|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
"لأعرفه، وقوة قيامته، وشركة آلامه، مُتشبِّهاً بموته"
(في 3: 10) لأعرفه: ما أعمق هذه الآية التي قالها بولس الرسول، والتي جمع فيها بين آلام الرب وموته وقيامته، والتي كشف بها أعماق علاقته بالمسيح واختباره وغاية رجائه التي يصبو إليها، إذ أضاف قائلاً: «لعلِّي أبلغ إلى قيامة الأموات» (في 3: 11). ورغم أنه تقابل مع المسيح وآمن به واعتمد باسمه وصار رسولاً مختاراً وكارزاً بملكوته؛ إلاَّ أنه يسعى جاهداً لكي ينمو أكثر فأكثر في معرفته. لذلك نجده يقول هنا: «لأعرفه، وقوة قيامته، وشركة آلامه، متشبِّهاً بموته، لعلِّي أبلغ إلى قيامة الأموات». وهو من أجل أن ينمو في معرفة المسيح، كان عليه أن يتنازل عن كل شيء، مهما كان غالياً وثميناً عنده، بل وكل ما كان يفتخر به ويحسبه ربحاً له، لذلك يقول: «لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأُوجد فيه» (في 3: 7-9). وبولس الرسول يتمثَّل في ذلك بالمثل الذي قاله الرب يسوع عن ملكوت السموات كونه «يُشبه إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها» (مت 13: 46،45). فأول خطوة في سبيل اقتناء المعرفة الحقيقية أو المعرفة الروحية، هو احتقار كل معرفة عداها، واعتبار كل شيء دونها نفاية وخسارة، «لأن العلم ينفخ، ولكن المحبة تبني» (1كو 8: 1)، حتى أنَّ بولس الرسول يقول أيضاً: «إن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلستُ شيئاً» (1كو 13: 1). ومعنى هذا أنه حتى ولو كان العلم والمعرفة في الأمور الروحية، وكان الإيمان قويّاً لدرجة نقل الجبال، ولكنه لحساب مجد الإنسان وافتخاره، فهو لا يساوي شيئاً ولا ينتفع منه الإنسان شيئاً. لذلك وبَّخ الرب يسوع الناموسيين لأنهم أخذوا "مفتاح المعرفة" لأنفسهم، فلا هم دخلوا والداخلون منعوهم (انظر لو 11: 52). فهذه هي المعرفة الكاذبة المُضللة التي حذَّر منها بولس الرسول عندما قال لأهل كورنثوس: «وأنا لما أتيتُ إليكم، أيها الإخوة، أتيتُ ليس بسمو الكلام والحكمة، مُنادياً بشهادة الله، لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلاَّ يسوع المسيح وإيَّاه مصلوباً... وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المُقنع، بل ببرهان الروح والقوة» (1كو 2: 1-4). فالمعرفة التي لا تنفع صاحبها ولا تبني الآخرين هي المعرفة النابعة من الذات والمفتخرة بذاتها، والتي لا تطلب مجد الله. وهي المعرفة التي أغوى بها إبليس آدم وحواء حينما دعاهما أن يأكلا من شجرة معرفة الخير والشر مخالفين أمر الله، لكي يصيرا مثل الله عارفَيْن الخير والشر، وبهذا لا يحتاجان إلى الله، ويصيران مستقلين عن الله. أما المعرفة التي يجب أن نطلبها ونسعى إليها، فهي نابعة من الله بالروح القدس، روح الحق الذي من الآب ينبثق؛ وهي عطية الله لكل مَن يؤمن بكل قلبه. وهي التي قال عنها الرب يسوع: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم، أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرَّة أمامك. كل شيء قد دُفِعَ إليَّ من أبي. وليس أحدٌ يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومَن أراد الابن أن يُعلِن له» (مت 11: 25-27). فالمعرفة المقصودة هنا، إذن، هي المعرفة التي يُعلِّمها الروح القدس الذي «يُعلِّمكم كل شيء، ويُذكِّركم بكل ما قلته لكم» (يو 14: 26)، وهي التي قال عنها بولس الرسول: «بل نتكلَّم بحكمة الله في سرٍّ، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا...» (1كو 2: 7). ثم يسترسل بولس الرسول قائلاً عن مصدر هذه الحكمة: «ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله، التي نتكلَّم بها أيضاً، لا بأقوال تُعلِّمها حكمة إنسانية، بل بما يُعلِّمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات» (1كو 2: 13،12). معرفة الله: الله «الذي وحده له عدم الموت، ساكناً في نور لا يُدنَى منه، الذي لم يَرَه أحدٌ مـن الناس ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية» (1تي 6: 16)، الذي قال عنه أيضاً إشعياء النبي: «حقّاً أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المُخلِّص» (إش 45: 15)، هذا الإله المحتجب هو الذي أعلنه لنا ابنه الوحيد يسوع المسيح: «الله لم يَرَه أحدٌ قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر» (يو 1: 18). فابن الله الوحيد هو الاستعلان الكامل والوحيد لله، الذي به نرى الله، وفيه ومنه نعرفه ونتعرَّف على كل ما هو عند الآب، لذلك قال الرب يسوع: «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومَن أراد الابن أن يُعلِن له» (مت 11: 27). لذلك أيضاً يقول بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين: «الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه» (عب 1: 1). فجميع طرق الاستعلان السابقة لم تكن كافية لتُبلِّغ الإنسان عن حقيقة الله، وبواسطتها جميعاً أخفق الإنسان أن يرى الله ويسمع صوته مباشرة. أما في الابن الوحيد الكائن في حضن الآب، فقد استُعلِن الله استعلاناً كاملاً للإنسان: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو 14: 9)، «صدِّقوني أنا في الآب والآب فيَّ» (يو 14: 11)، «الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني» (يو 14: 24)، «لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي» (يو 15: 15)، «أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يقدر أن يأتي إلى الآب إلا بي. لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه» (يو 14: 7،6). لقد كان من الصعب على الإنسان أن يعرف الله في سموِّه، لذلك فقد تنازل الله وأخذ جسداً وحلَّ فينا وأخذ طبيعتنا التي سبق أن خلقها على صورته ومثاله، لكي يستطيع ذلك الإنسان أن يعرف الله "الكلمة" عند تجسُّده وبه يعرف الآب. ومع ذلك، فقد كانت هناك صعوبة أيضاً في معرفة الله بسبب تنازله وظهوره في هيئة عبد، ورغم أنه عمل أعمالاً لم يعملها أحد غيره (يو 15: 24)؛ إلاَّ أنه حتى التلاميذ أنفسهم قد وجدوا هذه الصعوبة في معرفته، وظهرت في تساؤلاتهم في ليلة تسليمه ذاته للموت: «يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟»، «يا سيد أرنا الآب وكفانا!». كما قامت في أذهانهم تساؤلات أخرى: كيف يُنشئ الموت حياة؟ وكيف يعقب الموت قيامة؟ وكيف يتحوَّل الحزن إلى فرح؟ لقد ظهر كل هذا الخوف والارتباك على التلاميذ حينما دنت ساعة الصَّلْب، وعندما واجهوه هربوا وَجِلِين، وتركوا المسيح ليُواجه الموت وحده. وحتى بعد القيامة لم يُصدِّقوا الخبر وبعضهم شكَّ، وظهر ذلك بوضوح على تلميذَي عمواس اللذين قابلهما المسيح وهما يسيران عابسين، ولم يعرفاه، فسألهما عمَّا يتناقشان فيه لكي يُعرِّفهما بذاته عند كسر الخبز، ويُزيل من نفسيهما الشك والحيرة، ويفتح ذهنهما ليفهما الكتب (لو 24: 45). وهكذا يتضح لنا أن البشرية في ضعفها، حتى ولو كانت من صفوة الأخصَّاء كتلاميذ المسيح، ليس في إمكانها من ذاتها أن تعرف الله وتتعرَّف على أسرار تدبيره إلاَّ باستعلان المسيح نفسه لها وعمل نعمته في الإنسان. [فالمسيح الابن المتجسِّد، استطاع بصفته هذه، أي من خلال بنوته المُطيعة المُحبَّة للآب، أن يُعلن لنا الآب - والأفضل أن يَسْتَعلن لنا الآب - لأن الإعلان يختص بالمعرفة عن شيء مُدْرَك؛ أما الاستعلان فهو معرفة الخفيات وما لا يُدرك. فالمسيح استطاع بتعليمه وبروحه الأزلي وطاعته المطلقة للآب، أن يستعلن لنا الآب غير المُدرَك ولا المعروف، وذلك من خلال تكميل مشيئته والعمل بوصاياه: «أنا قد حفظتُ وصايا أبي» (يو 15: 10)...](1). فمعرفة الله، إذن، هي عطية ونعمة من الله، وليس في استطاعة الإنسان أن يعرف الله من ذاته. لذلك يقول بولس الرسول مُخاطباً أهل غلاطية: «وأما الآن إذ عَرفتم الله، بل بالحري عُرفتم من الله، فكيف ترجعون أيضاً إلى الأركان الضعيفة الفقيرة التي تريدون أن تُستعبدوا لها من جديد؟» (غل 4: 9)، لأنهم كانوا قد ارتدُّوا إلى الناموس اليهودي! معرفة الله وحِفْظ وصاياه: الدليل على أننا قد عرفنا الله أو بالحري أننا قد عُرفنا من الله، هو أننا نحفظ وصاياه. لذلك قال القديس يوحنا الرسول: «بهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه» (1يو 2: 3). ثم أضاف قائلاً: «مَن قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه» (1يو 2: 4). أما المسيح له المجد فيقول: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الـذي يحبُّني. والذي يحبُّني يحبُّه أبي وأنا أحبُّه وأُظْهِر له ذاتي» (يو 14: 21). وإظهار الله ذاته للإنسان هو استعلان مجد الله وانسكاب روحه القدوس في قلب الإنسان. «الذي عنده وصاياي» هي الأساس الذي عليه تقوم كل علاقة مع الله منذ القديم. فقد قيل في سفر الأمثال: «أنا أحب الذين يحبونني، والذين يُبكِّرون إليَّ يجدونني» (أم 8: 17). وما هو دليل الحب إلاَّ طاعة الله وحفظ وصاياه؟ وفي سفر التثنية يُخاطب موسى النبي شعب إسرائيل قائلاً: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا أُوصيك بها اليوم على قلبك، وقصَّها على أولادك، وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم. واربطها علامةً على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك» (تث 6: 4-9). وفي سفر المزامير يقول المُرنِّم في المزمور الكبير 119: «كم أحببت شريعتك، اليوم كله هي لهجي. وصيتك جعلتني أحكم من أعدائي، لأنها إلى الدهر هي لي. أكثر من كلِّ مُعلِّميَّ تعقَّلت، لأن شهاداتك هي لهجي. أكثر من الشيوخ فطنت، لأني حفظت وصاياك» (مز 119: 97-100). إذن، فحفْظنا لوصايا الله هو ضرورة حتمية كدليل محبتنا لله. لأن الله لا يقبل إزاء محبته لنا إلاَّ أن نُبادله حبّاً بحبٍّ. ولكن، «يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بـل بالعمل والحق» (1يـو 3: 18). من هنا نفهم لماذا هذا الإلحاح الشديد في وصية الله للإنسان منذ القديم أن نحبَّه من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الفكر ومن كل القدرة. كذلك فمن المهم أن نُلاحظ أن الله لا يستجدي منا الحب، إذ هو الذي جَبَلَنا وخلقنا، وبه نحيا ونتحرك ونوجد. وهو الذي أحبنا أولاً وأحبنا فضلاً، وأحبنا ونحن بعد خطاة، ومات لأجلنا لكي يُقيمنا أيضاً معه ويرفع عنَّا حُكْم الموت. لذلك يتحتَّم علينا أن نحبه كما أحبنا. ومحبة الله من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القدرة، تعني أن يصبح الله عند الإنسان هو القطب الجاذب للحب الصادق والعمل الصالح. ولنلاحظ أن كلمة "كل" تعني أن لا يوجد شخص آخر يُقاسِم الله في حبِّنا له. بمعنى أن يكون الله هو الأول والآخِر، وأن نحبه أكثر من الأب والأُم والزوجة والأولاد والإخوة والأخوات، ومن أعزِّ مَن لدينا وما عندنا، بل وأكثر من الذات. وفي هذا يقول القديس أنبا مقار الكبير: [إن النفس التي تحب الله والمسيح بالحق، ولو عملت ربوات من أعمال البر، تحسب نفسها كأنها لم تعمل شيئاً بسبب اشتياقها للرب بدون شبع. حتى وإن أرهقت جسدها في الأصوام والأسهار، تعتبر ذاتها كأنها لم تبدأ بعد الجهاد من أجل الفضيلة... لكنها طول النهار تجوع وتعطش بالإيمان والمحبة في الصلاة المتواترة للحصول على أسرار النعمة وعلى كل فضيلة بلا شبع، وتكون مجروحة بمحبة الروح السماوي، وتضرم باستمرار داخلها الاشتياق المشتعل بالنعمة نحو العريس السماوي، وتشتهي أن تؤهَّل بالكمال للدخول معه في شركة سرِّية لا يُنطق بها في تقديس الروح، وأن ينكشف الغطاء عن وجه نفسها، فتنظر إلى العريس السماوي وجهاً لوجهٍ في نوره الروحاني غير المنطوق به. وتمتزج به بكل يقين، متشبهةً بموته باشتياق كثير، ومنتظرة كل حين أن تموت من أجل المسيح](2). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أن نُغير تغذيتنا من طعام الجسد الذي لا يُشبع إلى طعام النفس |
طعام يوحنا المعمدان وهو طعام الفقراء |
التسامح سمة الاقوياء |
+*صراع الاقوياء |
الاقوياء |