أبونا الراهب سارافيم البرموسي -
في هذه الأيام نلتفّ حول المسيح في رحلته الأورشليّمية الأخيرة التي لن يعود بعدها إلى بحر الجليل ولن يرى بعدها طرق السامرة ولن يصعد إلى كفرناحوم ولن يترجّل مرتقيًّا جبل تابور الذي شهد قبس النور المتدفّق منه وسط غلالة من سحابٍ.
لن يداعب سنابل القمح بأنامله الرقيقة ولن يتأمّل في زنابق الحقل فيما بعد..
لن يشير لضوء القمر السني ولا للفحات الشمس اللاّهبة فيما بعد..
لن يحبس في قبضة يديه مجموعة من بذار الحنطة فيزرعها مَثَلاً في خيال من حوله، ولن ينحني ليكتب بأصبعه على أتربة العالم رسالة تبكيتٍ لمن ظنّوا أنفسهم أصحّاء فيما بعد..
لن يتنسّم هواء الصباح البكر نافثًا في العالم نسمات الألوهة، ولن يعتلي القارب المترنّح على صفحات المياه المذهّبة مُعَلِّمًا رفقته وقت الغروب فيما بعد..
لن يُبَلِّل وريقات الشجر المتطايرة بدموع ألمه على خليقته الرافضة الخلاص، ولن يمسّ بركبتيه المنحنيّة العشب الخفيض متضرعًا عن العالم المنحدر فيما بعد..
لن يجلس على صخور الجيل متأملاًّ، ولن يدلف إلى مغارات الجبال العميقة في ليالي الشتاء والمطر فيما بعد..
نلتف حول المسيح إذ أنّ تلك الرحلة هي رحلتنا نحن؛ فالمرض هو مرضنا، والألم قدرنا، والموت مصيرنا!
نلتف حوله لنرى مقدار الحبّ الذي كلّفه وهو ما يَعِنَّ لبشريٍّ أن يستوعبه..
نلفت حوله وسط الجماهير الصارخة بالأوصنّا، الطالبة الخلاص، المحتفيّة بمَقْدِم يسوع وسط أناشيد المزامير وأهازيج الاحتفال العازفة على نغمات جمهور التلاميذ البريء الذي عرف كيف يفك شفرة يسوع الناصري فيراه المسيّا المخلّص.. فنشاركهم الهتاف بالإفلوجيمينوس وتقديم الذوكصا لإلهنا وسط نغمات الهلّلويا..
نلتف حول ذاك الوديع والمتواضع وهو يمتطي الجحش الصغير صانعًا من حركته البطيئة والمتعثّرة موكبًا تحفه سعفات الاتضاع العظيم الذي لملكٍ عظيمٍ..
نلتف حول من ارتجَّت المدينة لِمَقْدَمه وهو لم يأت مُدَّجَجًا بالسلاح ولا مزوّدًا بالحرس الملكي ولا مُؤمَّنًا بحاميات عسكريّة، كما لم يمتطي صهوات الخيول العربيّة الأصيلة..
في عالمه من يقدر على امتطاء مطيّة الذات ترتج أمامه مدن العالم؛ فهو يهزّ أركان العظمة الزائفة بالعبور الرقيق المليء بالمعنى ويعلن مُلْكُه أنّه ملكوت الرقّة والعذوبة والوداعة -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- لا ملكوت الخوف والإرهاب والطغيان..
نلتف حوله وهو يبكي بوجعٍ ومرارةٍ وأنينٍ على تلك المدينة اللاّهية عن خلاصها النائمة في حضن أمانٍ زائفٍ، القانعة بسفك الدماء المُزْمَع أن يكون..
نلتف حوله وهو يستحضر من المستقبل صورة أعدائها وهم يحيطونها بالمتاريس الضخمة ويقذفونها بوابل من النيران، ويدكّونها أرضًا، ويذبحون بلا رحمة من فيها وسط صرخات الألم وحشرجات الاحتضار.. فنبكي على مدننا قبل أن تحيط بها ليل التجربة وينفث الشيطان لهبًا في بيوتّها القشّ فيحيلها رمادًا وسط قهقهات الانتصار..
نلفت حوله وقد بدأت مؤامرات الفريّسيّين المُبَكِّرة تُحاك، حينما صَرَّوا بأسنانهم من صرخات الحمد التي حملت موكبه على أمنيات الرجاء، والتي لم تخرج من قبل لتكريمهم وهم الذين يرتدون العصائب العريضة والأهداب الطويلة ذات الجلاجل، فالحناجر المقيّدة في مقطرة شبح الموت سنين طوال بالعبوديّة، لم تملك حريّة الغناء قبل رؤية موكب يسوع المُلْهِم بعالم آخر ليس فيه للمظهريّة مكانة ولا مكان..
نلتف حوله وهو يصرخ في رواق الهيكل مناديًّا في الزحام العابث أنّ بيت الآب بيتٌ للصلاة! وقد استحال مغارة يتقاسم فيها اللّصوص ربحهم الدنيء من تجارة ممسوحة بالدين ومشفوعة بالبركة التي تفرضها أجواء الهيكل وحاجات مرتاديه..
نلتف حوله في ليلته التي قضاها في بيت عنيا برفقة تلاميذه البسطاء وهم لا يعلمون بعد ما هم مُقْبِلُون عليه في غضون أيامٍ معدودات..
نلتف حوله في ليلته التي قضاها مُتَسَرْبِلاً بظلّ القمر الخافت ليلاً، والممتزج بتلألؤ النجمات القصيّة، وهو يناجي بصرخاتٍ لم تبدأ في الجسثيمانيّة بل تحّركت مُفرداتها في قلبه وهو في بيت عنيا، قائلاً: ها الكأس أمامي فإن كانت إرادتك عبورها أيّها الآب فليكن؛ فما لي شراب سوى من كأس مشيئتك..
فلنلتف حوله بقلوب تصنع من نبضاتها سعفات حبٍّ وتنشدها:
خلِّص أيّها الملك العظيم
قلوبًا مسّتها شوكات الأنين
ولتَعْبُر عليها بمطيّتك في وداعةٍ
وتغرس فيها نبتات الاتّضاع
لتصر لك عرشًا،
وتملك عليها دونما نهاية..
أمين.
مبارك الآتي باسم الربّ
خلِّص يا ابن داود
خلِّص يا ملك إسرائيل
هللويا
المجد لإلهنا..