|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
درب الصليب يوم الجمعة العظيمة مقدّمة لقد أتت الساعة. ومسيرة يسوع في طرق الجليل واليهوديّة المعفّرة بالغبار، من أجل أن يلتقي بالأجساد والقلوب المتألّمة، وقد دفعته ضرورة إعلان الملكوت، هذه المسيرة تنتهي هنا، اليوم. عند جبل الجلجلة. الصليب اليوم يقطع الطريق. يسوع لن يذهب أبعد. مستحيل أن يذهب أبعد! فمحبّة الله تصل هنا إلى أقصى مداها، إنها بلا قياس. اليوم، محبّةُ الآب، الذي يريدُ، من خلال الابن، أن يَخلُص جميع البشر، تصلُ إلى أقصى الحدود، حيث لا كلام لنا بعد، حيث نشعر بالضياع، وحيث تفيض تقوانا من زخم أفكار الله. لأنه على الجلجلة، وبعكس كلّ المظاهر، تتجلى الحياة والنعمة والسلام. فالأمر لا يتعلّق بملكوت الشرّ الذي نعرفه جيّدًا، إنما بانتصار المحبّة. عند أقدام الصليب نفسه بالتحديد، الأمر يتعلّق بعالمنا، بكلّ عثراته وآلامه، ونداءاته وتمرداته، وكلّ ما يصرخ نحو الله، اليوم، من أرض البؤس أو الحرب، من الأُسَر الممزّقة، من السجون، ومن القوارب المكتظّة بالمهاجرين... هناك الكثير من الدموع، الكثير من البؤس، في الكأس التي يتَجرّعها الابن من أجلنا. الكثير من الدموع، الكثير من البؤس التي لا تذهب هدرًا في محيط الزمن، إنما يجمعها هو، كي تتجلّى في سرّ حبّ يُبْتَلَعُ فيه الشرّ. على الجلجلة، إنها مسألة أمانة الله التي تُقهر لبشريّتنا. وما يحدث هناك إنما هو ولادة! ينبغي أن يكون لنا الجرأة لنقول إن فرح الإنجيل، هو حقيقةُ هذه اللحظة! إن لم تتوصّل نظرتنا إلى هذه الحقيقة، نبقى رهينة حبائل المعاناة والموت. ونجعل آلام المسيح من أجلنا باطلة. صلاة يا ربّ، إن أعيننا مظلمة. فكيف نرافقك إلى هذا الحدّ؟ "رحمة" هو اسمك. ولكن هذا الاسم هو جنون. لتتفجّر زقاق قلوبنا العتيقة! اشف نظرتنا كي تستنير ببشارة الإنجيل، ساعة نقف عند أقدام صليب ابنك. يمكننا حينئذ أن نحتفي بـ "عَرْضُ وطُّول وعُلُوُّ وعُمق" محبّة المسيح (أف، 3، 18)، وقلبنا قد تعزّى وانبهر. المرحلة الأولى: يسوع يحكم عليه بالموت من إنجيل القديس لوقا ولمَّا طَلَعَ الصَّباحُ، اِحتَشَدَت جَماعَةُ شُيوخِ الشَّعْبِ مِن عُظَماءِ كَهَنَةٍ وكَتَبَة، فَاستَحضَروهُ إِلى مَجلِسِهِم (22، 66). من إنجيل القديس مرقس أَجمَعوا على الحُكمِ بِأَنَّه يَستَوجِبُ المَوت. وأَخَذَ بَعضُهم يَبصُقونَ علَيه، ويُقَنِّعونَ وَجهَه ويَلطِمونَه ويقولون: "تَنَبَّأْ!" وَانْهالَ الخَدَمُ عَلَيه بِاللَّطْم (14، 64- 65). تأمل لم يحتاج أعضاء السنهدريم الكثير من التداول كي ينطقوا بالحكم. فالمسألة كانت محسومة منذ وقت طويل. على يسوع أن يموت! هذا ما فكّر به أيضًا أولئك الذين أرادوا أن يلقوه عن حرف الجبل، في اليوم الذي فتح فيه السفر، في مجمع الناصرة، وأعلن - مُعلنًا نفسه - كلامَ النبي أشعيا: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني [...] وأَرسَلَني لأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ" (لو 4، 18. 19). كان قد بدأ التذمّرُ القاتل ضدّه عندما شفى المخلّع عند بركة بَيتَ ذاتا، مفتتحًا سبتَ الربّ الذي يحرّر من كلّ عبوديّة (را. يو 5، 1- 18). وفي آخر مرحلة من الطريق، إذ كان صاعدًا إلى أورشليم لعيد الفصح، اشتدّ الخناق، ولا محالة: لن يهرب من أعدائه (را. يو 11، 45- 57). ولكن يجب أن تذهب ذاكرتنا أبعد من هذا. فانطلاقًا من بيت لحم، منذ أيام ميلاده، كان هيرودس قد قضى بضرورة موته. وقتل سيفُ أتباع الملك المغتصب أطفالَ بيت لحم. وعندها أَفلت يسوع من حنقهم. ولكن فقط لوقت معيّن. وأصبحت حياته مذّاك كمن أُوقِف فيه تنفيذ الحكم. وتتجاوب بانتحاب، وسط بكاء راحيل على أبنائها الذين زالوا عنِ الوُجود، نبوّةُ الألم التي سيعلنها سمعان الشيخ لمريم (را. متى 2، 16- 18؛ لو 2، 34- 35). صلاة أيها الربّ يسوع، الابن الحبيب، يا مَن أتيت لافتقادنا، ومررت وسطنا وأنت تعمل الخير، وأعدّت إلى الحياة الذين يقيمون في الظُّلمَةِ وَظِلالِ الـمَوت، أنت تعرف قلوبنا المعوجة. إننا نؤكّد أننا أصدقاء الخير وأنّنا نريد الحياة. ولكنّنا خطأة ومتواطئين مع الموت. نعلن أنّنا تلاميذك، ولكنّنا نسلك دروبًا تتيه بعيدًا عن أفكارك، بعيدًا عن عدلك وعن رحمتك. لا تتركنا لثورات عنفنا. وصبرك علينا، لا تدعه ينفذ. نجّنا من الشرير! صلاة الآبانا "يا شعبي، ماذا صنعت بلَ؟ وبما أسأت إليك؟ أجبني" المرحلة الثانية: بطرس ينكر يسوع من إنجيل القديس لوقا ومَضى نَحوُ ساعة فقال آخَرُ مُؤَكِّداً: “حقّاً، هذا أَيضاً كانَ معَه، فهو جَليليّ“. فقالَ بُطرُس: “يا رَجُل، لا أَدْري ما تَقول“. وبَينَما هو يَتَكَلَّم، إِذا بِديكٍ يصيح. فالتَفَتَ الرَّبُّ ونظَرَ إِلى بُطرُس، فتذَكَّرَ بُطرُسُ كَلامَ الرَّبِّ إِذ قالَ له: “قبلَ أَن يَصيحَ الدِّيكُ اليَوم، تُنكِرُني ثَلاثَ مَرَّات“. فخَرَجَ مِنَ الدَّارِ وبَكى بُكاءً مُرًّأ (22، 59- 62). تأمل حول موقدة النار، في ساحة دار السنهدريم، قعد بطرس مع بعض الأشخاص يستدفئ بالنار في هذه الساعات الباردة من الليل، والتي يتخلّلها حركة ذهاب وإياب محمومة. وفي الداخل، سوف يتمّ تحديد مصير يسوع، في مواجهة مباشرة مع متهميه. وسوف يطالبون بموته. يتعاظم العداءُ في الأنحاء، مثل مدّ متصاعد. كما النار في الكتان، هكذا يندلع الحقدُ ويتكاثر. وقريبًا، سوف تطالب الجموعُ الصارخة بيلاطس بالعفو عن برأبّا وبالحكم على يسوع. من الصعب على المرء أن يعلن نفسه صديقًا لرجل حُكِمَ عليه بالموت دون أن تجتاحه قشعريرةٌ مرعبة. لم تستطع أمانةُ بطرس الجريئة مقاومةَ الكلام المريب الذي قالته الخادمة بوابة المكان. الاعتراف بأنه تلميذٌ للمعلم الجليلي، يعني إعطاء أهميّة لأمانته ليسوع أكثر منه لحياته الشخصيّة! عندما يتطلّب الأمر شجاعة كهذه، يصعب على الحقيقة أن تجد شهودًا... هذه طبيعة البشر، لدرجة أن الكثير فضّلوا عليها الكذب؛ وبطرس ينتمي إلى بشريّتنا. يخون، ثلاث مرّات. ثم يلتقي بنظر يسوع. وتنهمر دموعه، مُرّةً ومع ذلك عذبة، مثل ماء يغسل الأوساخ. قريبًا، بعد أيّام قليلة، حول جَمْر مُتَّقِد، على شاطئ البحيرة، سوف يعترف بطرس بالربّ القائم من الموت الذي يعهد إليه برعاية خرافه. وسوف يتعلّم بطرس، دون قياس، المغفرةَ التي يعلنها القائم من الموت لجميع خياناتنا. وسوف ينال المشاركة بأمانة، تجعله، من الآن فصاعدا، يقبل موته بمثابة تضحية مشاركة في تضحية المسيح. صلاة أيها الربّ إلهنا، لقد شئت أن يكون بطرس، التلميذ الذي أنكرك وغُفِر له، هو الذي يحمل مسؤولية رعاية قطيعك. اطبع في قلبنا ثقة وفرح معرفة أننا نقدر، بك، أن نعبُر أودية الخوف وعدم الأمانة. اجعل من جميع تلاميذك -وقد تعلّموا من بطرس- شهودًا للنظرة التي تلقيها على عثراتنا. لا تسمح لقسوتنا أو ليأسنا بأن يجعلا قيامة ابنك باطلة! صلاة الآبانا أيها المسيح يا من متّ بسبب خطايانا، أيها المسيح يا من قمت من أجل حياتنا، نسألك أن ترحمنا. المرحلة الثالثة: يسوع وبيلاطس من إنجيل القديس مرقس وما إِن كانَ الفَجْرُ حتَّى اجتَمَعَ عُظَماءُ الكَهَنَةِ لِلشُّورى معَ الشُّيوخِ والكَتَبَةِ والمَجلِسِ كُلِّه، ثُمَّ أَوثَقوا يسوعَ وساقوه وسَلَّموه إِلى بيلاطُس. [...] وكانَ عُظماءُ الكَهَنَةِ يَتَّهِمونَهُ اتِّهاماتٍ كثيرة. [...] وأَرادَ بيلاطُسُ أَن يُرضِيَ الجَمْع فأَطلَقَ لَهم بَرأَبَّا، وبَعدَ ما جَلَدَ يسوع أَسلَمَه لِيُصلَب (15، 1. 3. 15). من إنجيل القديس متى فلَمَّا رأَى بيلاطُسُ أَنَّه لم يَستَفِدْ شيئاً، بلِ ازدادَ الاضطِراب، أَخذَ ماءً وغَسلَ يَدَيْهِ بِمَرأًى مِنَ الجَمعِ وقال: "أَنا بَريءٌ مِن هذا الدَّم، أَنتم وشَأنُكم فيه" (27، 24). من سفر النبي أشعيا كُلُّنا ضَلَلْنا كالغَنَم كُلُّ واحِدٍ مالَ إِلى طَريقِه فأَلقى الرَّبُّ علَيه إِثمَ كُلِّنا (53، 6). تأمّل روما تحت أوغسطس قيصر، الأمّة المتحضّرة، جحافلُها تتبنّى مهمّة اجتياح الشعوب كي تحمل إليهم فوائد نظامها العادل! روما، الحاضرة أيضًا وقت آلام يسوع في شخص بيلاطس، ممثّل الإمبراطور، كفيل الحقّ والعدل في أرض أجنبيّة. مع ذلك، فإن بيلاطس نفسه، الذي يعلن بأنّه لم يجد فيه أيّ شرّ، هو الذي يقرّ الحكم عليه بالموت. والحقيقة تتألّق، في حضرة الحاكم، حيث مثل يسوع للمحاكمة: برّ الوثنيين لا يفوق برّ سنهدريم اليهود! بالتأكيد، إن هذا البار الذي يجذب على شخصه، وبطريقة عجيبة، أفكارَ قلب الإنسان القاتلة، قد صالح العبرانيّين بالوثنيّين. لكنّه في الوقت الحاضر قد صالحهم جاعلًا منهم شركاء على حدّ السواء في مقتله الشخصيّ. إنما، سوف يأتي الوقت، لا بل هو قريب جدًّا، الذي فيه يصالحهم هذا البار بطريقة أخرى، بواسطة الصليب ومغفرة تطالهم جميعًا، عبرانيين ووثنيين، وتشفيهم معًا من جبنهم وتحرّرهم من عنفهم المشترك. هناك شرط واحد للمشاركة بهذه العطيّة: وهي الاعتراف ببراءة البريء الأوحد، حمل الله المذبوح من أجل خطايا العالم؛ والتخلّي عن الادّعاء الذي يهمس في داخلنا: "أنا بريء من دم هذا الرجل"؛ والاقرار بذنبنا، موقنين أن هناك محبّة لامتناهية تغمرنا جميعًا، عبرانيين ووثنيين، وأنّ الله يدعونا جميعًا لأن نصبح أبناءه. صلاة أيّها الربّ إلهنا، أمام يسوع الذي أُسلِم وحُكِمَ عليه بالموت، لا نعرف إلّا أن نُبرئ أنفسنا ونتّهم الآخرين. لقد حمّلْنا لزمنٍ طويل، نحن المسيحيين، شعبكَ إسرائيل، عبءَ الحكم عليك بالموت. وقد تجاهلنا لزمن طويل، أنه علينا الاعتراف بأنّنا كلّنا شركاء في الخطيئة، كي نُفتدى جميعًا بدم يسوع المصلوب. أعطنا أن نرى في ابنك البريءَ؛ البريءَ الأوحد في التاريخ كلّه. هو الذي قَبِلَ أن يكون "خَطيئَةً مِن أَجْلِنا" (را. 2 قور 5، 21)، كي تستطيع أنت، بواسطته، أن تجِدَنا، بشريةً خُلِقَت من جديد في البراءة التي خلقتنا بها، والتي بها تجعلنا أبناءك. صلاة الآبانا إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ المرحلة الرابعة: يسوع ملك المجد من إنجيل القديس مرقس ساقَه الجُنودُ إِلى داخِلِ الدَّار، دارِ الحاكِم، ودَعَوا الكَتيبَةَ كُلَّها، وأَلبَسوهُ أُرجُواناً، وكَلَّلُوه بِإِكليلٍ ضَفَروه مِنَ الشَّوْك، وأَخذوا يُحَيُّونَه فيَقولون: "السَّلامُ علَيكَ يا مَلِكَ اليَهود!" (15، 16- 18). من سفر النبي أشعيا لا صورَةَ لَه ولا بَهاءَ فنَنظُرَ إِلَيه ولا مَنظَرَ فنَشتَهِيَه. مُزدَرىً ومَتْروكٌ مِنَ النَّاس رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلَم ومِثلُ مَن يُستَرُ الوَجهُ عنه مُزدَرىً فلَم نَعبَأْ بِه. لقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا فحَسِبْناه مُصاباً مَضْروباً مِنَ اللهِ ومُذَلَّلاً (53، 2- 4). تأمل الشرّ أمر عادي. كثيرون هم الرجال، والنساء، وحتى الأطفال، والمعنَّفون، والمهانون، والمعذبون، والمقتلون، عدد لا يُحصى، في كلّ مكان وفي كلّ زمان من التاريخ. دون أن يبحث عن حماية في طبيعته الإلهية التي يملكها، يدخل يسوع في موكب الآلام الرهيب الذي يلحقها الإنسان بالإنسان. إنه يعرف التخلّي الذي يعيشه الأذلاء والمتركون. ولكن ما هو العون الإضافي الذي يقده لنا البريء؟ ذاك الذي صار واحدًا منّا هو قبل كلّ شيء ابن الله الحبيب، الذي أتى كي يتمّم كلّ برّ بطاعته. وفجأة تنقلب كلّ العلامات. كلمات وأعمال السخرية التي يقوم بها جلّادوه يكشف لنا –ويا له من تناقض مطلق- الحقيقة التي لا تُسْبر: حقيقة الملكيّة الحقّة، والوحيدة، التي تنكشف بمحبّة لم تشأ معرفة غير مشيئة الآب ورغبته في أن يخلص جميع البشر. "ذَبيحةً وتَقدِمَةً لم تَشأ [...] حينَئِذٍ قُلتُ: هاءَنَذا آتٍ فقَد كُتِبَ علَيَّ في طَيِّ الكِتاب، هَوايَ أَن أعمَلَ بِمَشيئَتِكَ يا أَلله" (مز 40، 7- 9). الساعة هذه من يوم الجمعة العظيمة تعلنه: هناك مجدٌ أوحد في هذا العالم وفي الآخرة، مجدُ معرفةِ مشيئة الآب وإتمامها. فلا يستطيعُ أيّ منّا أن يطمحَ إلى شرفيّة أسمى من شرفيّة أن يكون إبنًا بالذي صارَ مطيعًا من أجلنا حتى موت الصليب. صلاة أيّها الربّ إلهنا، إنّنا نسألك: في هذا اليوم المقدّس الذي فيه يتم الوحي، حطّم الآلهة الزائفة فينا وفي العالم. أنت تعرف سيطرتها على عقولنا وعلى قلوبنا. حطّم فينا صور النجاح والمجد الزائفة. حطّم فينا صوَّر إلهٍ تراود ذهننا بلا انقطاع: إلهٍ وفق أفكارنا، إلهٍ بعيد؛ بعيدٍ للغاية عن الوجه الذي كشفه لنا في عهده معنا والذي ينكشف اليوم بيسوع، متجاوزًا كلَّ توقع، ومتعديًّا لأيّ رجاء. هو الذي نعلنه على أنه "شُعاعُ مَجْدِه" (عب 1، 3). هبنا أن ندخل في الفرح الأبدي الذي يجعلنا نتهلّل بيسوع المتشح بالأرجوان والمكلّل بالشوك، ملكَ المجد الذي يتغنّى به المزمور: "اِرفَعْنَ رُؤوسَكُنَّ أَيَّتُها الأَبْواب واْرتَفِعْنَ أَيَّتُها المَداخِلُ الأَبدِيَّة فيَدخُلَ مَلِكُ المَجْد" (24، 9). صلاة الآبانا اِرفَعْنَ رُؤوسَكُنَّ أَيَّتُها الأَبْواب واْرتَفِعْنَ أَيَّتُها المَداخِلُ الأَبدِيَّة فيَدخُلَ مَلِكُ المَجْد المرحلة الخامسة: يسوع يحمل الصليب من سفر المراثي يا جَميعَ عابِري الطَّريق تأَمَّلوا وانظُروا هَل مِن أَلَمٍ كأَلَمي الَّذي أَصابَني الَّذي آلمَني به الرَّبّ في يَوم اضطِرام غَضَبِه (1، 12). من المزمور 146 طوبى لِمَن إِلهُ يَعقوبَ نُصرَتُه في الرَّبِّ إِلهِه رجاؤه [..] الرَّبُّ يَحُلُّ قُيودَ الأَسْرى. الرَّبُّ يَفتَحُ عُيونَ العُمْيان الرَّبّ يُنهِضُ الرَّازِحين، [...] الرَّبُّ يَحفَظُ النّزلاء ويؤيّدُ اليَتيم والأَرمَلَة (146، 5. 7- 8. 9). تأمل على طول درب الجلجلة المرير، لم يحمل يسوع الصليب كشعار انتصار! فهو لا يشبه بشيء أبطال خيالنا الذين يحطّمون بمجد أعداءَهم الأشرار. سار خطوة بعد خطوة، وثقل جسده وأصبح بطيئًا شيئًا فشيئًا. شعر بجسده وقد التصق به عود الصليب، وبساقيه الخائرتين تحت الثقل. لقد تأمّلت الكنيسة، جيلا بعد جيل، بهذا الدرب الزاخر بالعثرات والسقطات. يسوع يقع، وينهض مجدّدًا، ثم يقع من جديد، ويتابع المسيرة المرهقة، وربما تحت ضربات الحرّاس الذين يرافقونه، لأنه هكذا يعامل أو يساء معاملة المحكوم عليهم في هذا العالم، إنهم يعامَلون بالسوء. ها إن الذي قد أقام الأجساد طريحة الفراش، وشفى المرأة منحنية الظهر، وأنقذ ابنة يائير من الموت، وأقام الكثير من المنكوبين، يهوي اليوم على الأرض المغبَّرة. العليّ يسقط أرضًا. لنثبت نظرنا على يسوع. فالعليّ يعلّمنا، من خلاله، أنّه في الوقت عينه –يا للذهول!- الأكثر وداعة، مستعدّ للنزول لمستوانا، بل إلى مستوى أكثر انخفاضًا منا إن لزم الأمر، بحيث لا يضيع أحد في عمق أعماق بؤسه. صلاة أيّها الربّ إلهنا، تنزل في أعماق ليلنا، دون أن تضع حدًّا لتواضعك، لأنك بها تبلغ أرض حياتنا الناكرة للجميل والمدَمَّرة أحيانا. إنّنا نتوسّل إليك: اجعل كنيستك قادرة على الشهادة بأنّ العليّ والأخفض دركًا هما فيك وجه واحد. أعطها أن تحمل إلى كلّ الذين يسقطون، بشارةَ الإنجيل: ما من سقطة تستطيع أن تحرمنا من رحمتك؛ ما من ضياع، ما من هاوية سحيقة لدرجة أن تمنعك من أن تجد الذي ضلّ. صلاة الآبانا هاءَنَذا آتٍ لأعمَلَ بِمَشيئَتِكَ المرحلة السادسة: يسوع وسمعان القيرواني من إنجيل القديس لوقا وبَينما هم ذاهِبونَ بِه، أَمسكوا سِمعان، وهو رَجُلٌ قِيرينيٌّ كانَ آتِياً مِنَ الرِّيف، فجَعَلوا علَيهِ الصَّليبَ لِيَحمِلَه خَلْفَ يَسوع (23، 26). من إنجيل القديس متّى "يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعاً فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟ ومتى رأَيناكَ غريباً فآويناك أَو عُرياناً فكَسَوناك؟ ومتى رَأَيناكَ مريضاً أَو سَجيناً فجِئنا إِلَيكَ؟" (25، 37- 39). تأمّل يسوع يقع طوال الدرب وقد سُحِق ظهره من ثقل الصليب. ولكن عليه أن يتابع المسيرة، فيسير، وأيضًا يسير، لأن الجلجلة – "مكان الجمجمة" المشؤوم-، خارج أسوار المدينة، هي هدف السَريّة التي تَدفع يسوع. ويمرّ من هناك في تلك اللحظة رجلٌ قويّ الذراعين. ويبدو أنه غريب عمّا يحدث في هذا النهار. كان في طريق عودته إلى البيت، يجهل كلّيا قصّة المعلّم يسوع، حين يُسخّره الحرّاس لحمل الصليب. ما كان بإمكانه أن يعرف عن المحكوم عليه، الذي يدفعه الحرّاس إلى التعذيب؟ ما كان بإمكانه أن يعرف عن الذي لم يعد له "هيئة رجل"، شأن العبد المشوّه في سفر أشعيا؟ لم ينقل إلينا أيّ شيء من اندهاشه، أو ربما رفضه في البداية، أو من الشفقة التي ألمّت به. حفظ الإنجيلُ ذكرَ اسمه فقط: سمعان، وكان من قيروان. لكن الإنجيل قد أراد أن يبلغنا اسم هذا الليبي ولفتته الفقيرة للمساعدة أيضًا كي يعلّمنا أن سمعان، إذ خفّف من أوجاع رجلٍ محكومٍ عليه بالموت، قد خفّف من أوجاع يسوع، ابن الله، الذي صادفه في الطريق في حالة العبد، الذي اتّخذها من أجلنا، اتّخذها من أجله، من أجل خلاص العالم. ودون أن يعلم. صلاة أيّها الربّ إلهنا، لقد كشفت لنا أنّك أنت من يأتي إلينا في كلّ فقير عريان، وسجين، وعطش، وأنك أنت من نستقبل، ونزور، ونكسو، ونسقي: "وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ" (متى 25، 35- 36). سرّ لقائك ببشريّتنا! إنك تبلغ هكذا كلّ إنسان! ما من أحد مستبعد عن هذا اللقاء، إن قبل أن يكون رحيما. ونحن نقدّم لك، بمثابة تقدمة مقدّسة، كلّ أعمال الصلاح، والاستقبال، والتكرّس، التي نقوم بها كلّ يوم في عالمنا هذا. تكرّم واقبلها كحقيقة بشريّتنا، التي تتكلم بصوت أَعلى من كلّ أعمال الرفض والحقد. تكرّم وبارك النساء والرجال الرحماء الذين يمجّدونك، حتى وإن كانوا لا يعرفون حتى الآن كيف يلفظون اسمك. صلاة الآبانا أيها المسيح يا من متّ بسبب خطايانا، أيها المسيح يا من قمت من أجل حياتنا، نسألك أن ترحمنا. المرحلة السابعة: يسوع وبنات أورشليم من إنجيل القديس لوقا وتَبِعَه جَمعٌ كَثيرٌ مِنَ الشَّعب، ومِن نِساءٍ كُنَّ يَضربنَ الصُّدورَ ويَنُحنَ علَيه. فالتَفَتَ يَسوعُ إِليهِنَّ فقال: “يا بَناتِ أُورَشَليمَ، لا تَبكِينَ عَليَّ، بلِ ابكِينَ على أَنفُسِكُنَّ وعلى أَولادِكُنَّ. [...] فإِذا كانَ يُفعَلُ ذلك بِالشَّجَرةِ الخَضْراء، فأَيّاً يَكونُ مَصيرُ الشَّجَرَةِ اليابِسة؟“ (23، 27- 28. 31). تأمّل إن البكاء الذي يطلبه يسوع من بنات أورشليم على أنه فعل شفقة، هو بكاء النساء الذي لا ينقص عالمنا. وهو ينهمر بصمت على وجنة النساء. وغالبًا أيضًا ربّما بشكل غير منظور، في قلوبهنّ، مثل دموع الدّم التي تتكلّم عنها كاترينا دي سيينا. ليس لأن البكاء مرتبط بالنساء، كما لو كان مصيرهنّ هو أن يكنَّ باكيات ومنفعلات وعاجزات وسط تاريخ من المفترض على الرجال أن يكتبوه. إن بكاءهنّ في الواقع، هو قبل كلّ شيء، كل البكاء الذي يتلقينه، بعيدًا عن الأنظار وعن أيّ احتفال، في عالم توجد فيه الكثير مما يدعو للبكاء. بكاء الأطفال المرعوبين، والمصابين في ساحات القتال الذين ينادون الأم؛ بكاء المرضى الذين يعانون الوحدة، والمشرفين على الموت على عتبة المجهول. بكاء الاضطراب، المنهمر على وجنة عالمنا الذي خُلِق في اليوم الأول، من أجل دموع الفرح، في تهلّل الرجل والمرأة معًا. حتى، إتّي هيلليزوم -وهي امرأة قويّة إسرائيليّة وقد صمدت واقفة في عاصفة الاضطهاد النازيّ- التي قد دافعت حتى الرمق الأخير عن الصلاح في الحياة، تهمس في آذاننا ذاك السرّ الذي أدركته في نهاية طريقها: هناك دموع، يجب مسحها، تسيل على خدّ الله عندما يبكي على بؤس أبنائه. وسط الجحيم الذي يجتاح العالم تجرؤ أن تصلّي لله: "سوف أحاول أن أساعدك"، تقول له. جرأة تتميّز بها النساء، جرأة إلهيّة! صلاة أيّها الربّ إلهنا، يا إله الحنان والشفقة، يا مليئًا بالمحبّة والأمانة، علّمنا، في الأيام السعيدة، ألّا نحتقر دموع الفقراء الذين يصرخون إليك ويطلبون منك العون. علّمنا ألّا نمرّ غير مبالين بقربهم. علّمنا أن تكون لنا الشجاعة للبكاء معهم. علّمنا أيضًا، في ليل معاناتنا، ووحدتنا، وخيبات أملنا، أن نسمع الكلمة التي كشَفتَها لنا على الجبل: "طوبى لِلْمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون" (متى 5، 5). صلاة الآبانا أيها المسيح يا من متّ بسبب خطايانا، أيها المسيح يا من قمت من أجل حياتنا، نسألك أن ترحمنا. المرحلة الثامنة: يسوع يُعرّى من ثيابه من إنجيل القديس يوحنا أَمَّا الجُنود فبَعدَما صَلَبوا يسوع أَخذوا ثِيابَه وجَعلوها أَربَعَ حِصَص، لِكُلِّ جُندِيٍّ حِصَّة (19، 23). من سفر أيوب "عُرْيانًا خَرَجتُ مِن جَوفِ أُمّي وعُرْيانًا أَعودُ إِلَيه" (1، 21). تأمّل جسد يسوع المهان يُعرّى من ثيابه. تحت نظرات السخرية والازدراء. جسد يسوع مُثخَّن بالجراح ومصيره العقوبة القصوى، عقوبة الصلب. من وجهة النظر الإنسانية، ماذا يمكنه أن يصنع إلّا خفض العينين كيلا يزيد من عاره؟ لكن الروح يأتي لمعونة اضطرابنا. يعلّمنا أن نفهم لغة الله، لغة "إخلاء" الله (kenosi)، تنازل الله هذا كي يصل إلينا أينما كنّا. إنها لغة الله هذه التي يتكلّم بها اللاهوتي الأرثوذكسي كريستوس ينّارا من أجلنا: "لغة الإخلاء: يسوع طفل عار في مذود؛ عُرّي في النهر عندما تعمّد مثل العبد؛ معلّق على شجرة الصليب، عارٍ، مثل اللصّ. ومن خلال كلّ هذا، قد أظهر محبّته لنا". باستطاعتنا، إذ ندخل في سرّ النعمة هذا، أن نفتح الأعين مجدّدا على جسد يسوع المحطّم. ونبدأ عندئذ أن نلمح ما لا تستطيع العين أن ترى: عريه يسطع من النور نفسه الذي شعت منه ثيابه أثناء التجلّي. نور يطرد كلّ ظلمة. نور لا يقاوَم، نور المحبّة إلى المنتهى. صلاة أيّها الربّ إلهنا، نضع أمام عينيك الحشد الهائل من الأشخاص الذين يعانون من التعذيب، والموكب المخيف للأجساد التي تلقى معاملة سيئة، وترتجف من الخوف عند اقتراب الضربات، وتحتضر في أحياء فقيرة بائسة. نتضرّع إليك، اسمع أنينهم. فالشرّ يجعلنا دون صوت ودون عون. ولكنّك تعلم ما نحن نجهل. تعرف كيف تجد ممرّا وسط الفوضى وظلام الشرّ. تعرف كيف تجعل حياة القيامة تسطع، حتى في آلام ابنك الحبيب. زدنا إيمانا. نقدّم لك أيضًا حماقة الجلّادين وقاداتهم. هي أيضًا تجعلنا غير قادرين على الكلام... باستثناء صلاتنا إليك وتوسّلنا بالدموع، وبكلمات الصلاة التي علّمتنا إياها: "نجّنا من الشرّير"! صلاة الآبانا أيها المسيح يا من متّ بسبب خطايانا، أيها المسيح يا من قمت من أجل حياتنا، نسألك أن ترحمنا. المرحلة التاسعة: صلب يسوع من إنجيل القديس لوقا ولمَّا وَصَلوا إِلى المَكانِ المَعروفِ بالجُمجُمة، صَلَبوهُ فيهِ والمُجرِمَيْن، أَحَدُهما عنِ اليَمينِ والآخَرُ عَنِ الشِّمال. فقالَ يسوع: “يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون“. ثُمَّ اقتَسموا ثِيابَه مُقتَرِعينَ علَيها (23، 33- 34). من سفر النبي أشعيا طُعِنَ بِسَبَبِ مَعاصينا وسُحِقَ بِسَبَبِ آثامِنا نَزَلَ بِه العِقابُ مِن أَجلِ سَلامِنا وبجُرحِه شُفينا (53، 5). تأمّل حقًا إن الله موجود حيث لا ينبغي أن يكون! إن الابن الحبيب، قدّوس الله، هو ذاك الجسد المعلق على صليب الخزي، المتروك للعار، بين مجرمين. رجل أوجاع، ننصرف عنه؛ مثلما ننصرف في الواقع، عن الكثير من الأشخاص "المشوّهين" الذين نلقاهم في طريقنا. كلمة الله، الذي به كان كلّ شيء، لم يعد إلّا جسدًا صامتًا، متألمًا. لقد ثارت قسوة إنسانيّتنا ضده، وانتصرت. أجل، لقد أتى الله حيث لا ينبغي أن يكون ولكن حيث نحن بحاجة ماسّة إلى أن يكون! أتى كي يشاركنا حياته. وقال "خذوا!" دون انقطاع، واهبًا الشفاءَ للمرضى، وغفرانَه للقلوب التائهة، وجسدَه أثناء العشاء الفصحي. لكنه وُجد بين أيدينا، في أرض الموت والعنف: العنف الذي يذهلنا في أحداث العالم؛ العنف الذي يجول في داخلنا: وقد أدرك هذا الأمر جيّدا الرهبان الذين قُتلوا في تبحرين هم الذين أضافوا إلى صلاة "جرّدهم من سلاحهم!" التوسّل "جرّدنا من سلاحنا!". كان من الضروريّ أن يزور لطفُ الله جحيمنا: وهي الطريقة الوحيدة ليحرّرنا من الشرّ. كان من الضروريّ أن يحمل يسوع حنانَ الله اللامتناهي وسط خطيئة العالم. كان هذا من الضروريّ كي يتراجع الموت المنفتح على حياة الله ويسقط، مثل عدوّ يجد من هو أقوى منه ويختفي في العدم. صلاة أيّها الربّ إلهنا، تقبّل تسبيحنا الصامت. كما سدَّ المُلوكُ أَفْواهَهم أَمامَ ما صنع العبد في نبوة أشعيا (را. 52، 15)، هكذا نكون في ذهول أمام الحمل المذبوح من أجل حياتنا وحياة العالم؛ ونعترف أننا بجُرحِه شُفينا. "ماذا أَرُدُّ إِلى الرَّبِّ عن كُلِّ ما أَحسَنَ به إليَّ؟ [...] فلَك أَذبَحُ ذَبيحَةَ الحَمْدِ وباْسمِ الرَّبِّ أَدْعو" (مز 116، 12. 17). صلاة الآبانا أيها المسيح يا من متّ بسبب خطايانا، أيها المسيح يا من قمت من أجل حياتنا، نسألك أن ترحمنا. المرحلة العاشرة: يسوع يتعرض للسخرية على الصليب من إنجيل القديس لوقا وقَفَ الشَّعْبُ هُناكَ يَنظُر، والرُّؤَساءُ يَهزَأُونَ فيقولون: "خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه، إِن كانَ مَسيحَ اللهِ المُختار!" وسَخِرَ مِنه الجُنودُ أَيضاً، فدَنَوا وقرَّبوا إِلَيه خَلاًّ وقالوا: "إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ!" وكانَ أَيضاً فَوقَه كِتابَةٌ خُطَّ فيها: "هذا مَلِكُ اليَهود". وأَخَذَ أَحَدُ المُجرمَينِ المُعَلَّقَينِ على الصَّليبِ يَشتُمُه فيَقول: "أَلستَ المَسيح ؟ فخَلِّصْ نَفْسَكَ وخَلِّصْنا!" (23، 35- 39). "إِن كُنتَ ابنَ الله، فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً". [...] "إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إِلى الأَسفَل؛ لِأَنَّهُ مَكتوبٌ: [...] مَلائِكته”، [...] “على أَيديهِم يَحمِلونَكَ" (4، 3. 9- 11). تأمل ألم يكن باستطاعة يسوع أن ينزل عن الصليب؟ نكاد لا نجرؤ على طرح هذا السؤال: ألا يضعه الإنجيل على لسان الأشرار؟ لكنه يلاحقنا، على قدر ما زلنا ننتمي إلى عالم التجارب، التي واجهها يسوع خلال الأربعين يوما في البرية، مدخل وبداية رسالته. "إِن كُنتَ ابنَ الله، فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً". [...] "إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إِلى الأَسفَل لأنه [...] يُوصي مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ". ولكن، على قدر ما نتبعه في طريقه، نحن المعمّدين بموت وقيامة المسيح يسوع، لا يبقى لتحدّيات الشرّ أيّة سلطة علينا، فهي تؤول إلى العدم، وينكشف كذبها. وتنكشف هنا الضرورة الملحّة الـ "كانَ يَجِبُ" (لو 24، 26)، التي علّمها يسوع بصبر وحمية للسائرَيّن نحو عمّاوس. "كانَ يَجِبُ" على المسيح أن يدخل في هذه الطاعة وفي هذا الضعف كي يبلغ إلينا، في الضعف حيث وضعنا عصياننا. بدأنا هكذا نفهم أنه "وحده إله متألّم يمكنه أن يخلّصنا"، كما كتبه القسّ ديتريش بونهوفر خلال الأشهر الأخيرة التي سبقت مقتله، حين كان قادرا، وقد اختبر قوّة الشرّ حتى المنتهى، أن يلخّص، بهذه الحقيقة البسيطة والمذهلة، إعلان الإيمان المسيحي. صلاة أيّها الربّ إلهنا، مَن يحّررنا من شراك سلطان العالم؟ من يحرّرنا من استبداد الأكاذيب التي تجعلنا نشيد بالأقوياء ونلهث وراء الأمجاد الباطلة؟ أنت وحدك قادر أن تردَّ قلوبنا. أنت وحدك قادر على أن تجعلنا نحبّ درب التواضع. أنت وحدك... من يظهر لنا أنه ما من انتصار إلّا بالمحبّة، وكلّ ما هو إلا قَشّة في مَهَبِّ الرِّبح، ووهم يتبخر أمام حقيقتك. إننا نسألك يا ربّ، أن تبدّد الأكاذيب التي تريد السيطرة على قلوبنا وعلى العالم. اجعلنا نعيش وفق طرقك، يعترف العالم بقوّة الصليب. صلاة الآبانا إلهي إلهي لماذا تركتني؟ المرحلة الحادية عشرة: يسوع وأمه من إنجيل القديس يوحنا هُناكَ عِندَ صَليبِ يسوع، وقَفَت أُمُّه، وأُختُ أُمِّه مَريَمُ امرأَةُ قَلُوبا، ومَريَمُ المِجدَلِيَّة. فرأَى يسوعُ أُمَّه وإِلى جانِبِها التِّلميذُ الحَبيبُ إِلَيه. فقالَ لأُمِّه: “أَيَّتها المَرأَة، هذا ابنُكِ“. ثمَّ قالَ لِلتِّلميذ: “هذه أُمُّكَ“. ومُنذُ تِلكَ السَّاعةِ استَقبَلَها التِّلميذُ في بَيتِه (19، 25- 27). تأمّل لقد وصلت مريم هي أيضًا إلى نهاية الطريق. ها قد وصلت إلى ذاك اليوم الذي كلّمها عنه سمعان الشيخ؛ حين رفع بيديه المرتجفتين الطفل الصغير وطال شكره بكلمات غامضة، تنسج المأساة بالرجاء، والألم بالفداء. “ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض. وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة“ (لو 2، 34- 35). إن زيارة الملاك كانت قد جعلت البشارة، التي لا تصدق، تدوي في قلبها: فقد اختار الله حياتها كي يزهر "الجديد" الذي وُعد به إسرائيل، "ما لم تبصره عين، ما لن تسمعه أذن" (1 قور 2، 9؛ را. أش 64، 3). وقد قبلت بهذا التدبير الإلهي، الذي سوف يبدأ بهزّ كيانها، ثم يرافق الطفل المولود من بطنها في طرق غير متوقّعة. طيلة الأيام العاديّة في الناصرة، ثمّ في حياته العلنية، عندما أتت الحاجة لفسح المجال للعائلة الأخرى، عائلة التلاميذ، هؤلاء الغرباء الذين جعل منهم يسوع إخوة، وأخوات، وأمهات... مريم كانت تحفظ كلّ هذه الأمور في قلبها. عهدت بها إلى الصبر الكبير الذي تحلّى به إيمانها. يحين اليوم زمن الاتمام. الحربة التي تخترق جنب الابن، تخترق أيضًا قلبها. مريم أيضًا تغرق في الثقة دون أيّ سند، الثقة التي يعيش فيها يسوع، حتى المنتهى، طاعته للآب. واقفة، لا تهرب. الأم واقفة تحت الصليب. في الظلام، ولكن بثقة، تعلم أن الله يفي بوعده. في الظلام، لكن بثقة، تعلم أن يسوع هو الوعد وهو تحقيق الوعد. صلاة يا مريم، يا أمّ الله وامرأة من جنسنا، أنت يا من تلدينا بالذي ولدته، حافظي على الإيمان فينا في ساعات الظلام، وعلّمينا الرجاء على غَيرِ رَجاء. حافظي على الكنيسة بأسرها في سهر أمين، شأن أمانتك، منفتحة بتواضع على أفكار الله، التي تجذبنا إلى حيث لا نفكّر بالذهاب؛ وتُشرِكنا في عمل الخلاص، أبعد من أيّ تصور. صلاة الآبانا السلام عليك أيّتها الملكة أمّ الرحمة، السلام عليك يا حياتنا ولذتنا ورجانا. المرحلة الثانية عشرة: يسوع يموت على الصليب من إنجيل القديس يوحنا [يَسوعُ] قالَ: “أَنا عَطْشان“. وكانَ هُناكَ إِناءٌ مَمْلوءٌ خَلاًّ. فوَضَعوا إِسْفَنجَةً مُبتَلَّةً بِالخَلِّ على ساقِ زوفى، وأَدنَوها مِن فَمِه. فلَمَّا تَناوَلَ يسوعُ الخَلَّ قال: “تَمَّ كُلُّ شَيء“، ثُمَّ حَنى رأسَهُ وأَسلَمَ الرُّوح. [...] أَمَّا يسوع فلَمَّا وَصَلوا إِليه ورأَوهُ قد مات، لَم يَكسِروا ساقَيْه، لكِنَّ واحِداً مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء. والَّذي رأَى شَهِد، وشَهادَتُه صَحيحة، وذاك يَعلَمُ أَنَّه يَقولُ الحَقَّ لِتُؤمِنوا أَنتُم أَيضاً (19، 28- 30. 33- 35). تأمّل الآن قد تم كلّ شيء. ومهمّة يسوع قد انتهت. كان قد خرج من عند الآب من أجل رسالة الرحمة. وقد تمّت هذه الرسالة بأمانة، ووصلت إلى أقصى حدّ من حدود المحبّة. تمّ كلّ شيء. يسوع يستودع روحه بين يدي الآب. صحيح أنّ كل شيء في الظاهر، يبدو وكأنه يغرق في صمت الموت الذي هبط على الجلجلة وعلى الصلبان الثلاثة. هل من شيء آخر، في يوم الآلام هذا الموشك أن ينتهي، يمكن لمَن يمرّ من هذه الطريق أن يفهم إلّا فشل يسوع، وموت رجاءٍ أسَرَّ الكثيرين، وعزّى الفقراء، ورفع المتواضعين، وأظهر للتلاميذ أن الوقت قد حان، الذي يفي فيه الله بالوعود التي أعلنها بأنبيائه؟ كلّ هذا يبدو وكأنّه قد ضاع، وتحطّم، وانهار. ولكن، وسط خيبة الأمل الكبيرة هذه، ها إن الإنجيليّ يوحنا يلفت نظرنا إلى تفصيل صغير للغاية ويتوقّف عنده بتبجيل. ماء ودم يخرجان من جنب المصلوب. يا للذهول! الجرح الذي فتحته الحربة أصبح ممرًّا للماء والدم، اللذين يحدثاننا عن الحياة والميلاد. الرسالة متكتّمة للغاية، ولكنّها بغاية البلاغة للقلوب التي لها بعض الذاكرة. يتدفّق من جسد يسوع الماءُ الذي رآه النبي يخرج من الهيكل. الماء الذي ينمو ويصبح نهرًا عظيمًا، مياهُه تشفي وكُلُّ ما يَبلُغ إِلَيه النَّهرُ يَحْيا. ألم يُشِر يسوع يومًا إلى جسده على أنه الهيكل الجديد؟ و "دم العهد" يرافق الماء. ألم يتكلّم يسوع يومًا عن جسد ودمه على أنهما غذاء يؤكل للحياة الأبدية؟ صلاة أيّها الربّ يسوع، جدّد فينا فرح معموديّتنا، في هذه الأيام المقدّسة من السرّ الفصحي. وعلّمنا، إذ نتأمّل بالماء والدم اللذين يسيلان من جنبك، أن نرى من أيّ نبع انبثقت حياتنا، وبأيّة محبّة ُبُنيَت كنيستك، وأيّ رجاء قد اخترتنا وأرسلتنا لنشارك به العالم. "هنا هو ينبوع الحياة التي تغسل الكون كلّه، المتدفق من جرح المسيح": لتكن معموديّتنا مجدنا الأوحد، ونحن نرفع فعل شكر ملؤه التعجّب. صلاة الآبانا الحمل الذَّبيحُ، أهل لأن ينال القُدرَةَ والغِنى، والحِكمَةَ والقُوَّةَ، والإِكْرامَ والمَجدَ والتَّسْبيح، إلى أبد الآبدين المرحلة الثالثة عشرة: يسوع ينزل عن الصليب من إنجيل القديس لوقا ثُمَّ أَنزَلَه [يوسف الرامي] عنِ الصَّليبِ وَلَفَّه في كَتَّان، ووَضَعَه في قَبرٍ حُفِرَ في الصَّخرِ لم يَكُنْ قد وُضِعَ فيهِ أَحد (23، 53). تأمّل عمل رعاية وإكرام لجسد يسوع الذي دُنِّس وأُذِلَّ. هناك بعض الرجال والنساء عند أقدام الصليب. يشير لوقا إلى يوسف، وكان من الرامة، امرُؤٌ "صالِحٌ بارٌّ" (لوقا 23، 50)، الذي طلب من بيلاطس جسد يسوع؛ ويضيفُ يوحنا نيقوديموس الذي ذهب ليلًا إلى يسوع؛ وبعض النساء اللواتي ينظرن، أمينات للغاية. أراد تأمّل الكنيسة أن يضيف إليهم مريم العذراء، التي من المحتمل جدًّا أن تكون حاضرة في هذا الوقت. مريم، أمّ الرأفة، التي تأخذ بيديها الجسد الذي ولد من لحمها، ورافقته بكّل حنان وتكتمّ طيلة السنين، شأن أمّ تحمل هم ابنها. الجسد الذي تقبله الآن، هو جسد هائل، على قدر ألمها، وعلى قدر الخلق الجديد الذي يبدأ في آلام المحبّة التي جازت قلبَي الابن والأم. في الصمت العظيم الذي حلّ بعد صيحات الجنود، وسخرية المارّة وضجّة الصلب، لم تعد اللفتات إلا لطفا ومعانقة مملؤة احتراما. يوسف ينزل الجسد الذي يستسلم بين يديه. يلفّه في كفن، ويضعه في قبر جديد ينتظر ضيفه في البستان المجاور. لقد انتُزِع يسوع من أيدي قاتليه. ووضع الآن، في موته، بين أيدي الحنان والتعاطف. لقد ذهب عنف الرجال القاتلين بعيدًا جدًّا. وعاد الحنان إلى مكان التعذيب. لطف الله ولطف الذين ينتمون إليه، تلك القلوب الوديعة التي وعدها يسوع يومًا بأنها سوف ترث الأرض. لطف الخليقة الأصلي ولطف الإنسان الذي هو على صورة الله. لطف النهاية، عندما ستُمسَح كلّ دمعة، وعندما يَسكُنُ الذِّئبُ مع الحَمَل، لأن معرفة الله تكون قد بلغت كلّ ذي جسد (را. أش 11، 6. 9). نشيد لمريم مريم كفّي البكاء: ابنك، ربّنا، يرقد بسلام. وأبوه، في المجد، يفتح باب الحياة! افرحي يا مريم: يسوع القائم من الموت قد غلب الموت! صلاة الآبانا في سلامك يا رب، أضّجع وأنام؛ أقوم: أنت معونتي. المرحلة الرابعة عشرة: يسوع يوضع في القبر من إنجيل القديس لوقا وكانَت النِّسوَةُ الَّلواتي جِئنَ مِنَ الجَليلِ مَعَ يسوع يَتبَعنَ يوسُف، فأَبصَرنَ القَبْرَ وكَيفَ وُضِعَ فيهِ جُثمانُه. ثُمَّ رَجَعنَ وأَعدَدنَ طِيباً وحَنوطاً، واستَرَحنَ راحةَ السَّبْتِ على ما تَقْضي بِه الوَصِيَّة (23، 55- 56). تأمّل لقد عادت النساء. فالذي رافقنه، وسرنَ معه بحزم وهنّ يخدمنه في دروب الجليل، لم يعد في الوجود. ولم يترك لهنّ، في هذا المساء، إلّا صورة القبر التي تأخُذنَها معهنّ والكفن حيث يرقد الآن. ذكرى فقيرة وثمينة من أيام متوقّدة قد قضت. وحدة وصمت. وعلاوة على ذلك، السبت يقترب، وهو يدعو إسرائيل إلى الاستراحة، كما الله استراح، عندما انتهى عمل الخلق الذي تمّ في ظل بركته. أما الذي يتمّ اليوم فهو أمر آخر. ما زال حتى الآن خفيًّا، لا يُسبر. سبتٌ يبقين فيه اليوم دون حراك، بخشوع القلب والذاكرة المحجوبة بالدموع. يهيئن أيضًا الطيب والحنوط ليكرّمن جسد يسوع مرّة أخيرة غدًا، عند الفجر. ولكن هل كن يتحضّرن، بهذا العمل، لبلسمة رجائهن وحسب؟ ماذا لو كان الله قد حضّر لهنّ إجابة لا يستطعن تكهّنها، أو تصوّرها، أو تحسّسها... أن يجدن القبر فارغا...، والبشارة بأنه ليس هنا، بل حطّم أبواب الموت... صلاة أيّها الربّ إلهنا، نرجو منك أن تنظر وتبارك أعمال النساء اللواتي يكرّمن، في هذا العالم، هشاشة الأجساد التي يغمرنها بعذوبة وإكرام. ونحن، الذين رافقناك على درب المحبّة هذا حتى النهاية، تنازل واحفظنا، مع نساء الإنجيل، في الانتظار وفي الصلاة، اللتين استجيبتا بقيامة يسوع، التي تتحضّر الكنيسة للاحتفال بها بالتهليل ليلة الفصح. صلاة الآبانا له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين! آمين! |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|