|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
افتقاد أصحابه الثلاثة له "فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ أَيُّوبَ الثَّلاَثَةُ بِكُلِّ الشَّرِّ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ، جَاءُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَكَانِهِ: أَلِيفَازُ التَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ الشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ النَّعْمَاتِيُّ، وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَأْتُوا لِيَرْثُوا لَهُ وَيُعَزُّوهُ" [11]. ذكر هنا أسماء أصدقائه الثلاثة الذين جاءوا يرثون له ويعزونه. ربما كان حاضرًا معهم الشاب أليهو، وقد استمع إلى المناقشات، ويبدو أنه لم يكن صديقًا لأيوب لأنه كان يصغره جدًا في السن، لكنه حضر كمستمعٍ. ربما كان يحب مجالسة الشيوخ، ولعل منظر أيوب في مأساته قد جذبه، فاشتاق أن يقدم له خدمةً ما أو كلمة تعزية. أما الأصدقاء الثلاثة فكانوا متقدمين في السن، بل كانوا شيوخًا، اشتهروا بالمعرفة والحكمة والصلاح، وكان لهم تقديرهم وكانت آراؤهم تُقابل بالاحترام (أي 32: 6). ربما كانوا يحتلون مراكز رفيعة في الدولة، كأمراء أو رؤساء. ربما كانوا أقرباء له، إذ كان الثلاثة أحفاد إبراهيم، غالبًا ما ورثوا عنه بعض التعاليم والثمار الصالحة. فأليفاز التيماني ملك التيمن كان ابن تيمان حفيد عيسو (تك 36: 11). يرى البعض أن أليفاز هنا ليس الابن الأكبر لعيسو بل حفيده الذي دُعي على اسمه. وكان بلدد الشوحي ابن شوح الذي ولدته قطورة لإبراهيم (تك 25: 2). وصوفر النعماتي على ما يُظن هو صفوا حفيد عيسو (تك 36: 11). كان ثلاثتهم من الأمم، حملوا بعض الجوانب الطيبة، منها أنهم دون غيرهم من غالبية الأصدقاء لم يتركوا أيوب في محنته، بل صاروا يشاطرونه أحزانه كما شاطروه قبلًا في مسراته. جاءوا ليس حبًا في الاستطلاع، ولا بدعوة من أحدٍ، إنما اتفقوا معًا في عمل الخير. كانوا مخلصين في رغبتهم في التعزية، وإن اتضح أنهم كانوا معزين متعبين بسبب عدم حكمتهم في معالجة الأمر. لم نسمع عن المساكين والمحتاجين الذين يعولهم، ولا الأيتام والأرامل الذين كان يهتم بهم، قد جاء واحد منهم يسأل عنه في محنته. لعلهم سمعوا بالنكبات المتوالية فسقطوا فيما سقط فيه هؤلاء الأصدقاء الثلاثة، وحسبوا أنه كان شريرٌا أخفى شره بالعطايا الظاهرة والاهتمام المظهري. عدم حضور أحدهم بلا شك كان له أثره السيئ على نفسية أيوب، إذ حسبهم قد تعثروا في شخصه. "وَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ مِنْ بَعِيدٍ وَلَمْ يَعْرِفُوه، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَبَكُوا، وَمَزَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ جُبَّتَهُ، وَذَرُّوا تُرَابًا فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ نَحْوَ السَّمَاءِ" [12]. كثيرًا ما يفسد الحزن والمرارة شكل الإنسان حتى أن أصدقاءه الشيوخ لم يعرفوه، لأن قروحه شوهت جسمه، ومرارة نفسه نزعت عنه بشاشته. هذا ما حدث مع نعمى حين أفسد الحزن هيئتها، فعندما عادت إلى بلدها تساءل أهل المدينة: "أهذه نعمى؟" (را 1: 19). لم يتمالك الشيوخ أنفسهم، فرفعوا أصواتهم كالأطفال وبكوا، كما مزق كل واحدٍ جبته، وذروا ترابًا على رؤوسهم. وجلسوا معه على الأرض. وكأنهم شاركوه مذلته. لم يلتقوا معه على مستوى المجاملات الرسمية، إنما كأحباء يشاركونه مرارة نفسه. كشركاء في الضيقة القاسية لم يستطيعوا أن يفتحوا فمهم لمدة سبعة أيام وسبع ليالٍ، صمتوا وهم في دهشة. جاء في المثل اللاتيني: "أحزاننا الخفيفة تتكلم، أما الثقيلة فتعقد اللسان". تحاشوا في البداية الكلام لئلا يثقلوا عليه التجربة، وربما لأنهم أرادوا التأني حتى يبحث كل منهم هذا اللغز المحيّر، فإنهم يدركون أعمال محبته العظيمة التي كان الكل يشهد لها، لكن هل من خطية خفية سببت له كل هذه الكوارث؟ هل يود الله أن يكشف له عما أخفاه في قلبه وفكره أو من أعمال لا يعرفها أحد؟ * لم يعرفه أصحاب أيوب، إذ لم يروا الثوب الأرجواني ولا العرش المرتفع، ولا التاج الملوكي والجند في الخدمة، ولا العبيد في أعمالهم. عوض العرش كان له الأرض القاسية، المزبلة عوض السرير، وعوض البيت الهواء الطلق. الأب هيسيخيوس الأورشليمي "وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى الأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ، لأَنَّهُمْ رَأُوا أَنَّ كَآبَتَهُ كَانَتْ عَظِيمَةً جِدًّا" [13]. لقد تواعدوا أن يأتوا ويلتقوا معُا عند أيوب، لكن ما يدهشنا أنهم بقوا صامتين سبعة أيام وسبع ليالٍ دون أن ينطقوا بكلمة، وعندما تكلموا هاجموه بعنفٍ شديدٍ، كما برأيٍ واحدٍ. اظهروا في البداية حزنًا مُبالغ فيه، تبعه خصومة ومناقشات مرة وسط آلامه. أي حب هذا دفعهم للاتفاق معًا والجلوس حوله وسط رائحة النتانة التي لا تُحتمل ولمدة أسبوع كامل؟ ولماذا التغير المفاجئ، على النقيض تمامًا؟ تُرى هل كانوا صادقين في محبتهم له، لكنهم قدموا حبًا بلا تمييز؟ أم كانت النية شريرة مخفية تحت ستار الحزن الشديد، فانفجر ما في داخلهم؟ يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن هؤلاء الأصدقاء يرمزون إلى الهراطقة الذين يظهرون في البداية حنوًا زائدًا، ومع صدق نيتهم للعمل إلا أنه ينقصهم روح التمييز. لهذا يقول لهم أيوب: "أما أنتم فملفقو كذبٍ، أطباء بطالون كلكم" (أي 3:13-4). لقد جاءوا كل واحدٍ من مكانه (11:2)، ومكان الهراطقة هو الكبرياء نفسه. جاءوا على موعد في اتفاق تحت ستار الحب والصداقة. هكذا كثيرًا ما يتفق الهراطقة معًا على كنيسة الله، ويحملون مظهر الصداقة والخدمة والسلوك بالفضيلة. أخيرًا فقد طلب الله منهم أن يسألوا أيوب أن يصلي عنهم، ويُقدم ذبيحة لأجلهم، هكذا لا تكف الكنيسة عن أن تصلي من أجل الهراطقة كي يتحولوا عن المقاومة، ويستردوا عضويتهم الكنسية، ويتمتعوا بالحياة الكنسية السماوية. * كل هذه الإيماءات حسنة ولائقة بأصدقاء يكشفون عن تعاطفهم معه، لكن ما جاء بعد ذلك كان على النقيض. لم يكن من نفس النوع، بل على النقيض تمامًا ورديئًا. انظروا ماذا حدث. إنه لأمر لا يُصدق، تحدثوا كخصومٍ حاقدين. * عندما تمتلئ النفس بالقنوط للحال لا تميل إلى سماع شيءٍ مما يقال. لهذا عندما جاء أصدقاء أيوب ورأوا كارثة بيته، والبار جالسًا في الحمأة، وقد تغطى بالقروح، مزقوا ثيابهم وتنهدوا، وجلسوا بجواره في صمتٍ، مظهرين إنه ليس ما يليق تقديمه بالمتألم هكذا سوى الهدوء والسكون. إذ كانت التجربة أعظم بكثير من أن يكون لها تعزية(145). القديس يوحنا الذهبي الفم |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|