|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأحد الثاني للفصح: أحد الرحمة الإلهية
الأحد الثاني للفصح أحد الرحمة الإلهية: ترائي يسوع للتلاميذ ولتوما (يوحنا 20: 19-31) النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-31) 19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: ((السَّلامُ علَيكم!)) 20 قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ. 21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: ((السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً)). 22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: ((خُذوا الرُّوحَ القُدُس. 23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم)). 24 على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع. 25 فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: ((رأَينا الرَّبّ)). فقالَ لَهم: ((إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن)). 26 وبَعدَ ثَمانِيةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: ((السَّلامُ علَيكم))! 27 ثُمَّ قالَ لِتوما: ((هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً)). 28 أَجابَه توما (رَبِّي وإِلهي!)) 29 فقالَ له يسوع: ((أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا)). 30 وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب، 31 وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه. مقدمة في الأحد الثاني للفصح، أحد الرحمة الإلهيّة، يصف يوحنا الإنجيلي ظهور يسوع القائم من الأموات ليوجِّه للتلاميذ تحيته "السَّلامُ علَيكم"، مُظهرًا لهم ولتوما الرسول، جراحه "وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه" (يوحنا 20: 19-31)، وذلك لحثِّ قرائه على الإيمان بالمسيح القائم حتى وان كانوا بين أولئك الذين "لم يروا"، إذ طوَّب يسوع " اِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا". ويدعونا إنجيل اليوم إلى التعرف على القائم من بين الأموات وإلى رؤيته بأعيننا والإيمان به وإعادة اكتشافه ربًا لنا وإلهًا. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-31) 19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: السَّلامُ علَيكم! تشير عبارة "ذلك اليَومِ" إلى يوم القيامة، يوم الحياة الجديدة مع يسوع المسيح القائم من بين الأموات؛ أمَّا عبارة، "يومِ الأحد" في الأصل اليوناني Τῇ δὲ μιᾷ τῶν σαββάτων (معناه أول الأسبوع) فتشير إلى اليوم الثامن بعد نهاية الأسبوع السابق، أي أول يوم من أيام الأسبوع وهو اليوم الأول بعد السبت. لقد أخلى الزمن اليهودي المكان للزمن المسيحي الذي يعيش فيه يوحنا الإنجيلي. منذ ذلك الوقت اتَّخذ المسيحيون يوم الأحد يوم راحة تذكارًا لقيامة السيد المسيح، وسُمِّي "يوم الرب" (رؤيا 1: 10). انه يوم الأحد وهو العطية الفصحيِّة. وشعر التلاميذ المجتمعون أنَّ يسوع بينهم حيٌ حاضرٌ بينهم في يوم الأحد. هكذا كان يجتمع المؤمنون يوم الأحد وما زالوا. ويُشدِّد يوحنا الإنجيلي على وحدة الزمن: ظهر يسوع للتلاميذ في نفس اليوم الذي ظهر فيه لمريم المجدلية "وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد" كأنَّ نهار ذلك الفصح لم يكتمل بدون ظهور يسوع للتلاميذ مجتمعين. إذ أصبح يوم الأحد "اليوم الذي لا تنجز به أي أعمال" وفقا للمفاهيم المسيحية. وكان القيصر قسطنطين في عام 321 م أول قيصر امر بوقف العمل يوم الأحد واعتبره يوما رسميا للراحة والتعبد. أمَّا عبارة "التَّلاميذُ" فتشير إلى عشر رسل مع بعض المؤمنين (لوقا 24: 33). أمَّا عبارة "دار" فتشير إلى موضع اجتماعاتهم ونعلم انه كان في اورشليم، والأرجح انه كان في العلية التي اكل فيها الرسل الفصح مع مُعلمهم يسوع السميح (مرقس 14: 13-15). أمَّا عبارة "أُغْلِقَتْ أَبوابُها" فتشير إلى العِليَّة الكثيرة الأبواب أو ربما يقصد أن التلاميذ اغلقوا باب البيت الخارجي أيضا علامة على خوفهم. فدخول يسوع إلى دار أغلقت أبوابها دليل أنَّ جسد المسيح القائم من الموت ليس كالأجساد العادية، فقد دعاه بولس الرسول "جِسْمًا رُوحِيًّا" (1 قورنتس 15: 44). ومجيئه والأبواب مُغلقة تأكيد أنَّ جسده القائم من الأموات له طبيعة جديدة الذي لم يُعدْ خاضعاً لنفس قوانين الطبيعة كما كان قبل موته، حيث كان يخترق الجدران والحواجز (يوحنا 20: 26)، وهو غير مُقيّد بالحاجات الماديّة والبيولوجيّة، ولا بقوانين الطبيعة كالجاذبيّة الأرضيّة؛ بل أصبح ممكناً له الدخول، والأبواب مغلقة. وبكلمة أخرى يؤكد يسوع المسيح حضورًا غير خاضع لقوانين المكان والزمان؛ ويكشف لنا يوحنا الإنجيلي أنَّ حقيقة الالتقاء بيسوع تخضع بعد اليوم لسُنة أخرى غير سنن هذا العالم العادية. ومن هذا المنطلق، يختلف جسد يسوع المُمجَّد عن جسد لعازر الذي عاد إلى الحياة ثانية. هذا لا يعني أن جسد يسوع شبح أو خيال بل يُمكن لمسه وكان يأكل. قام يسوع بذات الجسم، لكنه جسم مُمجَّد، غير خاضع لقوانين عالمنا، وهذه الأبواب المغلقة سوف تفتح يوم العنصرة بحلول الروح القدس. ويُعلق القديس ايرونيموس " إن أنكرنا هويّة جسده لأنه دخل والأبواب مغلقة، وأن هذا ليس من طبيعة الأجسام البشرية، يلزمنا إذاً ننكر أيضًا أنه كان لبطرس وللرب يسوع جسدين حقيقيين لأنهما سارا على المياه، وهذا مخالف للطبيعة (متى 14: 22-33)؛ أمَّا عبارة "خَوفاً " فتشير إلى خشية التلاميذ أن يوجَّه اليهود إليهم تُهمة سرقة الجسد، أو خشية ملاحقتهم كما لاحقوا يسوع قبلاً؛ وقال أحد المفكرين "إن الخوف هو الطريق إلى الجهة المظلمة، الخوف يؤدّي إلى الغضب، والغضب يؤدّي إلى الكراهية، والكراهية تؤدّي إلى المعاناة والألم"، وهذا ما يمكن أن شعر به التلاميذ في داخل دار أغلقت أبوابها؛ إن الخوف يوصد باب الحياة، هذه هي خبرة التلاميذ بعد موت يسوع؛ وهنا يعلق فرانكلين روزفلت " أن الشيء الوحيد الذي يجدر بنا الخوف منه هو الخوف نفسه". ويعلق البابا فرنسيس "كان التلاميذ قد حبسوا أنفسهم في البيت خوفًا؛ لكنهم أيضًا كانوا منغلقين على أنفسهم، يسيطر عليهم الشعور بالفشل، إذ تركوا يسوع وحده في أكثر اللحظات مأساوية" (عظة الأحد 24/4/2022). أمَّا عبارة " اليَهود" فتشير هنا إلى رؤساء اليهود الذين كانوا يكنّون العداوة ليسوع (يوحنا 8: 48) ولم يريدوا أن يفهموه بل لاحقوه ولاحقوا تلاميذه. وقد وردت كلمة "اليهود" 71 مرة في إنجيل يوحنا. أمَّا عبارة "جاءَ يسوعُ" فتشير إلى حضور المسيح القائم من الموت بين تلاميذه في العُليِّة حيث كان تلاميذه مجتمعين عشية يوم الأحد. التلاميذ يبحثون عن يسوع ولكنهم لا يجدونه، لأن يسوع جاء يبحث عن تلاميذه في مكان تواجدهم، في خوفهم وشكوكهم وانغلاقهم على أنفسهم. يظهر يسوع لنا في وسط ضعفتنا وخطايانا وفشلنا عندما تكون قد أُغلقت كل أبواب الحلول ولم يعد هناك أي أمل بالخلاص. هذا هو ظهور المسيح الأول لكل التلاميذ لكنه الخامس بالنظر إلى ظهوره لبعضهم، أولهم مريم المجدلية (أعمال الرسل 16)، والثاني لرفيقتين (متى 28: 6) والثالث لبطرس (1قورنتس 15: 5) والرابع لتلميذي عماوس (لوقا 24: 12) والخامس ما ذكر هنا. جاء يسوع هو نفسه الذي مات في الأمس مسمّراً ومطعونا بحربة في جنبه. جاءهم من عالم آخر غير خاضع لقوانين عالمنا هذا ليقودهم ويرافقهم كما يرافق الراعي خرافه (يوحنا 14: 3-18). جاءهم وهو غير مقيّد بحدود الزمان والمكان، بل أصبح ممكناً له الدخول والأبواب مغلقة. وهذا لا يعني أنه كان شبحا أو خيالا بل كان " جِسْمًا رُوحِيًّا" كما سمّاه بولس الرسول (1 قورنتس 15: 44). وهو يبادر فيأتي أولا إليهم، ومجيئه يملأ القلوب تعزية وشجاعة (يوحنا 14: 3). ويكشف لنا يوحنا الإنجيلي أن حقيقة الالتقاء بيسوع تخضع بعد قيامته لسُنة أخرى غير السنُن العادية لعالمنا. أمَّا فعل "وقف" فيشير إلى المعنى الرمزي الذي هو وقفة القيامة. وقوف يسوع في وسطهم والأبواب مغلقه لم يكن بعملٍ معجزي، لأن هذه هي طبيعة الجسم القائم من الأموات، إنَّما ما أراد يسوع تأكيده فهو أنه قام بذات الجسم، لكنَّه بجسم مُمجَّد، انه الجسد هو بذاته لابسٌ عدم الفساد كما جاء في رسالة بولس الرسول " فلا بُدَّ لِهذا الكائِنِ الفاسِدِ أَن يَلبَسَ ما لَيسَ بِفاسِد، ولِهذا الكائِنِ الفاني أَن يَلبَسَ الخُلود" (1 قورنتس 15: 53)؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس حول "طبيعة الجسد المُقام" بقوله "على أي حال، أيا كانت طبيعة الجسد الروحاني، ومهما كانت عظمة نعمته، أخشى أن أتحدث في هذا، لأننا لا زلنا لا نحمل أية خبرة بخصوص هذه الحقيقة". أمَّا عبارة "بَينَهم" في الأصل اليوناني μέσος (معناه وسطهم) فتشير إلى يسوع القائم الذي هو قريب للكل بنفس الدرجة؛ ويشرح لنا يوحنا الإنجيلي كيف يُدخل يسوع الاثني عشر في ملء رسالة الفصح. وأمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" فتشير إلى السلام الذي يجلبه يسوع لتلاميذه كثمرة قيامته وإتمام وعوده في خطابه الأخير "سَلامي أُعْطيكم" (يوحنا 14: 27). وهذا السلام يُبدّد كل اضطراب أحدثه رحيله عنهم، "السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ"(يوحنا 14: 1). هو سلام ابن الله المنتصر على العالم والموت؛ فهذا السلام ليس تحية فحسب، إنما هو أيضا عطية سلام المسيح الذي يطرد الخوف. إنه السلام الذي لا يستطيع العالم أن يمنحه (يوحنا 14: 27)، إنه السلام الداخلي مع الله، ومع الإنسان نفسه كما مع إخوته؛ وهذا السلام يدل على ملء الحياة والخلاص. إنه الهبة المسيحانية المثالية كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح" (رومة 5: 1). وهذا السلام يختلف عن أي سلام أرضي يتفاوض عليه البشر، هو السلام الذي نرجوه عندما نرنِّم " المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام ". وعَّرف بولس الرسول هذا السلام بقوله: "سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ يَحفَظُ قُلوبَكم وأَذْهانَكم في المسيحِ يسوع" (فيلبي4 :7). "وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه" (كولسي 1 :20). "المسيح هو سلامنا" (أفسس 2 :14). وفي إنجيل يوحنا يرتبط السلام دائما في بشخص المسيح وحضوره كما صرّح يسوع لتلاميذه " قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام" (يوحنا 16: 33)، والتلاميذ بحاجة إلى هذا السلام بعد خوف يوم الجمعة (يوحنا 14: 27). فحضور يسوع الحي بين تلاميذه َقَلَبَ الخوف إلى سلام والحزن إلى فرح، وخيبة الأمل إلى رجاء. كذلك فإن حضوره غيّر نظرتهم إلى أنفسهم وإلى العالم وإلى المستقبل، حيث دعاهم الرّب إلى مهمة تغيير العالم. ويقول بولس الرسول "إِنَّ سلامَ اللهِ يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ" (فيلبّي 4، 7). فإنّ السلام للنفس هو الأساس الوطيد لحياتها الداخليّة. والنفس الّتي تفقد سلام الله تُصبح فريسة القلق والاضطراب. اليوم أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى يسوع المسيح لكي يأتي بيننا ويقول لنا مرة أخرى: "السَّلامُ علَيكم!". لنسمح لسلام المسيح أن يدخل حياتنا وبيوتنا وبلادنا! 20 "قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ" تشير عبارة "أَراهم" إلى رؤية أعمق للابن يسوع المتجسد والمُمجّد. أراد يوحنا الإنجيلي أن يُظهر الفرق بين كيفية رؤية يسوع في المرحلة الجديدة التي سيعيشها التلاميذ ابتداء من تمجيده حيث قال لهم قبل موته: " بَعدَ قَليلٍ لا تَرَونَني ثُمَّ بَعدَ قَليلٍ تُشاهِدونَني" (يوحنا 16: 16). أمَّا عبارة" " يَدَيهِ وجَنبَه" فتشير إلى جسد المسيح المصلوب الذي هو ذات جسد المسيح القائم من الموت؛ فالمسيح المصلوب هو مسيح القيامة، هو ألان حي ويحمل آثار الصلب. وأنه هو يسوع الذي تألم ومات على الصليب وانه قام بجسده نفسه. ويُعلق القديس أوغسطينوس "تبقى جراحات في المسيح، لا كنقائصٍ وعيوبٍ في الجسد بل كعلامات ظاهرة تكشف عن سرّ حبِّه وعلامة للمجد والكرامة". وبهذه التفاصيل يؤكد يسوع لتلاميذه أن جسده هو ذات الجسد الذي يحمل جراحات الصليب، لكنه جسد مُمجَّد. فيسوع الآن جسم حيَّ مُمجدٌ وآثار جراحاته شهادة حيَّة لقيامته، وبهذا الأمر يُعطي يسوع علامات على حقيقة قيامته ويتغلب على قلة إيمان الاثني عشر (أعمال الرسل 1: 3). ومن هذا المنطلق، شدِّد يوحنا الإنجيلي هنا على الصلة القائمة بين يسوع الناصري التاريخي المتألم، "قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين" (عبرانيين 2: 18) ويسوع القائم من بين الأموات، يسوع الإيمان الذي مع تلاميذه للأبد كما قال لهم قبل صعود إلى السماء "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20)، ولم يذكر يوحنا جراح القدمين كما فعل لوقا الإنجيلي "أُنظُروا إلى يَدَيَّ وقَدَميَّ" (لوقا 24: 39)؛ وينفرد يوحنا بذكر جنبه للدلالة على العلاقة بين حادثة الطعن بالحربة وحدث العشاء الأخير. وأراد يوحنا الإنجيلي أيضا إقامة صلة بين حادثة الطعن بالحربة وحدث العِليَّة، انه الحمل الفصحى الذبيح على الجلجلة الذي يعود إلى ذويه حاملا ثمار ذبيحته. وفي سفر الرؤيا يبدو أنَّ الحمل ذبيحاً أي حاملا في جسمه آثار ذبيحته من أجل خلاص البشر كما وصفه صاحب الرؤية "حَمَلاً قائِمًا كأَنَّه ذَبيح" (رؤيا 5: 6). هناك تواصل بين يسوع الذي تألم ويسوع القائم، وهو الآن حي مع تلاميذه. وبما أن جروحات يسوع باقية في جسده المُمجَّد يعلق العالم اللاهوتي ديتريش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer "لا يُخلّصُنا الله من الألم، بل من خلال الألم، ولا يحمينا من الموت بل بواسطة الموت، وهو لا يُحرّرنا من الصليب بل بالصليب". أمَّا عبارة " فَرِحَ التَّلاميذُ " فتشير إلى الفرح الناتج عن اختبار ورؤيةّ يسوع القائم من الأموات، وهذا الفرح هو إتمام وعد يسوع الذي قطعه لتلاميذه في حديثه الأخير معهم "سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 16: 22)، لان لقاء المسيح القائم من الموت هو مصدر فرح للتلاميذ، وقد أكمل فرحهم في القيامة "قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تاما"(يوحنا 15: 11)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما قاله يسوع قبل الصلب: "سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 16: 22) قد تحقق الآن عمليًا. وهذا كله دفعهم إلى الإيمان الصادق"؛ ويعلق البابا فرنسيس " عندما رأى التلاميذ يسوع في مساء الفصح وسمعوه يقول لهم السلام عليكم للمرة الأولى، فرحوا. رحمة الله تُعطي الفرح، فرح خاص، فرح الشعور بأنّه قد غُفر لهم مجانيًا هذا هو فرح يسوع، الفرح الذي شعرنا به نحن أيضًا عندما اختبرنا مغفرته" (عظة البابا فرنسيس 24/4/2022). أمَّا عبارة "مُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ" فتشير إلى مرحلة جديدة يعيشها التلاميذ ابتداء من تمجيده، وتتميز هذه المرحلة بمعرفة أعمق للابن المُتجسد والمُمجَّد. وفي الواقع يستخدم يوحنا فعلين مختلفين ليُظهر الفرق بين كيفية رؤية يسوع قبل قيامته؛ يستخدم فعل (رأى) θεωρέω، كمراقب مشهد أو عرض وبعد موته وقيامته (شاهد) ὁράω (يوحنا 16: 16)، أي نظر بتمعن وباختبار إنها رؤية تحرِّك جميع الحواسّ وليس البصر فقط. القلب يرى أيضًا. ونحن بقلب مؤمن، وهي النظرة الّتي وجهها يوحنا الحي بال القبر الفارغ (يوحنا 20: 8) وقائد المئة ليسوع فقد أدخلها فقط لوقا في سياقه معلنًا على لسانه " فَلَمَّا رأَى قائِدُ المِائَةِ ما حَدَثَ، مَجَّدَ اللهَ وقال: ((حقّاً هذا الرَّجُلُ كانَ بارّاً!)) (لوقا 23: 47). ويعلق البابا فرنسيس " التلاميذ يفرحون. لماذا؟ لأن ذلك الوجه وتلك التحية وتلك الكلمات، جميع هذه الأمور تحوِّل انتباههم من أنفسهم إلى يسوع. في الواقع، "فرح التلاميذ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ"(عظة البابا فرنسيس 24/4/2022). فإذا كانت مشاهدة المسيح على الأرض علَّة فرح، فكم يكون فرح المؤمنين بشاهدته إياه في السماء! 21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً تشير عبارة "ثانِيَةً" إلى تأكيد عطية السلام لتلاميذه لكي يشهدوا للعالم بقيامة المسيح المجيدة. أمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" فتشير إلى تكرار عطية السلام للتأكيد أن المسيح هو واهب السلام. والسلام هنا ليس لتبديد الخوف، بل إعداد تلاميذه لتشجيعهم وإرسالهم للتبشير بالقيامة المُفرحة، كسفراء عن السلام الداخلي؛ وقد أوعز إليهم حملها إلى العالم كلّه كيفما اتجهوا وحيثما حلّوا " وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذا البَيت"(لوقا 10: 5)؛ إنه سلام ابن الله المنتصر على العالم والموت. انه السلام الذي لا يستطيع العالم أن يمنحه. هو " سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ" (فيلبّي 4: 7). فهل نفهم ضرورة السلام الباطن؟ وهل نسعى لكي نضعه ونحفظه في نفوسنا؟ أمَّا كلمة "كما" في الأصل اليوناني καθὼς فتشير إلى العلاقة الخاصة بالآب والابن من ناحية وبين علاقة الآب بنا من ناحية أخرى، وفي الوقت نفسه تدل على طريقة إشراك الابن للذين يلازمونه في الألفة الحميمة القائمة في حياة الله. وهي كلمة أساسية في إنجيل يوحنا الذي كررّها في مواضع مختلفة " كما أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي " (يوحنا 6: 57)، " أَنا الرَّاعي الصَّالح أَعرِفُ خِرافي وخِرافي تَعرِفُني كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني وأَنا أَعرِفُ أَبي" (يوحنا 10: 15-16)، "كما أَحَبَّني الآب فكذلكَ أَحبَبتُكم أَنا أَيضاً. " (يوحنا 15: 9). أمَّا عبارة "كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً " فتشير إلى إرسال يسوع تلاميذه لتبشير العالم بأخبار القيامة السارة وبسلامه كما صرّح لهم "اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إلى الخَلْقِ أَجمَعين"(مرقس 16:15). يسوع هو رسول الله الوحيد لعمل الفداء (عبرانيين 3:1)، وقد جعل تلاميذه سفراءه وشركاءه في المناداة ببشرى الخلاص (يوحنا 18: 37، 2 قورنتس 5: 18). ويتعيّن على التلاميذ إشراك كل إنسان في الحياة التي وجدوها لكي يكون الفصح للجميع من خلال مغفرة الخطايا. المغفرة هي العلامة المميزة على انتصار الرب القائم على الموت. وهكذا نشأت هذه الإرسالية عن حدث الفصح وبالتالي عن رسالة يسوع القائم (متى 28: 16-20). وتقوم هذه البشارة بإعلان " بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم" (لوقا 24: 47). ونشأت هذه الإرسالية عن حدث الفصح وبالتالي عن رسالة يسوع القائم (متى 28: 16-20). يسوع يرسل تلاميذه إلى العالم، وهي رسالة متأصلة في رسالة يسوع كما يظهر في صلاته الكهنوتية: "كَمَا أَرسَلَتني إلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العالَم" (يوحنا 17: 18). فيسوع يُخبر تلاميذه باي سلطان قد أتمَّ عمله، ويُوكل إليهم نشر خبر الخلاص في كل العالم. وقد حوّل يسوع أتباعه من تلاميذ (الشخص الّذي يتعلّم) إلى رسل (معلم ومبشّر). ويعلق أحد المفسّرين " اخرجوا مني خروج الشعاع من الشمس، وكخروج النهر من النبع، وكما أنني أذيع اسم الآب، كذلك أذيعوا أنتم اسمي". والواقع إن التكريس يولي التلاميذ القدرة على القيام بالرسالة، لان التكريس يُفرد المرسلين لحمل الكلمة في داخل العالم (متى 28: 19) دون أن يُعزلهم عنه (يوحنا 17: 17-18)، ويربط يوحنا الإنجيلي رسالة التلاميذ مع مجمل رسالة يسوع (يوحنا 17: 17-19). فقد أوكل يسوع العمل إلى تلاميذه لنشر أخبار الخلاص السارة لمغفرة الخطايا في كل العالم. ولا يمكن للإنسان أن ينال رسالة الغفران إلى أن يقبل مُعطي الغفران، يسوع المسيح عن طريق رسله وكهنته. يدعونا يسوع اليوم لحمل بَشرَى سلامه الذي انبثق من القدس للعالم أجمع فيصل إلى كل بقاع الأرض. 22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس تشير عبارة "قالَ هذا" إلى الانتقال إلى عمل هام قد هيُّا له فيما سبق مباشرة؛ أمَّا عبارة "نَفَخَ فيهم" في الأصل اليونانيἐμφυσάω (معناه نفخ في وجوههم) فتشير إلى فعل "نفخ" יִּפַּח في سفر التكوين حين نفخ الرب نسمة الحياة في الخلق الأول "جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرض ونَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْسًا حَّيَة" (تكوين2: 7)، فالفعل نفخ يُوحي بخلق جديد أمام قيامة حقيقية " اللهِ الَّذي يُحيِي الأَموات ويَدعو إلى الوُجودِ غَيرَ المَوجود" (رومة 4: 17). كما في الخلق الأول نفخ الله في الإنسان نسمة الحياة، هكذا بنفخة المسيح ينال الإنسان من الله الحياة الأبدية. كما جاء في نبوءة حزقيال "دَخَلَ فيهمِ (عظام الموتى) الرُّوح، فعاشوا وقاموا على أَقْدامِهم" (حزقيال 37: 9)، فان روح الله خلق شعب الله مطهّرًا من خطاياه ومتجدداً في القداسة كما تنبأ حزقيال النبي "أُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا. جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم" (حزقيال 36: 26). وقد تحققت النبوءة يوم الفصح. فقد نفخ يسوع في تلاميذه الروح الذي سيكون مبدأ الحياة لخلق جديد. وقد وهب يسوع تلاميذه نفخة الروح القدس لينالوا إمكانية العمل الرسولي والخدمة بإعطائهم سلطان الحل والربط (متى 16: 19). إنه تدشين الخلق الجديد، وبها يكون الفصح هو نقطة انطلاقة لعالم جديد. هذه النفخة كانت للتلاميذ، وهي تنتقل لخلفائهم بوضع اليد (أعمال الرسل 13: 2-3). ويُعلق القديس ايرينيوس: "كما أنّ الله قد نفخ روحه في الجسد الذي كوّنه، منح الحياة لكل أعضاء الجسد، هكذا أعطى الروح للكنيسة. فحيث الكنيسة هناك أيضاً روح الله". وأمَّا الروح فهو قوة الخلاص لتتميم إرادة الله على الأرض والتي تحمل غفران الخطايا لنيل الحياة الروحية الأبدية من خلال رسالة التلاميذ (يوحنا 15: 26-27). وقد منح يسوع المسيح موهبة الروح القدس لمغفرة الخطايا لتلاميذه ومن يخلفهم أي الكهنة"(يوحنا 20: 23). أمَّا عبارة " خُذوا الرُّوحَ القُدُس " فتشير إلى منح الروح القدس أو منح الحياة التي استعادها بعد الموت والتي جعلها الرب تتويجا وتتميما لهبة محبته. أعطى يسوع تلاميذه الروح القدس لكي يجعلهم وكلاء مصالحة: "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم". ويعلق القديس قبريانس " أُعطي سلطان غفران الخطايا للرسل وللكنائس التي أُرسل إليها هؤلاء الرجال بواسطة المسيح ليؤسسوها، وللأساقفة الذين خلفوهم بواسطة سيامتهم كهنة ". وأمَّا عبارة "الرُّوحَ القُدُس" فتشير إلى روح الله، الأقنوم الثالث في الثالوث. وقد سمِّي روحا، لأنّه مبدع الحياة، ودُعي قدوساً، لان من ضمن عمله تقديس المؤمنين، إذ يحيي المائتين بالخطايا والآثام ويقدسهم ويُطهِّرهم، وهكذا يؤهلهم لتمجيد الله والتمتع به إلى الأبد كما اختبره بولس الرسول "شَريعةَ الرُّوحِ الَّذي يَهَبُ الحَياةَ في يسوعَ المسيح قد حَرَّرَتْني مِن شَريعَةِ الخَطيئَةِ والمَوت" (رومة 8: 2). الروح القدس هو قوة الخلاص لغفران الخطايا والذي يُمكّن التلاميذ من الشهادة للمسيح: "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء" (يوحنا 15: 26-27). وكان هذا العطاء الخاص للتلاميذ للامتلاء من الروح القدس عربون لِمَا سيختبره المؤمنون في يوم العنصرة (أعمال الرسل 2). ويُعلق البابا القديس يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة (الرب وواهب الحياة) "إنّ الرّوح القدس الذي، في أعماق لله، هو أقنومٌ وهبة، قد أُعطيَ للتلاميذ وللكنيسة بطريقة جديدة، ومن خلالهم للبشريّةِ وللعالمِ أجمع" (رقم 23). 23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم تشير عبارة "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" إلى سلطان غفران الخطايا الذي هو الدليل المطلق لانتصار المسيح على الموت. وهذه الكلمات هي أصل سرّ المصالحة. لم ينال التلاميذ الرحمة وحسب، بل أصبحوا موزَّعين لتلك الرحمة عينها التي نالوها. لقد نالوا هذه السلطة، ولكن ليس على أساس استحقاقاتهم، لا: إنها عطيّة نعمة خالصة، هذا سلطان مغفرة الخطايا طالما شكك كتبة اليهود كما جاء في حوار يسوع مع المقعد "قالَ يسوعُ لِلمُقعَد: ثِقْ يا بُنَيَّ، غُفِرَت لكَ خَطاياك. فقالَ بَعضُ الكَتَبَةِ في أَنْفُسِهم: إِنَّ هذا لَيُجَدِّف" (متى 9: 2-3). وسلطان غفران الخطايا هو عطاء المسيح القائم من الموت إلى كنيسته. أرسل يسوع تلاميذه بهدف إشراك كل إنسان في حياة يسوع القائم من الأموات بواسطة مغفرة الخطايا (يوحنا 20: 23). لقد كسب يسوع سلطان مغفرة الخطايا بدمه ووهبها بواسطة روحه القدوس إلى كهنته. فمن يغفر هو الله وحده، ولكن إذا قلنا الكاهن يغفر، فهذا يعنى أن الروح القدس الساكن في الكاهن هو الذي يغفر أو يُمسك الخطايا، ويوضِّح القديس أمبروسيوس هذا الأمر" انظروا أن الخطايا تُغفر بالروح القدس، أمَّا البشر فيستخدمون خدمتهم لغفران الخطايا، إنهم لا يغفرون الخطايا باسمهم بل باسم الآب والابن والروح القدس؛ فالخدمة من جانب الإنسان والعطية من سلطان العليّ". فالكاهن يغفر الخطيئة بالروح القدس أو يمسكها. ويُعلق البابا فرنسيس "ليست مغفرة خطايانا أمرًا يمكننا أن نعطيه لأنفسنا، لأن المغفرة تُطلب من آخر ونحن في الاعتراف نطلب المغفرة من يسوع، ومغفرة خطايانا ليست ثمرة جهودنا، إنما هي عطيّة من الرّوح القدس الذي يملأ من فيض الرّحمة والنّعمة المتدفّق من قلب المسيح المصلوب والقائم من الموت، ولذلك على الكاهن أن لا يسئ استخدام هذا السلطان، حيث يمارسه حسب هواه، إنما بحسب الروح القدس الذي يستمد منه السلطان ويخضع له". أمَّا عبارة "مَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم " فتشير إلى الغفران ليس لكل واحد، بل على الشخص التائب. ينبع سرّ التوبة والمصالحة أو كما ندعوه أيضًا الاعتراف مباشرة من السرّ الفصحيّ. إن الاختلاف في تفسير هذه الآية لا يدور حول طبيعة السلطان الذي يمنحه يسوع لتلاميذه (متى 16: 19) بقدر ما يدور حول تحديد الذين يمارسون هذه السلطان. فالسلطة الممنوحة هي إعلان المغفرة على أساس موت المسيح الذي حمل الخطايا كما ورد في إنجيل متى "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء"(متى 18: 18)؛ أمَّا فيما يتعلق فيمن يمارسون هذه السلطة فالتقليد الكاثوليكي يعتقد أن المقصود هم الكهنة. وقد مُنحوا السلطة بفضل شركتهم الوثيقة معه أن يتصرفوا باسمه، كوكلاء في غفران الخطايا أو إمساكها؛ فقد منحهم السيد المسيح القائم من الموت السلطان الكهنوتي لمغفرة الخطايا. بكلمة موجزة أعطى الرب موهبة الكهنوت لتلاميذه بسلطان الروح القدس بصورة مميَّزة من خلال حلول الروح القدس في يوم العنصرة، وهذه الموهبة هي لسلطان مغفرة الخطايا. قام الربّ، وقيامته هي حياة وسلام وغفران للجميع. وأمَّا التقليد البروتستانتي فيعتقد بان المقصود "الذي هو أداة الروح القدس" وذلك بحسب ما جاء في قول بطرس الرسول "بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ به يَنالُ بِاسمِه غُفرانَ الخَطايا" (أعمال الرسل 10: 43). يعلن الرب يسوع للتلاميذ عن سلطانهم لمغفرة خطايا الناس. ولا يمكن للإنسان أن ينال رسالة الغفران إلى أن يقبل معطي الغفران، أي يسوع المسيح. فالكاهن في سر الاعتراف أو المصالحة لا يمثّل المسيح فقط وإنما يمثّل أيضًا الجماعة بأسرها (الكنيسة) التي تجد نفسها في ضعف كلّ فردٍ من أفرادها، تصغي إلى توبته وتتصالح معه، تشجّعه وترافقه في مسيرة التوبة والنضوج الإنساني والمسيحي. بالاعتراف يغمرنا ألله ويفرح بعودتنا كما فرح الآب في ابنه الضال (لوقا 15: 11-32). لِنسِرْ إذًا على هذا الدرب! 24 على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع تشير عبارة "توما" إلى اسم آرامي תוֹמָא وفي اليونانية Δίδυμος (معناه توأم)، والظاهر انه كان سوداوي المزاج، كما ظهر في عدم ثقته هنا في شهادة الجماعة الرسولية لقيامة الرب (يوحنا 20: 27)، وهو أحد الاثني عشر رسولاً (متى 10: 3)؛ وقد قام توما بدور على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية في إنجيل يوحنا؛ ذكره 7 مرات في إنجيله. فتوما الّذي أمضى 3 سنوات مع يسوع كباقي الرّسل، وكان مستعداً للذهاب مع يسوع حتى الموت حُباً له كما صرَّح: "فَلْنَمْضِ نَحنُ أَيضاً لِنَموتَ معَه " (يوحنا 11:16)، ويُرجع بعض اللاهوتيين إلى مقولته فكرة بولس الرسول "الموت مع المسيح" (1قونتس 9: 31). وكان توما يتمتّع ببعض السلطة لدى الرسل (يوحنا 11: 16). وهو واحد من المجموعة التي تراءى لهم يسوع في الجليل بعد قيامته (يوحنا 21: 2)، وكان مع البقية في العِليَّة في أورشليم بعد صعود يسوع إلى السماء (أعمال الرسل 1: 13). وقيل إنه بشَّر في بلاد ما بين النهرين (العراق)، وعرج على بلاد العرب واجتاز البحر إلى بلاد الحبشة وكرز خاصة في بلاد الهند، فهناك هجم عليه بعض كهنة الأوثان في ملبار (ولاتي كرناتكا وكرلا في الهند) وسلخوا جلده وهو حي، ثم أخذوا يطعنونه بالرماح حتى الموت. فمات شهيداً وأصبح شفيع الهنود المسيحيين. ويوجد مكان قرب مدراس يسمّى الآن "جبل القديس توما" وإلى الآن لا يزال كثيرون في الشرق يدعون أنهم من مسيحي الكنائس التي أسَّسها هذا الرسول ولا سيما سكان الملبار بالهند، وهم مسيحيون يتبعون طقس الكنيسة السريانية. ويُقال إنه دُفن في الرها في شمال بلاد ما بين النهرين سنة 230 م. وبعد سقوط تلك المدينة بيد الأتراك، نُقل جثمانه لمكان آمن في جزيرة خيوس (جزيرة يونانية في شمال بحر إيجة قريبة من إزمير ) 1144م، ومن ثمة وصل جثمانه عام 1258 إلى أورتونا Ortona في إيطاليا مع قائد عسكري اسمه ليوني. وسرعان ما أصبح المكان الذي وضع فيه جثمان القديس مركزاً روحياً مهماً لإكرامه. وقد اكتشف في نجع حمادي بصعيد مصر مخطوطات غنوصية مكتوبة باللغة القبطية وجدت سنة 1945 ومن ضمنها نسخة من إنجيل ابوكريفا يدعى "إنجيل توما"؛ والاعتقاد العام عند العلماء أن نسبته إلى الرسول غير صحيحة وأنه من كتابات الغنوصيين، وهذه المخطوطة ترجع إلى القرن الخامس الميلادي. أمَّا عبارة "التَّوأَم" فتشير إلى توما المذكور في لوائح الاثني عشر رسول (متى 10: 3) وهو يقوم بدور على جانب الأهمية في إنجيل يوحنا (يوحنا 14: 5، 21: 2)، انه يُمثل جميع الذين يشكّون بقيامة يسوع ويريدون أن يروا وان يلمسوا كي يؤمنوا. ولم يتوقف توما عند الشك بل كان سبباً لتعميق إيمانه بالبحث عن الإجابة. فالشك أدّى إلى سؤال، والسؤال إلى الجواب، والجواب إلى الإيمان. فكشف يسوع أمامه أدلة لآلامه، حينئذ أعلن توما إيمانه. أمَّا عبارة "لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع" فتشير إلى ضياع أول فرصة على توما لظهور المسيح أمام جماعة التلاميذ ونيل سلامه وفرحه. 25 فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: رأَينا الرَّبّ. فقالَ لَهم: إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن تشير عبارة "رأَينا الرَّبّ" في الأصل باليوناني Ἑωράκαμεν (من فعل ὁράω معناها نظر بوعي وإيمان) إلى أهمية النظر بوعي لكي نؤمن، وهذا النظر يُذكِّرنا برواية الحيّة النحاسيّة في الصحراء (عدد 2: 4-9). فهل نعرف كيف نرفع أنظارنا، كي نرى محبّة الآب غير المحدودة وغير المتناهية في ابن الإنسان المصلوب والقائم من الموت؟ أمَّا عبارة "إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه" فتشير إلى طلب البرهان من الذين أخبروه بقيامة الرب، إذ وضع توما شرطين ليؤمن بقيامة الرب المسيح: "إِذا لم أُبصِرْ" وأَضَعْ إِصبَعي"؛ إنه يطلبُ بُرهاناً خاصّاً به. فكان من طبع توما ألاَّ يترك تساؤلا داخله ولا يسأل عنه (يوحنا 14: 5). يريد توما أن يبصر ὁράω)) أي أن يرى ويختبرَ بنفسه ويلمس. إنه يفرض على المسيح شروط إيمانه. إنّه يطلب دليلا على ذلك، ويضرب عرض الحائط سمو حرية الله المطلقة في عطائه. ويُعلق الأسقف باسيليوس السلوقيّ "أغلق توما أذنيه عن سماع شهادة لتلاميذ وأراد فتح عينيه... فأطلق شكّه، آملاً أن تتحقّق رغبته، وقال" لن تتبدّد شكوكي إلاَّ حين أراه". لذا لم يتباطأ يسوع نفسه عن إعطائه وإعطاء كل المتسائلين البرهان المطلوب: أي ظهوره الشخصي. أمَّا عبارة "جَنْبِه" فتشير إلى جنبه المطعون بالحربة كما ورد في إنجيل يوحنا "واحِداً مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء" (يوحنا 19: 34)؛ أمَّا عبارة "لن أُومِن" فتشير إلى رفض توما تصديق أقوال الجماعة الرسولية عن رؤيتهم للمسيح، ورفضه أنْ يثق بشهادتِهم حيث لا تكفيه شهادة الغير. انه يريد برهانًا حسيًّا وعمليًّا ليؤمن. ويُمثل توما جميع الذين شكَّوا ويشكُّون بقيامة يسوع (متى 28: 17)، ويريدون أن يروا ويلمسوا كي يؤمنوا. توما شكَّ وما آمن قبل أن يرى. ويقول أوغسطينوس أن "توما شكَّ على انه لا يجب أن نشكَّ نحن". الواقع يحتاج البعض إلى الشك قبل أن يؤمنوا. فإن أدَّى الشك إلى سؤال، والسؤال إلى جواب، وكان الجواب مقبولا، فالشك يعمّق الإيمان. لقد كان شكّ توما إيجابيًّا بقصد الحصول على رؤية للرّب. أمَّا إذا أصبح الشك عناداً وصار العناد أسلوب حياة، فالشك هنا يضرُّ بالإيمان. ويُعلق البابا غريغوريوس الكبير "عدم إيمان توما كان أكثر نفعًا لإيماننا عن إيمان التلاميذ المؤمنين، لأنه إذ رجع إلى الإيمان بلمس يسوع، تحرَّرت أذهاننا من كل شك، وصارت ثابتة في الإيمان". 26 وبَعدَ ثَمانِيةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: السَّلامُ علَيكم! تشير عبارة "ثَمانِيةِ أَيَّامٍ" إلى الأحد الأول بعد القيامة، أي يوم الأحد التالي أي بعد ثمانية أيام أعلن السيد المسيح نفسه لتوما، إذ يحسب اليهود اليوم الأول والثامن. وبرمز اليوم الثامن إلى الدهر الآخر، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن قلتَ: ولِم لم يظهر السيد المسيح لتوما في الحال، بل بعد ثمانية أيام؟ أجبتك: حتى يعلن له التلاميذ ذلك فيما بعد ويسمع منهم هذا القول بعينه، ويلتهب بشوقٍ أكثر، ويصير فيما بعد أكثر تصديقًا". ويدل رقم 8 على بداية جديدة، أسبوع جديد لذلك يشير للأبدية والسماويات والحياة الروحية والإنسان الجديد وخاصة يدل على المسيح ليس في تجسده ولكن المسيح السماوي والأبدي. ويعلق القديس باسيليوس الكبير "نحن نقيم الصلوات وقوفاً يوم الأحد، أول الأسبوع ليس فقط لأننا قائمون مع المسيح، بل أيضا لان هذا اليوم، إنما هو بشكل ما صورة الدهر الآتي لأنه يقع بعد الزمن". وقد ورد في العهد الجديد 8 معجزات إقامة من الموت، هؤلاء قاموا وبدأوا حياة جديدة. السيد المسيح أقام ثلاث: ابن أرملة نائين (لوقا 7: 11-17)، وابنة يائيرس (متى 9:18-26) ولعازر (يوحنا 11: 1-44)؛ وبطرس الرسول أقام طابيثة (أعمال الرسل 9: 36-42) وبولس الرسول أقام أَفطيخُس (أعمال الرسل 20: 7-12). عاش التلاميذ القيامة أسبوعا كاملا، فهي بداية جديدة بعد سبعة أيام. ولذلك فإنه يجب ألاَّ يبقى لديهم أي مجال للشك. وهو يوم يعود فيه المسيح إلى الحياة، وهو أحد الخلاص، أمَّا اليوم الثامن بعده والذي ندعوه أحد توما، فهو ذكرى الخلاص وتثبيت الخلاص بحسب تعبير القديس غريغوريوس النازينزي. 27 ثُمَّ قالَ لِتوما: هَاتِ إِصبَعَكَ إلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً تشير عبارة "هَاتِ إِصبَعَكَ إلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي" إلى استخدام يسوع الكلمات نفسها التي استخدمها توما كشرط لإيمانه. إنها ليست كلمات تحدِّي، بل كلمات رحمة. إذ كشف يسوع له أدلة آلامه في يديه وجنبه قائلا له "َانظُرْ" في الأصل اليوناني ἴδε (من فعل ὁράω, ) أي اختبر بنفسك. فلم يكن يسوع شبحا أو طيفا أو خيالا. بل كان جسما ممكنا لمسه. إن قيامة الرب يسوع قيامة حقيقية ومادية، فيسوع القائم هو ليس روحا غير مُجسَّدة. بل "جَسَدِ مَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء" (فيلبي 3: 21). وأطلق عليه القديس بولس "جسماً روحياً" (1قورنتس 15: 44). ويُعلق القديس ايرونيموس "سيكون لنا بعد القيامة ذات الجسم والدم والعظام". وينفرّد الإنجيليّ يوحنا برواية ظهور يسوع لتلاميذه ولتوما. وفي هذا النصّ يُشدّد على حقيقة الظهور وواقعه التاريخيّ. فيسوع العائد هُوَ نفسه الذي مات في الأمسِ مُسَمَّراً ومطعونا بحربة في جنبه. ويُعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني "علامات آلام يسوع المُوجَعة مطبوعة في جسده بطريقة لا تمحى حتّى بعد القيامة. فهذه الجراحات المُمجّدة الّتي دعا توما غير المؤمن إلى لمسها، بعد ثمانية أيّامٍ، تكشف عن رحمة الله، الّذي "أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد" (يوحنا 3: 16). أختبر توما حقيقة الرحمة الإلهية، تلك الرحمة التي لها وجه ملموس، وجه يسوع، يسوع القائم من بين الأموات. فهل نفقد الثقة في الرحمة الإلهية؟ أمَّا عبارة " َانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي" فتشير إلى نفس الكلمات التي نطق بها توما وهو يتحدث مع زملائه الرسل (يوحنا 20: 25)، فكأن الرب كان واقفًا يستمع إلى شروط توما، فكشف يسوع آثار الصلب، أدلة آلامه (يوحنا 20: 20). لذا لم تبقَ جروحات يسوع على يديه وجنبه كعيوبٍ في الجسد، بل كعلامات ظاهرة للمجد والكرامة وتكشف عن حقيقة آلامه وقيامته وسرّ محبته وخلاصه. ومن هذه الجروحات استخرج توما الرسول قوة لتثبيت إيمانه. ومن خلال حاسة اللمس وصل إلى يقين الإيمان في قيامة الرب. ولكن الإيمان بالدرجة الأولى فهو معاينة الرب دون الاستعانة بحاسة اللمس والنظر بل بتصديق شهادة من راوا المسيح قائما. لذلك يمكن أن نعتبر هذه الآية توبيخ بعدم إيمان توما وقساوة قلبه لأنه لم يُصدِّق الَّذينَ شاهَدوه بَعدَ ما قام (مرقس 16: 14). أمَّا عبارة "ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً " فتشير إلى العبور من عدم الإيمان إلى الإيمان بفضل كلمة المسيح " كُنْ مُؤمِناً". ومن يختبر صداقة يسوع لا يُمكنه إلاَّ العبور من خلال جراحات يسوع إلى الإيمان، ولا يكتفي بالنظر إليها من الخارج، بل عليه أن يختبرها من الداخل فيعرف من هو المسيح المصلوب والقائم من الموت. أمَّا عبارة " كُنْ مُؤمِناً" فتشير إلى الثقة بالربّ أكثر من الإيمان بالعقائد اللاهوتيّة. وإن كان اللمس هو أمر يجعلنا أن ننغلق ونعتمد على أنفسنا، فإن الإيمان هو الخروج من أنفسنا لننطلق نحوه ونحو الآخرين. ويسالنا البابا فرنسيس " إذا كنا في الآونة الأخيرة قد لمسنا جروحات بعض المتألمين في الجسد أو الروح؛ أو حملنا السلام إلى جسد جريح أو روح منكسرة، أو كرّسنا بعض الوقت للإصغاء إلى الآخرين ومرافقتهم وتعزيتهم. عندما نقوم بذلك، نحن نلتقي بيسوع" (عظة لاحد 24/4/2022). 28 أَجابَه توما: رَبِّي وإِلهي! تشير عبارة " رَبِّي وإِلهي " إلى كلمات اليهودي في العهد القديم אֲדֹנִי וֵאלֹהָי وردت في سفر المزامير " إِستَيْقِظْ وقُمْ لِحَقَي لقضِيَّتي يا إِلهي وسَيَديיְהוָה אֱלֹהָי" (مزمور 35: 23)، ويدل هذا الهتاف على أنّ الإيمان هو علاقة شخصية خاصة وعميقة، ولا أحد يستطيع أن يقوم بها عنه. ما أن رأى الرب أمامه وسمع صوته حتى شعر بعدم الحاجة لوضع إصبعه في مكان المسامير ولمس جراحات سيده، فلقد كانت كلمات الرّب كافية لتغيير قلبه وعقله وكل كيانه. وبلحظة عَبَرَ توما من حالة الشك إلى اليقين، وأعلن في الحال إيمانه به، صارخًا: " رَبِّي وإِلهي ". عبِّر جواب توما الرسول عن سيادة يسوع الإلهية وأعلن أن يسوع القائم هو الله ذاته، هو الرب وهو الإله المتجسد. ويمثل هذا الجواب قمة في إعلان الإيمان المسيحي كما جاء في تعليم بولس الرسول: "يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب" (فيلبي 2: 11). فقد انتقل توما من أقصى الشكِّ (لن أؤمن) إلى أقصى الإيمان واليقين "رَبِّي وإِلهي". وقد جمع توما بين لقبي "رب" و "إله" (يوحنا1: 1 و18)، وهي مطابقة إلى شهادة يوحنا الإنجيلي "الكلمة هو الله" (يوحنا 1: 1) وشهادة بولس الرسول " المسيحُ مِن حَيثُ إِنَّه بَشَر، وهو فَوقَ كُلِّ شيءٍ: إِلهٌ مُبارَكٌ أَبَدَ الدُّهور. آمين" (رومة 9: 5). واعترف أنَّ هذا الربّ هو ربّه، وأنّ هذا الإله هو إلهه، ولسان حاله ما قاله بولس الرسول "أَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه" (فيلبي 3: 19). فذاك الذي هو ربُّنا يسوع المسيح هو أيضا الله. وكان هذا الاعتراف آخر شهادة في إنجيل يوحنا. نحن أمام أعظم اعتراف إيماني بلاهوت المسيح الذي يُنشد في الليتورجيا: ذاك الذي هو ربنا يسوع المسيح هو أيضا الله سبحانه تعالى. وهذا الاعتراف يشهد لإيمانٍ يسمو على ضرورة مشاهدة أدلة ملموسة لآلام يسوع المسيح. رأى توما في يسوع آثار الصلب فآمن بألوهيّته، وكان هذا الاعتراف آخر شهادة في إنجيل يوحنا. فالإيمان المسيحي مرتكز على الإيمان بقيامة يسوع "ربّ وإله "، ومنها يستمدّ قوّته بوجه كلّ الصعاب. في حين أنَّ منكري الثالوث يشيرون إلى أن صرخة توما هي اعتراف مشكك كبير بلاهوت المسيح؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس "لقد رأى توما الناسوت ولمسه، وأدرك اللاهوت الذي لن يُرى ولا يُمس". ومن هذا المنطلق، الإيمان المسيحي مرتكز على الإيمان بقيامة يسوع "الربّ وإله "، الذي منها يستمدّ قوّته بوجه كلّ الصعاب كما اختبره بولس الرسول بقوله " فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟" (رومة 8: 35). ويوصي البابا فرنسيس أن نكرر "رَبِّي وإِلهي خلال اليوم، لاسيما عندما نشعر بالشكوك والظلام، على مثال توما. لأننا في توما نجد قصة كل مؤمن" (عظة الأحد 24/4/2022). إن قيامة الرب كفيلة بأن تغير لا فكر توما بل روحه وحياته وتجدِّد به روحاً مستقيماً بحسب عظيم رحمته تعالى. 29 فقالَ له يسوع: أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا تشير عبارة "أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ " رَأَيتَني باليونانية ἑώρακά من فعل ὁράω, فتشير إلى ظنِّ توما انه سيؤمن إذا رأى أثر المسامير في يديه ورأى جنبه المطعون، ويُعلق البابا غريغوريوس الكبير "لم يقل الرب لتوما لأنك لمست جراحاتي آمنت"، وإنما قال: "لأنك رأيتني"، فرؤيته للسيد المسيح جذبته للإيمان"، وهكذا قد يظن البعض انهم سيؤمنون بيسوع إذا رأوا علامة أو معجزة محدَّدة كما قال يسوع إلى عامل الملك في كفرناحوم " إِذا لم تَرَوا الآياتِ والأَعاجيبَ لا تُؤمِنون؟" (يوحنا 4: 48). وفي الواقع، آمن الرُّسُل لأنَّهُم رأُوا الماءَ يتحوَّلُ خمراً في قانا الجَليل (يوحنا 2: 1-12)، وآمنُوا لأنَّهُم رأُوا يسُوعَ يُهَدِّئُ العاصِفَة (متى 8: 23-27)، ويشفِي المرضى: الأبرص (متى 8: 1-4)، ابنة الكنعانية (متى 15: 21-28)، الأصم (مرقس 7: 31-31)، الأعمى في بيت صيدا (مرقس 8: 22-26)، المُقعد عند بركة الغنم (يوحنا 5: 1-9)، المرأة المنزوفة (متى 9: 20-22)، وإحياء لِعازارَ منَ المَوت (يوحنا 11: 1-44) لهذا آمنُوا. ومن هذا المنطلق، لا يكفي الإيمان المقتصر على المطالبة بالمعجزات، بل الإيمان بدون تحفظ بيسوع وبكلامه يؤدي إلى الحياة. لأنه قد يرى الإنسان الآيات ومع ذلك لا يؤمن كما حدث مع بعض اليهود " أَتى يسوعُ بِجَميعِ هذهِ الآياتِ بِمَرأًى مِنهم، ولَم يُؤمِنوا بِه"(يوحنا 12: 37). أمَّا عبارة "طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا". فتشير إلى تطويب يسوع من يؤمن دون أن يرى، ويؤكد ذلك قول بطرس الرسول للمسيحيين "ذلك الَّذي لا تَرَونَه وتُحِبُّونَه، وإلى الآنَ لَم تَرَوه وتؤمِنونَ بِه، فيَهُزُّكم فَرَحٌ لا يوصَفُ مِلؤُه المَجْد" (1بطرس 1: 8). الإيمان هو مبدأ تلك الرسالة التي يريدنا القائم من بين الأموات أن ننطلق نحوها. ومَن ينتظر الرؤية واللمس، لن يبدأ أبداً. أما من يؤمن فينطلق من أجل أن يتلقَّى الآخرون الهبة المجانية والحياة ذاتها. الإِيمانُ هو بُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى (العبرانيين 11: 1). إنَّ الأدلَّة الحسيّة ليست كافية للإيمان، فان الإيمان بعد قيامة يسوع من الموت لا يستند على العيان والرؤية، بل على شهادة الذين عاينوه. نؤمن به عن كلام تلاميذه كما صرّح يسوع "يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم "(يوحنا 17: 20). فالإيمان لا تستند على الرؤية بل على شهادة الذي رأى، وهي شهادة شهود عيان للقيامة والكنيسة. وإمكانِنا أن نُسمِّي قَول يسُوع هذا لتُوما التطويبة التَّاسِعة. قد كانت الرؤية الجسديّة بالنسبة لتوما أساسًا للإيمان. أمَّا اليوم فإن الإيمان هو الأساس لرؤية الرّب يسوع. فالإيمان الحقيقي لا يأتي من النظر، إنما من السمع كما جاء في تعليم بولس الرسول " الإِيمانُ مِنَ السَّماع، والسَّماعُ يَكونُ سَماعَ كَلاَمٍ على المسيح" (رومة 10: 17). ولذلك فان الإيمان يكمن في الثقة بكلمة الآخر بدلاً من طلب البراهين. إنه إيمان، كما يقول القديس بطرس، بهذا المسيح "ذلك الَّذي لا تَرَونَه وتُحِبُّونَه، وإلى الآنَ لَم تَرَوه وتؤمِنونَ بِه " (1 بطرس 1: 8). لا شك بأن زمن النظر قد انتهى حيث كان يسوع يجول فلسطين. فيسوع يطوِّب الذين يؤمنون به، ولم يروا ربهم قائما من الموت، بل يصدِّقون شهادة الذين رأوا وقد اختارهم هو لكي يكونوا شهوداً له كما ورد في عظة بطرس الرسول الأولى "فيَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك " (أعمال الرسل 2: 32). ونجد هنا دعوة صامتة من يوحنا الإنجيلي إلى تصديق شهادته هو، لأنه هو واحد من الذين رأوا الرب كما صرَّح هو نفسه قائلا "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة" (1يوحنا 1: 1)؛ ومن هنا تأتي أهمية الشهادة في إنجيل يوحنا "جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" (يوحنا 1: 7). لدينا كل شهادة في كلمات الكتاب المقدس، لان كل ما كُتب هو ما نحتاج معرفته لنؤمن بان يسوع هو المسيح ابن الله الذي به نلنا الحياة الأبدية. وبهذا الإيمان يدخل المسيحيون في اتحاد وثيق بالمسيح القائم من الموت (يوحنا 17: 20). ويعلن يسوع أنَّ الإيمان لا يقوم بعد اليوم على العيان أو الرؤية، بل على شهادة الذين عاينوا ورأوا. وقد اختارهم هو لكي يكونوا شهوداً له كما جاء في أعمال الرسل " فيَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك" (أعمال الرسل 2: 32). أمَّا الأدلَّة الحسِّية فليست كافية للإيمان. وفي هذا الصدد كتب بولس الرسول عن إبراهيم: "هو أَبٌ لَنا عِندَ الَّذي بِه آمَن، ...آمَنَ راجِيًا على غَيرِ رَجاء فأَصبَحَ أَبًا لِعَدَدٍ كَبيرٍ مِنَ الأُمَمِ ... فلِهذا حُسِبَ لَه ذلِك بِرًّا. ولَيَس مِن أَجْلِه وَحدَه كُتِبَ حُسِبَ لَه بل مِن أَجْلِنا أَيضًا نَحنُ الَّذينَ يُحْسَبُ لَنا الإِيمانُ بِرًّا لأَنَّنا نُؤمِنُ بمَن أَقامَ مِن بَينِ الأَمواتِ يسوعَ ربَّنا الَّذي أُسلِمَ إلى المَوتِ مِن أَجْلِ زَلاَّتِنا وأُقيمَ مِن أَجْلِ بِرِّنا " (رومة 4: 17-25). فلدينا كل برهان نطلبه، فالإنسان يستطيع أن يلتقي يسوع من خلال تعليم وشهادة جماعة التلاميذ والكنيسة. إنَّ يسوع لم يُظهر ذاته لتوما عندما كان خارج جماعة التلاميذ بلْ أظهر ذاته له عندما كان مُجتمعاً معهم. أنّ الخبرة الإيمانيّة الشخصيّة لا يمكن أن تحدث سوى داخل الجماعة، مع الآخرين الّذين يسيرون معي في الإيمان. قال أحد القدّيسين "لا يمكن للإنسان أن يخلص بمفرده". فمن أراد أنْ يؤمن بالمسيح فليؤمن بكنيسته. ويُعلّق القديس ايرينيوس على إيمان الكنيسة " فهي تحفظ هذا الإيمان بكل دقّة كأنَّها تعيش في مكان واحد، وتؤمن إيماناً واحداً، لها قلباً واحداً وروحاً واحداً. وباتّفاقٍ تام تبشّر بهذا الإيمان وتُعلّمه وتمنحه، كأنها تملكُ للنطق به فماً واحداً". فالإيمانُ المسيحيُّ المَبني على الشهادة لا على العيان، لا يقلُّ بشيءٍ عن إيمانِ الرُّسل أنفسهم. وأمَّا مَن أراد كنيسة بلا عيب فيبقيَ دون كنيسة. هذا ما كان يردِّدُه اللاهوتيّ الأب إيف كُونغار قائلاً: " فإن كنّا نبحث عن كنيسة معصومةٍ من الهَفوات حتى نلتزمها، فلن نلتزم". على الرّغم من صُعوبة إيمان توما بالقيامة، بقي توما في جماعة الرُّسلِ ولم ينفصل عنها، وهذا ما قاده إلى الإيمان بيسوع قائلاً: "ربِّي وإلهي". وقد سُؤلَ مرّة عالمٌ في الرياضيات والفلك: هل تعتقد أن الكون لا نهاية له؟ أجاب: بالتأكيد. قيل له: وما الذي يؤكّد لك ذلك؟ أجاب: لأني أؤمن وأصدّق ما تعلّمته. وبهذا الإيمان من خلال الكنيسة يدخل المسيحيون في اتحاد وثيق بالمسيح القائم من الموت (يوحنا 17: 20). على الإنسان أن يُخضع حكمته لحكمة الله وان يكتشف الرب من خلال العلامات التي يعطيها إيَّاها عن حضوره وعن حبِّه. هذا هو الإيمان المستحق الطوبى والمفتاح للولوج في أعماق المسيح وسر حياته. بالإيمان نسلك لا بالعيان. والمسيح هنا يطوِّب من يؤمن دون أن يرى عبر كل الدهور. فالإيمان هو الثقة بالربّ الإله. هل حقّاً لدينا الإيمان. هل ننظر إليه بعيون الإيمان؟ هل نؤمن به مخلصاً ورباً لحياتنا؟ هل نصرخ إليه مثلما صرخ توما: رَبِّي وَإِلَهِي؟ هل لدينا ثقة كافية بالربّ تسمح لنا بأن نفتح الأبواب له ونخبر العالم بأفضل بشرى يسمعها حتّى الآن؟ 30 وأتى يسوعُ أمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب تشير عبارة " آياتٍ" باليونانية σημεῖα وبالعبرية אותות (خروج 10: 1) إلى رمز الذي يدل على خارقة دينية؛ فالآية هي عمل يوصل إلى حقيقة. فظهور يسوع يظهر حقيقة أنه ابن الله الحي الأبدي. فالمعجزة هي آية تمتاز بوجه خاص بالكشف عن قدرة الله ومجده وشعاع قداسته وسموه. وهي تهدف إلى الدعوة إلى الإيمان. أمَّا عبارة " آياتٍ أُخرى" فتشير إلى آيات لم يذكرها الإنجيل بل اختار فقط سبع آيات صنعها يسوع قبل موته، وكان أولها معجزة الخمر في عرس قانا الجليل كما أكّد ذلك يوحنا الإنجيلي: "هذِه أُولى آياتِ يسوع أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَه فَآمَنَ بِه تَلاميذُه" (يوحنا 2:11)، وشفاء المقعد عن بركة الغنم (يوحنا 5: 1-9)، وشفاء الأعمى في اورشليم (9: 1-38)، وإحياء لعازر (يوحنا 11: 1-44) وهذه الآيات هي معجزات تثبت لاهوت يسوع المسيح. أمَّا عبارة " لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب" فتشير إلى عدم كتابة قصة حياة المسيح كلها؛ إنما ما دوَّنه يوحنا الإنجيلي ليس سوى القليل من أحداث كثيرة جرت في حياة يسوع على الأرض. لكن ما كُتب هو كل ما نحتاج معرفته لنؤمن بان يسوع هو المسيح ابن الله الذي به نلنا الحياة الأبدية. 31 وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه تشير عبارة "إنَّما كُتِبَت" إلى القليل من أحداث كثيرة جرت في حياة يسوع المسيح على الأرض. فغاية إنجيل يوحنا ليس تقديم عرض تاريخي شامل عن حياة السيد المسيح وأعماله وأقواله كلها على الأرض، إنَّما ما ينبغي معرفته من حياة يسوع لنيل الإيمان الحيّ الذي يهب حياة أبدية. أمَّا عبارة " لِتُؤمِنوا " فتشير إلى الدعوة إلى الإيمان، والتقدم فيه عند الذين تمّ انتماؤهم إلى جماعة المؤمنين؛ فالإيمان هدف إنجيل يوحنا. أمَّا عبارة " بأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله " فتشير إلى يسوع الذي من الناصرة الذي ولدته العذراء، وصُلب وقام، وهو المسيح ابن الله، المسيح الذي تنبَّأ عنه كل الأنبياء، رجاء الشعوب كلها. فهدف الإنجيل ودعوة قرّائه إلى الإيمان بالمسيح حتى وان كانوا بين أولئك الذين " ولَم يَرَوا"؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "الإيمان بيسوع أنه المسيح ابن الله لا يترك الإنسان في موقعه كما هو، بل يقوده للتمتع بالحياة الأبدية، أو التمتع باسم المسيح، أي بشخصه بكونه الحياة في ذاتها". أمَّا عبارة "لِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" في الأصل اليوناني ἵνα πιστεύοντες ζωὴν ἔχητεفتشير إلى الاستمرارية، أي إيمانًا عاملًا مستمرًا كالهدف الأول لتدوين إنجيل يوحنا. والإيمان هنا هو قبول المسيح والثقة فيه وإعطائه السيادة ليقود الحياة المؤمن به ؛ الإيمان الذي في جوهره يدور حول المسيح، ابن الله، وفي رسالته، هو الذي يهب الذين يؤمنون حقاً الحياة الأبدية "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16)، كما أعترف بطرس الرسول "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 16) الإيمان بيسوع يقوم على أنَّ يسوع هو المسيح وابن الله كما ورد في إنجيل مرقس " بَدءُ بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ آبنِ الله" (مرقس 1:1) وهذا الإيمان بيسوع يقود إلى الحياة لان الإيمان بيسوع ليس مجرد اعتقاد، بل معرفة حقيقية تهب حياة أبدية. فهناك صلة وبين الإيمان والحياة. أمَّا عبارة " الحياةُ " فتشير إلى الحياة الأبدية التي ظهرت في قيامة المسيح، وهي الهدف الثاني لتدوين إنجيل يوحنا؛ وغايتا إنجيل يوحنا هما غايتا كل الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، لان كل نبوءاته تُثبت مجد يسوع المسيح وانه مصدر الحياة الأبدية. أمَّا عبارة " بِاسمِه " فتشير إلى صفات المسيح وظائفه المعلنة بما سُمِّي به كيسوع أي مخلص وعمانوئيل أي الله معنا والملك والنبي والكاهن. الاسم هنا يدل على حضور المسيح، إذ في العهد القديم اسم الله الذي لا يُلفظ (خروج 3: 15). فذكر اسم الله بحسب فكر العهد القديم يعنى أن الله حاضرٌ وقائمٌ وفعالٌ، لذلك كان اليهود يحظرون نطق اسمه لأن ذكر اسمه هو الدخول في حضرته. فالإيمان باسم يسوع يقود إلى الحياة، لأنه هو الحياة كما صرّح يسوع " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة"(يوحنا 154: 6). واسم يسوع يجلب الخلاص للبشر، كما جاء في كلام بطرس في المجلس: "لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص " (أعمال الرسل 4: 12). وليست المعجزات إلاَّ صورة لهذا الخلاص. ومن اجل هذا الاسم يلقى الرسل العذاب (أعمال الرسل 5:41) وفيه يعمَّد المؤمنون (أعمال الرسل 2: 38) وإياه يدعون (أعمال الرسل 9: 14). فمن يقرأ هذه الآية ولا يؤمن بلاهوت يسوع ولا ينال الحياة الأبدية معناه انه أساء قراءة هذه الآية. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي بعد قراء وتحليل وقائع نص إنجيل يوحنا (20: 19-31) يمكن أن نستنتج أنَّ هدف كتابة الفصل عشرين من إنجيل يوحنا هو حمل قرائه على الإيمان بقيامة المسيح، حتى وان كانوا بين أولئك الذين لم يروا، فيصف ترائي يسوع المسيح للتلاميذ (20: 19-23) وترائيه لتوما الرسول (يوحنا 20: 24-31). ومن هنا نبحث في ثلاث نقاط: مفهوم ترائي المسيح القائم من بين الأموات وترائيه إلى تلاميذه الاثني عشر وترائيه إلى توما الرسول. 1) مفهوم ترائي يسوع القائم من بين الأموات تختلف كلمة "ترائي" عن كلمة "الرؤيا"، حيث أنَّ الرؤيا تركز على المجد، وتكشف عن الأمور السرية والأمور السماوية، وتعرض مشاهد خارقة. أمَّا الترائي فهو وسيلة من وسائل التعبير عن وحي الله، الذي بواسطته تصبح الكائنات غير المنظورة بطبعها حاضرة بشكل منظور. أقدم قائمة لترائي يسوع القائم من بين الأموات يقدّمها لنا القديس بولس في سنة (55 م)، انطلاقاً من تقليد كان قد تسلّمه قبل ذلك، فطبقاً لاعتراف الإيمان القديم هذا "تَراءَى لِصَخْرٍ فالاْثَني عَشَر، ثُمَّ تَراءَى لأَكثَرَ مِن خَمْسِمِائَةِ أَخٍ معًا لا يَزالُ مُعظَمُهُم حَيّاً وبَعضُهُم ماتوا، ثُمَّ تَراءَى لِيَعْقوب، ثُمَّ لِجَميعِ الرُّسُل، حتَّى تَراءَى آخِرَ الأَمرِ لي أَيضًا أَنا السِّقْط " (1 قورنتس 15: 5-8). لا تورد الأناجيل من هذه القائمة إلا الترائيين الأولين لسمعان بطرس (لوقا 24: 34)، وللأحد عشر (يوحنا 20: 19-29) الذين انضَمً إليهم بعض التلاميذ الأَخرين (لوقا 24: 33-50). ومع ذلك، تذكر الأناجيل ترائيات أخرى لبعض الأفراد: لمريم وللنسوة (يوحنا 20: 11-18)، ولتلميذي عمّاوس (لوقا 24: 13-35)، ولسبعة رسل على شاطئ البحيرة (يوحنا 21: 1-23). وتندرج هذه ترائيات المختلفة تحت نوعين: عامة وخاصة. العامة هي ترائيات رسمية لجماعة الرسل أو التلاميذ بصفة عامة تستهدف بيان رسالة لتأسيس الكنيسة، أمَّا الترائيات الخاصة تدور روايتها حول التعرّف على المسيح الذي ظهر. ولم تكن الترائيات ضرورية للرسل والتلاميذ، إنما يكفي أن يكونوا قد أُخبروا من قبل وبرهنوا على ذلك كما حدث مع تلميذي عمَّاوس " لمَّا رَجَعا تلميذا عمواس وأَخبرَا الآخَرين، فلَم يُصَدِّقوهما (مرقس 16: 13). وكان جدير بفهمهم للكتب المقدّسة أن يقودهم نحو الإيمان بالقيامة (يوحنا 20: 9). فالترائيات تستجيب لاحتياجات إيمان ما زال ناقصاً. ومع ذلك، كانت الترائيات ضرورية، حيث أنَّ الذين كانوا قد عاشوا مع يسوع الناصري، كان ينبغي أن يكونوا الشهود الوحيدين والمختارين ليسوع المسيح، وأن تنغرس بصورة تاريخية نقطة الانطلاق في الإيمان المسيحي وفي الكنيسة. لذلك يمكن القول بأن التلاميذ رأوا الربَ حيّاً في اختبار تاريخي، حيث أنَّ إيمانهم نوع ما كان نتيجة لرؤية العين، فهم شهود عيان للمسيح القائم من الموت. إن روايات ترائي القائم من بين الأموات مع تلاميذه ترتبط عادة بمسيرة. نرى ذلك في زيارة التلاميذ للقبر، وذهاب يسوع إليهم في العلية، وسفر التلميذين إلى عمواس ومنها يعودان أدراجهما إلى القدس. إنها مسيرة جسدية ولكنها روحية أيضًا. هي مسيرة إيمان. 2) ترائي يسوع لتلاميذه وتثبيت إيمانهم بقيامته المجيدة (يوحنا 20: 19-23) تغلب يسوع على قلة إيمان تلاميذه الاثني عشر بترائية لهم وإعطائهم علامات على حقيقة قيامته كما جاء في تعليم الرسل "أَظهَرَ لَهم نَفْسَه حَيًّا بَعدَ آلامِه بِكَثيرٍ مِنَ الأَدِلَّة" (أعمال الرسل 1: 3). ومن اهم هذه الأدلة سلم عليهم واراهم يسوع يديه وجنبه المطعون، وأعطاهم الفرح والسلام والروح القدس ومنحهم سلطة مغفرة الخطايا وأرسلهم للتبشير. وفي الواقع، ظهر يسوع للتلاميذ في مسا ء يوم الأحد كأنَّ نهار ذلك الفصح لم يكتمل بدون ظهور يسوع للتلاميذ المجتمعين. فشاهد التلاميذ يسوع الذي تألم ويسوع الذي قام، وهو الآن معهم للأبد (عبرانيين 2: 18). وشاهدوا جسده هو نفسه قبل موته وبعد قيامته لكن مع أثر الجروحات في يديه وجنبه. وانفرد يوحنا الإنجيلي بذكر جنبه للدلالة على العلاقة بين حادثة الطعن بالحربة وحدث العشاء الأخير. يسوع هو الحمل الذبيح (رؤية 5: 6)، حمل الفصح، الذبيح على الجلجلة الذي يعود إلى تلاميذه حاملا في جسمه المُمجّد آثار ذبيحته الخلاصية. وشاهد التلاميذ يسوع في جسدٍ مُمجَّدٍ غير خاضع لقوانين عالمنا، إذ دخل والأبواب مغلقة، وفجأة وقف في وسط تلاميذه. ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس "أنظروا جراحات جسدي ... تأمّلوا الآثار الّتي صنعها أعدائي...المسوني، لكي تعطيكم يدكم البرهان، اكتشفوا ثقوب يديّ، ضعوا يدكم في جنبي، افتحوا جراحاتي، لأنّني لا أستطيع أن أرفض هذا لتلاميذي من أجل الإيمان ...ولتُثبت هذه الجراحات الّتي لا تزال مفتوحة أنّني أنا هو حقًّا". ورافق إيمان التلاميذ فرح كبير " ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ " (يوحنا 20: 20). وقد سبق يسوع أن كلمهم عن هذا الفرح في العشاء الأخير "سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح." (يوحنا 16: 22). وأعطى يسوع تلاميذه مع الفرح السلام، فقال لهم مرتين " السَّلامُ علَيكم! " (يوحنا 20: 21، 26). إنَّ هذه السلام ليس مجرد تحية إنَّما ثمرة قيامته، سلام ابن الله المنتصر على الموت، انه السلام الذي لا يستطيع العالم أن يمنحه "السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ" (يوحنا 14: 27)، وهو سلام يُبدِّد كلَّ اضطراب كما وعدهم يسوع " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَبكون وتَنتَحِبون، وأمَّا العاَلمُ فَيَفَرح. ستَحزَنون ولكِنَّ حُزنكم سيَنقَلِبُ فَرَحاً "(يوحنا 16: 20). سلام يُشدد التلاميذ في مهامهم في المستقبل "قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يوحنا 1: 33). وبعد أن تعرَّف التلاميذ على يسوع وآمنوا أنه المسيح القائم من الموت، أرسلهم المسيح للتبشير في أنحاء العالم. وهذه الرسالة ليست اقل من رسالة الابن الذي أرسله الآب إلى العالم ليُخلصه " كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً" (يوحنا 20: 21). ويُعلق أحد المفسّرين: لا يوجد إلاَّ رسالة واحدة من السماء إلى الأرض، وهي رسالة يسوع. ورسالة التلاميذ تقع في مضمون رسالة يسوع وتكمّلها". فهناك ربط بين ظهور يسوع القائم من الموت وبين إرسال التلاميذ لتبشير العالم " اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس" (متى 28: 19). فكيف يكون القيام بهذه المهمة التي تفوق القدرة البشرية بدون مبدا داخلي، وهو الروح القدس؟ لذلك أعطى يسوع تلاميذه الروح القدس بالنفخ "ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس" (يوحنا 20: 22) مُحقِّقا نبوءة حزقيال (36: 25-27) إذ كان الروح القدس مبدأ الحياة لخلق جديد لشعب الله الجديد، وبذلك أصبح الفصح نقطة انطلاق لعالم جديد. 3) ترائي يسوع لتوما وتثبيت إيمانه بقيامته المجيدة (يوحنا 20: 24-29) بعد ظهور يسوع القائم من الموت للتلاميذ لتبّيت إيمانهم، ظهر إلى توما الرسول الذي رفض الإيمان بقيامة الرب، ولم يردْ أن يؤمن بها إلاّ بشروط، فانتهى أمره بالإيمان واستحق إيمانه الطوبى. ا) عدم إيمان توما بقيامة المسيح إيمان التلاميذ الفوري بقيامة المسيح هي نقطة مشتركة بين الأناجيل الأربعة (متى 28: 17، مرقس 16: 14، لوقا 24: 36-42)، وأمَّا إنجيل يوحنا فيركِّز على عدم إيمان توما. لقد رفض توما شهادة التلاميذ بقيامة الرب "رأَينا الرَّبّ". فقالَ لَهم: "ِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن" (يوحنا 20: 25). أنكر توما ورفض أن يثق بشهادة الجماعة الرسولية. واشترط طالبا ً برهانا خاصا به. ويريد أن يختبر بنفسه. ويطلب أن يرى، ويلمس لكي يؤمن. وبتعبير آخر، انه يفرض على المسيح شروط إيمانه. كأنه يُملي على الله السبيل الذي يجب أن يسلكه لإظهار يسوع نفسه له. انه يجهل سمو حرية الله المطلقة في عطائه وعمله. التسليم الكامل لله مطلوب، لذلك واجب توما الرسول أن يُخضع عقله وحكمته لحكمة الله، لكي يكتشف الربَّ من خلال العلامات التي يعطيها إيَّاه عن حضوره وعن حبِّه. يعرف يسوع عقلية توما المتطلبة للشروط، ولكن يعرف أن قلبه ظلّ صادقاً مع نفسه، وصادقاً مع الآخرين. فظهر للتلاميذ وتوما معهم وأراه جراحاته، ودعاه لان يضع يده عليها. فلم يجد توما كلمة واحدة تعبّر عن رد فعله أمام يسوع المسيح إلا "رَبِّي وإِلهي!" (يوحنا 20: 28). وهي عبارة لا تقال في العهد القديم إلا لله كما في قول صاحب المزامير "ِاستَيْقِظْ وقُمْ لِحَقَي لقضِيَّتي يا إِلهي وسَيَدي" (مزمور 36: 23). فأقر توما بعماه واعترف بسيادة يسوع الإلهية. ويمثل هذا الاعتراف ذروة إعلان الإيمان المسيحي "يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب" (فيلبي 2: 11). إن جواب توما يُعيدنا إلى مقدمة إنجيل يوحنا " في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله" (يوحنا 1: 1). ويقودنا إلى إيمان ساجد مستسلم للإرادة الله والمستحق الطوبى. فنحنُ نُريد أن نتعلّم اليقين الذي خرج مِنْ عدم إيمان توما. ب) تطويبة الإيمان بقيامة المسيح اختتم اللقاء بين توما مع يسوع في التطويبة "أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا" (يوحنا 20: 29). توما يريد أن يرى ليؤمن، والمسيح يريده أن يؤمن ليرى. الإيمان عند توما رؤية ثم تصديق، والإيمان عند يسوع تصديق ثم رؤية. لذلك جاءت تطويبة الإيمان وهي التطويبة الثانية في إنجيل يوحنا بعد التطويبة الأولى التي تتعلق بالمحبة الأخوية "فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم. أمَّا وقد عَلِمتُم هذا فطوبى لَكُم إِذا عَمِلتُم بِه" (يوحنا 13: 15-17). ويظن البعض انهم يؤمنون بيسوع لو رأوا علامة مثل توما، أمَّا يسوع فقد طوّب يسوع الذين يؤمنون به، ولم يروا ربهم قائما من الموت، بل يصدّقون شهادة الذين رأوه وقد اختارهم هو لكي يكونوا شهوداً له كما جاء في عظة بطرس الأولى "فيَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك" (أعمال الرسل 2: 32). إن لدينا كل برهان نطلبه في كلمات الكتاب المقدس وفي شهادة المؤمنين. وأخيرا، يدعو يوحنا البشير القارئ من خلال هذا النص الإنجيلي (يوحنا 18: 25) إلى تصديق شهادته، لأنه هو واحد من الذين رأوا الرب (يوحنا 1: 14)، انه واحد من الذين سمعوا، ورأوا بأعينهم، وتأملوا ولمسوا بأيديهم كلمة الحياة كما جاء في شهادته "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة " (1 يوحنا 1: 1). يوحنا يُعطي شهادة عيان شخصية، تؤكِّد رؤيتها وحديثَها مع القائم من الأموات. الخلاصة اليوم الثامن هو بدء أسبوع جديد وزمن جديد في حياة الرسل والكنيسة التي بدأت تظهر ملامحها وتتكّون صورتها بفضل سّر موت الرب يسوع وقيامته. بعد ظهورات يسوع المتكرّرة لتلاميذه ولرسله أصبح هناك وعي جديد لدى التلاميذ والكنيسة لعمق حدث القيامة. وهكذا فإن روايات ترائي القائم من بين الأموات مع تلاميذه ارتبطت بمسيرة إيمانية سواء مع تلاميذه الاثني عشر أو مع توما الذي يطلب أن يرى ويلمس لكي يؤمن. وعلى أثر ظهوره منح المسيح تلاميذه الروح القدس (يوحنا 20: 22) وأرسلهم ليشركوا كل إنسان في حياة قيامته المجيدة، وذلك عن طريق مغفرة الخطايا (يوحنا 20: 23). وسلطان مغفرة الخطايا هي العلامة المطلقة على انتصار الرب القائم على الموت. وكشف يسوع الناصري عن نفسه من خلال الاختبار التاريخي للشهود الأوّلين. ولا يستطيع كل مسيحي اليوم أن يعرف يسوع حقا، إلاَّ بمقدار ما يشهد له في العالم عند إخوته. هل يتيح لنا إيماننا أن نتعرف إلى يسوع كما قال "في أحدات حياتنا" كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40)، في قلوبنا "ثبُتوا فيَّ وأَنا أَثبُتُ فيكم" (يوحنا 15: 4)، وفي تطور العالم "وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20) وفي رجال الدين: "مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ" (لوقا 10: 16) وفي الفقراء والصغار" لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ" (متى 25 : 35)؟ الإيمان يساعدني على أن أكسب الحياة الأبديّة. إذ صرَّح يسوع: "أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا" (يوحنا 11: 25). دعاء أيها الآب السماوي، نطلب إليك باسم ابنك يسوع أن تفيض فينا روحك القدوس فيُبدِّد خوفنا ويُقوِّي إيماننا في قيامة ابنك يسوع، فنتمكّن أن ننظر إلى جراحاته المقدسة فننال الشفاء والسلام وفرح القيامة، ونعلن بشرى القيامة المجيدة للعالم ونحن نردِّد كلمات توما ذاتها: "ربّي وإلهي". آمين. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|