|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الصليب في كتابات بولس الرسول إلى الكورنثيين (أمّا عندنا، نحن الذين نالوا الخلاص، ف(الصليب) هو قدرة الله) (1 كور 1: 18). من كتاب لاهوت بولس الرسول،نخبة من علماء اللاهوت من مُختلف الطوائف. لزم بولس، رسول الامم، قدر من الشجاعة كبير كي يغرس الصليب وسط (جيل معوجّ فاسد) في مدينة اشتهرت بالانحلال بحيث أضحى فعل (كورنثيَزين) korinqiazein يعني (قام بالفحشاء) وصارت في المنكرات مضرب الامثال، ومنها (ليس في مقدور كل واحد أن يسكن في كورنثوس) أو (أن يذهب اليها)(1). وفي الوقت نفسه كانت كورنثوس تحوي مدارس فلسفة وتفتخر بأنها تحفظ قبر ذيوجينس. وبدل أن ينطلق تبشير بولس هذه المرّة من الخالق ليصل إلى تدخله تعإلى الاخير في التاريخ عن طريق المسيح، كما فعل الطرسوسي الغيور في ليسترة وأثينة، (ركّز تعليمه على المصلوب)(2). وهكذا تحدّى (الاناء المختار) وتصدّى: تحدّى الفساد ومصدره الانانية ليكرز بالصلاح ومثاله تفاني المصلوب، وتصدّى الرسول للرذيلة التي تؤلّه الجسد مُظهراً يسوع الناصري الذي صُلب وصَلَب جسده. رفض بولس استعراض الاباحية لجسم الانسان وعرض المسيح المصلوب العاري الذي يعرّي الانحلال ويفضح الفساد. ومن ناحية الحكمة و(الفلسفة) - التي هي محبة الحكمة jilosojia - قطع سيف الله الحاد (قول كل خطيب) إذ شهر الصليب حساما وشعارا. وساعدته العزة الالهية، كما كانت قد أعلنت السيدة العذراء، لكي (يُشتَّت المتكبرون في أفكار قلوبهم) إذ بالصليب (سيرفع الله الاذلاء ويضع الاعزاء) ويبقى المصلوب قويا عاليا مدويّا صراخه ك (آخر صيحة بين الارض والسماء)، فيه (كل كنوز الحكمة والعلم) (كولسي 2: 3). مع ان لفظةstauroz (ستافروس) (صليب) ترد فقط مرتين في الرسالة (الاولى) إلى الكورنثيين (1: 17 و18) والفعل (صلب) في المعلوم والمجهول (ستافروو) staurow) موجود اربع مرات في الرسالة الاولى (1: 13 و،23 ثم 2: 2 و8) ومرّة واحدة في الثانية (13: 4)، للمصلوب والصليب مكانة اساسية مركزية (تتمحور) حولها كل تلك الكتابات البولسيّة إلى الكورنثيين، كما سيظهر من هذه الدراسة. الصليب في التاريخ وفي العهد الجديد يبدو ان الفرس اخترعوا الصليب كأداة لتنفيذ حكم الاعدام في شرّ المجرمين(3). كانوا يقتلون المجرمين مرفوعين على الخشب، وهم في رفعهم ايّاهم ينوون أن يتجنّبوا تدنيس الارض التي اعتقدوا انها مكرّسة لاله الخير اهرومزدا (4). ويلقى المرء حرصا مماثلا لدى العبرانيين الذين كانوا يعلّقون على خشبة جثّة المشنوق أو اي انسان تم إعدامه (بأية وسيلة أخرى): (لا تبت جثّته على الشجرة.. فلا تنجّس أرضك التي يعطيك الرب الهك ميراثا) (تث 21: 23). ومع ان القديس بولس يستشهد بهذا النص الذي مفاده (ملعون المعلّق على خشبة) (غل 3: 13)، فهنالك فرق واضح بين العقابين: الصليب عذاب روماني كان يُصلب عليه المحكوم حيّا، في حين ان الشجرة المذكورة في تثنية الاشتراع عرض لجثث الذين أعدموا بطرق أخرى. القديس بولس يأخذ العنصر المعنوي المشترك بين العقابين وهو اللعنة والخزي. وفعلا، أمسى يسوع - وهو القدوس المبارك - (لعنة) في عيون (العدل) البشري البيلاطسي الجائر والجماهيري العبري الظالم. وراحت المصادر التلمودية تشير باحتقار إلى (تعليق) يسوع ووصفته بال (تلوي) اي (المعلّق) على الخشبة(5). من بلاد الفرس، انتقل الصليب إلى شمال افريقيا، إلى القرطجنيين ومنهم إلى اليونان، فقد أمر الاسكندر الكبير المقدوني بصلب المئات من اعدائه. وعندما احتل الرومان أرض اليونان عسكريا، قامت (بلاد اليونان المغزوّة بغزو غازيها القاسي) واحتلت روما ثقافيا وحضاريا، فأخذت روما عن الاغريق المسارح والحمامات.. وعقاب الصلب وسواها من الايجابيات والسلبيات. وقضى القانون الروماني بصلب العبيد لا المواطنين الرومان الا كبار المجرمين من موقدي الفتن والثورات وأعظم اللصوص وقطّاع الطرق والخونة(6). تفنّن الرومان في تعذيب المحكوم عليهم بالاعدام وفي أشكال الصليب. باديء الامر، أشارت لفظة (ستافروس) في كتابات هوميروس وغيره من الكلاسيكيين إلى خشبة عامودية أو وتد(7). ولكن زيدت عليها قطعة أخرى أفقية مدعوّة (باتيبولوم)patibulum كان يحملها المحكوم عليه على كتفيه واللفظة ليست مأخوذة من فعل (باتي) اللاتيني pati الذي يعني (تألم) بل من فعل (باتيره)patere اي (فتح)، لأن المفهوم منقول عن الخشبة العارضة الكبيرة الثقيلة التي كانت توضع وراء الابواب لوصدها جيدا فكانت الابواب تُفتح(8) برفع الخشبةpatebant fores).). وسرعان ما أصبحت لفظة (ستافروس) اليونانية ومقابلتها اللاتينية (كروكس)crux تشير إلى كلتا الخشبتين وإلى كل منهما على حدة(9). وبالفعل، يروي الانجيليون ان يسوع (حمل صليبه) اي القطعة الافقية، بما ان العامودية كانت تزن ما لا يقل عن 75 كيلوغراما وما كان طولها أقل من مترين، في حين ان الافقية تُحمل على المنكبين - أمّا العامودية فتُجرّ جرّا في أفضل الاحتمالات. وعندما كان يبلغ المحكوم عليه مكان تنفيذ الاعدام اي الصلب، كانت تسمّر يداه او تُربطان على الخشبة الافقية ويُرفع على العامودية، بحبال أو سلالم أو بالقوة البشرية، بحيث نشأت العبارة (صعد إلى الصليب) أي إلى القطعة العامودية ascendere in crucem (10). ورأى الحبيب يوحنّا في (ارتقاء) يسوع على الصليب تلميحا إلى مجده وسموّه وجاذبيته (12: 32). ومّما يُثبت صلب يسوع على تقاطع خشبتين استفزاز تلميذه توما العنيد: (إن لم أبصر في يديه أثر المسمارين (في اليونانية (تون هيلون)twn hlwn).. وإن لم أضع يدي في موضع المسمارين.. لا أومن (أي لا أصدّق(11). منطقيا، لو صُلب يسوع على خشبة واحدة لكان في يديه الاثنتين مسمار واحد فقط (وتوما يعرف ما يقول!). فوجود مسمارين في يديه الاثنتين دليل قاطع على وجود خشبتين متقاطعتين(12). لذا، لم يكن صليب يسوع ال (كروكس سيمبلكس) crux simplex (خشبة عامودية واحدة) التي صوّرها الكاتب الحديث يوستوس ليبسيوس (1547 - 1606)(13)، ولا الصليب الذي عرفه الرومان باسم (كروكس كوميسا) أو (غريكا)crux commissa ou: graeca بشكل حرف التاء الكبيرة اليونانية واللاتينية T(وتُدعى أيضا (صليب القديس فرنسيس)، بل كان صليب المخلّص (كروكس ايمّيسّا) أو (ابرتا) أو (لاتينا) crux immissa, ou aperta; ou latina ذات الزوايا الاربع(14) بما ان علّة موت يسوع كانت مكتوبة فوق رأسه (عن متّى 27: 37 والمواضع الموازية)، في ثلاث لغات هي اللاتينية (لغة الامبراطورية والحاكم الروماني) واليونانية (لغة الثقافة والتبادل الدوليين) والعبرية اي الارامية (لغة الشعب)، بحروف كبيرة في اللون الاحمر، لون الدم والموت. 1 - مجمل الافكار البولسية عن الصليب في الكتابات إلى الكورنثيين في مدينة (المرفأ الثنائي الفاسد)(15) يؤسّس بولس الكنيسة (أعمال الرسل 18). وما نشب أن غادرها واحتدمت الخلافات بين مؤمنيها والصراعات والانقسامات، فقال هذا (أنا من حزب بولس) وغيره (أنا من حزب أبولّس). وتبرأ قوم من الطرفين فهربوا إلى حزب ثالث (أنا مع المسيح) أو ربّما قصدوا انهم يرتفعون بالمسيح الرب على خادميه ورسوليه وتلميذيه! و(عادت حليمة إلى عادتها القديمة) عند بعض المعمّدين إذ (لكل امريء من دهره ما تعوّدا)، فرجع بعضهم (إلى قيئهم) وإلى فساد جاهليتهم ناسين معموديتهم ضاربين بعرض الحائط تقديسهم وغسلهم باسم الله وكلمته وروحه مغفلين انهم (قد لبسوا المسيح).(وتألّق) أحدهم بفحشاء منقطعة النظير فاق فيها الوثنيين أنفسهم (5: 1 وتابع). وما توانى آخرون من المسيحيين الجدد في اللجوء إلى المحاكم الوثنية - وهي نجسة وهم القديسون المقدّسون المختارون! (فصل 6). على خلفيّة الاصل المتواضع لمعظم سكان قورنثس (الذين كان ثلاثة أرباعهم من العبيد) وانتفاخهم بالفلسفة وتشدّقهم بالبلاغة، جامعين بين الاباحية والخيلاء، وميلهم إلى إنزال الانجيل إلى مستواهم (إرضاءً للمستهلكين)، ونزعتهم إلى التحزّب والتشرذم، رسم رسول الامم صليبا من نور ليبدد (ظلمات الافئدة) وليرفع (القلوب إلى العلى) حيث المسيح المعلّق البريء الذي ظلمه (سلطان الظلمة) وأعوانه - نعم، المسيح المصلوب هو كلمة الله، الاولى (عن يوحنا 1: 1) والاخيرة، فلا حكمة بعده ولا قوّة ولا قدرة. ذُهل الكورنثيون من مركزية المصلوب والصليب(16) في السيرة السيدية وفي تبشير بولس والقوا اسلحتهم معترفين بألوهية الملك المرتفع على الخشبتين وبالسلطة الرسولية البولسية وبسمو الاخلاقيات الانجيلية، كما فغر الناس - بما فيهم العظماء - افواههم أو سدّوها اندهاشا وحزنا وهيبة وإجلالا، أمام مشهد المصلوب (عن أشعيا 52: ،51 متّى27: 54). تتلخّص فكرة الرسول بأن الصليب الذي يبدو حماقة، (يحقّق الخلاص بطريقة تبدو مجنونة (أو حمقاء)(17). وبما ان الصليب مركز البشارة فإن (عدوى) جنونه تنتقل اليها، إذ يَعرض حماقة وعجزا يُعرض عنهما اليهودي المتعطش للمعجزات واليوناني المتفذلك المتفلسف الذي (لا يعجبه العجب)!(18) ويرى بولس تناقضاً بين (حكمة العالم) العبرية أو (حكمة الدهر) اليونانية الهلنستية التي تريد أن (تريح رأسها) وأن تتأكّد بحواسّها - ولا سيّما البصر - من صحة عقيدتها، محاولة أن تخفض مستوى أخلاقيات الانجيل(19)، وبين (حكمة الله) المتجلية في الصليب الكريم المحيي الذي يظهر لاول وهلة حقيرا قاتلا. المصلوب والصليب متماهيان (s'identifient): يكتب بولس الرسول نفسه ان يسوع صالح العالم مع الله (بدم صليبه) (كولسي 1: 20).انهما - أي المصلوب والصليب المتلاصقين في عناق قاتل محيٍ- (حكمة الله) وقدرته وخلاصه، فقد انقلبت الموازين كما ترتّل الليترجية اللاتينية: (لاحت علامات الفدا سرّ الصليب قد بدا الحيّ فيه إذ غدا ميتا حياة أوجدا) تحوّلت أداة الموت حياة ووسيلة الذل مجدا! وكان قد كتب صاحب المزامير: (صار إلى البكم كل آثم) (107 (106): 42 ب). وأفحم سواد الصليب والقبر والظلمة التي غشيت الارض أهل الفكر والاجتهاد! ويخلص بولس إلى انتقاد (رؤساء هذا العالم) الذين ما عرفوا الحكمة الربانية وتمادوا في جهلهم وجهالتهم وعمى بصائرهم حتى (صلبوا رب المجد). 2 - تحليل النّصّ والسّياق المباشر (1 كور 1: 16 -،18 ثم 2: 1 -2 يناشد رسول الامم اهل كورنثوس المسيحيين أن يبقوا (على رأي واحد وفكر واحد) بعد ان سمع من أهل بيت السيدة (خلوي)cloh نبأ انقساماتهم. ولأوّل مرّة يرد فعل (صُلب) في المجهول في هذا الاطار المأساوي كنسيا (1: 13): (أتُرى المسيح انقسم؟ ألعلّ بولس صُلب من أجلكم؟ أم باسم بولس اعتمدتم؟) الرّدّ على هذه الاسئلة الخطابية معروف: لا، المسيح واحد! ونحن اعتمدنا باسم المسيح الواحد الذي صُلب هو - لا غيره - من أجلنا (في عهد بونطيوس بيلاطس)، كما جاء في الكتب، والذي اعتمدنا باسمه - لا باسم غيره - ونحمل اسمه (ابتداء من انطاكية) لا اسم سواه (عن 1: 2) إذ ليس بغيره الفداء (وما من اسم آخر تحت السماء وُهب للناس به يمكن لنا أن ننال الخلاص) (عن أع 4: 12). النتيجة الاولى من هذه الاية 1: 13: المسيح المصلوب (يجمع أبناء الله المتشتتين) (يوحنا 11: 52) كما جمع بصليبه السماء والارض والرياح الاربع واليهودي واليوناني (عن غل 3: 28). إنّ صلبه يعطيه الحقّ في أن يدين البشر له بالولاء والوفاء والسمع والطاعة، ويخوّله صلاحية تعميد الناس باسمه. صليب المسيح أساس انتمائنا اليه واعتمادنا باسمه(20)، فماء معموديتنا مصبوغ بدمه، هو الذي (طعن أحد الجند جنبه بحربة، فحرج للوقت دم وماء) (عن يوحنا 19: 34)، وهو المنقذ الاتي (بالماء والدم) (عن يوحنا الاولى 5: 6). اشترى بدمه وفدى(21) (6: ،20 ثم 7: 23). ان الناس مُلكه ومِلكه لأنه قدّم لهم الحب الاعظم، أن (بذل حياته من أجلهم) (عن يوحنا 15: 13): (ان محبة المسيح تأخذ بمجامع قلوبنا عندما نفكّر أنّ واحدا قد مات من أجل جميع الناس، فجميع الناس قد ماتوا. ومن أجلهم جميعا مات المسيح، كيلا يحيا الاحياء من بعد لأنفسهم، بل للذي مات وقام من أجلهم) (2 كور 5: 14 - 15). (الاولى) إلى الكورنثيين (رسالة الصليب) ورسالة قيامة الرب يسوع المجيد المجيدة (خصوصا فصل 15). ولا عجب، فالصليب والقيامة والصعود مرتبطة (عن 2 كور 1: 5 -،7 وخصوصا لوقا 24: 26). - 1: 17 (فإنّ المسيح لم يرسلني لاعمّد (أي ليست المعمودية هدفا ولا غرضا اساسيا) بل لأبشّر، لا بحكمة الكلام، لئلاّ يُبطل صليب المسيح). الأسلوب الشرقي السّاميّ غير دقيق (مأ ارسلني لاعمّد بل لابشّر) تعني (ما أرسلني أصلا ولا أوّلا ولا فقط) لاعمّد بل الشّأن للكرازة! والتبشير هو اعلان البشارة (الفعل (اوانجليزوماي) enaggelizomai, enaggelion من (اوانجليون) لئلا (يُفرغ) صليب يسوع، حسب الفعل اليوناني الاصلي kenoqh (كينوثه). التعويل على (حكمة الكلام) (سوفيا لوغو)h sojia logou) كان من صفات الفلاسفة الاغريق والهلنستيين. ويمكن نقل العبارة ب (حكمة المنطق) بما ان (لوغوس) تعني ايضا (منطق، سبب). هنا يضمّ الرسول حذق التفكير وحسن التعبير ويقصيهما طوعا لا كرها، مع انه كان (من كلاسيكيي الهلنستية)(22)، فلسفة وخطابة. ولكنّ نصب عينيه المصلوب ولا يستطيع أن يتجاهله! النتيجة الثانية: الاعتماد على (حكمة الكلام) أي على الفلسفة والبلاغة تفريغ لصليب المسيح! انه (تصفية) للتضحية والفداء عن طريق الذل والعذاب والموت وانه تملّق (لسحر البيان) ولغرور التفكير البشري) (عن كولسي 2: 6 و8). (كلمة الصليب) هي صليب الكلمة البشرية الفلسفية، من عبرية ويونانية. عند بولس (المفكر الخطيب المستغني عن الفلسفة والبلاغة في سبيل المسيح المصلوب) الصليب والبلاغة ضدّان لا يلتقيان وخصمان لا يتّفقان ونقيضان لا يلتئمان! من طلب البلاغة وإعجاز اللسان خسر الصليب، ومن طلب الصليب ترفّع عن البيان!(23) وسيختار بولس الصليب وسيترك البيان والفصاحة والبلاغة ومقاييس التفكير الهلنستية والحاخامية (2: 1 - 2) ولن يعرف الا (يسوع المسيح واياه مصلوبا) (2: 2). الكلام فارغ(24)، وإذا ركن أحد اليه في التبشير بالانجيل أصبح الصليب فارغا، وأمسى فقط كلاما في كلام! (ملكوت الله ليس بالكلام بل بالعمل) (4: 20). الكلام سهل والتضحية القصوى (حتى الموت، موت الصليب) صعبة جدا، ونادرا ما يُقدم عليها أحد ولا سيّما إذا كان يموت عن بشر غير صالحين (عن روم 5: 6 - 10). ويقول بصواب مثل دارج: (قليل العقل يرضيه الكلام). المنتفخون يلقون الخطب ويطّرزون الالفاظ وبولس يركن إلى قدرة المصلوب ومعجزة الصليب (4: 19). أمام صليب المسيح يسكت اللسان. وبخلاف ذلك، عندما يلعلع اللسان ويسترسل في البديع والمحسنات اللفظية يغطّي فراره من الصليب ويفضح لجوءه إلى (الصنج الذي يرنّ والنحاس الذي يطنّ) (عن 13: 1)، هذا حال الفصاحة من غير محبة (عن 13: 1)، انها طبل أجوف وبوق عقيم أقصى فعله الصدى ولا يأتي بالفدى! أمّا الصليب فهو قمّة المحبة الفادية، (ولا مغفرة من غير سفك دماء) (عن عبرانيين 9: 22). (الاقوال تطير والكتابات تبقى)(25)، والمسيح ما كتب - كما تمنّى أيوب، (أن تُكتب أقواله وتُرقم بقلم من حديد على الرصاص) (أي 19: 23 - 24) بل كتب بدمه سِفر الحياة. ما قال يسوع فقط، بل فعل. ما أعلن المحبة لخاصّته فقط بل مات من أجلهم، وهذا هو البرهان الاقوى، لأن (المحبة قوية كالموت). الخلاف قائم بين التعويل على الفكر والبلاغة من جهة، والصليب من جهة أخرى. أمام هذا العقاب الفتّاك، يستقيل الفكر وييأس، ويرتبط اللسان ويشلّ. الصليب مصداقية حب المسيح وحقّ رسالته، هي ختم كلماته، هي شهادة للمصلوب، كما كتب القديس يوستينوس(26). الذي يموت من أجل الناس لا يخدعهم، ولكن (الكلام المعسول) من صفات المعلمين الكذبة (عن 2 بط 2: 1 -،2 روم 16: 18) ومن صفات المتاجرين بكلام الله وبالناس، ومن صفات الانبياء الكذبة ارتداؤهم ثياب الحملان، بالكلام المنمّق الذي يخفي الفراغ والفساد (عن متّى 7: 15- 17). ثمارهم الطنطنة والانانية وإرضاء الذات وثمار يسوع اقتضاب الكلام والتفاني والاتضاع. - 1: 18 (إنّ لغة (في اليونانية: لوغوس، ولعل) اللفظة (لغة) مشتقة من اليونانية) الصليب حماقة عند الهالكين، وأمّا عند الذين نالوا الخلاص، عندنا، فهو قدرة الله). (هو لوغوس تو ستافرو) o logo6 tou 6taurou، (كلمة الصليب) او (منطق الصليب)، الكلمة التي هي الصليب كقولك (لفظة الصليب) (ومفهومه ومدلوله). هذا المضاف اليه مرادف لبَدَل ومعناها: (الكلمة التي هي الصليب جنون..)، كقولك (مدينة القدس) اي المدينة التي هي القدس. ويدعى هذا (المضاف اليه التفسيري)génitif explicatif).) الصليب كلمة جنونية وواقع لا معنى له، أو إذا كان له معنى فهو فظيع كريه غير معقول ولا مقبول! والنظر إلى صليب يسوع كصلبان سابقيه او كرموز الوثنية بشكل صلبان - هذا النظر القصير يحصر التفكير في أداة العذاب والعقاب والاعدام البغيضة ويسبب النفور والاشمئزاز والتمرّد والاستياء والثورة لسان حالها: (لا نريد المشنقة شعارا ولا الاعدام راية!) الصليب! وما أدرانا نحن أبناء العصور الحديثة ما الصليب؟! الجنون نقيض الحكمة التي طلبها اليونانيون (الاية 22 ب)، ولا سيّما الفلاسفة من إغريق كلاسيكيين وهلنستيين. مثلا، هذا أفلاطون يعارض معلّمه سقراط الذي حسب ذاته سعيدا وهو محكوم عليه بالموت على براءته: (حين يتآمر انسان من غير حقّ على طاغية، فيُلقى القبض عليه ويُسلم للتعذيب، فتُبتر أطرافه وتُحرق عيناه، ويتألم من العذابات الشخصية الوحشية المتنوعة فيشهد إذلال أبنائه وزوجته، وفي آخر الامر يُصلب أو يدهَن بالزفت ليُحرق حيّا، أيكون هذا الرجل أسعد ممّا لو نجح في الفرار..؟)(27). و لنسألنّ من كان بالعالم الروماني خبيرا: يوليوس باولوس - في القرن الثالث قبل الميلاد - وضع عقاب الصلب في أول قائمة العذابات، يتبعه الحرق ثم قطع الرأس(28). أمّا نجم الخطابة شيشرون (106 - 43 ق.م.) فهو الروماني الوثني الذي يجسّد النفور من الصليب والارتياح للبلاغة! يكتب في عقاب الصليب انه ("أقسى العذابات وأفظعها)(29) ويصفه بأنه (الطاعون)!(30). ويسخر الفيلسوف الروماني اسباني الاصل سينكا (2 - 65 م) من (ميشينوس) الذي رفض فكرة الانتحار قبل الصلب: (أهنالك انسان يحبّ أن ينهار تحت وطأة العذابات، وتفنى أعضاؤه الواحد تلو الاخر، وتُهدر حياته قطرة قطرة، بدل أن تفنى دفعة واحدة؟ من الذي يُعلّق على المشنقة الملعونة، وقد أعيق وشُوّه وتحوّل كتفاه وصدره إلى حدبتين بشعتين، ويكون لديه ألف سبب للموت حتّى قبل الصليب، ويرجو أن يمدّ وجوده الذي سيطيل من آلامه؟)(31). أشار الرومان إلى الصليب بأنه (عذاب العبيد)servile supplicium) غير اللائق بالمواطنين. وكتب شيشرون أيضا: (لو هددونا بالموت، فلنمت أحرارا على الاقل! نعم، فليبتعد الجلاد والحجاب على الرأس وحتّى ذِكر الصليب..) (32) ولا ينسى التاريخ العبد (سبارتاكوس) الذي قاد ثورة العبيد وصُلب مع المئات منهم (سنة 71 ق.م.). وبما ان الصلب للعبيد، فلفظة (القابلين للصلب)Cruciarii مرادفة ل (العبيد)(33). (يضاف إلى ذلك انه كان يُصلب عبيد السيّد الذي كان يُغتال ولا يُعرَف قاتله)(34). النتيجة الثالثة: نظرة اليهود والوثنيين (ممثلين باليونانيين) إلى يسوع نظرتهم فقط إلى أداة عذاب وعقاب وإعدام هي موقف هلاك لا يساعد على إدراك الخلاص. وكذلك موقف المسيحيين ناقصي الايمان عبر التاريخ الذين يتنكّرون للصليب السيدي! أ - تفصيل نظرة اليهودية لصليب يسوع إن مجرّد امكانية أو فرضية تعرّض (المشيح) للصلب عثار لليهود (1: 23). بطرس، أوّل الرسل، يقصي (المشروع) ويرفضه ويقول: (حاشى لك يا رب (يا يسوع) من هذا المصير!) ويجيبه يسوع: (إذهب خلفي يا شيطان، فأنت عثار لي) (متّى 16: 23). في 1 كور 1: 23 وفي متّى 16: ،23 ترد اللفظة ذاتها skandalon (سكانذالون)، حجر عثرة، للتعبير عن المضمون ذاته: بطرس حجر عثرة ليسوع لأن الرسول، بشري الافاق، يرفض الصليب ليسوع، والصليب حجر عثرة لليهود أمام (مشيحانية) الناصري ابن مريم! الصليب خيبة أمل عدد من محبي يسوع من رسل وتلاميذ، فقد تأمّلوا (مشيحًا) منتصرًا، امبراطورًا عسكريًا سياسيًا يبسط سيطرتهم على المعمور. ويعبّر تلميذا عماوس عن خيبة الرجاء: (ما يختصّ بيسوع الناصري: كان نبيّا مقتدرا على العمل والقول عند الله والشعب كلّه. كيف اسلمه عظماء كهنتنا ورؤساؤنا ليُحكم عليه بالموت، وكيف صلبوه! وكنّا نحن نرجو انّه هو الذي سيفتدي اسرائيل، ومع ذلك كلّه فهذا هو اليوم الثالث مذ جرت تلك الامور..) (لو24: 19- 21)، وسأل الرسل والتلاميذ المجتمعون المصلوب القائم من القبر: (أفي هذا الزمان تردّ الملك إلى اسرائيل؟) (أع 1: 6 - 7)، ومنهم من كان له ثلثا الخاطر في تنصيب يسوع ملكا،بناء على طلب الجماهير التي اشبعها من الخبز والسمك (عن يو 6: ،15 مت 14: ،22 مر6: 45)، وما خطر على بال الجموع ان يسوع هو (الخبز الحي) وان من الرموز التي ستشير اليه وإلى المسيحية الصليب والسمكة. واهتز الرسل طربا لمشروع المشيح الملك (ميلخ هاماشياح) الذي يخضع الشعوب للامة العبرية (عن مز 47 (46): 4) وحلموا بأنفسهم وزراء في مملكته في هذا الجيل، ولكنه وعدهم بشرب الكأس المرّة في هذه الحياة وبالتواضع طريقا إلى المجد، وبأنهم لن (يدينوا الاسباط) الا في (جيل التجديد) لا في الوقت المعاصر! في كل هذه الحسابات، فاتتهم نصوص نبوّة أشعيا عن (عبد الرب المتألم) (خصوصا الفصل 53) والمزمور 32 (22) ولقب (ابن الانسان) (عن دانيال 7: 13) المنطوي على التواضع، ولكن يتكلل ذلك التواضع بالبهاء والمجد! ألم يذكروا ان (ابن الانسان)أحبّ القاب يسوع اليه؟ أمّا الغرباء والاعداء من اليهود، فقد رأوا في صليب يسوع ما ينسف (مشيحانيته). فقطعوا اسمه من (يشواع) (الذي يفيد الخلاص) إلى (يشو) في التلمود وسائر كتاباتهم وأشاروا اليه بلفظة التحقير (ها تلوي) أي (المعلّق على الخشبة) وعلّل التلمود البابلي (تعليق يسوع، عشية الفصح.. بأنه أغوى اسرائيل بالسحر)(35). ويفيد تاريخ الكنيسة، في قديمه وحديثه، ان عددًا من البدع تتنكر للصليب وتتجاهله وتشنّع به، ولعلّها في ذلك نابعة عن اليهودية التلمودية الحاخامية التي ما تورعت عن الطعن بالمصلوب وبوالدته وبالكنيسة. ب - تفصيل النظرة الوثنية لصليب يسوع في رأي الوثنيين أن المصلوب والصليب حماقة ما بعدها حماقة (1: 23) ووبأ نفسي واجتماعي يستأهل الوصف الشيشروني ب (الطاعون). تكفي بعض الامثلة لتبيان الموقف: - كتب المؤرخ الروماني تاشيتوس(36) في (الحوليات) (15، 44, 2- 5) في المسيحيين: (يأتيهم هذا الاسم من كريستوسChrestus الذي حكم عليه الوالي بونطيوس بيلاطوس بالعذاب في عهد (الامبراطور) طيباريوس). يبدو ان ما علق في ذهنه من كل سيرة يسوع وأقواله موته على الصليب. - الفيلسوف الروماني تشيلسيوس (نحو سنة 178 م) يتهكم على المسيحيين ويعاتبهم (لحماقتهم): (انتم تنسبون الطبيعة الالهية إلى رجُل أنهى حياة دنيئة بميتة شقيّة). - في القرن الميلادي الثاني ايضا، رسم في البلاتينو لمسيحي مدعو (اليكسامينوس) (يعبد الهه) والمعبود مصلوب بوجه حمار!(37) ج - تفصيل نظرة المسيحيين ناقصي الايمان والمسيحيين المزيّفين لصليب يسوع - الغنوصيّة كانت تعدّ يسوع (أيونا)eon، بين اللاهوت والناسوت، لذلك لم تحسبه انسانا كاملا (بنقائص الطبيعة البشرية وحدودها، ما خلا الخطيئة). ومن كتبهم (رؤيا بطرس) (التي لا يجدر خلطها مع رؤيا أخرى لبطرس منحولة ايضا، غير غنوصية)(38). في الرؤيا الغنوصية المشار اليها (81 - 83) يسرّ يسوع عندما يقوم أعداؤه بصلب شبيهه أو شبه جسده. وعليه، ما كان صليب يسوع يعني شيئا للغنوصية التي (أفرغته) من معناه. - الجماعات (التشبيهية) أو (الدوقيتية)docètes من الفعل اليوناني dokein (دوقين) اي (ظهر، بان)، كانت تؤكّد ان ليسوع جسدا ظاهرا لا حقيقيا(39)، وعليه فإنّه شبه وُلد وشبه تألّم وشبه صُلب (وشبه قام وشبه صعد). وكانت الحركات الدوقيتية تنهج الثنائية ذات الميول الروحانية(40) في نظرتها للتجسد وللالام. وراح الدوقيتيون (يحذفون من التجسد والالام ما توهّموا انه ليس جديرا أو لائقا بابن الله.. في أطُر افلاطونية حيث تتصارع الوقائع (الحقيقية) العقلية ووقائع العالم الحسّيّ. أمّا مرقيون فقد ارتأى انّ للمسيح (جسدًا سماويًا)، وذهب (ابيللس) Apelles إلى أن جسد يسوع كان شبيها بأجساد الملائكة في أثناء ظهوراتهم. ويمكن القول ان (الدوقيتيين) في المعنى الحصري هم الفالنتينيون الذين أعلنوا ان الفادي ما أتّخذ أيّ جوهر جسديّ)(41). فمن البديهي أن (يتبخّر) الصليب السيدي عند كل تلك الفرق، بما ان يسوع (كان انسانا فقط في المظهر)(42) لا في الجوهر (ولعلّ نقطة الانطلاق تفسير خاطيء لنص فيليبي 2: 6 (وقاوم القديس اغناطيوس الانطاكي هذه البدع في رسالته إلى التراليين (9 وتابع)(43). ولكنّ مبدأ القديس غريغوريوس النازيانزي واضح: ما لم يتّخذه المسيح (في كيانه) لا ينال الشفاء أي لا يشمله خلاصه (الرسالة رقم 101)(44). - هنالك فئات معروفة بعدائها للصليب، مع اعترافها (بالرب الذي اشترى) البشرية. يقولون انهم (يسيرون حسب الكتاب المقدس) ويتكلمون دوما عن (الرب يسوع) وانه (غسلنا بدمه) وانه (المخلّص الوحيد). ولكن، في الوقت ذاته، يتهربون من الصليب ومن رسم المصلوب على الصليب (حاسبين اياه (صنمًا) ومن اشارة الصليب(45). وتفتّقت عن ذلك الموقف الساعي إلى "تصفية" الصليب عدّة اعتراضات وأفكار منها (على سبيل المثال لا الحصر): (1) (إكرام الصليب يجب أن يبقى في القلب، فلا يجدر أن يُحمل على الصدور ولا فوق البنايات والكنائس). - وهذا مخالف لموقف بولس الذي لا يفتخر الا بالصليب (عن غل 6: 14). (2) (تكريم الصليب عبادة صنم). وربّما يجب أن يعاد هنا النظر في عبارة (السجود للصليب) في طقوس اسبوع الالام ولا سيّما الجمعة الحزينة (لئلا يعطى ذلك الانطباع الخاطيء). (3) (لماذا لا ترفعون في كنائسكم الحية النحاسية والسارية؟) (عن سفر العدد 21: 8) - الرد: حيتنا النحاسية هي المسيح والسارية هي الصليب حسب يوحنا 3: 14: (كما رفع موسى الحية في البريّة، هكذا يجب أن يُرفع ابن الانسان). (4) (الصليب من خشب، فلماذا تلبسون صلباناً معدنية او من حجارة كريمة؟) إذا كان صاحب الاعتراض صادقا فليلبس الصليب الخشبي (ويحمله)، انه أرخص وأقرب إلى واقع الصلب السيدي. (أمّا الصلبان الذهبية أو المكّونة من سائر الموادّ أو من الحجارة الكريمة، فلا تغيّر الصليب تغييرًا جوهريًا بل شكليا. جميعها تشير إلى صليب المسيح الذي تقدره كثيرا ولا تبخل بالمواد الثمينة لرسمه أو نقشه أو نحته)(46). (5) (المسيح مات ثم قام فلا مبرر لتصوير صلبه). وبنفس المنطق يجيب المرء: المسيح (كان ينمو في السن (الطول) والحكمة والنعمة أمام الله والناس) فلا داعي لتصويره طفلا! من ناحية مبدئية، لا مجد من غير صليب، فالصليب أساس المجد، في منطق يسوع وبولس. (6) هنا تبدأ اعتراضات المسيحيين المزيفين الذين يلغون الصليب نهائيا، ومن غير استئناف. انهم يتّكلون على (حكمة الكلام) او حكمة معيّنة لكلام معيّن كي (يفرغوا الصليب)، مع اعترافهم بالمسيح الفادي. وأوّل الاعتراضات الهدّامة يعبّر عن ذاته بالسفسطة التالية: (إذا قتل أحدهم أخاك بمسدس، فهل تكرم ذلك المسدس؟) الجواب: هذه هي بالضبط النظرة الوثنية - اليهودية - أي غير المسيحية - للصليب (وما أشبه الامس باليوم! ولكن الفرق ان أصحاب هذا الرأي يقولون عن انفسهم انهم مسيحيون). نعم، (التاريخ يعيد نفسه) في صيغة أخرى، أقوى: هذه الفئات تنظر إلى الصليب النظرة اليهودية الوثنية اي انه أداة عذاب وذلّ (ومنها من حذف نهائيا كلمة (صليب) في (ترجمته) للكتب المقدسة واستبدلها ب (خشبة العار) أو (خشبة العذاب) أو (خشبة الالام)(47). الرّدّ مع بولس الرسول: (ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة (فقط كأداة عذاب وعقاب). أمّا عندنا، نحن الذين نالوا الخلاص فهو (أي الصليب او المسيح المصلوب) قدرة الله) التي حققت الفداء عن طريق هذه الوسيلة الوضيعة الفظيعة! وبناء على منطق يسوع وبولس، يمكن القول ان صليب يسوع لم يكن فقط أداة ذل وتعيير وإعدام وموت (إذ لم يمت يسوع لكي يموت!) بل أضحى أداة سماوية للخلاص من الخطايا وللمصالحة بين الله والناس وبين الناس بعضهم مع بعض. (فإذا حرر أحد الجنود مدينة (او وطنا كاملا) بسلاحه او باستشهاده، افتخر الشعب بهذا السلاح وبذلك الاستشهاد وبتلك الجروح. وان سفر رؤيا يوحنا يظهر لنا المسيح الذبيح الذي قرّب ذاته عنّا، والحمل الذبيح قائم في وسط العرش الالهي)(48) (رؤيا 7: 17). (وإذا كان على المرء أن يلغي من حياته كل أداة تعذيب أو إعدام، فيجب على أهل امريكا (وهي منبع العديد من البدع) أن ينبذوا الكراسي، لأن (الكرسي الكهربائي) وسيلة إعدام! وعلى شعوب أخرى أن (تقاطع) كل الحبال لاستخدامها في الشنق!)(49) ردّ مباشر آخر على المسدس الذي قتل أخاك: انك لا تتردد في تكريم المسدس الذي أدى إلى وفاة أخيك إذا كان موته تحريرا للبلاد أو نجاة من مصيبة أكبر! (7) (الصليب رمز وثني للاله تمّوز في بلاد ما بين النهرين، ورمز الجنس عند قدماء المصريين!)(50) ولكن هنا، يجيب المرء مع بولس: (ان كلمة الصّليب هي عند الهالكين جهالة) ونحن (نكرز بمسيح مصلوب) أي اننا معنيّون كمسيحيين، بعد يسوع وبولس وسائر العهد الجديد، بصليب يسوع لا بأي صليب آخر. فكل تلك الرموز لم تكن (الصليب) بل كانت (صلبانا) أخرى لا علاقة لها بالمسيح لا من قريب ولا من بعيد. صليب يسوع كان للذل وحوّله يسوع إلى مكان الفداء، إلى مذبح الخلاص، ويسوع، كما قال القديس اغسطينوس هو (الذبيحة والكاهن والمذبح). الصليب الذي حمله يسوع ما رمزَ لا إلى جنس ولا إلى (تمّوز) بل إلى العقوبة القصوى. (8) (الصليب غير وارد لأن المسيح تألم على خشبة عامودية واحدة!)(51) سبقت الاشارة إلى أن (صليب يسوع) أو (الصليب) في الصيغة المعرّفة المطلقة كان مكوّنا من خشبتين بحيث سمّرت اليدان السيديتان بمسمارين لا بمسمار واحد (عن يوحنّا 20: 25). وهذه محاولة أخرى ل (تفريغ) الصليب وتبخيره حتى في صورته الخارجية فيكون (بعيدًا عن القلب لبعده عن العيون). إذا كان المعترض صادقًا ومنطقيًا، عليه ان يفتخر لا ب (برج المراقبة) بل ب(خشبة العذاب)، فليجعلها شعاره، ونحن نقبل خشبة واحدة! ولكن في الواقع، يعترض قائلا انها كانت خشبة واحدة فقط ويحذفها نهائيا. ملحوظة: هنالك تناقض بين الاعتراض الذي يعدّ الصليب مكوّنًا من خشبتين متقاطعتين حاسبا اياه رمزًا وثنيًا، والاعتراض القائل بأنه كان خشبة عامودية فقط. والحق ان المعترض يسخّر أية وسيلة تبريرًا للغاية وهي.. كما وصفها يولس (تفريغ صليب المسيح)! (9) في غل 6: 14 (صليب ربّنا يسوع المسيح) معنوي وليس اداة الالام الجسدية (كما في العبارة (من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويتبعني). ويتذرّع المعترض بأنّ سياق الاية معنوي اي صلب العالم لبولس وصلب بولس للعالم. وعليه: الصليب المادي الخشبي مرفوض لانه سخافة وحماقة اجرامية، والمقصود هو صليب معنوي اي آلام المسيح. الردّ: هذا نص غلاطية 6: 14: (أمّا أنا فحاشى أن أفتخر الاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح! وفيه أصبح العالم مصلوبا عندي، وصرت أنا مصلوبا للعالم). - صليب يسوع حقيقي بحقيقة آلامه واستشهاده، وعلى صليب يسوع المادي الخشبي صُلب العالم مجازا لبولس وصُلب بولس مجازا للعالم. ولولا صلب المسيح المادي لما (تم) الصلب المجازي لكل من بولس والعالم أحدهما عند الاخر! وفي شأن الوصية السيدية: (من اراد أن يتبعني فليحمل صليبه) فإنّ المسيحي الملتزم (يتبع) معنويا المسيح الذي حمل صليبه ماديا. ولولا حمل يسوع للصليب المادي لما استخدم العبارة - التي أضحت مجازية للمؤمن - في حمل كل منهم ل (صليبه). (10) (لا يجوز الافتخار بالصليب (بخلاف غل 6: 14) إذ (من يفتخر فليفتخر بالرب!) (عن 1 كور 1: ،31 2 كور 10: 17). الجواب: لا تناقض بين الافتخار بالرب وبصليب الرب، كما ان لا تناقض بين الافتخار بقائد وبذكاء ذلك القائد. الافتخار بالرب مطلق، والافتخار بصليب الرب نسبي اي نسبة إلى الرب. وفعلا لا تفتخر المسيحية بأي صليب آخر (لا بصليب سبارتاكوس ولا بصليب أي من اللصّين المصلوبين حول يسوع). الطريف ان الاعتراض الرامي إلى نسف الصليب بذريعة (الافتخار بالرب) يُغفل سياق هذه العبارة البولسية المشتقة من ارميا 9: 24: انه بالّضبط سياق الصليب!!! نعم، الصليب من جهة وأصل الكورنثيين المتواضع، إثبات - ولا أبلغ - للقدرة الالهية التي بالحماقة والذل والضعف بلغت بالمصلوب وبالكورنثيين إلى الحكمة والكرامة والمجد والقوّة (1: 26 - 30)، بحيث ان (المسيح يسوع (اي المصلوب الضعيف الذي بان شارد العقل) صار لنا حكمة من لدن الله و(بالصليب) برّا وقداسة وفداء) (ونزيد: ولا فداء من غير الصليب وهو سفك دماء الحَمَل)، ليتم ما ورد في الكتاب: (من افتخر، فليفتخر بالرب!) (الاية 31). - 1: 19 حكمة الصليب تناقض (حكمة العالم) التي تتلخّص في ان يحافظ الانسان على صحّته وعلى سمعته وعلى ثروته وعلى متعته (المعتدلة، مثل الابيقوريين) وأن يسمو فوق الالم (مثل الرواقيين). فأين صحة المصلوب وماله وصيته وايّة متعة (يقطف) من هذا الوضع المميت؟ في المصلوب فعلا، يتم يسوع تدبير العزة الالهية الوارد في أشعيا 29: 14 (راجع أيضا 33: ،18 ثم 19: 12): (سأبيد حكمة الحكماء وأزيل فهم الفهماء!). حين اجتاح الاشوريون البلاد المقدسة، أعلن الله ان ما يخلّص الشعب ليس حسابات الفطنة البشرية(52). - 1: 20 (أين الحكيم؟ (أي الفيلسوف اليوناني) أين الكاتب؟ (أي عالم الشريعة اليهودي) أين مجادل (أو مماحك) هذا الزمان (أي السفسطائي)(53) والدنيوي الذي لا يفكّر الا في هذه الأرض ولا يعنيه أمر الاخرة التي ينكر وجودها. ولا عجب ألاّ يتبع يسوع (حكمة هذا العالم) - (عالم الظلمات) (كما يكتب القديس اوغسطينوس) لانه، له المجد (ليس من العالم) وعلينا مثله (ألاّ نكون من العالم وإن عشنا فيه) (عن يوحنا 17: 14). - 1: 21 بحكمة الله (أي بمخطط معجز(54) لا يقدر البشر أن يسبروا أغواره إذ كما تعلو عن الارض السماء هكذا تعلو أفكار الله عن افكارهم وطرقه تعإلى عن طرقهم، لم يعرف العالم الله عن طريق (الحكمة) البشرية إذ لم يستدلّ معظم الوثنيين (وكانوا مبدئيا كائنات عاقلة) من وجود المخلوقات وجمالها إلى وجود الخالق (عن روم 1: 19 -،23 الحكمة 13: 1 وتابع). ويمكن إدراك عبارة (حكمة الله) بمعنى التدبير الالهي الغريب المتألق في الصليب الذي يسبح في عقلانيه سامية سماوية الهية (مخالفة للمظاهروقالبة للتوقعات). (حَسُنَ لدى الله أن ينال المؤمنون الخلاص بحماقة التبشير) الذي محوره الصليب، إذ يبشّر الرسل، شاء اليهود والوثنيون واليونانيون أم أبوا، (بمسيح مصلوب، حجر عثار لليهود وحماقة للوثنيين) (الاية 23). والمخلَّصون هم المؤمنون بحماقة الصليب! - 1: 22 اليهود بشر عمليّون براغماتيّون يطلبون المعجزات (في العبرية (اوتيوت) (في السماء) و(صوتا من السماء) (مت 12: ،38 يو 2: ،18 ثم 6: 30). عقيدتهم (سمعبصرية) لسان حالها شعار التلميذ العنيد توما: (إن لم أبصر، لا أصدّق)! اليونانيون، رمز الحضارة والثقافة وأهل الفلسفة: يطلبون الحكمة، منهم (الرواقيون والبيثاغوريون ومحبّو الديانات السرانية)(55) وكان بولس في الاريوباغس، في أثينا، قد حاول تقديم المسيحية كحكمة سامية ولم يفلح (أع 17: 22- 31). ويشير بولس لاحقا (2: 7) إلى حكمة الله السّرّية الخفيّة الكامنة في الصليب! (ما كان إخفاقا أصبح أساس الخلاص ووسيلته.. وكأن الله - بحكمة عجيبة - ينطلق من حماقة البشر (في عدم اكتشافهم لوجوده وصفاته تعإلى) لكي يستخدم طرقا غريبة تبدو سخيفة حمقاء.. ان صفحات العهد الجديد حول الحكمة المسيحية، (الصليبانية)، من الكتابات الاكثر عمقا وثورة وتجديدًا: انها نقل لاهوتي للعظة السيدية على الجبل (مت 5: 3- 12)(56). - 1: 23 المسيح المصلوب حجر عثرة لليهود وحماقة لليونانيين - اي الوثنيين لانهم من الهالكين ولان تفكيرهم مستمد من الطبيعة البشرية التي سقطت في الخطيئة وتدهورت إلى الشر(57). يصدم اليهود صليب يسوع وهم "الطالبون الايات". لاول وهلة قد يتوهم المرء ان موقفهم ديني، نابع عن الورع، ولكنه وليد الشك واللاادرية(58). انه لا يثق ولا يطمئن ولا يخاطر بل يبحث عن أمانه وراحته. وحكمة اليونانيين الدنيا تنحصر في هذا العالم، لذا تستسحف المصلوب، كما سخرت من سقراط الذي قبل العذاب والاعدام! حكمة العالم حماقة عند الله (1: 19، أيوب 5: 13، مزمور 49: 11) - 1: 24 المدعوّون (أو: المختارون) هم المخلَّصون (الاية 18)، سواء كانوا من أصل يهودي أو يوناني، فانّهم يؤمنون بالمسيح المصلوب الذبيح (الذي فداهم بدمه من كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة) (عن رؤيا 5: 9) أي من كل الشعوب ومن كل قبليّة ونعرة وعنصرية (وكلّها دنيوية!). انهم موقنون ان المسيح المصلوب (آية 23، ثم 2: 2) هو هو قدرة الله وحكمة الله، وكانوا قد سمعوا من الانجيلي الحبيب انه (الكلمة) (يو 1: 1)، (كلمة الله). فكلمة الله وحكمته وقدرته مترادفة، وكلها واحد. (الكلمة الذي صار جسدًا) (يو 1: 14) ضرب خيمته بيننا وعاش مثلنا ومات مثلنا. والقوّة المعجزة مخفيّة في الضعف العاجز المتجسّد في المصلوب والصليب. فعلا، (يكتب الله باستقامة عن طريق خطوط معوجّة!(59). المسيح المصلوب يستحق للناس الخلاص و(يفضّ اختام السفر) الغامض (عن رؤ 5: 9 أ)، سفر الاله والانسان، سفر الحياة والموت - وكلّها تعانقت على الصليب، حيث نزل الله إلى جحيم موت البشر (عن فيليبي 2: 5 وتابع)! الصليب والمصلوب: هذه قدرة الله وحكمته، هذا (تجلي المجد) (أورس فون بلتازار)، المصلوب قمة التاريخ ورئيس الايمان(60). قد يجوز تلخيص ما ورد هنا في 1: 17 - 25 (مع 2 كور 13: 4) بإعلان بطرس زميل بولس: (انّ يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم جعله الله ربّا ومسيحًا!) (أع 2: 36). - 1: 25: ما يبدو جنونيًا وضعيفًا عند الله (أي صليب يسوع) أوفر حكمة من الناس وقوّة.ولعلّ في قصيدة أمير الشعراء شوقي (يا فاتح القدس)(61) ما يعبّر عن هذه الفكرة العزيزة على بولس رسول الامم والاناء المصطفى: (يا فاتح القدس، خلّ السّيف ناحية ليس الصليب حديدا كان بل خشبا إذا نظرت إلى أين انتهت يده وكيف جاوز في سلطانه القُطُبا عرفت أنّ وراء الضعف مقدرة وأنّ للحقّ لا للقوّة الغلبا). في المسيح الانسان المصلوب وفي بولس تلميذه وعبده ورسوله المعاني من (شوكة في الجسد) تعلن العزّة الالهية: (في الضعف تكمل القوّة) (2 كور 12: 9)، في الضعف البشري تكمل القوّة الالهية! الصليب قوّة الضعف ويكشف ضعف القوّة. انه حكمة الجنون ويفضح جنون (الحكمة). انه بركة اللعنة ولعنة البركة المزيّفة، انه استراحة التعب ويبيّن كم الراحة متعبة، انه موت الحي الذي يحيي الميت! - الايات 26 - 30: تم تفسيرها وربطها بسر الصليب الكريم المحيي. فخرنا الوحيد هو الرب المصلوب وصليب الرب، لا بالناس (أيضا 3: 21) لانهم يشمئزّون من الصليب ويتهكمون بالمصلوب. - 2: 1 - 2 ما عرف العالم الله ب (الحكمة(62) ولا أدركت البلاغة الخالق، لذا لا يعتمد بولس على البيان (لئلا يُفرغ صليب المسيح، آية 17) ولا على الفصاحة لانهما ظاهرتان سطحيتان في حين ان (سر الله) في المصلوب والصليب عميق خفيّ. وما أراد بولس أن (يعرف بين الكورنثيين الا يسوع المسيح واياه مصلوبا). انه يضع (صليبا) على العالم وعلى ذاته، على الفلسفة وعلى البلاغة، (ولا يعرف المسيح حسب الجسد) (2 كور 5: 16) اي معرفة دنيوية بشرية حسية (فالحواسّ تنفر من المصلوب والصليب). ومثل المصلوب، لا يركن بولس المبشر بالصليب إلى (الجسد) وحكمته وفصاحته ولا يستخدم اسلحته (عن 2 كور 10: 3 - 4) من مال وجمال، ومهارة وحضارة، وراحة وإباحة، وعنف وعسف، وحسب ونسب.وعلى مثال معلّمه المصلوب، ينتابه الخوف والرعدة ولكنهما لا يَثنيانه عن عزمه. وسيحمل بولس الصليب مثل رفاقه الرسل ومثل المصلوب سيكونون (آخر الناس) ومن (المحكوم عليهم بالموت)، (مشهدًا) للناس (كما سيحدث مع المسيحيين المضطهدين في المدرجات الرومانية) وللملائكة (4: 9): (حمقى، ضعفاء، مهانون، جائعون، عطاش، عراة، ملطومون، مشرّدون) (4: 10)، مشتومون غير شاتمين بل مباركون لغيرهم (4: ،12 مثل المسيح الذي ما كان يردّ الشتيمة والذي حمل خطايا الناس في جسده على الخشب، عن 1 بطرس 2: 23- 24). وحُسِبَ الرسل، مثل سيدهم المصلوب، (أقذارا ونفاية (4: 13) على مثال العبد المتألم الذي أمسى عارا عند الشعب ونكرة وموضع احتقار) (أشعيا 53: 3 وتابع). - 2: 4 يكتب بولس: (لم يعتمد تبشيري على أساليب الاقناع بالحكمة) (في اليونانية peiqois: (بيثويس لوغويس). استخدم العقل والمنطق وطلب أن تكون عبادة المؤمنين عقلية (عن روم 12: 1logikh latreia (لوجيكه لاتريا) واجتهد (لاقناع (في اليونانية: epeiqen ايبيثين، نفس الجذر) اليهود واليونانيين (أع 18: 4)، وهو الذي كان (يردّ على اليهود علانية ردّا قويّا، مبيّنا من الكتب ان يسوع هو المسيح) (أع 18: 28). ولكنه لم يتوكّل على منطقه ولا أسلوبه ولا كلامه لانّ في الله وعند الله سرّا رهيبًا عجيبًا: انه تأنّس وتألم وصُلب كإنسان حقيقي وقام من بين الاموات! ولئلا يستند ايمان الناس إلى حكمة الدنيا ولا ورؤسائها (2: 6 ب) ولا سائر الناس القابلين للموت والخطأ بل إلى (قدرة الله) أي المسيح المصلوب (2: 24) الصامد على الصليب والقائم بقوّة الروح وواهب الروح وصانع المعجزات. - 2: 8 - 9 لم يعرف (أي لم يدرك) حكمة الله السرية الخفيّة (أحد من رؤساء هذا العالم (أو: هذا الدهر، أو: هذه الدنيا). ولو عرفوها لما صلبوا ربّ المجد). يلحظ المرء ان المصلوب موصوف بأنه رب المجد مع ان اليهود - ومنهم بولس شاول سابقًا - كانوا يشيرون فقط إلى يهوه بأنه رب المجد (خروج 24: 16- 17) و(ملك المجد) (مزمور 24 (23): 8 و10). تنفر العقلية اليهودية من صليب يسوع وتتشنّج من الوهيته. ويظهر جليّا هذا النفور في (ترجمة العالم الجديد) - المتأثرة بحكمة هذا العالم الرافضة للصليب المقللة من قدر المصلوب. تحرّف رئاسة (شهود يهوه) الاية (لو عرفوا لما صلبوا رب المجد)بإلغاء صليب المسيح والوهيته وتنقلها هكذا: (لو عرفوها لما علّقوا الرب المجيد على خشبة). ولكن من (رؤساء هذا العالم) الذين ما علموا الحكمة الالهية؟ بما ان الرسول يكتب انهم هم صالبو المسيح، فالاقرب إلى الصواب انهم بالتحديد بيلاطوس وهيرودس والاحبار ورؤساء الشعب العبري(63). ما رأوا لغشاوة في عيونهم ان المصلوب تجسد لكلمة الله ولحكمته تعإلى وأعماهم الظلم وأسكرتهم نشوة السيطرة والعنف والحسد(64). لم يعرف الرؤساء حكمة الله لانه تعإلى (اعدّ للّذين يحبّونه ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر). جمع بولس هنا نصوصا عدّة ولا سيما اشعيا 64: ،3 وإرميا 3: 16 وأشعيا 52: 16. الواضح انها مكافأة الحكمة الالهية والانخراط تحت لواء الصليب والمصلوب. صحيح ان صليب يسوع عذاب ما رأت قبله ولا بعده عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على بال انسان. فهل معنى الاية ان الله أعدّ الصليب للذين يحبّونه (كما كان يناجي تيريزيا الافيلية؟) أكيد من ناحية أخرى ان الصليب ليس هدفا في ذاته بل هو الطريق إلى النور(65). فما أعدّه الله - حتى من صليب للمسيح الانسان وللمسيحيين وسائر الناس - وما لم يتوقّعوه قطّ هو مجد الاذلاّء ورفعة المتواضعين وراحة المتعبين! - 5: 1 وتابع خصوصا 7 - 8 لا ترد في هذه الايات لفظة (صليب) ولا اي من مشتقات فعل (صلب) ولكنّ بولس يحزن لفاحشة عند أحد المسيحيين اسما الذي يجهل أو يتجاهل ان (الّذين هم للمسيح يسوع قد صلبوا أجسادهم وما فيها من أهواء وشهوات) (عن غل 5: 24). وفي العهد الجديد فصح جديد، (يروحن) الفطير والخمير جاعلا من الاول رمزا للخلوص ومن الثاني رمزا للخبث والفساد. وعلى المسيحي أن (يعيّد)، فالعيد هو عيد الفصح المسيحي الذي يشمل (ذبح المسيح الحَمَل) وقيامته - بما ان الحمَلَ فصحيّ اي (عبوري)، مرّ من الموت إلى الحياة. لذا، كما في رؤيا يوحنا، (ذبح المسيح) أو (المسيح الذبيح) هو الحَمَل المجيد وهو الحمَل الفصحي للمسيحيين. صليبه عنوان عبوره أي قيامته وبداية فدائه الناقل الناس (من الظلمات إلى ضياء نوره المعجز) ومن النقمة إلى النعمة ومن الذل إلى المجد ومن الوفاة إلى الحياة! خاتمة (يسوع أوجد واقع الصليب وبولس استنبط فلسفته)(66). ما من أحد مثل بولس عاش أو قدّم هذه الحقيقة بشكل مثير انقلابي ولم يستخلص غيره أقصى نتائج الصليب(67). إنّ رسول الوثنيين اليهودي شاول بولس (صُلب مع المسيح) وما عاد هو الحي بل المسيح الحيّ فيه، ويسوع هو السيد المجيد الذي أحب بولس عبده وتلميذه وبذل حياته من أجل بولس وسائر الناس (عن غل 2: 19- 20). ما تردّد الرسول المتوشّح بالمسيح أن يعرض الصليب البهي بروحانيته وسموّه إلى الكورنثيين الجسديين الدنيويين. حدثت في الرسول فرّيسيّ النشأة(68)، على طريق دمشق معجزة التحوّل الاكبر: من مضطهِد للمسيح المصلوب ومن موحّد يكفّر المؤمنين بألوهية يسوع إلى مضطَهَد في سبيل الصليب (عن غل 6: ،12 ثم 1 كور 4: 9 - 13)، (متمّما في جسده ما ينقص من آلام المسيح) (عن كول 1: 24). وانتقل تلميذ جملائيل الذي نخاله يخدم تحت راية النجمة الداودية الملكية الامبراطورية السداسية إلى مدرسة يسوع الناصري المصلوب الذي (أقامه الله ربّا ومسيحًا)، ملكا ولكن ليس من هذا العالم، متربّعا(69) على عرش الصليب كما كتب الوالي الروماني، وما كتب فقد كتب: (يسوع الناصري ملك اليهود). (المصلوب ضحية الجلجلة هو قمّة نشاط بولس الرسولي ونجمه الساطع)(70). (الصليبُ هو النقطة المحورية التي تنزل أشعتها المضيئة لتدد الظلمات وتُشعل القلوب(71). في الكتابات إلى الكورنثيين، يتجلّى الصليب - وهو حجر عثرة وجنون ووهن وحزن وفناء - كحكمة الله وقدرته تعإلى وسرّه له المجد. انّه منطق الله وبلاغة الرب وفلسفة السعادة والشقاء والحياة والموت. انه حكمة الحماقة وحماقة الحكمة، قوّة الوهن ووهن القوّة، انه يحمل انسانية الاله ويرفع بشرية الانسان نحو السماء والالوهية. انه (ملكوت الله بالعمل لا بالكلام) (4: 2)، انه أداة الفصح الجديد ومذبح الحمَل المجيد. انه خلاصة كل ألم وذل وتعب وموت(72). انه موضوع الفخر الوحيد (عن غل 6: 14). انه انقلاب الموازين: فالموت عليه حياة والحياة من غيره موت، والخسارة فيه ربح وربح سواه خسارة (عن فيليبي 3: 8) والصمت على الصليب بليغ والكلام حوله سكوت.انّه مغناطيس المسيح (عن يو 12: 32) وجاذبيته الغريبة العجيبة المعجزة المحيّرة الخيّرة. انّه نهج المسيح وطريق الاقتداء به الصحيح (عن 2 كور 4: ،10 عن مت 16: 24). انه المكان المميّز الذي اتّخذت فيه (صورة الله) (صورة العبد) بحيث ان (الذي أطاع حتى الموت، الموت على الصليب، رُفع ووُهب له الاسم الذي يفوق جميع الاسماء، لكي تركع لاسم يسوع كل رُكبة في السماء وعلى الارض وتحت الارض، ويعترف كل لسان ان يسوع هو الرب، تمجيدًا لله الاب) (عن فيليبي 2: 5- 11). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|