|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع المسيح خبز الحياة
النص الإنجيلي (يوحنا 6: 24-35) فلَمَّا رأَى الجَمعُ أَنَّ يسوعَ لَيسَ هُناك، ولا تَلاميذَه، رَكِبوا السُّفُنَ وساروا إِلى كَفَرناحوم يَطلُبونَ يسوع. 25 فلَمَّا وَجَدوه على الشَّاطِئِ الآخَر قالوا له: ((رَاِّبي، متى وَصَلتَ إِلى هُنا؟)) 26 فأَجابَهم يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنتُم تَطلُبونَني، لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات: بلِ لِأَنَّكم أَكَلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم. 27 لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان فهوَ الَّذي ثبَّتَه الآبُ اللهُ نَفْسُه، بِخَتْمِه)). 28 قالوا له: ((ماذا نَعمَلُ لِنَقومَ بِأَعمالِ الله؟)). 29 فأَجابَهُم يسوع: ((عَمَلُ اللهِ أَن تُؤمِنوا بِمَن أَرسَل)). 30 قالوا له: ((فأَيُّ آيةٍ تَأتينا بِها أَنتَ فنَراها ونَؤمِنَ بكَ؟ ماذا تَعمَل؟ 31 آباؤُنا أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة. كما وَرَدَ في الكِتاب: ((أَعْطاهم خُبزاً مِنَ السَّماءِ لِيأكُلوا)). 32 فقالَ لَهم يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يُعطِكُم موسى خُبزَ السَّماء بل أَبي يُعطيكُم خُبزَ السَّماءِ الحَقّ 33 لأَنَّ خُبزَ اللهِ هُوَ الَّذي يَنزِلُ مِنَ السَّماء ويَهَبُ الحَياةَ لِلعالَم)). 34 فقالوا له: ((يا رَبّ، أَعطِنا هذا الخُبزَ دائِماً أبداً)). 35 قالَ لَهُم يسوع: ((أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً. مقدمة بعد أن أشبعَ يسوع الخمسة آلاف رجلٍ بتكثير الخبز بالقرب من بحيرة طبرية، في منطقة الطابغة (يوحنا 6: 1-15) انتقل سراً إلى الضفة الأخرى من البحيرة، إلى كَفَرناحومهرباً من الشعب الذي كان يريد أن يجعلَ منه ملكاً، وبالرغم من ذلك، بحثَ عنه الكثيرون وجاؤوا إلى هناك يَطلبونهُ، لمصلحة مادية، حيث أن هؤلاء قد أكلوا من خبز المعجزة وشبعوا ، فاستوقفهم الكسبُ المادي دون أن يُدركوا معناه العميق ويكتشفوا بواسطتهِ أن يسوع مُرسلٌ من الآب، الذي أتى إلى العالم ليمنحهُ الحياة الحقيقية، لقد رأوا في يسوع صانع عجائب فقط، مسيحاً زمنياً قادراً على أن يؤمن لهم القوت الأرضي بوفرةٍ ومن دون عناء. فألقى على الجموع خطابه المشهور حول "خبز الحياة" (يوحنا 6: 24-71)، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 6: 24-35) 24 فلَمَّا رأَى الجَمعُ أَنَّ يسوعَ لَيسَ هُناك، ولا تَلاميذَه، رَكِبوا السُّفُنَ وساروا إلى كَفَرناحوم يَطلُبونَ يسوع. تشير عبارة "الجَمعُ" إلى بعض الجماعات من الخمسة آلاف الذين أكلوا وشبعوا من معجزة تكثير خمسة الأرغفة والسمكتين (يوحنا 6: 22). أما عبارة "يسوعَ" فتشير إلى الصيغة العربية للاسم العبري יֵשׁוּעַ (يشوع) ومعنى الاسم الله مخلص. وقد سُمِّي يسوع حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21)، ومريم (لوقا 1: 31). ويسوع هو اسمه الشخصي. والمسيح هو لقبه. وردت لفظة "يسوع" وحدها خاصة في الأناجيل، وأمَّا لفظة "يسوع المسيح"، و"الرب يسوع المسيح" في سفر أعمال والرسل ورسائل الرسل. أمَّا عبارة "السُّفُنَ" فتشير الي سفن الصيد (يوحنا 6: 22) وكانت دعائم السفن مصنوعة من خشب الصفصاف، ويعومها رجلان يحمل كل منهما عارضة خشبية يدفعان بها السفينة. وكان لها مراسي تشبه مراسي سفن اليوم، وفيها حبل للقياس وحبال أخرى لحزم السفينة عند اللزوم لحفظها من التفكك بفعل العواصف. أمَّا عبارة "كَفَرناحوم " فتشير إلى ذهاب الجمع إلى كفرناحوم وليس إلى طبرية بحثا عن يسوع لأنهم عرفوا من السفينة الآتية منها انه ليس فيها (يوحنا 6: 23). كفرناحوم هو اسم عبري כְּפַר־נַחוּם معناه قرية ناحوم، وهي قرية واقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبرية في أرض زبولون ونفتالي (متى 4: 13-16). وكانت مركزاً للجباية (مرقس 2: 1). ويظهر أنه كان فيها مركز عسكري روماني (متى 8: 5-13). انتقل يسوع إليها من مدينة الناصرة أثناء خدمته العلنية جاعلاً منها مركزاً له حتى أنها دعيت " مَدينته " (متى 9: 1)، وفيها شفى غلام قائد المئة (متى 8: 5-13)، وحماة بطرس (متى 8: 14-17)، ورجل فيه روح نجس (مرقس 1: 21-28)، والمُقعد (مرقس 2: 1-13) وابن خادم الملك (يوحنا 4: 46-54) وغيرهم كثيرين مرضى بأمراض مختلفة (مرقس 1: 32-34). وفيها أيضاً دعا يسوع متى (لاوي) لإتباعه في خدمة الإنجيل، وكان هذا جالساً هناك عند مكان الجباية (متى 9: 9-13). وبالرغم من كل خدمة يسوع وتعاليمه في كفرناحوم لم يؤمن سكانها ولهذا تنبأ يسوع بخرابها الكامل (متى 11: 23). وقد تمَّ خراب هذه المدينة كما أنبأ به ربنا (متى 11: 21-23 9). لم يذهب الجمع إلى طبرية بحثا عن يسوع لأنهم عرفوا من السفينة الآتية منها انه ليس فيها (يوحنا 6: 23). 25 فلَمَّا وَجَدوه على الشَّاطِئِ الآخَر قالوا له: ((رَاِّبي، متى وَصَلتَ إلى هُنا؟)) تشير عبارة "الشَّاطِئِ الآخَر" إلى شاطئ بحيرة طبرية الشمالي حيث توجد كفرناحوم (يوحنا 6: 59). أمَّا عبارة " رَاِّبي" في الأصلاليوناني Ῥαββί, مشتقة من العبرية רַבֵּנוּ"(معناها يا معلّم) فتشير إلى لقب يُعطى لمعلّم كبير يُعهـدُ إليه في المجال الدينيّ، حيث استخدمت هذه الكلمة في الأصل تعبيراً عن الاحترام. وفي القرن الأول المسيحي صارت اللفظة لقبًا رسميًا لُقِّب به أعضاء السنهدريم (المجلس الأعلى) الذين اعتُبروا خبراء في مجال الشريعة اليهوديّة. وجد اليهود أنَّ يسوع قد هرب منهم حين طالبوه أن يكون ملكًا فبدأوا يتعاملون معه كمعلم وليس كملكٍ. فهم يطلبون منه هنا التعليم ولكن فيما بعد سيطلبون منه الخبز " يا رَبّ، أَعطِنا هذا الخُبزَ دائِماً أبداً "(يوحنا 6: 34). أمَّا عبارة "متى وَصَلتَ إلى هُنا؟" فتشير إلى سؤال تعجب إذ رأى الجمع أنه لم يكن هناك إلاَّ سفينة واحدة وان يسوع لم يصعد إليها مع تلاميذه مما يدل على أن يسوع عبر البحيرة بقدميه كما ورد في الكتاب " لسَّائِرُ على مُتونِ البَحْر" (أيوب 9: 8). إن هذه الآية كانت موجَّهة أيضا إلى الجمع. فهم يريدون بسؤالهم أن يكشف يسوع لهم سر قوته، لكنه لم يخبرهم أنه سار على الماء هرباً من المفهوم السياسي للملكوت. 26 فأَجابَهم يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنتُم تَطلُبونَني، لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات: بلِ لِأَنَّكم أَكَلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم. تشير عبارة " فأَجابَهم يسوع " إلى جواب على سؤال لم يُصرّح يسوع به وهو " لماذا جئتم تطلونني ". أمَّا عبارة " أَنتُم تَطلُبونَني" فتشير إلى موقف الجمع اليهودي من يسوع وشجب يسوع لهم، لان موقفهم هذا غير روحي ومبني على بواعث مادية، حيث أنهم طلبوه من أجل القوت المادي القائم على المنفعة الجسدية والوقتية، لا بسبب جوعهم الروحي. إنهم يبحثون عنه لا ليعرفوه، بل ليمتلكوه. انهم لا يبحثون عنه، بل على الخبز. إن يسوع يتحدث مع الجمع حيث هم، وكما هم لكي يَعبر بهم من حقائق هذا العالم إلى حقائق الإيمان، من الأرض إلى السماء، ومن الجسد إلى الروح. أمَّا عبارة "لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات" فتشير إلى عدم إدراك اليهود الآيات التي تهدف إلى معرفة المسيح وشخصه الذي يُشبعهم فرحاً. لقد شاهد اليهود المعجزات وتعجبوا منها، لكنهم لم يستفيدوا منها فائدة روحية ولم يُدركوا انه هو المسيح كما يؤكِّده إنجيل مرقس " لِأَنَّهم لم يَفهَموا ما جَرى على الأَرغِفَة، بل كانت قلوبُهم قاسِيَة"(مرقس 6: 52) أمَّا عبارة " أَكَلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم " فتشير إلى توبيخ يسوع اليهود لأنهم يبحثون عن يسوع لا لشخصه بل لعطاياه. إنهم جاؤوا إلى يسوع من أجل الخبز الذي أكلوه، ولم يدركوا مضمون معجزة تكثير الخبز والسمك ولم يتبيَّنوا الحقيقة، ولم يصلوا إلى الآية التي تجعل الإنسان يؤمن به شخصيا (يوحنا 2: 11). ويعلق القديس أوغسطينوس "نادرًا ما يُطلب يسوع من أجل يسوع نفسه". وهذه ما زالت مشكلتنا أننا ننشغل بعطايا المسيح عن شخص المسيح. هناك خطأ شائع أن يتحول المسيح في فهمنا ليصبح وسيلة وليس غاية. ينبغي علينا أن نتبع المسيح بسبب احتياجنا إلى طريق الحق والحياة الأبدية، لا للدوافع الذاتية ككسب الجاه أو النفوذ أو الراحة فقط. كثيرون هم الذين لا يطلبون من الله إلاَّ أن تمتد يداه لتقدم لهم احتياجاتهم الزمنية؛ وقليلون هم الذين يشتهون اللقاء مع الله من أجل الله نفسه. أمّا المؤمنون الحقيقيّون فيتبعون الربّ يسوع لمجرّد معرفتهم أن طريقه هو طريق الحياة. إن الله يُعطينا الطعام الجسدي حتى لو لم نطلبه. لكن الطعام الباقي علينا أن نجاهد من اجل الحصول عليه. ومن هذا المنطلق، علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال: ما الذي نبحث عنه عندما نسعى إلى يسوع؟ ما الأمر الذي نريده عندما نطلب يسوع؟ نجاح الإنجيل في بلد ما لا يتوقف على كثرة المسيحيين بل على تغيّر قلوبهم. 27 لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان فهوَ الَّذي ثبَّتَه الآبُ اللهُ نَفْسُه، بِخَتْمِه. تشير عبارة "لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى" إلى امر يسوع لليهود أن يمتلكوا القوت الروحي الذي هو وحده القادر أن يعطيهم إياه. لأنهم كانوا يتعبون للطعام الفاني دون الاهتمام بسماع كلمة الله التي تقودهم للحياة الأبدية. كما قال النبي أشعيا "لِمَاذا تَزِنونَ فِضَّةً لِما لَيسَ بِخُبْز وتَتعَبونَ بما لا شِبَعَ فيه؟ إسمَعوا لي سَماعاً وكُلوا الطَّيِّب ولتتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ نُفوسُكم" (أشعيا 55: 2-3). لم ينهِ يسوع عن العمل لتحصيل أسباب العيش الضروري، لان ذلك أوجبه الكتاب المقدس " في سِتَّةِ أيام تَعمَلُ وتَصنَعُ أَعمالَكَ كلَّها"(خروج 20: 9)، إنما نهى عن الاقتصار على طلب حاجات الجسد دون حاجات النفس. أمَّا عبارة " لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى "فيشير إلى تحلل الطعام ولأن العالم كله سيزول كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "العالَمُ يَزولُ هو وشَهَواتُه. أَمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله فإِنَّه يَبْقى مَدى الأبد (1 يوحنا 2: 17) علما أنَّ الله مسؤول أيضاً عن هذا الطعام المادي الذي يفنى ويعطيه لنا. المهم ألا ننشغل به عنه. يتكلم يسوع عن نفسه شخصياً الذي يُعطي ذاتهُ لنا في كلمتهِ وفي القربان المقدس. فهو خبز الحياة الذي لا يفنى ولا يتغير وسيعطي أجسادنا قيامة في الأبدية وديمومة، في حين الطعام زائل وفائدته وقتيه ولا قوة له على حفظ الحياة كما أكد ذلك بولس الرسول " الطعام لِلبَطْنِ والبَطْنُ لِلطَّعام، واللهُ سيُبيدُ هذا وذاك" (1 قورنتس 6: 13). أمَّا عبارة "اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى " فتشير إلى الطعام الروحي الذي هو عطية الله. يدعو يسوع الجمع أن يشتهوا الخيرات الروحية ويتَّخذوا كل الوسائل التي اعدَّها الله لتحصيلها، كما يدعوهم أن يعترفوا أن قدرته امر واقع، لكنهم لم يدركوا معناها الصحيح من خلال التطلع إلى اعلى، للقوت الباقي للحياة الأبدية. لأنهم اكتفوا بأكل الخبز العادي، فتحمَّسوا من اجل ذاك للذي أطعمهم. توقفوا عند هذا الخبز وتجاهلوا يسوع الذي يعطي الطعام الحقيقي، الحياة الأبدية. هذه الحياة ننالها بالإيمان بالمسيح. أمَّا الإيمان ينشأ من الاعتراف بان أعمال يسوع آيات (يوحنا 2: 11). وقد عدّ يوحنا الإنجيلي المعجزات آيات أي أحداثا أخيرية تمكن المؤمنين من الشعور منذ الآن بمجد يسوع، وبهذا أعاد الروابط مع العهد القديم كما جاء في نبوءة أشعيا " أَجعَلُ بيَنَهم آيَةً" (أشعيا 66: 19). في حين خصَّصت الأناجيل متى، مرقس ولوقا كلمة المعجزات بكلمة يونانية δύναμις, (معناها أعمال قدرة) (مرقس 9: 39) وخصصوا استعمال كلمة " آية" بكلمة يونانية σημεῖον بالخوارق المرافقة لافتتاح الأزمنة المسيحانية (متى 12: 38، مرقس 18: 11-1 ولوقا 11: 16). أمَّا عبارة "حَياةً أَبَدِيَّة" فتشير إلى الحياة الحقيقية الدائمة إلى الأبد التي على الإنسان أن يجتهد في تقبلها كهبة الله ويجاهد من أجلها كما وردفي إنجيل متى " فمُنذُ أَيَّامِ يُوحنَّا المَعْمَدانِ إلى اليَومِ مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه"(متى 11: 12)، أمَّا أطعمة الأرض فإنها موسومة بالموت كما صرّح يسوع للمرأة السامرية " كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن هذا الماء يَعطَشُ ثانِيَةً وأَمَّا الَّذي يَشرَبُ مِنَ الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه فلَن يَعطَشَ أَبداً " (يوحنا 4: 13-14). وفي الواقع، عادت الجموع تبحث عن يسوع، لا للتمتع بصانع الآيات، وإنما لأنها أكلت وشبعت (يوحنا 6: 26)، لذا قدَّم لهم السيد المسيح مائدة جديدة مختلفة: جسده ودمه المبذولين طعامًا يهب الحياة الأبدية والقيامة. ويعلق القديس كيرلس الكبير "من يقدر أن يعطي الناس طعامًا يحفظهم إلى حياة أبدية؟ فإن هذا الأمر غريب تمامًا على طبيعة الإنسان. يليق بذاك الذي هو إله فوق الجميع". أمَّا عبارة " يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان " فتشير إلى المسيح الذي يهب البركات الروحية كما يعطي أيضا الطعام الجسدي لكنه لم يجعل منه الهبة الخاصة كإشارة إلى قدرته، كذلك اتخذ شفاء الجسد إشارة إلى قدرته على شفاء النفس. أمَّا عبارة " ابنُ الإِنسان " في الأصل اليوناني ὁ υἱὸς τοῦ ἀνθρώπου ترجمة لعبارة عبرية בֶּן־הָאָדָם (معناها ابن آدم) فتشير إلى الاسم الذي سمَّى يسوع نفسه (مرقس 8: 31). وقد تكرَّرت هذه اللفظة 84 مرة في الأناجيل، وتدل على إنسانية يسوع الحقّة، تلك هي صفته كرأس للجنس البشري وممثله (مرقس 2: 28). وتدل في مواضع أخرى على أنه المسيح عندما يتنبأ بمجيئه الثاني وبمجده (متى 26: 64) ودينونته لجميع البشر (متى 19: 28). فهو الوجه السماوي الذي حمَّله الآب سلطته ومجده وقدرته. واستخدم المسيح هذه اللقب كثيراً، لأن فيه دلالة على أنه المسيح المنتظر، وهو في نفس الوقت يصلح في الإشارة إلى حياته المتواضعة على الأرض كالإنسان الكامل. والجدير بالذكر أن هذا اللقب “ابن الإنسان" لم يستخدم ليسوع بعد القيامة سوى مرة واحدة (أعمال الرسل 7: 56). أمَّا عبارة " بِخَتْمِه " فتشير إلى وضع علامة معينة على الشيء لكيلا يحدث لبس بينه وبين شيء آخر. ومن هذا المنطلق، فإن تعبير " بِخَتْمِه " أي الله منحه أمرًا معينًا جعله ليس موضوع مقارنة مع بقية البشر. لذلك قيل عنه "امَسَحَكَ اللهُ إِلهُكَ بِزَيتِ الاِبتِهاجِ دونَ أَصْحابِكَ" (مزمور 45: 8). أمَّا عبارة "ثبَّتَه الآبُ اللهُ نَفْسُه، بِخَتْمِه" فتشير إلى وثيقة تأكيد الله صحة رسالة يسوع، ابن الإنسان الذي أتى من السماء، من خلال الآيات التي يُجريها. وشهد الآب بقداسة ابنه يسوع وميَّزه عما سواهُ من البشر (رؤيا 7: 2-3)، وصادق عليهِ جهارًا وقت حلول الروح القدس عليهِ (يوحنا 33:1). وفي الواقع، يتخذ الناس الختم للتثبيت (1 ملوك 21: 8) ، والمعنى أن الله عيَّن المسيح منذ الأزل لكي يعطي الحياة لأبدية ( يوحنا 10: 26) وشهد له عند المعمودية وبالمعجزات التي أجراها على يده فكانت تلك كختم لإثبات أن الله عيَنه. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "الآب ختم" ليس ألا أنه "أقر" أو" أعلن بشهادته. فالمسيح في الحقيقة أقر عن نفسه، ولكنه إذ كان يحاور اليهود قدَّم شهادة الآب له ". وختمه أيضاً يشير أن الآب قدَّسه الآب" (يوحنا 10: 36) أي خصَّصه لذبيحة الصليب، وعيّنه للذبح وبالتالي عيّنه ليكون طعاماً وخبزاً للحياة الأبدية، فالخراف التي كانت تقدم كذبائح كانت تفحص أولًاً من قِبل الكهنة ثم يختمها الكهنة أنها بلا عيب وصالحة لتقدم كذبيحة. ويرى بعض المفسِّرين عبارة " ثبَّتَه الآبُ اللهُ نَفْسُه، بِخَتْمِه " تلميحا إلى معمودية يسوع ذلك بأنهم يستندون إلى استعمال هذه اللفظ في لاهوت المعمودية كما جاء في تعليم بولس الرسول "في المسيح أَنتُم أَيضاً سَمِعتُم كَلِمَةَ الحَقّ أَي بِشارةَ خَلاصِكم وفِيه آمنُتُم فخُتِمتُم بِالرُّوحِ المَوعود، الرُّوحِ القُدُس"(أفسس 1: 13). إن موهبة الحياة الأبدية بالمسيح تُثبت نفسها بالأعمال. 28 قالوا له: ((ماذا نَعمَلُ لِنَقومَ بِأَعمالِ الله؟)). تشير عبارة "ماذا نَعمَلُ لِنَقومَ بِأَعمالِ الله؟" إلى سؤال الجمع عن دعوة يسوع لهم للعمل في سبيل الملكوت. فهم يسألون كيف يتجاوبون مع عطية الله، وهو سؤال شبيه بسؤال الشاب الذي أتى للمسيح " ((يا مُعلِّم، ماذا أَعمَلُ مِن صالحٍ لأَنالَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟ " (متى 19: 16) وشبيه بسؤال السامعين لبطرس يوم العنصرة (أعمال الرسل 2: 37) وشبيه بسؤال بولس بعد اهتدائه على طريق دمشق (أعمال الرسل 9: 6)، وسؤال السجان لبولس الرسول "يا سَيِّدَيَّ ماذا يَجِبُ عليَّ أَن أَعمَلَ لأَنالَ الخَلاص؟" (أعمال الرسل 16: 30). إن كل عبادات العالم هي محاولات من قبل البشر للإجابة عن هذا السؤال. أما عبارة " ِأَعمالِ الله؟" فتشير إلى الأعمال التي امر بها الله كالأصوام والصلوات وإنكار الذات ... سألوا اليهود عنها لتكون وسيلة إلى نوال الحياة الأبدية. 29 فأَجابَهُم يسوع: ((عَمَلُ اللهِ أَن تُؤمِنوا بِمَن أَرسَل)). تشير عبارة "عَمَلُ اللهِ أَن تُؤمِنوا بِمَن أَرسَل" إلى جواب يسوع للقيام بعَمل الله، وأولها هو الإيمان بيسوع المسيح. ويقوم عمل الله على توحيد سلوك الإنسان كله في الإيمان بيسوع الذي أرسله الآب عطية للعالم. لان اليهود كانوا يعتمدون على عمل الإنسان لله، لا على عطية الله لهم. في حين عمل الله أن يؤمنوا بمن أرسله الآب. والآب أرسل لهم المسيح المخلص وما عليهم سوى الإيمان به. ويُعلق البابا بِندِكتُس السادس عشر " الإيمان بالرّب يسوع هو إذًا الطريق لبلوغ الخلاص بشكل نهائي" (رسالة رسوليّة: "باب الإيمان"، العددان 2 و3). فالإيمان به هو عمل في حد ذاته. وأن دخول الحياة الأبدية هو عمل يعمله الله من خلال إرساله لابنه ليعدَّ لنا مكانا بدخول جسده للسماء. لذلك أجابهم المسيح أن المطلوب ليس أعمال بل إيمان به، وأن العمل هو عمل الله وليس عملهم هم. العمل بدون إيمان بالمسيح لا يرضي الله. يسوع جمع أعمال الله التي تبدو كثيرة في عمل واحد وجعله شرط الحياة الأبدية " الحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح" (يوحنا 17: 3) فجواب المسيح شدَّد على أهمية الإيمان به وهو الجواب الوحيد لمن يسألوننا عن طريق الخلاص. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "جاءت الإجابة إنه ينقصهم أمر واحد، هو من صميم الناموس، وهو أن يؤمنوا بيسوع، كونه المسيح الذي أشارت إليه الشريعة، وكونه مخلص العالم الذي أفسدته الخطيئة" والإيمان هو التعلق بالرب في شخص يسوع كما جاء في تعليم بولس الرسول " ونَحنُ نَرى أَنَّ الإِنسانَ يُبَرَّرُ بالإِيمانِ بمَعزِلٍ عن أَعمالِ الشَّريعة" (رومة 3: 28). ويقوم عمل الله على الاشتراك في تحقيق الأعمال التي يقوم بها الله (يوحنا 9: 4)، وهو العمل بالحق (يوحنا 3: 21). ويَظهر الحق في الشريعة (يوحنا 7: 17). ومن هنا جاءت توصيات بولس الرسول " فكونوا إِذًا، يا إِخوَتي الأَحِبَّاء، ثابِتينَ راسِخين، مُتَقَدِّمينَ في عَمَلِ الرَّبِّ دائِمًا، عالِمينَ أَنَّ جَهْدَكُم لا يَذهَبُ سُدًى عِندَ الرَّبَّ"(1قورنتس 15: 58). اهتم السامعون بأعمال الله لكن أعمال الله لا تكون دون الإيمان بيسوع، لذلك طلب يسوع منهم أن يؤمنوا ويقبلوا ما يقدِّم لهم. لا يمكن إرضاء الله بما نفعله، بل بما نؤمن به. فالإيمان بيسوع ابن الله ورسوله يتبعه عيش حياة الإيمان التي ترضي الله. الإيمان يجعل أعمالهم مقبولة لدى اللَّه. الإيمان المقرون بالأعمال الصالحة شرط أساسي للحياة الأبدية. فالإيمان مدخل للحياة الأبدية/ وبدونه لا حياة مع الله ولا حياة أبدية. كلمة الإيمان هنا تحمل معنى الإيمان العملي الحي، "الإيمان العامِلِ بِالمَحبَّة"(غلا طية 5: 6). حيث يلتصق به المؤمن ويتبعه في طريق الصليب. العمل المطلوب أن نؤمن بيسوع، وأن نذهب إليه وأن نثق بالهبة القادرة على تغذية جوعنا إلى الحياة والمحبة. وبدون الإيمان بالمسيح فأي عمل نعمله هو بلا قيمة لأجل دخول ملكوت السماوات. 30 قالوا له: ((فأَيُّ آيةٍ تَأتينا بِها أَنتَ فنَراها ونَؤمِنَ بكَ؟ ماذا تَعمَل؟ تشير عبارة "فأَيُّ آيةٍ تَأتينا بِها أَنتَ فنَراها ونَؤمِنَ بكَ؟" إلى طلب الجمع برهانا واضحا يُبيِّن أن رسالة يسوع من الله. كان السامعون يطلبون من يسوع البراهين والآيات (مرقس 8: 11) التي تُثبت أقواله كونه قادر على منح الحياة، ولكن كان همهم الوحيد العمل والأكل. قد رأوا معجزة إشباع الجموع بخمس أرغفة وسمكتين لكنهم لم يؤمنوا ولم يستطيعوا إدراك الحق. فأراد يسوع أن يوسّع آفاقهم انطلاقا من احتياجاتهم المادية وصولا إلى احتياجاتهم الروحية والدينية. وكثيرا ما طلب اليهود من المسيح مثل هذه الطلبة أي أن يصنع لهم آية عظيمة كنزول المن في البرية كما صرّح أيضا بولس الرسول " ولَمَّا كانَ اليَهودُ يَطُلبونَ الآيات، واليونانِيُّونَ يَبحَثونَ عنِ الحِكمَة"(1 قورنتس 1: 23). أمَّا عبارة "نَؤمِنَ بكَ؟" فتشير إلى طلب اليهود آية أخرى حجة لعدم إيمانهم وكانت الأولى كافية فأنكروها كأنها لم تكن. هبة الإيمان غير المنظور تستلزم برهانا خارجياً. إن هدف أعجوبة المنّ لم يكن لتغذية اليهود ماديا في الصحراء، بل دعوتهم إلى الإيمان بالله " وأَطعَمَكَ المَنَّ الَّذي لم تَعرِفْه أَنتَ ولا عَرَفَه آباؤكَ، لِكَي يُعْلِمَكَ أَنَّه لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان " (تثنية الاشتراع 8: 2-3). قد استشهد يسوع بهذا النص ليفهم إبليس إن الخبز المادي لا يكفي لكن لا بدَّ من كلمة الله. (متى 4: 4). أمَّا عبارة " ماذا تَعمَل؟" إلى مقارنة الشعب بين ما عمله يسوع وما عمله موسى، فراوا إن موسى تفوَّق على يسوع. إذا أطعم يسوع خمس آلاف، فموسى أطعم شعبا كاملا. وإذا أعطى يسوع خبزا مرة واحدة، فموسى ظل يعطي المنَّ أربعين سنة. ولكن موسى يبقى الخادم في بيت الله، وما هو الذي أعطى المن، بل الآب السماوي. لهذا كان يسوع، ابن الله، أعظم من موسى وهو يدعو شعبه إلى الإيمان سواء رأى أم لم يرَ كما يصرح يوحنا الرسول "وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب" (يوحنا 20: 30). 32 آباؤُنا أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة. كما وَرَدَ في الكِتاب: ((أَعْطاهم خُبزاً مِنَ السَّماءِ لِيأكُلوا)). تشير عبارة "آباؤُنا أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة " إلى طلب اليهود آية تضاهي معجزة المَنَّ (خروج 16: 14)؛ لم يذكر اليهود موسى في هذا الأمر، بل أشاروا إليه فكأنهم قالوا هات لنا برهان كبرهان موسى لآبائنا فنؤمن بك. فالمعجزة التي صنعها يسوع أصغر من معجزات موسى، فيسوع أعطى خبزا عاديا من الأرض وموسى أعطى خبزا من السماء، موسى أعطى خبز السماء أربعين سنة، والمسيح أعطى خبزا مرة واحدة، وبهذا ربطوا الإيمان بالخوارق العظيمة. ومن هذا المنطلق، يتوجب على المسيح المنتظر في نظرهم أن يجري من المعجزات ما يفوق ما عرفه شعب العهد القديم، ولا سيما معجزات سفر الخروج (مرقس 8: 11) علما أن آية المَنَّ هي أكبر خوارق في سفر الخروج (خروج 16: 15) بنظر بعض علماء الشريعة. وكان التقليد الشعبي ينتظر من المسيح أن يجدِّد هذه العطية. ولكن اليهود ظلُّلوا يقدِّرون موسى دون أن يقدِّرون يسوع. يسوع أعطى خبزا من الأرض، أمَّا موسى فخبزا من السماء؛ امَّا عبارة " أباؤُنا " فتشير إلى اليهود الذين قادهم موسى في البرية. وأما عبارة "المَنَّ " في الأصل اليونانيμάννα (كلمة من أصل عربي) فتشير إلى ما يخرج من الآس بعد أن تمرّ الحشرات وتغتذي به. فالسائل الذي يخرج يتجمّد بسرعة، يسقط على الأرض، فيلتقطه البدو ويستعملونه محلّ السكر والعسل، وفي التوراة استعملوا عبارة شعبية מָן הוּא (معناها ما هذا؟) (خروج 16: 15) وهو شبه الندى المُجلّد: أبيض، بشكل حبّات ناعمة، كبزر الكزبرة وطعمه طعم قطائف بعسل (خروج 16 :31-33). ونجد في خطبة خبز الحياة أوسع استعمال وأعمقه لخبز المَنَّ (يوحنا 6 :31-58). وتعكس عطية المَنَّ الخفيّ للغالب (رؤيا 2 :17) فكرة المَنَّ الذي هو طعام زمن الخلاص الآتي. أمَّا عبارة " أَعْطاهم خُبزاً مِنَ السَّماءِ لِيأكُلوا " فتشير إلى استشهاد الجمع بالمزامير " أمطَرَ علَيهمِ المَنَّ لِيَأكُلوا وأَعْطاهم حِنطَةَ السَّماء" (مزمور 78: 24). إن الجمع يريد آية مماثلة لأعاجيب موسى، وينتظرون من المسيح أن يأتي بخوارق الخروج وبطريقة أكبر دهشة. لأن اليهود كانوا يعتقدون أن المسيح سينزل لهم منًا من السماء ليشبعهم كما عمل موسى، وسيكون هذا علامة أنه المسيح. 32 فقالَ لَهم يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يُعطِكُم موسى خُبزَ السَّماء بل أَبي يُعطيكُم خُبزَ السَّماءِ الحَقّ تشير عبارة "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم" إلىقول اعتاد يسوع التفوه به كمقدمة لكل موضوع هام شرع في تعلميه. أمَّا عبارة "لم يُعطِكُم موسى خُبزَ السَّماء بل أَبي يُعطيكُم خُبزَ السَّماءِ الحَقّ " فتشير إلى التعارض بين زمن موسى وزمن يسوع، بين المَنَّ في مصر والخبز الحقيقي ونوعيته، ينفي يسوع أنَّ موسى هو الذي أعطى المَنَّ، وهذا المَنَّ لم يكن خبزاً من السماء بالمعنى الحقيقي الذي يقي النفس من الموت الأبدي، بل "ظلا" للخبز الذي أعطاه يسوع المُعطي الحياة للعالم كما جاء في تعليم بولس الرسول "فما هذه إِلاَّ ظِلُّ الأُمورِ المُستَقبَلة، أمَّا الحَقيقَةُ فهي جَسَدُ المسيح" (قولسي 2: 17). صحَّح يسوع قول اليهود: الآب هو الذي أعطى المَنَّ، لا موسى، واليوم هو يعطي الخبز الحقيقي، الحياة الأبدية التي ننتظرها بواسطة الابن. وهكذا بدا موسى صورة عن يسوع (يوحنا 1: 17، 5: 45-46). ويعلق القديس كيرلس الكبير "أنه لم يكن موسى ونفسه صانع عجائب، بل بالأحرى كان خادمًا وفاعلًا في خدمة أمور الله للشعب، وأيضًا في خدمة أمور بني إسرائيل تجاه الله". أمَّا عبارة " لم يُعطِكُم موسى " فتشير إلى موسى الذي هو الواسطة وليس المصدر، لان المصدر هو الله. أمَّا عبارة " بل أَبي يُعطيكُم " في الأصل اليوناني δίδωσιν فتشير إلى صيغة المضارع الدال على الاستمرار بمقارنته بالماضي (لم يُعطِكُم) باعتبار اليهود منذ عهد موسى إلى تلك الساعة أمة واحدة. أي الآب أرسل يسوع المسيح، الخبز الحقيقي الذي نزل من السماء، ولم يكن المَنَّ إلا رمزاً له؛ أمَّا عبارة " خُبزَ السَّماءِ الحَقّ" فتشير إلى خبز الحياة الأبدية وليس كالخبز العادي الذي يأكله الإنسان ويموت بعد حين. وما كلمة "الحق" هنا إلاَّ تمييزا عن الأمر الرمزي الوقتي الأرضي. وكثيرا ما ورد " الحق" بهذه المعنى كقول يسوع "النُّورُ الحَقّ " (يوحنا 1: 9) "الكَرمَةُ الحَقّ " (يوحنا 15: 1) و "الخَيمَةِ الحَقيقِيَّةِ"(عبرانيين 8: 2). 33 لأَنَّ خُبزَ اللهِ هُوَ الَّذي يَنزِلُ مِنَ السَّماء ويَهَبُ الحَياةَ لِلعالَم)). تشير عبارة "خُبزَ اللهِ" إلى لفت يسوع أنظار اليهود إلى الخبز الذي هو أهم من المَنَّ، وجَّههم إلى خبز الله، ووجَّههم إلى أبعد من العطية، وجهَّهم إلى المسيح الذي يعطي الخبز والذي كان موسى صورة عنه. فيسوع هو الخبز الحقيقي النازل من السماء. هو الغذاء الجوهري إذ يحتاجه الإنسان. ويعلق القديس أوغسطينوس " وعدهم يسوع بشيءٍ أعظم مما أعطاهم موسى. بموسى كان الوعد بأرضٍ تفيض لبنًا وعسلًا، بالسلام المؤقت، بكثرة الأبناء وصحة الجسد، وكل الأمور الأخرى التي للخيرات الوقتية، لكنها تحمل رمزًا روحيًا... أمَّا يسوع فيَعد لا بالطعام الزائل بل بالطعام الباقي للحياة الأبدية". أمَّا عبارة " يَنزِلُ " في الأصل ليوناني καταβαίνων (معناه النازل بصيغة اسم الفاعل) فتشير إلى وجود يسوع في السماء قبل تجسده. أمَّا عبارة " يَهَبُ الحَياةَ لِلعالَم" فتشير إلى المسيح الذي يمنح الحياة الروحية الأبدية للمؤمنين به، في حين كان المَنَّ كان لليهود فقط مدة حياة جيل واحد ثم انقطع (يشوع 5: 12). في حين الخبز الحي ايعطيه يسوع لكل إنسان مدة الأجيال إلى منتهى الأزمان. ويسوع يعطي حياة روحية ابديه في حين من أكلوا المَنَّ ماتوا (يوحنا 6: 49). 34 فقالوا له: ((يا رَبّ، أَعطِنا هذا الخُبزَ دائِماً أبداً)). تشير عبارة " يا رَبّ " في الأصل اليوناني Κύριε (معناها يا سيد) فتشير إلى لقب معلم الدين العبراني قديماً، وهي تقابل معنى حاخام أو رابي (متى 26: 25 ومرقس 9: 5). أمَّا عبارة "أَعطِنا هذا الخُبزَ دائِماً أبداً" فتشير إلى رغبة اليهود في خبز معجزي من السماء ولكن على المستوى المادي، شانهم شان نيقوديمس (يوحنا 3: 4) والسامرية (يوحنا 4: 15). وحين حاول يسوع أن يرفعهم إلى المستوى الروحي، أستصعبون كلامه وتركوه. 35 قالَ لَهُم يسوع: ((أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً. تشير عبارة "أَنا خُبزُ الحَياة " إلى يسوع المسيح الذي هو خبز الله الذي يريد أن يعطى الإنسان الحياة الأبدية. الخبز الذي يبقى للحياة الأبدية هو يسوع المسيح الذي يهب ذاته: إننا نغذّي أنفسنا بواسطة هبة الله وهذه الهبة هي حياة يسوع ذاتها. إنه خبز الحياة الحقيقي. هنا انتقل يسوع في حديثه من الغائب إلى المتكلم، وفي كلامه هنا جواب قولهم:أَعطِنا هذا الخُبزَ. والمسيح هنا يقدِّم نفسه مأكلاً ومشرباً. فهو الغذاء الحقيقي الذي يجد فيه المؤمن إشباع جوعه الداخلي، وهذا الغذاء هو كمال الهبة التي يأتي به يسوع إلى الناس الذين يؤمنون به، لانَّ الإيمان به هو الاشتراك في الحياة الحقيقية (يوحنا 6: 41، 48، 51). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "اعتاد السيد المسيح في أحاديثه الأخرى أن يقدم شهودًا أنه يعلن الحق، تارة يعلن أن الآب يشهد له، وأخرى يقتبس نبوات الأنبياء، وأخرى يقدم آياته وعجائبه. أمَّا هنا لم يورد شهودًا، وهو يعلن عن نفسه أنه الخبز النازل من السماء، لأنهم شاهدوا ولمسوا كيف أشبعهم بأرغفة قليلة". يُعرّف يسوع نفسه انه " خُبزُ الحَياة " ونسمعه يقول عن نفسه ست مرات بتعابير مشابهة : "أَنا نُورُ العالَم" (يوحنا 8: 12) الذي يُظهر ويمهّد الطريق المؤدي إلى الحياة الحقيقية لدى الآب؛ وقال "أَنا بابُ الخِراف" (يوحنا 10: 7) الذي يزوِّد الناس بمعرفة الأمور الدينية وبالخلاص ، وقال يسوع أيضا "أَنا الباب فمَن دَخَلَ مِنِّي يَخلُص "(يوحنا 10: 9) المسيح يخلص من الموت ومن كل ما من شانه أن يدمِّر الإنسان ( يوحنا 3: 17) ، وقال يسوع أيضا "أنا الرعي الصالح" ( يوحنا 10: 11) وأيضا "أَنا القِيامةُ والحَياة"( يوحنا 11: 25) أي أنَّ له القدرة على لإيصال البشر الذي يؤمنون به إلى الحياة الأبدية والقيامة الأخيرة ( يوحنا 5: 26). وقال أيضا "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6) ليس يسوع طريقا فقط بقدر ما يقود بتعليمه إلى الحياة، بل هو الطريق المؤدي إلى الآب بقدر ما هو نفسه " الحق والحياة" (يوحنا 10: 9) وأخير يسوع هو "أَنا الكَرمَةُ الحَقّ" (يوحنا 15: 1) فالكرمة الحقيقية هي يسوع، وعلى التلاميذ الذين يرتبطون به ارتباطا حياتيا بالإيمان أن يثمروا أعمال المحبة. أمَّا عبارة "مَن يُقبِلْ إِليَّ" فتشير إلى التحرك باتجاه المسيح بدعوة الإيمان وقبوله مسيحا بكل وظائفه نبيا وكاهنا وملكا والخضوع لوصاياه واتخاذه كمخلص. وهنا إشارة إلى ما سيقوله يسوع " جَميعُ الَّذينَ يُعطيني الآبُ إِيَّاهُم يُقبِلونَ إِليَّ ومَن أَقَبَلَ إِليَّ لا أُلقيهِ في الخارج" (يوحنا 6: 37)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" يسوع يعلن عن لاهوته، فمن يقترب إليه يشبع ولا يجوع قط". أمَّا عبارة "فَلَن يَجوع " فتشير إلى الجوع تجاه الله الخالق وبره. لقد خلق الإنسان كي يُسبِّحه ويمجّده. فالجوع الحقيقي هو جوعنا إلى الله، ولا شيء خارجٌ عن الله يستطيع أن يسدَّ جوع الإنسان ويُروي ظمأه. لان جميع الأطعمة الأرضية فانية وتترك الإنسان جائعا وعطشا. يقول أشعيا " لِمَاذا تَزِنونَ فِضَّةً لِما لَيسَ بِخُبْز وتَتعَبونَ بما لا شِبَعَ فيه؟" (أشعيا 55: 2). يأكل الناس الخبز ليُشبعوا جوع الجسد وليواصلوا الحياة الجسدية. ولا يمكن أن نُشبع الروح ونواصل الحياة الروحية إلا بإقامة علاقة سليمة مع يسوع المسيح، خبز الحياة. وبهذا الخبز الحي يستعيد الإنسان بكليته عدم الفساد. أمَّا عبارة "ومَن يُؤمِنْ بي " فتشير هنا إلى التغذي بخبز الحياة، أي "أن نمتلك المسيح في داخلنا، أن نمتلك الحياة الأبديّة " كما يقول الكاهن بودوان دو فورد (سرّ المذبح، الجزء الثاني العدد 3 )، لان الرّب يسوع المسيح هو " خُبزُ الحَياة" لمَن يؤمن به. ومن البديهي أن يتحدث يسوع عن الإيمان قبل أن يتحدث عن يسوع الإفخارستيا، لان سر حضوره لا يُغذي إلاّ من يؤمن به فعلا. يسوع خبز الحياة يَسدُّ كل احتياجاتنا فلا نحتاج إلى أحد غيره. نأكله ونشربه هنا بالسر، وهناك في الأبدية نشبع ونرتوي فيه بالحق إلى الأبد. أمَّا عبارة فلَن يَعطَشَ أبَداً " فتشير إلى موقف القلب الداخلي للإنسان المؤمن بيسوع، والضمير تجاه شخص يسوع الذي يحمي من الموت ولَن يجعله يَعطَشَ أبَداً لان يسوع هو ينبوع الماء الحي؛ وهو تعبير شبيه بكلام يسوع للمرأة السامرية " أَمَّا الَّذي يَشرَبُ مِنَ الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه فلَن يَعطَشَ أَبداً"(يوحنا 4: 14). كما قيل: " لا يَجوعونَ ولا يَعْطَشون ولا تَلفَحُهمُ السَّمومُ ولا الشَّمْس لِأَنَّ راحِمَهم يَهْديهم وإِلى يَنابيعَ المِياهِ يورِدُهم" (أشعيا 49: 10). كما قيل في سفر الرؤيا: " لَن يَجوعوا ولَن يَعطَشوا ولَن تَلفَحَهمُ الشَّمسُ ولا الحَرّ، لأَنَّ الحَمَلَ الَّذي في وَسَطِ العَرشِ سيَرْعاهم وسيَهْديهم إِلى يَنابيع ِماءِ الحَياة" (رؤيا 7: 16-17). فهو لا يخيب رجاء من يقبل إليه، والسامرية وقد ارتوت فعلاً بعد أن آمنت بالمسيح. أن الإيمان هو الباعث الذي يقود إلى المسيح، وأولئك الذين عندهم إيمان هم عطية الآب له كما جاء في تصريح السيد المسيح "جَميعُ الَّذينَ يُعطيني الآبُ إِيَّاهُم يُقبِلونَ إِليَّ ومَن أَقَبَلَ إِليَّ لا أُلقيهِ في الخارج" (يوحنا 6: 37)، وان القيامة ملحق ضروري لعطية الحياة الأبدية كما نستنتج من أقوال يسوع" مَشيئةُ أَبي هيَ أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه كانَت له الحياةُ الأَبَدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 40). أما الذين لا يأتون إلى المسيح يهلكون جوعا وعطشا أي يبقون إلى الأبد في عذاب. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 6: 24-35) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 6: 24-35) يمكننا أن نستنتج أن النص يتمحور حول يسوع خبز الحياة. ومن هنا يمكن أن نتناول هذا الموضوع في أربع نقاط: مفهوم خبز، وخبز الكلمة، وخبز الإفخارستيا ويسوع خبز الحياة. (1) الخبز: إن الخبز هو مصدر قوّة للإنسان؛ إذ "يُسنِدَ الخُبزُ قَلبَ الإِنْسان" (مزمور 104: 15)، وهو وسيلة أساسية للحياة (عاموس 4: 6). ولذلك يدعو يسوع تلاميذه إلى طلب الخبز اليومي من الآب السماوي "أُرْزُقْنا اليومَ خُبْزَ يَومِنا" (مرقس 6: 11)، شأن الأبناء الذين ينتظرون بثقة كل شيء من أبيهم السماوي (متى 6: 26). ونظرا لأهمية الخبز للإنسان اتخذ السيّد المسيح الخبز علامة لأعظم هباته لنا "أَخذَ خُبزاً وبارَكَ، ثُمَّ كَسَرَه وناوَلَهم وقال: ((خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي)) (مرقس 14: 22). فالخبز ليس ضروريا للحياة فقط، بل هو وسيلة للمشاركة (يوحنا 13: 18). ويعبِّر الخبز أخيراً عن أسمى عطية في الأزمنة الأخيرة، لكل واحد بصفة خاصة كما جاء في نبوءة أشعيا "فيُعْطيكمُ السَّيِّدُ خُبزَ الضِّيقِ وماءَ الشِّدَّة ولا يَتَوارى مُعَلِّمُكَ بعدَ اليَوم بل تَرى عَيناكَ مُعَلِّمَكَ" (أشعيا 30: 23) أو في الوليمة المسيحانية المعدة للمختارين كما تنبأ ارميا "فيَأتونَ ويَهتِفونَ في مُرتَفعِ صِهْيون وبَجْرونَ إِلى طَيِّباتِ الله إِلى القَمحِ والنَّبيذِ والزَّيت وأَولادِ الغَنَمِ والبَقَر وتَكونُ نُفوسُهم كجَنَّةٍ رَيَّا ولا يَعودونَ يَذوبون"(ارميا 31: 12). إن الخبز المادي ضروري من دون أدنى شك، ويسوع نفسه يؤمنهُ للجموع بشكلٍ عجائبي، ولكنه وحده لا يكفي، فالإنسان يحملُ في داخلهِ، ولو عن غير وعي منه، جُوعاً للحقيقةِ العدل والصلاح والحب، والطهارة والنور والسلام والفرح، جُوعاً للامتناهي ولما هو أزلي، وليسَ في العالم ما يمكنهُ أن يشبع هذا الجوع، أما يسوع فيقدم نفسه كالقادر الوحيد على إشباعِ جوع الإنسان الداخلي. ويقدّم يسوع " خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً" (يوحنا 6: 35). وهناك الشبه بين المسيح والخبز، الأول: إن كلا منهما ضروري لحياة الإنسان. والثاني: إن كلا منهما مناسب للجميع في كل زمان ومكان. والثالث: انه بحاجة لكل منهما في كل يوم الخبز لقيام الجسد ونعمة المسيح لحياة الناس. ويدعو يسوع انه خبز الحياة لأنه حي بالذات وقادر أن يمنح الحياة لغيره. فهي يعني أن شخصهُ وتعليمه ضروريان لحياة الإنسان الروحية كما هو الخبز المادي ضروري لحياة الجسد. يوجهُ إلينا يسوع في الواقعدعوة مُلحة، " اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى " (يوحنا 6: 27). يطلبُ منا أن نبذل جُهدنا ونستعملَ كل السبل لكي ننال هذا الغذاء، إن يسوع لا يفرضُ ذاته بل يُريدنا أن نكشفهُ ونختبره. بالتأكيد لا يستطيع الإنسان بقدراتهِ الشخصية وحدها أن يتوصل إلى يسوع. ولكن عندما يجتهدُ الإنسان في عيشِ "كلمة يسوع" يصلُ إلى ملءِ الإيمان به ويتذوق كلمتهُ كما يتذوق الخبز الساخن الشهي. (2) خبز الكلمة: مع أنَّ الخبز طعام أساسي وضروري لا يستغني عنه الإنسان إلا أنَّ عاموس النبي يقارن الخبز بالكلمة كما جاء في نبوءته " ها إِنَّها سَتَأتي أَيَّامٌ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ أُرسِلُ فيها الجوعَ على الأَرْض لا الجوعَ إِلى الخُبزِ ولا العَطَشَ إِلى الماء بل إِلى آستِماعِ كَلِمَةِ الرَّبّ "(عاموس 8: 11). وكذلك يتكلم الأنبياء (أشعيا 55: 2)، وخبز الكلمة هي الحكمة الإلهية نفسها "هَلُمُّوا كُلوا من خبْزي" (أمثال 9: 5-6). يشير الخبز في تعليم يسوع إلى الكلمة الإلهية التي يجب أن تكون جوهر غذائنا اليومي " ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله "(متى 4: 4). وفيما كان سامعو يسوع يهمهم العمل والأكل، أراد يسوع أن يوسّع آفاقهم الضيقة ليوصلوا إلى احتياجات روحية أي إلى الجوع الحقيقي، وهو جوع إلى كلمة الله " لِمَاذا تَزِنونَ فِضَّةً لِما لَيسَ بِخُبْز وتَتعَبونَ بما لاشِبَعَ فيه؟ إسمَعوا لي سَماعاً وكُلوا الطَّيِّب ولتتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ نُفوسُكم. أَميلوا آذانَكم وهَلُمُّوا إِلَيَّ إِسمَعوا فتَحْيا نفوسُكم فإِنِّي أُعاهِدُكم عَهداً أَبَدِيّاً على الخَيراتِ الَّتي وُعِدَ بِها داوُد " (اشعبا 55: 1-3). والمسيح لكونه ابن الله يعلن للإنسان الحقائق الإلهية الضرورية للنفس كالخبز للجسد وهو في كل وظائفه قوت للنفوس. الفكرة الرئيسية التي تعمّ صفحات الكتاب المقدس هي أن كلمة الله وجدت من اجل أن يعمل منها الإنسان غذاء روحيا يفوق كل غذاء مادي. ومن أهمها ما جاء في هذا الصدد: نبوءة ارميا النبي "حينَ كانَت كَلِماتُكَ تَبلُغُ إِلَيَّ كُنتُ أَلتَهِمُها فكانَت لي كَلِمَتُكَ سُروراً وفرَحاً في قَلْبي لِأَنَّي بِآسمِكَ دُعيتُ أَيُّها الرَّبُّ إِلهُ القُوَّات" (أرميا 15: 16). وفي إنجيل القديس يوحنا، يُقدِّم يسوع نفسه أولاً على أنه "الكلمة" التي يجب الإيمان بها "مَن آمَنَ فلَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّة (يوحنا 6: 35-47). (3) خبز الإفخارستيا: ليس الخبز الحق هو كلمة يسوع فحسب، بل هو يسوع نفسه شخصيا في الإفخارستيا. أراد يسوع المخلص أن يُهيئ العقول لقبول سر الإفخارستيا قبل تأسيسه بوقت طويل، وذلك في خطابه الوارد في الفصل السادس من إنجيل يوحنا عن خبز الحياة. ولما حان الوقت أسس الإفخارستيا كما يُحدِّثنا الإنجيليون الثلاثة الأولون والقديس بولس الرسول. وقد رسم الرب يسوع سر الإفخارستيا قبل الصلب فإنه بعد أن تناول عشاء الفصح "أَخَذَ خُبْزاً وشَكَرَ وكَسَرَه وناوَلَهُم إِيَّاهُ وقال: هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم. إِصنَعوا هذا لِذِكْري. وصنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكأسِ بَعدَ العَشاءِ فقال: هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم" (لوقا 22: 19 -20). وفي هذا العشاء الأخير، جعل يسوع من جسده علامة لحضوره الدائم بيننا وأعطاه لنا، وجعل من هذه العطية الأبدية تذكاراً: هذا الجسد سيبقى دائماً حاضرا بيننا ويُعطى لنا في الإفخارستيا. تكلم ه يسوع في خطاب الإفخارستيا (يوحنا 6: 22-66) أولا بوجه عام عن الخبز الحقيقي النازل من السماء (يوحنا 6: 29)، ثم دلّ على نفسه بأنه هو هذا الخبز السماوي الذي يعطي الحياة، وطلب الإيمان بذلك. وأخيرا أعلن يسوع أن الخبز الحقيقي النازل من السماء هو جسده، الخبز الوحيد الذي يُغذّي ويمنح الحياة. وأن الطريقة الوحيدة للوصول إلى حبّ الله تتمّ من خلال هذا الجسد. وان نيل الحياة الأبدية مرتبط بأكل جسده وشرب دمه "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه. (يوحنا 6: 54 -56). وتعلق القديسة الأُم تريزا دي كلكوُتَّا " ماذا يمكن لِربّي يسوع أن يعطيني أكثر من جسده طعامًا؟ لا، لا يستطيع الله أن يفعل أكثر من ذلك، ولا أن يُظهِر لي حبًّا أكبر" (فكرة روحية). يرى يوحنا الإنجيلي في الإفخارستيا عطاء الله ابنه غذاءً؛ فالإفخارستيا هي المَنَّ الحقيقي، هي الخبز الذي يعطي الحياة للعالم، بمجرد الإيمان بيسوع والاتحاد الوثيق به. وفي هذا الصدد يقول البابا بندكتس "أن سر الإفخارستيا "هو العطية التي فيها يهبنا يسوع المسيح ذاته، معلنًا حب الله اللامتناهي لكل إنسان". "ولا يستطيع أحدٌ أن يشاركَ في الإفخارستيّا ما لم يؤمن بحقيقةِ عقيدتنا وما لم يتلقَّ سرّ العماد لمغفرةِ الخطايا والحياة الجديدة" كما يعلن القدّيس يوستينس (الدفاع الأوّل عن العقيدة المسيحيّة). وعلقت الأم تريزا " عندما تتأمل المصلوب، تدرك كم أحبَّك يسوع. وعندما تتأمل القربان، تدرك كم يُحبك يسوع الآن". ويقول القديس بيتر جوليان ايمارد، مؤسس جمعية سر القربان الأقدس " "سر الإفخارستيا هو الدليل القوي والدافع على مدى حب يسوع لنا ولا يوجد شيء آخر أقوى منه أو بعده إلاّ يسوع شخصيا وهو جالس في السماء". يُظهر يسوع نفسه حياة البشر مقدَّمة تحت رمز الخبز. ويُعبّر سر القربان عن هذه الحقيقة، ويُحدثها (أي ينقلها من القوة إلى الفعل) ويُحقِّقها ويُعرضها للإيمان. والغرض الذي لأجله رسم سر الإفخارستيا فهو لنذكر الرب يسوع " إِصنَعوا هذا لِذِكْري" (لوقا 22: 19) ولنُخبر بموته مظهرين إياه إلى أن يجيء " فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي"(1 قورنتس 11: 26). ولم يكن العشاء مقصوراً على الرسل أو على المسيحيين من اليهود ولكنه كان يمارس في كنائس المسيحيين من الأمم أيضاً (1 قورنتس 10: 15-21). يتوجَّه يسوع بالإفخارستيا إلى كل إنسان، ويقدِّم نفسه كأنه خبزه. والذبيحة الإفخارستيا هي "منبع الحياة المسيحيّة كلّها وقمّتها" (نور الأمم: 11). "ذلك أن الإفخارستيا الكليّة القداسة تحتوي على كنز الكنيسة الروحيّ بأجمعه، أي على المسيح بالذات، الذي هو فصحُنا والخبز الحيّ، والذي جسدُه الذي يُحييه الروحُ القدس ويحيي، يعطي الحياة للناس" (حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية: 5). وقد أدركت الكنيسة أن هذا العشاء سيكون امتيازاً لها تحظى بممارسته في كل العصور والأزمان. وقد دُعيت المائدة التي يوضع عليها الخبز "مائدةِ الرَّبِّ " (1 قورنتس 10: 21). والكأس التي تُقدَّم احتفظت بالاسم القديم الذي كانت تسمى به في الفصح اليهودي " كَأسُ البَرَكةِ " (1 قورنتس 10: 16). وقد دعيت أيضاً " كَأسَ الرَّبِّ" (1 قورنتس 10: 21). ويصرّح المجمع الفاتيكاني الثاني " أن الإفخارستيا تحتوي على كنز الكنيسة الروحيّ بأجمعه، أي على المسيح بالذات، الذي هو فصحُنا والخبز الحيّ، والذي جسدُه الذي يُحييه الروحُ القدس يُحيي، ويعطي الحياة للناس" (حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية: 5). فإن كان المسيح قد قدَّم جسده لأجلنا، أفلا ينبغي أن نقدم نحن أجسادنا ذبيحة حية مقدسة مرضية لله؟ لذا يناشدنا بولس الرسول بقوله " إنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة" ﴿رومة 12: 1﴾. أفلا ينبغي أن نشكره على خبز الحياة؟ أفلا ينبغي أن نأكل من هذا الجسد ونتمم الوصية: "إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة"؟( يوحنا 6: 53﴾. أفلا ينبغي أن نخبر كلما أكلنا من هذا الخبز بموت الرب إلى أن يجيء؟ جاء في تعليم بولس الرسول "فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي" ﴿1قورنتس 11: 26﴾. فصدق الطوباوي يعقوب الكبوشي بقوله "أكبر جُرم في عصرنا هو الابتعاد عن القربان". (4) يسوع خبز الحياة: يسوع هو ليس خبز الكلمة وخبز الإفخارستيا فقط بل هو أيضا خبز الحياة. وبالرغم من أن الحياة تتم كلها على الأرض إلا أنها لا تتغذى أولاً وأساساً بخيرات الأرض، بل بالتعلق بالله. فهو "يَنْبوعَ المِياهِ الحَيَّة" (إرميا 2: 13)، و "يَنْبوعَ الحَياةِ " (مزمور 36: 10)، و " أَطيَبُ مِنَ الحَياةِ رَحمَتُكَ" (مزمور 63: 4). تقوم الحياة، في نظر الأنبياء، في طلب الرب "اُطلُبوني فتَحيَوا "(عاموس 5: 4). والواقع لم يخلق الله الإنسان للموت، ولكن للحياة "لأَنَّ اللهَ لم يَصنعِ المَوت ولا يُسَرّ بِهَلاكِ الأَحْياء"(حكمة 1: 13)، لذا يُعرض الله على شعبه " سَبيلَ الحَياة " (مزمور 16: 11). "فاَحفَظوا فَرائضيِ وأَحْكامي. فمَن حَفِظَها يَحْيا بِها" (الأحبار 18: 5)، لأن هذا السبيل هو سبيل البر، والبر طريق إلى الحياة "مَن أَقامَ البِرَّ فلِلْحَياة" (أمثال 11: 19). يسوع المسيح هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة " (يوحنا 14: 6)، "القِيامةُ والحَياة " (يوحنا 11: 25)، يعطي الحياة ويُفيضها بوفرة ألم يقل؟ " أمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 10). فإنه يحمل الحياة التي لا تفنى أي " الحَياةَ الأَبَدِيَّة " (متى 19: 29). إنها هي الحياة الحقيقية، بل نستطيع القول بلا أي إضافة إنها هي "الحَياة " (متى 7: 14). لانَّ يسوع من حيث هو "الكلمة" الأزلي، حاصل على الحياة منذ البدء؛ ومن حيث هو الكلمة المتجسد، هو " كَلِمَة الحَياة "(1يوحنا 1: 1) وهو " خُبزُ الحَياة" (يوحنا 6: 48). ومن حيث يسوع هو "خبز الحياة" يُعطي لمن يأكل جسده أن يحيا به، كما هو يحيا بالآب كما جاء في تعليم يسوع " لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان فهوَ الَّذي ثبَّتَه الآبُ اللهُ نَفْسُه، بِخَتْمِه "(يوحنا 6: 28). وهو لنا الطاقة المُحيية، كما كان خبز الملاك لنبي إيليا، طاقة ابلغته جبل حُوريب "قمْ فكُلْ، فان الطَّريقَ بَعيدةٌ أمامَكَ. فقامَ وأكَلَ وشَرِبَ وسارَ بِقُوَّةِ تِلكَ الأَكلَةِ أَربَعينَ يَومًا وأربَعينَ لَيلَةً إلى جَبَلِ اللهِ حُوريب " (1ملوك 19: 7-8)؛ يسوع هو حقاً " خبز" حياة المؤمن. وفي هذا الصدد يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة " سرّ الإفخارستيا الأقدس يحتوي حقًّا وحقيقيًّا وجوهريًّا جسد ربنا يسوع المسيح ودمه مع نفسه وألوهيّته، ومن ثمّ، فهو يحتوي المسيح كلّه كاملاً". يكون المسيح الإله والإنسان حاضرًا كلّه كاملاً" (الفقرة 1374)؛ وهو الوحيد القادر على تحقيقِ رغبات قلبه وهو ينبوع فرحه، ونوره، لذا أوصى يسوع بالأكل من هذا الخبز "خُذوا كُلوا! إنَّ هذا الخبزَ هو جسدي للحياة الأَبدِيَّة" (متّى 36:26). ويعلق العلامة أوغسطينوس: "أنت المسيح الحياة الأبدية عينها، تهبها في جسدك ودمك فقط اللذين هما أنت". فلم تتردد القديسة الأُم تريزا دي كلكُتَّا أن توصي أخواتها الراهبات "يَجِبُ أَنْ تَدورَ حياتُنا حَوْلَ الإِفخارِستِيَّا. حَوِّلوا عيونَكُم صَوْبَه. هوَ النُّور. ضَعوا قلوبَكُم بِجانِبِ قلبِهِ الأَقدَسْ، أُطْلُبوا مِنهُ نِعمَةَ مَعرِفَتِه، والمَحَبَّةَ لِكي تُحِبُّوهُ، والشَّجاعَةَ لِكي تَخْدُموهُ، وٱبحَثوا عَنهُ بِشَوْقٍ كبيرٍ". (فكرة روحية) وهناك اتحاد وثيق بين الإيمان والمسيح خبز الحياة: "كُلُّ مَن يَحْيا ويُؤمِنُ بي لن يَموتَ أَبَداً" (يوحنا 11: 25). ويقوم هذا الإيمان في قبول كلام يسوع والعمل بموجبه، لأن "وصيته حياة أبدية " (يوحنا 12: 47-50). فالمؤمن هو من يصدّق ما لا يُصدّق، من يصدّق ما قاله يسوع. فكل من يؤمن به " انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة" (يوحنا 5: 24)، والمؤمن، بعماده في موت يسوع (رومة 6: 43)، وبقيامته معه إلى الحياة (رومة 6: 13) "يحيا منذ الآن لله في المسيح يسوع" (رومة 6: 10 -11). فيعرف معرفة حية الآب والابن الذي أرسله، وهذه هي الحياة الأبدية (يوحنا 17: 3). وتصبح حياته " مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ في الله" (قولسي 3: 3)، هذا الإله الحيّ الذي صار هيكله (2 قورنتس 6: 16) فيشترك هكذا في حياة الله التي كان فيما مضى غريباً عنها (أفسس 4: 18)، وبالتالي يشترك في طبيعته (2 بطرس 1: 4). فلم يُعد المؤمن خاضعاً بعد الآن لضغوط الجسد"، بل يحيا لا لنفسه، بل لِلَّذي ماتَ وقامَ مِن أَجْلِهِ" (2 قورنتس 5: 15)، ويستطيع مثل هذا الشخص أن يقول مع بولس الرسول "الحَياةُ عِندي هي المسيح" (فيلبي 1: 21). يسوع هو خبز الحياة ليس لأننا عرفنا وآمنا بل "آمَنَّا وعَرَفنا" (يوحنا 6: 69). لقد آمنا لكي نعرف؛ لأننا إن أردنا أن نعرف أولًا وعندئذ نؤمن، لن نستطيع أن نعرف ولا أن نؤمن. ماذا آمنا وعرفنا؟ أمنا بالمسيح " مَن آمَنَ فلَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 6: 47). فمن الآن، بقدر ما يشترك المسيحي المؤمن في موت المسيح ويحمل آلام، تظهر حياة يسوع حتى في جسده (2 قورنتس 4: 10). الأمر جعل بولس الرسول يرغب في الموت، كما صرّح " فلِي رَغبَةٌ في الرَّحيل لأَكونَ مع المسيح " (فيلبي 1: 23). فإن الحياة مع المسيح ممكنة بعد الموت مباشرة. ويستطيع الإنسان حينئذ أن يكون شبيهاً بالله وأن يراه كما هو (1 يوحنا 3، وجهاً لوجه (1 قورنتس 13: 12)، وفي هذه الرؤية يقوم جوهر الحياة الأبدية. غير أن هذه الحياة لن تحقق كمالها إلا يوم يشترك الجسد نفسه فيها، بعد قيامته وتمجيده، عندما يظهر المسيح الذي هو حياتنا (قولسي 3: 4)، " يكونَ اللّهُ كُلَّ شَيءٍ في كُلِّ شيَء " (1 قورنتس 15: 28). وعلى الكنيسة رسالة إبلاغ الشعب بجرأة بأمور هذه الحياة" (أعمال الرسل 5: 20): ذلك هو الاختبار الأول في فجر المسيحية. الخلاصة بعد سر عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-12)، وسر الولادة الجديدة بالروح لنيقوديمس (يوحنا 3: 21)، وسر الماء الحي مع السامرية (يوحنا 4: 42)، يدخلنا يوحنا الإنجيلي في سر الخبز الحياة. يسوع هو خبز الحياة، يسوع هو الخبز الحي، وهو الخبز الذي يُحيي. إنه الخبز الذي يُعطي ملء الحياة للذين يؤمنون به. فمن يؤمن به يشاركه في الحياة الأبدية. وبعد معجزة تكثير الخبز يطلب الناس يسوع بكل وسيلة، ويتبعونه إلى كل شاطئ. والمسيح يؤكد لهم أنهم لم يطلبوه إلا لأنه اشبعهم في خبزا وسمكا. فيطلب منهم يسوع أن يعملوا لأجل خبز الحياة، وان الوسيلة إلى هذا الخبز هو أن يؤمنوا به، على انه مرسل من الله. لكنهم، من اجل أن يؤمنوا، يشترطون على المسيح أن يأتيهم بآية من السماء، كآية المَنَّ في الصحراء. ولكي يدركوا الحق كشف يسوع لهم عن أعماق عمل الله مع آبائهم حين أعالهم في البرية أربعين عامًا بالمَنَّ النازل من السماء: ليس موسى بل الله هو الذي أعطاهم المَنَّ، ولم يكن المَنَّ هو الخبز الحقيقي إنما هو رمز له. والآن يقدِّم لهم الله الخبز الحقيقي الذي لا يُقارن به المَنَّ قط. إنه هو الخبز الحقيقي النازل من السماء. وبيّن لهم انه آية أعظم من المَنَّ فأعلن نفسه " َأنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً" (يوحنا 6: 35). يقدِّم يسوع نفسه " أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم"﴿ يوحنا 6: 51﴾. إنّ المسيح لم يقدم لنا طعاماً مادياً من أرغفة وسمك، لكنه قدَّم لنا جسده هو: "الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي" باعتباره الخبز الحي الذي نزل من السماء، الخبز الذي يهب حياة أبدية لكل من يأكله، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والمسيح هو كلمة الله المتجسد، المَنَّ السماوي الواهب حياة للعالم. خبز حياتنا، وطعامنا اليومي، الطعام الذي به "نحيا ونتحرك ونوجد". يسوع هو خبز الحياة اليوم. نحن نحيا منه اليوم، ونحيا ملء الحياة. فإذا عبَّرنا عن احتياجنا بالجوع ينبغي أن نأتي إليهِ بالإيمان فنجد فيهِ الشبع، وإذا شبهنا أنفسنا بالعطاش فينبغي أن نؤمن بهِ فيروينا إلى الأبد. انه الوعد الكبير بأنشاء سر الإفخارستيا، سر جسده ودمه ليلة العشاء الأخير، سر يمنح آكله الحياة والخلود. دعاء أيها الآب السماوي، نطلب إليك باسم ابنك يسوع المسيح، الخبز النازل من السماء، أن يهبنا إيمانا بكلمته وبجسده ودمه، فنُقبل لسماع كلمته والتأمل بها والتغذي بجسد ودمه في القربان الأقدس طلبا للحياة والخلود وفقا لوعدك "مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً" (يوحنا 6: 35). القصّة: القربان بيننا كان هناك مَلك له ولدان، وإذ لم يكن الولدان يعرفان من سيخلف والدهما على العرش، حدث تنافس في تقسيم الأملاك التي تحقّ لكلّ منهما. فلمّا علم والدهما بالخبر دعاهما إليه واستمع إلى الحديث عن سبب الخلاف. فأراد أن يحلّ المشكلة بينهما، فقال لابنه الأكبر هل تريد أملاكاً أم أموالاً؟ فأجاب: أريد الأملاك، فقال له والده: لك ما طلبت، ولكن لأخيك مقابلها من الأموال أنت تدفعها. نعم تنازعت السّماء والأرض على من سيأخذ المسيح شخصيّاً حصّة له؟ فأمر الله بحكمته أن يعود ابنه ليملك معه وأعطانا مقابله القربان ليبقى معنا، كما هو في السّماء. هذا هو جسديّ، هذا هو دمي! وجود المسيح تحت شكلي الخبز والخمر بيننا! هل نفهم ونقدّر هذه الأعجوبة العظيمة. الأب لويس حزبون - فلسطين |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|