الإنباء بإنكار بطرس
آ31. حينئذٍ. أي عند خروجهم إلى جبل الزيتون، قال لهم يسوعُ: جميعُكم تشكُّون بي في هذا الليل، أي تتَّخذون سببًا لعدم الإقرار بي ممّا يحلُّ بي، فتتركون ربَّكم وتهربون لزيادة خوفكم، ولا تتجرَّأون أن تُقرُّوا بأنّي معلِّمكم، وبعضكم يُنكرني أيضًا. ويظهر أنَّ الرسل خامرهم شكُّ الإيمان، إذ لمّا رأَوا المسيح يقبض عليه اليهودُ ولا يحامي نفسه، توهَّموا أنَّه يتألَّم جبرًا عليه ولا يستطيع أن ينجّي ذاته وأتباعه، ونسوا مواعيد المسيح. ويُبان أنَّ الكنيسة ترتئي أنَّ الإيمان بالمسيح لبث في مريم العذراء وحدها، لأنَّها في فرض يوم جمعة الصلبوت تُطفأ جميع الشموع بالتتابع وتبقى شمعة واحدة مضيئة. والأصحّ حصر*** بعضهم ذلك على الإيمان بالقيامة، أي أنَّ العذراء وحدها آمنت حينئذ بأنَّ المسيح سيقوم. وهذا يُبان أيضًا من صعوبة تصديق الرسل للقيامة، بعد أن ظهر المخلِّص لبعضهم أيضًا، ولذا روى مر 16: 14 أنَّه أنَّبهم على قلَّة إيمانهم. والأصحّ أنَّه لم يفقدوا الإيمان بكونه إلهًا وابن الله، فإنَّهم لم يُنكروا المسيح بل خافوا القبض عليهم ففرُّوا، حتّى علّم كثير من مشاهير اللاهوتيّين أنّ بطرس نفسه لم يُنكر الإيمان، لكنَّه أخطأ فقط ضدَّ الإقرار به. قال مار أغوسطينوس* في مقالة 113 إنَّ بطرس أنكر لخوفه فقط أنَّه تلميذ المسيح. وأوضح من ذلك قول القدّيس كيرلُّس* في ك11 في يوحنّا رأس 42 أنَّ بطرس لم يُنكر المسيح خوفًا، بل لمحبَّته له، لأنَّه كان يرغب في أن يرى المسيح ويستمرَّ معه ولا يتيسَّر له ذلك إذا أقرَّ أنَّه تلميذه. وقال مار أمبروسيوس* في لو 22 إنَّ بطرس لم يُنكر الله بل الإنسان، إذ قال: لا أعرف هذا الرجل، وكذا علَّم إيلاريوس* وتوليتوس وملدوناتوس* وغيرهم. وقد سمح المسيح بشكِّ الرسل لزيادة آلامه بهرب الرسل وشكِّهم به، وليُظهِر لهم ضعفهم وشدَّة قوَّة الاضطهاد والخوف. لأنَّه قد كُتب، في زك 13: 7: إنّي أضرب الراعي فتتبدَّد خراف رعيَّته. وقرأَت النسخة السبعينيَّة: "اضرب" بالأمر، ومرجع المعنى إلى واحد. فمن عادة الأنبياء أن يستعملوا فعل الأمر عوض المستقبل، والمراد هنا بالراعي المسيح، وبالخراف الرسل والتلاميذ.
آ32. وأنا إذا قمتُ فأسبقُكم إلى الجليل. لا يُنكر أنَّه يَظهر لهم في اليهوديَّة، لأنَّه ظهر لهم فيها مرارًا، بل يقول إنَّه يظهر لهم في الجليل بأكثر تواتر وأوفر مؤانسة. وذكر لهم ذلك لئلاّ ييأسوا بعد آلامه وموته.
آ33. فأجابَ الصفا قائلاً له: ولو شكَّ بك الجميعُ فأنا لا أشكُّ أبدًا. إنَّ المحبَّة حملت بطرس على أن يفوه بهذا القول، لكنَّه أثم به كما سيجيء (آ35).
آ34. فقال له يسوعُ: الحقَّ أقولُ لكم إنَّك في هذا الليل قبل أنْ يصيحَ الديك ثلاثَ مرّاتٍ تَكفرُ بي، أي قبل أن يصيح الديك مرَّتين تنكرني ثلاث مرّات كما روى مر 14: 30. فمن عادة الديك أن يصيح مرَّتين خاصَّة نصف الليل وعند الفجر. وعيَّن المسيح الزمان لبطرس، حتّى إذا حان الوقت يتذكَّر قوله، وعيَّن له المرّات الثلاث ليبيِّن أنَّه بكلِّ شيء عليم حتّى بالمستقبلات الحرَّة.
آ35. فقالَ له الصفا: إنّني لو أُلجئتُ إلى الموتِ معكَ لما كفرتُ بكَ. وهكذا قال التلاميذ كلُّهم. قد أثم بطرس عند قوله ذلك، لادِّعائه وزيادة ثقته بقواه خاصَّة بقوله: لو شكَّ بك الجميع فأنا لا أشكُّ. فكان يلزم أن يُقرَّ بالضعف البشريّ ويتضرَّع إلى المسيح ليقوِّيه لئلاّ يسقط. وكذا بالمعنى الأدبيّ يعرض لنا إذ نظنُّ متواترًا أنَّنا أشدّاء على حفظ الإيمان والعفَّة إلخ. لكنَّنا نسقط بسهولة عند وثوب التجربة. فالعلاج معرفة ضعفنا واستمداد الغوث من الله. تقول إنَّ الرسل كانوا يؤمنون أنَّ المسيح نبيّ بل ابن الله، فكيف لم يؤمنوا إذ تنبَّأ على سقوطهم؟ أجيب أنَّهم لم ينظروا إلى إنذار المسيح بل إلى استعداد نفسهم الحاليّ، فظنُّوا شكَّهم بالمسيح مستحيلاً.