التوق إلى السلام
التزام السلام هو دعوة للمسيحيين ورسالتهم، وقد قبلوها من المسيح، سلام الشعوب وملك السلام
" دُعيَ اسمُه يسوع، كما سمّاه الملاكُ قبل أن يُحبل به "
(لوقا 2: 21)
مع ميلاد ابن الله إنساناً، دخل الله عالم البشر فاديّاً ومُخلّصاً بشخص يسوع، وإسم يسوع يعني: "الله الذي يُخلّص شعبه من خطاياهم" (متى ١: ٢١)، ودخل سلامُ الله الذي يفوق كل سلام إلى العالم، وأُصبّح عطيّة إلهيّة تصبح من صنع البشر ومن أجل البشر. "طوبى لصانعي السلام ، فإنّٓهم أبناء الله يُدعَون" (متى ٥: ٩).
إنَّ التوق الى السلام هو في داخل كلِّ إنسان، لأنّه مخلوق على صورة الله ومن أجل السلام الذي هو في الأساس عطيّة من الله ومن جوهره. ولكي يكون كلُّ شخصٍ إبناً وابنةً لله، ينبغي أن يلتزم بصنع السلام. ولهذا، كانت الطوبى الإنجيليّة: "طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعَون" (متى٥: ٩).
إلتزام السلام هو دعوة للمسيحيين ورسالتهم، وقد قبلوها من المسيح، سلام الشعوب وملك السلام.
السلام الحقيقي المُعطى من المسيح يُولَد من لقاء الإنسان بالله، لقاءً مفعماً بالثقة، نختبر فيه فرح عطيّةٍ سامية هي تقاسمُ حياة الله نفسها، حياة النعمة والسعادة والسلام الداخلي. فيكون السلام، في آن، عطيّة الله وعمل الإنسان. عطيّةُ سلامٍ تنبع من الله، وتُعاش مع الآخرين ومن أجلهم بأخلاقية الشركة والتقاسم، وتُبنى على ركائز أربع مترابطة هي: الحقيقة والحرية والمحبة والعدالة.
ولكي نصبحَ صانعي سلام حقيقيين، ينبغي أن نتغلّب على الخطيئة التي هي نقيضُ السلام مع الله والذات والناس. فالخطيئة تعني أنانيةً وعنفاً وجشعاً وتسلّطاً واستكباراً وبغضاً وحقداً وظلماً. صانعُ السلام هو الذي يبحث عن خير الآخر، بنفسه وجسده، اليوم وغداً. صانع السلام هو الذي يقتدي بالمسيح سلامنا وبرِّنا ومصالحتِنا (أفسس ٢: ١٤ وقورنتس الثانية ٥: ١٨).
نستخلص من هذا الآية أنَّ كلَّ شخص وكلَّ جماعة، أكانت دينية أم مدنية، تربويّة او وثقافية، مدعوّان للعمل من أجل السلام وإنماء الإنسان والمجتمع إنماءً شمولياً. فالسلام هو، في الأساس، تحقيق الخير العام لمختلف المجتمعات. ولهذا السبب، الكنيسة مقتنعة بضرورة الإعلان الجديد لسرّ يسوع المسيح، الذي هو الفاعل الأول والأساسي في إنماء الشعوب وإحلال السلام.
صانعو السلام هم الذين يُحبّون الحياة البشرية بشموليتها، ويدافعون عنها، ويعزّزونها لإنها الطريق المؤدّي إلى الخير العام. والسلام هو احترام الحياة البشرية في كلّ مراحلها: الحبل والولادة والنمو حتى نهايتها الطبيعية، والدفاع عنها، وتعزيزها في كلّ أبعادها، الشخصية والجماعية. ملء الحياة هو ذروة السلام. من يحبّ السلام، لا يستطيع تحمّل الاعتداءات والجرائم ضدّ الحياة البشرية، بدءاً من الإجهاض، ولو ظنّ طالبه وصانعه أنّه يشكّل سلاماً تحريرياً له، لكنّه سلام كاذب. إنّ قتل كائن بشري بريء غير قادر على الدفاع عن نفسه، والهرب من المسؤوليات لا يستطيعان ابداً إنتاج سعادة أو سلام أو فرح.
هذه كلّها مبادئ مكتوبة في ضمير وطبيعة الإنسان يمكن معرفتها بالعقل وبالتالي هي مشتركة للبشرية جمعاء. ولذلك، عندما تعلّمها الكنيسة، فإنّها تتوجّه إلى جميع الناس، مهما كان انتماؤهم الديني . يكون هذا التعليم ضرورياً بمقدار ما تكون هذه المبادئ مرفوضة أو مُنكرة أو غير مفهومة، لأنّ ذلك يشكّل إساءة لحقيقة الشخص البشري، وانتهاكاً للعدالة والسلام. ولذا، اعتراض الضمير على كلّ قانون أو ممارسة أو تدابير حكومية تنتهك الكرامة البشرية، مثل الإجهاض والقتل الرحيم واعتماد العنف والحرب، إنّما يشكّل مساهمة مرموقة لصالح السلام وحياة وكرامة الإنسان.
صانعو السلام هم أيضًا أولئك الذين يحترمون الحرية الدينية التي تشمل: حرية الشهادة للدّين الخاصّ، وحرية إعلان تعليمه ونقله، وحرية القيام بنشاطات تربوية وأعمال رحمة ومساعدة تطبيقاً للتعاليم الدينية، وحرية إنشاء أجهزة ونشاطات اجتماعية. وفقاً لمبادئها التعليمية ولأهدافها التأسيسية. وهم الذين يدافعون عن الحقوق والواجبات الاجتماعية، ومن بينها الحقّ في العمل وواجب العمل، وسواه من الحقوق المدنية والسياسية التي تساعد المواطنين على تحقيق ذواتهم. فمن أجل تحقيق السلام، يجب احترام حقوق العمّال ، والتزام هؤلاء بواجباتهم. تقتضي الكرامة البشرية والمنطق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي توفير فرص العمل للجميع، كخير أساسي للشخص والعائلة والمجتمع، مبنيّ على المبادئ الأخلاقية والقيم الروحية. ما يقتضي وجود سياسات جريئة ومتجدِّدة لصالح العمل والعمّال.
تحقيق السلام بكلِّ مقوّماته وأبعاده، يقتضي إيجاد نموذج جديد للإنماء، ونظرة جديدة للإقتصاد، إنطلاقًا من القيَم الروحيّة والأخلاقيّة التي مصدرها الله. إنَّ الوسائل المتعدّدة لتحقيق الإنماء، والخيارات المتنوّعة لنموّ الاقتصاد، ينبغي استعمالُها بتطلّعات نحو حياةٍ صالحة ومسلكٍ مستقيم يعطيان الأولويّة للبعد الروحي وتأمينِ الخير العام، وإلاّ فقدت قيمتها الحقيقيّة، ونصّبت نفسها أصناماً جديدة.
صانع السلام هو الذي يقيم علاقات إخلاص وتبادل محبة صادقة، مع معاونيه وزملائه ويمارس النشاط الاقتصادي من أجل الخير العام، ويعيش التزامه كشيء يتعدّى فائدته الشخصيّة، لصالح الأجيال الحاضرة والمستقبلة. وهكذا يعمل ليس فقط لذاته، بل أيضًا لكي يوفّر للآخرين مُستقبلاً وعملاً لائقاً وكرامة إنسانية.
إنَّ التربية على ثقافة السلام تحقّق الخير العام وتولّد جوّاً من الاحترام والإخلاص والمودّة والعيش معاً بذهنية صنع الخير ونبذ العنف وبروح الغفران والمصالحة.
الأمكنة التي يجب ان تتوفّر فيها هذه الثقافة والتربية فهي:
١- العائلة، بكونها خليّة المجتمع الأساسيّة ديموغرافيّاً وأخلاقيّاً وتربويًاً واقتصاديّاً وسياسيّاً. دعوتُها الطبيعيّة تعزيزُ الحياة ومواكبتُها في نموّها وتربية الأشخاص على مقياس المحبّة الإلهيّة. فيها يولد ويكبر صانعو السلام ومعزّزو ثقافة الحياة والحبّ. فمن الواجب حماية حقِّ الوالدين ودورِهم الأول في تربية أولادهم أخلاقيًاً وروحياً.
٢- المؤسسات الثقافيّة والتربوية، المدرسيّة والجامعيّة بكونها تُنشِّئ أجيلاً جديدة من القياديّين، وتساهم في تجديد المؤسسات العامّة، الوطنيّة والدوليّة ، وتقدّم تفكيراً علمياً من شأنه أن يجذِّر النشاطات الإقتصاديّة والماليّة في أساسٍ أنتروبولوجي وأخلاقي متين، وتوفّر لعالم السياسة فكراً ثقافيًاً جديداً حول الخير العام بحيث هو مجموعة علاقات إيجابيّة بين الأشخاص وبين المؤسسات، في خدمة النموِّ الشامل للأفراد والجماعات، وبحيث هو الأساس لكلّ تربية حقيقيّة على السلام.
٣- الجماعات الدينية والأنشطة الرسوليّة، بكونها تجسّد تعليم الكنيسة الإنجيلي، الذي يدور حول الحقيقة ومحبّة المسيح، وبالتالي حول النهضة الروحيّة والأخلاقيّة لدى الأشخاص وفي المجتمعات. إنَّ اللقاء مع المسيح يكوّنُ صانعي السلام، إذ يجعلهم مُلتزمين في الشركة والعدالة، بوجه الانقسام والظلم والعنف والبغض والحقد والكراهية.
أن المسيح، أميرَ السلام، هو النموذج والمثال الأعلى لصانعي السلام، فعلينا الإقتداء به لتدعيم عطيّة السلام والدفاعِ عنها، ولكي نعمل مع الجميع على تخطّي الحواجز التي تُفرّق، ونشدّد أواصر المحبّة المتبادلة، غافرين للذين أساؤوا إلى عطية الله، عطية السلام المجانية، فتنموَ الأخوّةُ بين شعوب الأرض وتزدهر، ويملك السلام المنشود على الجميع، فيتمكّن الجميع من أن يصبحوا صانعي سلام، حتى ينموَ في مدينة الأرض الإتفاقُ الأخويّ أساس الإزدهار والسلام والمحبّة.
ونحن، كمسيحيين في العالم والشرق الأوسط خاصةً، نلتزم بأن نكون صانعي سلام لكي نستحقّ أن نُدعى أبناء الله". طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعَون" (متى ٥: ٩)