12 - 05 - 2021, 01:17 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
من أفراح الأرض الى أفراح السماء
انتهى أبو عيسى من آخر زبون .. وجلس يستريح .. كانت الساعة التاسعة مساءًا في ليلة باردة، جلس أمام المدفأه ونظر إلى الخارج.. كانت الدنيا مظلمة فقد أقفلت كل المحلات أبوابها ولم يبقَ إلا محله، امتدت يده بجانب المدفأة يدفئها وتناول سيجارة وأخذ يدخنها في هدوء .. وهو شارد.. أبو عيسى رجل صاحب مزاج ولا يفعل إلا ما يحب أن يفعله فهو يدير محل للقطع القديمة وهو متفوق في مهنته ويحبها. ويربح منها الكثير إذ يتوافد الكثير من السائحين الذين لا يخرجون من البلد إلا ومعهم الكثير والكثير من التذكارات الجميلة. كان يشعر أن مهنته هذه مهنة فنان وكان بداخله فنان. فنان فيه كل أخلاقيات ومشاعر الفنان لذلك لكي يجيد مهنته. فهو لم يكن مجرد تاجر .. بل مصمم لتلك التحف ولديه ورشة صغيرة لعمل المنتجات التي يبيعها لم يكتف بالتدريب والتعليم على يد فنان آخر ولكنه انتظم في دورة تدريبية في إيطاليا وهناك مكث ثلاثةشهور يتدرب مع رجال آخرين ومن فرط شغفه بهذه المهنة تفوق على الجميع ليحصل على شهادة المركز الأول, ليس هذا فقط ما يمتلكه أبو عيسى من موهبة ولكنه أيضًا يمتلك صوت جبلي جميل قوي و رنان.. وهو يعرف إمكانيات صوته جيدًا. فيغني في كل فرصة حتى أنه احترف الغناء وعندما يذهب إلى أي حفل. يجلجل بصوته الأشبه بصوت وديع الصافي فيشدو بتلك الألحان الجبلية التي يتسم بها الفنان وديع وأيضًا الألحان التراثية التي تعبر عن بلده العريق القدس. إذا دخلت إلى حانوته سوف تجد أدوات الموسيقى موجودة من عود وقيثارة ومكبر صوت وأجهزة تسجيل فهو محل للأنتيكات وورشة فنية وأستديو في نفس الوقت.و تجده في الأوقات التي يخلو فيها دكانه من الزبائن يخلوا إلى نفسه ويمسك بالعود ويدير جهاز التسجيل ويعلو صوته في صالونه المتواجد في ممر مليء بالمحلات الأخرى التي تبيع الملابس وإكسسوارات السيدات بل والكتب أيضًا..وسرعان ما يقف على بابه جمهور غفير يستمتع بأغانيه..و لا يوقفه إلا شخص يدخل إلى المحل ويبدأ تفحص المعروضات القديمة ويحاول أن يجذب أبو عيسى لكي يتحاور معه عندئذ يترك أبو عيسى عوده ويستعد لإبراز موهبته الفنية الأخرى مع ذلك الزبون. وليس محل أبو عيسى للمعروضات الفنية فقط و أستديو فقط ولكنه حانة أيضًا.. إذ أحب أبو عيسى المشروب كثيرًا.. بل وأدمنه وفي نهاية اليوم إن لم يدعَ إلى حفلة أو ما شابه لا يخرج من محله إلا وقد شرب من الخمور ما يجعله ينسى كل مَن حوله وما حوله. ويترنح في مكانه ثم يذهب إلى منزله شبه فاقدًا لأغلب الرزق الذي كسبه في ذلك اليوم فكان مصدر بؤس و شقاء لعائلته التي من المفروض أن عائلها لديه كل إمكانيات التفوق والثراء بسبب مواهبه التي تدر له مالًا كثيرًا ولكنه ينفق كل ما يكسب ببساطه ويرجع إليهم سكرانًا. في ذلك المساء لم يكن أبو عيسى مدعوًا لأي حفل .. وكانت الدنيا تمطر مطرًا غزيرًا في الخارج فلم يكن من المتوقع أن يدخل أي زبون في هذا الوقت الصعب.. انتهى من سيجارته وذهب إلى الحانة فأخرج زجاجة من مشروبه المفضل وعلبة من سمك المعلّب ليفتح العلبة ويجهز وجبة عشاء خفيفة ويعد المائدة التي تحتوي على ما يشتهي. ثم يدير جهاز التلفزيون الموصل بالأقمار الصناعية ليكمل مزاجه..ويوجه أبو عيسى الطبق على القمر الأوربي باحثًا عن اللذة والمتعة في فيلم إباحي وان كان لا يفهم ما يقولون ولكن يكفيه المناظر المثيرة التي تشعره بأن ليلته اكتملت ويستغرق وقتًا في البحث عن محطة تشده..ولكن في هذه الليلة بالذات لم يصل إلى بغيته إذ فجأة أوقفته محطة غريبة ليس لأن فيها ما ينشده ولكن لأنها تتحدث بالعربية على غير المعتاد.وقف ينظر إلى تلك المحطة محاولًا استكشافها فما هي هذه المحطة التي تنطق بالعربية وتبث داخل المجموعة الأوربية .. وما شده أكثر إلى هذه المحطة الفضائية إنه وجد شكل آلة العود الموسيقية على مقدمة برنامج عنوانه (فاترينة) وشخص يعزف ولأن الموسيقى دائمًا هي موضوع اهتمام أبو عيسى لذلك أسرع ليأتي بشريط فيديو ليسجل المادة التي ستذاع وجلس مسرعًا أمام طاولة الطعام ليشاهد البرنامج. مع وجبته اللذيذة وشرابه المفضل… *** كان الحوار محوره عن ذلك التغيير الذي حدث لذلك الشاب.. أمسك أبو عيسى زجاجة الشراب يجترع منها ما طاب له وهو يستمع إلى الشاب الذي عرّف نفسه قائلًا: إنه ماهر فايز.. الذي كان يحكي قصته .. قصته؟ .. قصة من ؟ هل هي قصة أبو عيسى أم قصة ماهر فايز .. لم يعلم .. لقد كان ماهر يحكي عن شاب مليء بالمواهب ..ولكنه مدمن كل أنواع الإدمان الموجودة من كحوليات ومخدرات !! أخذ أبو عيسى ينظر إلى الزجاجة التي أمامه وهو يستمع إلى ماهر فايز صاحب الصوت الجميل والموهبة الموسيقية الرائعة ويعود لينظر إلى الآلة الموسيقية الموجودة داخل صالونه وصوره المعلقة وهو يغني في الملاهي الليلية وسط تصفيق الناس ونشوتهم بصوته ومن جديد يستمع إلى ماهر وهو يحكي عن شعوره بالضياع والألم والتيه في ذلك العالم الصعب.ولأول مرة يفكر أبو عيسى في نفسه ويتساءل
– هل أنا راضٍ عن نفسي عن معيشتي عن أسلوبي في الحياة؟
سؤال لم يفكر فيه من قبل شرب كأسًا أخرى وأشعل سيجارة ووضعها في يده وهو يتذكر زوجته وأولاده ومعاناتهم للحصول منه على النقود ويرجع لينظر إلى زجاجته الفخمة الباهظة الثمن التي يمتلك أكثر من واحدة في صالونه غير ما يتجرعه يوميًا في الحانات والملاهي حيث يعمل . ليكتشف أنه هو أيضًا ضائع إذ يفعل هذه الأمور دون أن يعرف لماذا؟ .. فقط لأن في يده نقود أو لأنه يحب هذا الأمر حتى سيطر على كيانه.
يتساءل ماهر فايز في كلامه عن ماضيه ويقول .. لم أكن أعرف لماذا أعيش؟ لم يوجد معنى أو هدف في حياتي ؟ وبدوره يفكر أبو عيسى في حياته ويتساءل .لماذا يعيش؟؟ سؤال لم يفكر فيه من قبل وفوجئ إنه لم يعرف الإجابة, فلم يكن أولاده وزوجته ضمن اهتمامه بل كان دكانه وفنه مصدري متعة له ولكن إلى أين يتجه وماذا يريد؟ .. لا يعرف …
تجرّع أبو عيسى ما تبقى من زجاجته و غاب متأملًا في ماضيه كثيرًا حتى إنه لم يكمل البرنامج فقد تحول البرنامج إلى شخصين يتحدثان دون أن يعرف ماذا يقولان لقد غاص في أعماق نفسه ليكتشف إنه لم يحقق شيئًا يذكر وشعر بالحزن و الحسرة الشديدة, وصلت نيران السيجارة إلى أصابعه لينتفض بسرعة و يكتشف إنها احترقت دون أن يدخنها أو يستمتع بها لقد احترقت بلا هدف ألقاها عنه وقال في أسى بالغ:
– ليست السيجارة وحدها التي تحترق بلا هدف بل حياتي كلها تحترق بلا هدف.
أعادته السيجارة إلى حالته و اكتشف إنه نسي أن يأكل فقط تجرع زجاجة كاملة من المشروب الكحولي ومعدته لا زالت خاوية مما أثقل رأسه. نهض ليغلق التلفزيون ليجد البرنامج يعلن عن قرب انتهائه فيقرأ عبارة تقول للرد على أي استفسار يمكنك الاتصال بأرقام التليفونات التالية, أمسك بورقة وقلم وبصعوبة شديدة كتب رقم التليفون الخاص بدولة فلسطين وأغلق التلفزيون وجلس وقد صعبت عليه الرؤية مما شربه.. ولكن بعد لحظات أدار الرقم ليجد على الخط مع شخص يقول له:”خدمة المشورة المسيحية معك .. بماذا يمكن أن أخدمك ”
وبكلمات متعثرة تائهة قال له:
– أريد أن أتكلم معك هل تسمح لي بموعد ؟
– بالتأكيد .. هل تعرف عنواننا ؟
– لا.
– إذن اكتب هذا العنوان! وأنتظرك غدا في الساعة التاسعة والنصف صباحاً اتفقنا.
– مَن الشخص الذي أسأل عنه؟
– اسأل على وسيم وأنا سأكون في انتظارك.
أغلق أبو عيسى التليفون ووضع العنوان في جيبه وأغلق دكانه ليكمل سهرته في الملهى الذي تعود أن يسهر فيه وكان المطر يهطل بغزارة استقل سيارة أجرة وذهب ليقضي سهرته وفي ساعة متأخرة جدًا من الليل رجع إلى بيته لا يرى أي شيء حوله من فرط الدخان والمشروب ليرتمي على سريره دون أن يغير ملابسه ويذهب في سبات عميق.
*** في الصباح لم تكن آثار الخمر قد فارقته بعد, أخذ يعبث في جيبه باحثًا عن علبة سجائر فوجد تلك الورقة الصغيرة التي كتبها بالأمس فتذكر البرنامج الذي شاهده وتذكر ميعاده فقام من مقعده ونزل إلى الشارع يستقل سيارة أجرة و يعطيه العنوان الذي ذكره المدعو وسيم فتصل السيارة إلى مكان ما. تجول أبو عيسى بنظره تارة إلى المكان وأخرى إلى السائق وقال:
– هل هذا هو المكان؟
– أجل يا سيدي!
– هذه كنيسة.
– ألم تكن تعرف؟
لم يعلق أبو عيسى على عبارة السائق الساخرة ولكنه نزل واتجه إلى الكنيسة قائلًا في نفسه يبدو إن وسيم هو الخوري .. دخل إلى الكنيسة وسأل عن “الأب وسيم” .. وجلس ينتظر.
*** – وسيم .. هناك شخص اسمه أبو عيسى ينتظرك في قاعة الانتظار.
– ها أنا قادم .. إنني أنتظره.
ويتجه وسيم إلى قاعة الانتظار .. ومن بعيد شاهد الشخص الذي ينتظره.في الواقع لم يكن يتخيله بهذه الصورة ولكنه توجه إليه وقدم له يده مسلمًا وقال:
– السيد أبو عيسى .. أليس كذلك؟
– أجل .. هل أنت الأب وسيم؟
– نعم .. أهلًا وسهلًا بك .. تفضل بالجلوس هل تشرب شيئًا؟
– كلا شكرًا.
وظل كلاهما ينظران كلٌ إلى الآخر, وأيضًا لم يتخيل أبو عيسى أن يكون وسيم بهذا الشكل فقد تخيله خوريًا يلبس لباسًا كهنوتيًا نظرًا لكونه أب في كنيسة ولكنه على أي حال ارتاح إليه كثيرًا, وجهه المضيء وعيونه اللامعة الباعثة للطمأنينة وتشعر الشخص الذي أمامه في كونه يمتلك حلولًا لما جاء لأجله .. لقد شعر معه بالثقة وبالمقابل وجد وسيم أمامه شخصًا يشعر بالغرق .. أمله ضائع وعيونه منطفئة حزينة.. لديه شعور قاتل باليأس … بعد دقائق قليلة بدأ وسيم بالكلام:
– عزيزي أبو عيسى: كيف يمكنني أن أخدمك؟
– بالأمس كنت أشاهد برنامج في التلفزيون.اسمه فاترينة.
– أجل .. كان بالأمس الضيف هو ماهر فايز.
– أنا أريد أن أعرف كيف عرف ماهر هذا حكايتي؟ كيف استطاع أن يصل إلى ما أفعل؟ كيف تمكن من تعريتي أمام نفسي بهذا الشكل؟
اقترب وسيم من أبو عيسى وبسرعة استطاع أن يستنشق رائحة المشروب الكحولي المنبعثة منه فتفرس فيه لكي يتأكد أنه مستيقظ .. ثم قال له:
– على مهلك على مهلك يا أبا عيسى, أريد أن أفهم وتفهم أنت. لقد كان ماهر فايز يحكي قصته هو.
نظر إليه أبو عيسى وبعصبية ظاهرة قال:
– بل كان يحكي قصتي أنا .. أنا هو ذلك الشخص الذي يغني ويشرب ويسكر ولا هدف له! حياة ضائعة ليس لها قيمة! هل تفهمني؟
– وهل وجدت لحياتك قيمة مثلما فعل ماهر فايز؟
صرخ أبو عيسى
– كلا! ولكني أريد أن أعرف كيف؟ أريد الطريقة التي فيها أكتشف المعنى لحياتي, لماذا أعيش؟ لست أدري! أريد أن أكتشف كل هذا!
– إذا أنت قصتك مشابهة لقصة ماهر فايز وتريد أن تصل إلى ما وصل إليه ماهر فايز؟
– هل تساعدني ؟
كانت عبارته فيها من الرجاء والأمل كما لو كان وسيم يمتلك طوق نجاة يريه لشخص أشرف على الغرق فأجابه وسيم:
– عزيزي, مهمتي الوحيدة هي أن أريك الطريق ولكن بقرارك و اختيارك تقرر وحدك أن تسلكه أم لا؟
– سأسلكه!
– أول كل شيء أحب أن أقول يوجد شخص واحد هو الذي يدلك على الطريق!!
– من هو؟
– المسيح .. عيسى .. من أعطيت اسمه لابنك ونحن نسميه يسوع
– المسيح ؟ .. كيف .. أنه نبي عظيم .. جاء لهداية البشر وتعريفهم بالله
– فقط؟ .. كل ما قلت صحيح .. لكن المسيح قال .. جئت لأعطيهم حياة .. ليس فقط يعطي تعاليم جديدة .. ولكنه جاء يعطي حياة جديدة .. خليقة جديدة, فيها تعرف هدفها وغايتها .. هو القادر على تغيير الحياة لأنه يغير من الداخل هل أنا واضح؟
– ليس كثيرًا, هل ماهر فايز تغير بأنه عرف المسيح؟
– ليس عرف معلومات عن المسيح ولكن وضع ثقته بالكامل في المسيح الذي جاء من السماء ليحدث هذا التغيير في الإنسان فقد قال: “أتيت لتكون لهم حياة وليكن لهم أفضل”.وإنجيل يوحنا يقول للذين يقبلون عمل المسيح” وأما كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه” هل تؤمن بكل هذا؟
لم يجب أبو عيسى ولكنه لأول مرة يبتسم ثم قال لوسيم:
– هل لي في بعض القهوة حتى أستيقظ أكثر؟
ضحك وسيم ونادى:
– بالتأكيد … وليد .. يا وليد .. قهوة لضيفنا العزيز .. فالجلسة ستطول.
*** وبالتأكيد طالت الجلسة امتدت ساعتين وربع .. يفتح وسيم الكتاب المقدس وأيضا القرآن ليكتشف أبو عيسى هوية المسيح الحقيقية ليكتشف أن المسيح جاء لفداء البشرية وليس لمجرد إجراء معجزات وتعليم قوانين لقد جاء ليسدد عدل الله من خلال موته نيابة عن البشر وجاء ليعطي البشر حياة فقام من الموت منتصرًا ووعده العظيم إنه سيصعد إلى السماء ولكنه بروحه القدوس سيمكث داخل كل إنسان وضع ثقته فيه, ذلك الروح المعزي المطمئن المغير لكل الحياة, و يضع الهدف داخل الإنسان ويضع المعنى, كل هذا عرفه أبو عيسى لينتهي الحوار بهذه الكلمات.
– أريد أن أتغير, لكن أيضا أريدك ألا تتركني لوحدي, أبغي أيضًا أن أتعلم كل شيء.
– لا تخف يا عزيزي لن أتركك, سأعلمك كل ما تريد أن تعرف ولكن لابد من الخطوة الأولى.
نظر أبو عيسى بتساؤل وسأل:
– ما هي؟
– هل تصلي إليه؟ هو أيضًا يريدك .. هل تصلي وتعلن تصديقك لكلمته.. وعدم تمردك على عمله و تطلب منه التغيير؟!!
– أجل أصلي!
وانحنى وسيم ومعه أبو عيسى ورائحة المشروب لم تمنع أبو عيسى من أن يرفع كلمات إلى الله يعلن عن ثقته فيما فعله يسوع لأجله, ويطلب منه أن يسكن داخله روح الله المغير المعزي. لقد وضع ثقته في الإله العظيم الذي افتقد البشر وسعى لكي ينقذهم من مرارة الخطية. وعندما انتهى من الصلاة أخذ يبكي كالأطفال فترة بينما وسيم يرفع صلوات شكر لله لأجل ذلك الإنسان الذي كان ميتًا فعاش وكان ضالًا فوجد, ثم تركه حتى أفرغ كل ما في جعبته من مشاعر.
*** لم تعد عينا أبي عيسى منكسرة, أصابتها العدوى وصارت تلمع بالأمل, بعد أن انتهى أبو عيسى من بكائه, ابتسم له وسيم وقال له:
– خذ هذا الكتاب المقدس وهذه المجموعة من الكتيبات, إنها كتيبات لمتابعة الحياة التي أمرنا المسيح أن نحياها, عليك أن تبدأ في قراءتها كتاب تلو الآخر. و لنبدأ من الكتاب الأول, ستفيدك قراءته و استكمال الفراغات الموجودة فيه من خلال استخراج الآيات من الكتاب المقدس
– ومتى أرجعه لك؟
– سأغيب أربعة أيام في لبنان, وأريدك أن ألتقي بك وقد قرأت الكتاب الأول وحللت كل ما به دون إهمال, اتفقنا؟
– اتفقنا!
انتهت المقابلة, ليرجع أبو عيسى إلى صالونه وفي يده تلك الهدية العظيمة التي خرج بها من الكنيسة, فتح الصالة وجلس يقلب صفحات ذلك الكتاب المقدس بشغف, ثم فتح الكتيب الأول, يريد أن يحل ما فيه من أسئلة, ولكنه وجد رموزًا غريبة وعجيبة لم يفهمها أبدًا وجد عبارة (يو3: 16) ولم يفهم ماذا تعني هذه الاختصارات ولكنه قال لنفسه لا مشكله, كثير من أصدقائي و زبائني مسيحيين أستطيع اليوم وغدًا أن أعرف معاني هذه الأشياء وبعدها سأتمكن من حل الواجب.
ولكن للأسف, لم يجد أيٌ ممن يعرفهم مستعدًا أن يدله على هذه المعاني والرموز التي بدونها ما كان من الممكن أن يحل الكتاب ولا أن يعرف محتواه, مر يومان كاملان يقلب في صفحات الكتاب المقدس ويقرأ فيه بعض الآيات بينما باءت محاولة حل الواجب بالفشل, ووسيم في لبنان, وأخيرًا يتذكر صديق له مسيحي اسمه عادل, يسرع إلى الهاتف ويبدأ بمحادثته.
– مرحبًا يا عادل .. إنني أريد أن أسألك بعض الأسئلة
– ليس لدي مشكلة يا أبا عيسى .. منذ زمن لم نلتقِ .. ولم أسمع صوتك الجميل ولم أتذوق مشروبك المنعش منذ فترة.
– لقد ولى زمن المشروب يا عزيزي … اسمع .. لا أستطيع أن أحكي لك من خلال الهاتف كل شيء.. هل تأتي إلي بعد الدوام..
– اتفقنا.. في التاسعة تماما سأكون عندك ..
ومن جديد لمعت عيون أبي عيسى .. لقد وجد أخيرًا من يساعده!
*** ومر يوم آخر على أبي عيسى وتجتاحه رغبة عميقة و شديدة لمعرفة ما يحتويه الكتاب المقدس, رسالة السماء له وكان يستعجل الساعات حتى يأتي إليه صديقه عادل, وجاءت الساعة التاسعة ليأتي عادل ويتوجه إلى الحانة التي اعتاد أبو عيسى أن يشرب منها ولكنه فوجئ أنه لم يجد ولا زجاجة فضحك واستفسر منه:
– ما لك ياعزيزي؟ أين زوادتك؟.. ألا يوجد زجاجة واحدة تروي ظمأي؟ هل أفلست؟
– قلت لك لقد ولى ذلك الزمان .قبل أن تأتي كسرت كل الزجاجات لن أشرب بعد الآن, لأني تعرفت على الشخص الذي غير من حياتي بالكامل.
– صحيح؟ ومن هو؟
– اجلس لأحكي لك!
وجلس ليقص له أبو عيسى, بينما يبتسم عادل تارة ويضحك تارة أخرى .. ويقهقه ثالثة ثم يعود ليخفي وجهه من جديد وما أن انتهى حتى انطلق ضاحكًا وقال بصوت عال:
– هل ذهبت إلى جماعة المجانين تلك؟ اسمع .. سأقول لك ماذا تفعل؟ .. سأذهب أنا وأنت لأعزمك على زجاجتين من المشروبات الكحولية لتجعلناك تنسى كل هذه الخرافات!
ونظر أبو عيسى إليه مستنكرًا الكلمة فأعادها إليه معترضًا)
– خرافات؟!!
– هل تعرف من راعي هذه الكنيسة؟ إنه واحد من أقرب المقربين صدقني, أعرفه جيدًا .. هم مجانين درجة أولى .. تعالَ معي!
وخرج معه أبو عيسى وسهر وشرب ولكنه لم يستمتع .. لقد تذوق طعم المرارة في كل ما يشرب .. لذلك عندما عاد إلى البيت فإذ به يبكي بكاءً مرًا, مما أغضب صديقه كثيرًا فخرج ناقمًا:
*** اتصل عادل بقريبه راعي الكنيسة وما أن رد عليه الراعي حتى صرخ عادل:
– استمع يا قسيس, هذه أفعال المجانين التي تتبعها لا تمارسها مع كل إنسان, هذا الرجل أبو عيسى لا تهدم حياته ولا تخرب بيته هو رجل فنان مغني رزقه من تلك الأشياء التي ستحرمونه منها لا تدع هذه الأمور تفسد عليه حياته!
ويضع عادل السماعة غاضبًا بينما لا يفهم القسيس أي شيء من هذا الحوار, ولكن كل ما يعرفه إن هناك شخص طلب مساعدة من الكنيسة وحصل عليها .. ولأن معلوماته محدودة بهذا الخصوص لم يفعل شيئًا سوى أن يرفع صلاة لذلك الرجل الذي يحتاج إلى المساعدة. في هذا الوقت كان أبو عيسى يرفع نفس الصلاة لله يتضرع من خلالها:
– يا رب .لقد أعطيتني كنز جميل اسمه الكتاب المقدس ولكنك لم تعطني المفتاح. لم أجد من يرشدني, ومن لجأت له حاول أن يعيدني إلى ما كنت عليه ولكن الخطية أصبحت مُرة في حلقي.. لن أرجع من جديد علمني أنت يارب .. من فضلك علمني كيف أقرأ ..أرجوك علمني كيف أصلي!
لم يكن أبو عيسى يعرف أنه في ذلك الوقت يمارس فعلًا الصلاة لله .. ولكنه بإيمان يفتح الكتاب المقدس ليجد صفحة الاختصارات.. فيعرف أن (يو) هي اختصار لإنجيل يوحنا ويفتح بالاستعانة بالفهرس على إنجيل يوحنا .. ويقرأ وبالملاحظة يكتشف معاني كل المصطلحات ويقرأ تلك الآية “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” (يوحنا 3: 16).
وتنتهي المهلة و يرجع أبو عيسى إلى وسيم يعطيه الواجب الذي قام بعمله في سعادة بالغة..
*** مر الآن أكثر من عام ونصف ولا يزال أبو عيسى يلهج في كلمة الله، واستخدم تلك الكلمة ليعزف أحلى الكلمات, يتغنى ويشدو بمحبة الفادي ومن تذوق محبته وأعطاه حياة جديدة, بعد أن كان يتغنى بالطريقة التي فيها يفرح أهل الأرض .. استطاع أن يتذوق ترانيم أهل السماء. بل وأن يشارك في عزفها وتأليفها وتلحينها … أنه أتقن الألحان السماوية!!
|