كما استخدم السيد المسيح الأمثال لشرح طبيعة الملكوت. يشرح هنا الكاتب الملهم بالروح القدس منظرًا سماويًا وأحاديث دارت بين الله والشيطان في وجود الملائكة. ومثل هذا المنظر لم يراه إنسان ولا يمكن أن يتخيله إنسان، فالسماء فيها ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان. ولكن هذا المنظر التصويري أن الملائكة تجتمع في حضرة الله يتلقون أوامرهم منه ثم يأتون ليقدموا تقريرًا عما فعلوه، ويأتي الشيطان المشتكي وسطهم ليشتكي على البشر هو تصوير بلغة البشر على قدر ما نفهم، وهكذا نجد بولس الرسول يعيد رسم نفس المنظر في (رو 33:8، 34) وهناك بعض الملاحظات على هذه الآية:-
1. كان الشيطان طليقًا قبل مجيء السيد المسيح، ولما تجسد الرب متأنسًا... ربط إبليس وقيده (رؤ 1:20-3). وتقييده معناه أنه لا يستطيع أن يجرب الناس على هواه بل هو الآن مثل كلب مربوط بسلسلة فلا يستطيع أن يعض إلا من يدنو منه، هو قد يعوي نابحًا، ويرهب مفزعًا الناس لكنه لا يقدر أن يعض إلا من يقترب إليه.
2. لقد تحدى إبليس الله وصار عدوًا له، بل وصار كل إنسان يتقى الله عدوًا لإبليس، يحارب عبادته وخضوعه لله.
3. كان الشيطان في بادئ خلقته كاروبًا مظللًا منبسطًا يحيط بالعرش الإلهي. لقبه الوحي الإلهي زهرة بنت الصبح قبل معصيته. وزهرة بنت الصبح هو كوكب منير يظهر في الصباح وهو ألمع الأجرام السماوية ويسمى فينوس وباللاتينية لوسيفر ولقد سقط الشيطان من هذه الرتبة اللامعة بعد أن كان ممتلئًا من الحكمة فدخله الغرور وبدلًا أن يمجد الله افتخر بنفسه. وبسقوطه تحول من كاروب للمجد إلى شيطان هالك. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). وكلمة شيطان من شطن إيل ومعناها خصم أو مقاوم أو ضد الله. وسمي باليونانية ذيافلوس διάβολος ومعناها مشتكي زورًا أو ثالب ونقلت بالعربية إبليس وهو المفترى ظلمًا. ومن أسمائه أيضًا التنين أو الحية القديمة لقوته ودهائه في الحرب وهو يشتكي على البشر دائمًا، يكتشف نقاط ضعفهم ويغريهم بالوقوع وإن وقعوا يشتكي عليهم، بل هو أيضًا يشتكي الله في أسماعنا بأن الله قاسى لا يحب الإنسان ومع أي تجربة يقع فيها الإنسان يأتي إبليس ليشتكي الله في آذاننا فإن صدق الإنسان شكوى إبليس وردد معه "لماذا لا يحبني الله ويوقعني في هذا الألم" هنا يذهب الشيطان ليشتكي الإنسان لله بأنه جدف وهذا ما حاوله إبليس مع أيوب.
4. نرى في التصوير السابق أن الله هو ضابط الكل والشيطان ليس مطلق الحرية في التصرف بل إن حياتنا يتم تدبير أمورها في السماء... فلماذا نخاف؟ بل لماذا نتساءل عن مصدر أي ألم يقع علينا هل هو من الله أو هل هو من إبليس. وعلينا أن نردد مع أيوب أألشر من الرب لا نقبل؟ فالله هو ضابط الكل وكل ما يحدث هو بسماح منه وتحت سيطرته، بل أن الله في أول مرة سمح لإبليس أن يجرب أيوب في كل شيء ولكن لا يمس جلده وجسمه. وفي المرة الثانية سمح بهذا على أن لا يمس حياته أي لا يموت. فنفهم أن سلطان إبليس محدود وفي حدود ما يسمح به الله. وما يسمح به الله هو لخير الإنسان فالله يحب الإنسان رو 28:8.
5. هذا المنظر السماوي:- الله وحوله ملائكته والشيطان في وسطهم يتكرر في الكنيسة على الأرض فكلما يكون هناك تجمع لأولاد الله يدخل إبليس في وسطهم ليزرع الشك والكراهية بينهم. فلنحذر.... فالشيطان جرب المسيح نفسه.
6. قبل أن يحدثنا الكتاب عن كيف فاجأت الآلام أيوب، وحلت به في هذا العالم المنظور، حدثنا عن كيف تم تدبير الأمور في السماء في عالم الأرواح، لأن الشيطان الذي كانت بينه وبين أيوب عداوة شديدة بسبب تقواه إلتمس الإذن ليعذبه من الله، فإن كان الله هو الذي يسمح فنحن إذن في يدي الله فلماذا الخوف. حقا الشيطان هو قوة معادية للإنسان ومؤثرة في حياته وهي أرواح لا تكف عن الحرب ضد البشر (أف6: 12). ولكن:- * الله ضابط الكل يحدد له الحدود التي يتحرك فيها، ويتحرك تحت سيطرة الله وبسماح منه. ويخرج من الآلام التي يتسبب الشيطان في أن تلحق بنا ما هو خير لخلاص نفوسنا. وهذا ما حدث لأيوب هنا. فالله "يخرج من الجافي حلاوة"، و"كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله". * وهناك أيضًا قوَى أخرى غير مرئية تساندنا وهم الملائكة "أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب1: 14). فإبراهيم أضاف ملائكة وهو لا يعلم (عب13: 2).
7. اعترض البعض كيف يكون للشيطان القدرة أن يصل إلى حيث العظمة الإلهية ومقر الملائكة الأطهار؟ والرد أن الله ليس محصورًا في مكان (راجع أر 24:23، أش 1:66 +1مل 27:8 + أش 15:57 + مز 1:139-12) فالله موجود في كل مكان ومثول الملائكة والشيطان أمام الله هو تنازل العزة الإلهية وتجليها أمام خليقته سواء البارة أو الأثيمة لكي يكشف مقاصده. ولكن يجب أن نفهم أن هناك فرق فالملائكة تعاين مجد الله وتفرح وتبتهج وتسبح، أما إبليس فيرى عدل الله وحكمه ضده فيقشعر ويزداد هيجانًا على أولاد الله، إبليس إذا جاء وسط الملائكة لا يرى مجد الله بل يرى وجه الله الغاضب الذي يدينه.