شكّلت شهادة الدّم أساس البنيان في الكنيسة
في مطلع تاريخ الكنيسة، كانت شهادة الدّم، ثمّ بعد ذلك، بدءًا من أوائل القرن الرّابع الميلاديّ، شهادة الدّم البيضاء، بانطلاق الحياة الرّهبانيّة، نسكًا وتنظيمًا. الحياة الرّهبانيّة هي امتداد سيرة الشّهادة في الكنيسة الأولى. لم يَخْبُ الوعي في الوجدان أنّ الشّهادة عماد الكنيسة وضامنة استمرارها. لذا بمرسوم ميلانو (312)، الّذي شرّع فيه القدّيس قسطنطين الملك، بخاصّة، وجود الكنيسة، بدأت حقبة جديدة في تاريخها. تدفّق عليها المهتدون ناقلين معهم عاداتهم وأفكارهم، ما هدّد بتمييع روح الشّهادة فيها. هذا أدّى إلى بروز الرّهبانيّة ونمائها، صونًا لروح الشّهادة واستمرارها. ثمّ الرّهبانيّة قادت الكنيسة، وبها انحفظ وجدان الرّسل والشّهداء الأوائل. النّسك، من ناحية، أمّن الاستمرار في الانقطاع عن روح العالم، والفقر والعفّة والطّاعة حفظت الارتباط الأخيري، الإسخاتولوجيّ، للشّهداء البيض الجدد بالملكوت. قول كهذا القول: ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية، استمرّ يتحقّق في سيرة الرّهبان الشّركويّة والنّسكيّة. كلّ هذا عنى أنّ استقامة الرّهبانيّة، روحًا وممارسة، باتت ضرورة، وبات ضروريًّا أن يكون الرّهبان معلِّمي الكنيسة، الرّوحيّين، وأن تكون عامّة المؤمنين متتلمذة على الرّهبان. ذبول الرّهبانيّة من ناحية، وغرق العامّة في روح العالم، من ناحية أخرى، أدّى إلى الاختلال في ميزان الوجدان الكنسيّ، وشكّل على الكنيسة خطرًا مداهمًا حتّم، إمّا انبعاث نهضة رهبانيّة، وإمّا مكابدة الكنيسة حملات اضطهاد، وسريان شهادة الدّم فيها من جديد، لتستمرّ. فلا غرو إن كان تعرّض الكنيسة لشهادة الدّم قد أدّى، أبدًا، إلى ازدهارها، كما كان كلّ اضطهاد للرّهبانيّة مسعًى، أبدًا، لضرب الكنيسة!.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي ، دوما – لبنان