي مع شيء من الخط السرياني الغربي (السرطو)، لكن بطريقة سيئة تكشف بأنهم نقلوا كلماته السريانية من كتبٍ اخرى (نسخاً وتقليداً). أعتقد انّ الذين كتبوا محتوى هذا الكتاب هم سريان مشارقة، لأنّ فيه أجزاء جمل من السريانية الشرقية (الفصحى) بالخط السرياني الشرقي الذي يستعمله السريان المشارقة من نساطرة وكلدان، مختلطة مع أجزاء جمل وألفاظ من الآرامية المحكية في العراق والمعروفة بالسورث. كما أنّ النظام الارثوغرافي المتبع فيه يميل الى الشرقي، لكنه سيء ويكشف عن ضعف ثقافة الكاتب بالنصوص والخطوط السريانية، أو انه تعمّد ان يكتب هكذا ليشوّش القارىء. إنّ هذا الكتاب ليس “انجيل” ولا اي “كتاب آخر” وليس له مضمون خاص به. أما جمله فمتقطعة وفيه بعض الألفاظ الإنجيلية، لكن فيه عبارات على شكل طلاسم سحرية نراها في النقوش السريانية السحرية المتوفرة في الطاسات السحرية والتي نسميها بالانكليزية Bowls. ويبدو ان مؤلف الكتاب لا يتقن اللغة السريانية (الفصحى) كما يجب فخلطها مع الآرامية المحكية التي ربما تكون لغته المحكية الأم. ويتضمن الكتاب أيضاً الكثير من الصور والرموز منها كنسية ومنها لا علاقة لها بالرموز المسيحية. اما الجلد المستعمل في المخطوطة فيبدو أنه قديم، أو أنّ الذين صنعوه ربما صنعوه بهذه الطريقة ليعطوه سِمة العتق والقدم. لكن إن كان الجلد قديماً وكتبوا عليه، فهذا يعني بأنّ هناك طبقة من الكتابة تحت الكتابة الحالية قد مُسحتْ، لكن بامكان العلماء وبوسائلهم العلمية قراءة تلك الطبقة السفلية الممحية إن وجدتْ. كما أنّ الصندوق المعدني الذي يضم الكتاب يبدو بأنه قديم أيضاً، لكن بإمكان أصحاب الاختصاص أن يفحصوه ويكتشفوا حقيقته ايضاً.هذا ما أتذكره عن الكتاب حسبما تسعفني ذاكرتي بعد هذه السنوات التي مضت على تحليل حوالي عشر صفحات منه. واكيد اني نسيت اشياء كثيرة عنه. على العموم فإنّ الخطوط السريانية الشرقية والغربية ليست قديمة جداً ولم تكن موجودة لتُستعمل في القرون الاولى من ازدهار الكنيسة في تدوين الكتب المقدسة. إذ حتى بعد انقسام السريان إلى مشارقة ومغاربة بعدة قرون وظهور كل من الخط الشرقي والغربي، استمر الفريقان السريانيان يخطّان الاناجيل بالخط السرياني القديم أي الاسطرنجيلي، وأنّ كل المخطوطات السريانية التي يتراوح عمرها بين 1200-1500 سنة مدونة بالخط السرياني القديم المعروف بالاسطرنجلي Estrangelo. فاذا كان عمر هذا الكتاب 1500 سنة حسب ما يروج له في المواقع، كان ينبغي ان يكون بالخط السرياني الاسطرنجيلي، وهذا غير متوفر في الكتاب!! أمّا اللغة الآرامية المحكية في العراق والتي تسمى “سورث” Surath/Sureth فكان هناك محاولات أولية بسيطة لكتابتها منذ حوالي 500 سنة تقريبا، لكن ترجمة الكتاب المقدس إلى هذه اللهجة الآرامية عام 1836 على يد الإرسالية الامريكة في منطقة “أورميا” أعطاها قوة لتتحول تدريجياً إلى لغة كتابية لدى البعض من السريان المشارقة في المئة السنة الأخيرة. ولو افترضنا أنّ هذا الكتاب الذي نحن بصدده مدوّن بالآرامية المحكية “سورث” بشكل فاسد، أو دُوّن مع تخريب متعمد للغة والكتابة لإبعادها عن صيغتها المعروفة ولمنحها سمة مبهمة غريبة، فإنّ عمر هذه المخطوطة في الحالتين لن يكون حينها أقدم من عمر تلك المحاولات الأولية التي جرت في القرون القليلة الماضية لتدوين هذه اللهجة الآرامية. إن أقدم مخطوطة سريانة للعهد القديم من الكتاب المقدس نعرفها تعود لعام 459 م ، وتتضمن سفر اشعيا ناقصاً، وأخرى تعود لعام 463 م، تتضمن سفر التكوين وسفر الخروج، وهي بالخط السرياني الاسطرنجيلي وموجودة في المكتبة البريطانية. وحتى مخطوطة العهد الجديد السريانية المعروفة باسم بوكنانفي جامعة كامبريدج، والعائدة للقرن الثاني عشر مدونة بالخط الاسطرنجيلي. كما يوجد عدد كبير من المخطوطات السريانية القديمة التي تتضن بعض الاسفار من العهد القديم منها 27 مخطوطة سريانية تعود الى القرن السادس الميلادي، وكذلك 32 مخطوطة من القرن السابع الميلادي، وحوالي عشر مخطوطات من القرن الثامن الميلادي، و 12 مخطوطة من القرن التاسع، و 23 مخطوطة من القرن العاشر، الخ. ومعظمها في مكتبة الفاتيكان وفي المكتبة البريطانية. لكن هناك مجموعة كبيرة جداً من المخطوطات السريانية للعهد الجديد بمختلف ترجماته السريانية، وأقدم تلك المخطوطات حسب ترجمته المعروفة “بالبسيطة” والتي هي النص الرسمي للكتاب المقدس المتدوال بين جميع الطوائف السريانية، فتعود الى القرن الخامس الميلادي، كما أنّ هناك مجموعة اخرى من مخطوطات العهد الجديد التي تعود إلى بداية القرن السادس الميلادي، منها مخطوطة “رابولا” الشهيرة والتي كتبت عام 586 ميلادي والمحفوظة في مكتبة فلورنسا، وتشتهر باحتوائها على العديد من الصور والنقوش تزين نص الكتاب المقدس. في القرون المتأخرة برزت بلدة “القوش” في العراق كمركز ثقافي سرياني هام لتدوين المخطوطات السريانية، وبرز فيها عدد من كتّاب المخطوطات السريانية منهم افراد عائلة اسرائيل الالقوشي الذين زاولوا هذا الفن ضمن العائلة لعدة قرون، وكتبوا العديد من المخطوطات السريانية منذ القرن السادس عشر؛ ومنهم ايضاً عيسى بر اشعيا بر قرياقوس الالقوشي في القرن التاسع عشر الذي دوّن ايضاً عددا كبيراً من المخطوطات السريانية، وكذلك كبرئيل برحذبشابا الالقوشي الذي نسخ العديد من المخطوطات بين أعوام 1803-1829، وكذلك كيوركيس بر ياقو يوحنا الالقوشي في نهاية القرن الثامن عشر. وقد اطلعنا شخصياً على العديد من هذه المخطوطات السريانية التي دُونت في القوش. الا ان “ملك” الخط السرياني الاسطرنجيلي الجميل كان صديقنا المرحوم الملفونو اسمر الخوري (1916-1992) حيث كتبَ بخطه الجميل عدداً كبيراً جداً من المخطوطات السريانية منها أناجيل ومنها كتب طقسية موجودة في الكنائس السريانية. وكان قبل وفاته قد كتبَ مخطوطة سريانية من الكتاب المقدس مزوقة بالنقوش والتصاوير الجميلة حيث تعد آية في الجمال Masterpiece طُبعت بعد وفاته وهي متداولة في الكنائس وفي متناول الجميع. الكتاب يظهر من جديد: بعدما كشفنا أمر الكتاب الذي نحن بصدده وتراجع سفارة الفاتيكان عن شرائه، اختفى بعدها أمره ولم نسمع شيئاً عنه. لكن بعد ذلك بحوالي سنتين واذ بي اقرأ خبراً عن “اكتشاف انجيل سرياني قديم في جزيرة قبرس”، وهو من أقدم الأناجيل. وعندما شاهدتُ صورته في المواقع علمتُ للحال بأنه نفس الكتاب الذي نحن بصدده، ويبدو أنّ أصحابه لم يتوفقوا ببيعه حتى في قبرس. واليوم نقرأ من جديد خبر ظهور هذا الكتاب مجدداً في تركيا، وأنه موضوع في متحف في اسطنبول، والغريب في أمر الأتراك أنهم صدقوا امر الكتاب وبمنتهى البساطة. يبدو أنّ المسؤولين الأتراك قد أخذوا الكتاب للمتحف، فلا يهمهم إن كان صحيحاً او مزوراً فهو بالنسبه لهم حدث هام يجلب السوّاح لزيارة المتحف. ان بعض المواقع ومنها موقع عنكاوا كتبت عن هذا الكتاب ووضعته على صفحاتها الرئيسية ليتعرف عليه الجميع فانتشر الخبر بين كل القراء. لقراءة الخبر. كما قرأنا في موقع العربية خبراً بمنتهى الجهل نُشر في 26 فبراير/شباط عنوانه “العثور على إنجيل يحوي نبوءة عيسى بالنبي محمد تعود إلى ما قبل 1500 عام، وتم إخفاؤها 12 عاماً وطلب بابا الفاتيكان معاينتها”. وهم يقصدون نفس المخطوطة، فضحكت من جهل الكاتب الذي لا يعلم شيئاً عن الكتاب. لقراءة الخبر وقد اطلق بعض الكتّاب والمعلّقين في موقع ايلاف العنان لخيالهم مدعين بأنّ هذا الكتاب هو ما يسمى “انجيل برنابا” دون أن يشاهدوه أو يعلموا شيئاً عن محتوياته، ولا نعلم من أين أتوا بهذا الذي لا علاقة له بالموضوع. لكن إذا كان أصحاب هذا الكتاب هم الذين أتوا بهذا الادعاء أي أنّ الكتاب هو “انجيل برنابا” فهدفهم بالتأكيد هو أن يتمكنوا من بيعه لبعض المسلمين الذين يصدقون هذه الخرافة. وهذا يعني أنهم بعد أن فشلوا في بيعه لأشخاص أو مؤسسات مسيحية خلقوا قصة سيصدقها البعض من المسلمين حالاً لأنها “عزيزة على قلوبهم” وهي بان هذا الكتاب هو “انجيل برنابا” ليستطيعوا بيع الكتاب لهم وربما بمبلغ كبير. نطلب من المسؤلين في مواقع عنكاوا والعربية وايلاف وغيرها من المواقع التي كتبت عنه سحب هذا الخبر لانها تضلل القرّاء. للاسف إنّ الضجيج الذي أثير حول هذا “الكتاب” يشبه ضجيج المطحنة الفارغة من الطحين، حيث يدور دولابها ويولد صخباً عالياً يُسمع عن بعد، لكن دون ان يطحن شيئاً. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|