|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
"إنّ جميع الذين يريدون أنْ يعيشوا بالتقوى في يسوع المسيح يُضطهدون" التقوى تعريفاً هي الأمانة في أداء الواجبات الدينيّة، وازدياد التقوى هو الغيرة على تلك الواجبات. ورغم أنّ التقوى بحدّ ذاتها تستحقّ الإعجاب والتقدير والمديح من الله والناس أيضاً، إلاّ أنّها ليست دائماً صالحة. لذلك يميّز الناس بين نوعين من التقوى.فهناك تقوى يأنَفُها الناسُ ويخشونها، وهي تلك التي تبالغ في تقديم العبادات الخارجيّة لله وأمام الناس، فتهوّل من أهميّة المظاهر من العبادة على حساب حقيقتها الداخليّة. ولقد وبّخ يسوع رياء بعض هؤلاء الذين يحبّون "بتقواهم" المجالس الأولى والتحيّات في الشوارع ويطيلون أهدابهم ويظهروا للناس صائمين صوّامين، بينما داخل الإنسان مملوءٌ خبثاً ودعارة! لقد كانت هذه التقوى المزيّفة السبب العميق للصراع بين يسوع وبين بعض رجال الدِّين والمؤمنين الغيورين على "تقاليد الآباء"! فبمقدار ما يُجِلّ الناسُ التقوى الحقيقيّة ويرفعون من شأنها، بقدر ما يحتقرون التقوى المزيّفة ويحذرون منها. وهناك تقوى حقيقيّة تقدّم العبادة لله وليس لكي ينظرها الناسُ. على العكس، وكما يروي الأدب النسكيّ المسيحيّ، فهناك حالات "كالمتبالهين بالمسيح" الذين جعلوا عبادتهم وقداستهم مخفيّة وقدموها لله مئة بالمئة، أي لله وحــده فقط؛ فلم يطلبــوا من الناس إطراءً، ولـــو اضطرّهم أمر إخفاء قداستهم إلى استعارة أساليب غريبة ومعثّرة، يأخذون بها من الناس الهزء عوض الكرامة، فيضمنون أنّ تقواهم هذه هي في الخفاء فعلاً ولله وحده بالحقّ. هناك راهب مصري ذاع صيتُ فضائله فقصدته ملكة إسبانيا لتتبرّك منه وتتعرّف إليه، وسمع هو بذلك، فأسرع لملاقاتها في الطريق قبل وصولها وهو يأكل جبناً، إذْ صادف حينها الصومُ الكبير. ولما سألتْه عن ذلك الراهب الشهير، وعرّفها عن ذاته، تعثّرت منه وعادتْ وهي تحتقره! إلى أن روت عثرتها هذه في طريق العودة لرهبان آخرين، فكشفوا لها سرّ التقوى عند هذا الراهب الذي أراد أن يُعدَم أيَّ مديحٍ بشريّ. فهناك أتقياء وتراهم قريبين من الناس ومحبوبين جدّاً، وهناك أتقياء يأنَفُهم البشرُ ويكرهون التقوى بسببهم، وينطبق فيهم قول يسوع: "الويل لكم إذا جاءت العثرات بسببكم". فبمقدار ما يحترمُ الناسُ التقوى بمقدار ما يحتاطون إليها ويحذرون منها. لأنّ الأمور السامية إذا فسدت أساءت كثيراً. والزيف في أمور بسيطة لا أهميّة له، أمّا الزيف في الساميات فخطره ثمين جدّاً. يضع بولس الرسول معياراً لقياس مصداقيّة التقوى، وهو "الاضطهاد" من الناس أو من أجلهم، أي الشدائد والصعوبات والجهاد. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهننا هو: ألا يستطيع الإنسان أن يكون تقيّاً وأن يبقى دون صعوبات؟ وهل من الضروريّ أن تتلازم التقوى بالشدائد؟ والجواب هو، نعم لا تقوى حقيقيّة وكاملة في المسيح يسوع إذا لم تزدوج بالصعوبات والأتعاب والجهادات. وإذْ يعدّد بولس جهاداتِه وما أصابه من اضطهاداتٍ يعترف على الفور أن هذا هو أمر طبيعيّ لأنّه أراد حياة تقوى في المسيح يسوع. لا تقوى حقيقيّة في الراحة. بينما يميل غالب الناس إلى تقوى طوباويّة غير واقعيّة، وهي إتمام بعضُ الفرائض الدينيّة، والعيشُ في رغد الحياة اليوميّة؛ تقوى كهذه هي فاسدة أو ناقصة. وسبب ازدواج التقوى بالاضطهاد هو أمران: أوّلاً، إنّ التقوى في مفهومنا الكتابـيّ المسيحيّ ليست حسن تقديم الفرائض والذبائح والأضاحي لله. بل هي تشمل أيضاً طبيعة علاقات الإنسان بأخيه الإنسان. لأن العبادة لله لا تتم برفع الذبائح والعبادات، وإنّما بحفظ وصاياه! إن التقوى نحو الله تتحدد بإطاعة إرادته، وإرادُته هي أن نحفظ وصاياه كدليل على محبّتنا له؛ ووصيّة الله لنا هي الاهتمام بالقريب. لذلك فإنّه عندما يزداد الفارق بين مظاهر العبادة وبين الاهتمام بالقريب تكون التقوى قد وقعتْ في "الزيف". وتقوى كهذه هي عبادة غير مرضيّة لله ومرفوضة منه. وثانياً، إنّه ما دامتْ التقوى الحقيقيّة هي محبّة الله في القريب، والبرهان عليها هو طاعتنا له بحفظنا وصيّته بشأن الإخوة، فإنّ ممارستها تجلب لنا حياةً "مضطهدة"! أي إن التقوى الحقيقيّة تصبر على الشدائد وتنتظرها. والتقيُّ الحقيقيّ معرّض للصعوبات من إحدى جهتين، أو من الاثنتَين معاً. فأوّلاً هي أنّ الحياة في المسيح هي حياة غريبة عن حياة العالم وظروفه مرّات عديدة، وهي مسيرة عكس التيّار العام الداعي للمصلحة والاستهلاك، ولو تغطّتْ هذه الأخيرة بستار العبادات أحياناً، لكن المزيّفة. وثانياً: إذا صدفت الظروف ولم تعارض الظروفُ العامّة الإنسانَ التقيّ، فإنّ الواقع الإنسانـيّ العام الذي يحتوي في حناياه على وجوه عديدة وعديدة جدّاً من مظاهر الألم، هذا الواقع يفرض على التقوى الحقيقيّة التزام رفع الألم من حياة الناس المتوجّعين، وما أكثرهم! يحارِب التقوى الحقيقيّة أحياناً الناسُ الفاسدون أخلاقيّاً، لأنّ أعمالهم المظلمة توبَّخ من نور التقوى؛ ولكن وإن غاب هؤلاء، فإنّ مصائب الناس وآلامهم لا يمكن أن تترك التقوى في الراحة! لذلك عرفت الكنيسة في حياة مؤمنيها اضطهادات ظرفيّة واضطهادات طوعيّة. فالاضطهادات الأولى هي الظروف الخارجيّة المناوئة لحياة الإيمان ومبادئه، والتي فُرضت على الكنيسة من الخارج دون إرادتها، وما أكثر هذه الظروف في عالمنا المتبدّل والمضطرب. والاضطهادات الطوعيّة هي تلك التي حملها أبناء الإيمان دون أن تُفرض عليهم، إلاّ من تقواهم. حين سعوا ليس إلى الحفاظ على إيمانهم مع ذاتهم فقط ولكن إلى تطبيقه عمليّاً في حياتهم، الأمر الذي يستدعي ليس أن يحمي الإنسان ذاته من فساد العالم بل أن يرفع الفساد من حياة الناس أيضاً. لقد تطوّع بولس الرسول بسبب من "البشارة" إلى بسط ذاته للجلد وللاضطهادات الظرفيّة والطوعيّة؛ هذا ما تستدعيه البشارة والحياة بالتقوى في يسوع المسيح. ليست التقوى هي مجرّد عدالة تقسم الحقوق بين البشر وتؤدّي لله بعض حقوقه التي نسمّيها "فرائضَ". التقوى هي "الرحمة"، والرحمة في عالم الألم والفساد هي صليب طوعي يحمله "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في يسوع المسيح". مَن يدّعي أنّه يحبّ الله ولا يحفظ وصاياه هو كاذب! ومَن يدّعي أنّه يحبّ القريب المتألّم وهو مرتاح هو كاذب. إنّ الفضيلة الفاسدة أبشع من الرذيلة، وزيف التقوى أقسى من فساد الأخلاق، في عين الله. تستحقّ التقوى أن نحياها في العمق وليس في المظهر. ويساعدنا في البدايات الروحيّة أن نخفي المظاهر لكي نحافظ على الجوهر. لذلك رتّبت الكنيسة في بداية الاستعداد للصوم الكبير أن نتأمّل في الزيف الفريسيّ، الذي يدّعي أنّه أتمّ الواجبات الدينيّة ويعلن ذلك على الملأ، ولكنّه فَقَدَ غايتها وهي محبّة القريب، حين حقّر العشّار. الواجبات الدينيّة هي تدريبات تهدف أن تقودنا إلى الالتزام بالقريب، في حاجاته وضعفاته وليس إلى فرزه أو احتقاره. إنّ التقوى الحقيقيّة حين تزداد تحملّنا واجبات أكثر ولا تعتقنا في شعور من التبرير. لأنّ التقوى هي الرحمة، وهذه الأخيرة كلّما كبرت كلّما التزمت بما هو أكبر. فلا خوف على التقوى من اضطهادات الناس، وبولس يؤكّد ذلك بقوله "وقد أنقذني الربّ من جميعها". إنّ التقوى تحيا دائماً في ألم الناس وفي جوّ التوبة. بينما تحيا التقوى المزيّفة في المجد الفارغ. لهذا تقول ترانيم هذا اليوم: "فالفريسيّ لما افتخر أُعدم الخيرات والعشار بِصمْته استحقّ المواهب. فبهذه التقوى والتنهّدات ثبّـتْني أيّها المسيح الإله، بما أنّك محبّ للبشر"، آمين. المطران بولس يازجي |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|