|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بركان الماساي الفريد ذو الحمم السوداء
الأسوَد دومًا مثير، ومحير. اقرن هذا اللون مع أي شيء وسيكتسب أبعادًا جديدة غامضة: السحر الأسود، السوق السوداء، الموت الأسود، والثقوب السوداء! دعكم من أنه رمز الحداد والشؤم في كل الثقافات تقريبًا؛ لكن فلنؤجل هذه التفصيلة الصغيرة لنهاية المقال. لكن الصفة الأشهر الملتصقة باللون الأسود هي أنه “نادر”! انظر حولك الآن وابحث عن اللون الأسود وستلاحظ على الفور أن تواجده محدود في الموجودات من حولك. كل شيء اختار الإعلان عن نفسه بلون آخر صريح له دلالة؛ أو بالأحرى كان هذا خيار المصممين وصناع ما نستخدمه في حياتنا. اللون الأسود لون محايد، لذا يبتعد عنه معظم الرسامون والمصممون إلا نادرًا بينما يضعه البعض الآخر في مرتبة مختلفة. الرسام الفرنسي الأشهر إدوارد مانيه أ‰douard Mane قال يومًا أن “الأسود ليس لونًا”، بينما اعتبره رينوار ملك الألوان وصار في لوحات غويا رمزًا لليأس والتشاؤم والموت. فإذا انتقلنا إلى الطبيعة، سنجد الأسود وقد صار أكثر ندرة. لن تلفت زهرة حمراء انتباهك وإنما ستفعل زهرة سوداء من قرية هلفيتي Halfeti التركية؛ لن تحدق طويلًا في قوس قزح ملون في الأفق، لكنك ستملأ الدنيا ضجيجًا متى رأيت قوس قزح بدرجات الأسود والرمادي؛ ستمل سريعًا من مشهد الحمم الحمراء الملتهبة التي يقذفها بركان ثائر، لكنك ستتسمر مشدوهًا لرؤية حمم سوداء نادرة تتفجر من فوهة بركان بارد! رحبوا معي بظاهرة جديدة ستضيفونها لنوادر اللون الأسود بالطبيعة: بركان أولدوينيو لنجاي … البركان الأبرد، والأكثر سوادًا في العالم! جبل الإله! هو ليس جبلًا بالمعنى التقليدي، لكنه بركان نشط حتى الآن. البعض يطلق عليه أغرب بركان في العالم، والبعض الآخر يصفه بالبركان الفريد من نوعه، أما السكان المحليون في تنزانيا من قبيلة الماساي فيسمونه بـ “جبل الإله”، حيث يؤمنون أن غضب الإله يتمثل في ثوران هذا البركان؛ ولهذا يحجون اليه في مسيرات طويلة ويتضرعون إليه بتقديم الأضاحي من الحيوانات. من معتقدات الماساي الذهاب بالنساء اللواتي لا ينجبن لطلب نعمة الإنجاب هناك. بركان بارد، بقلب ملتهب! فلنوضح شيئًا مهمًا في البداية: مع أن بركان جبل أولدوينيو لنجاي هو “البركان الأبرد” في العالم، فقلبه لا يزال ساخنًا للغاية. لذا، ولكونه لا يزال نشطًا، تنساب الحمم البركانية “الصهّارة Lava” منه بشكل دوري. مع هذا، فحمم أولدوينيو لنجاي ليست كأي حمم رأيتموها من قبل … حمم سوداء تنساب كزيت الزيتون الداكن من فوهة البركان الغريب، كما يصفها متسلقو الجبل! هذه الظاهرة مرجعها التركيب الفريد لحمم بركان أولدوينيو لنجاي في الواقع. فعلى عكس الصهّارة التقليدية لبقية البراكين والتي تتكون من حجر البازلت البركاني، فحمم أولدوينيو لنجاي تملك تركيبًا كيميائيًا مختلفًا يتكون من الكالسيوم والصوديوم وثاني أكسيد الكربون الذائب أو ما يسمى بمركب الكاربوناتايت Carbonatite.الكاربوناتايت يتميز بنقطة انصهار أقل كثيرًا من البازلت، حيث ينصهر الكاربوناتايت وينساب كحمم عند درجة 510 سيليزية، بينما ينصهر البازلت البركاني عن درجة 1000 سيليزية! درجة حرارة حمم أولدوينيو لنجاي ليست بالمنخفضة مطلقًا، لكنها في الواقع باردة بما يكفي كي تنجو إذا ما سقطت بها؛ وهو ما حدث تمامًا مع رجل في عام 2008 عندما انزلق بينما يتسلق الجبل ليسقط في أحد الممرات المليئة بالحمم الساخنة. حتى الآن، هو الشخص الوحيد في التاريح الذي نجا من سقوط مباشر بالصهّارة الملتهبة. فقط لا تختبر حظك بالبقاء أطول من اللازم في تلك الحمم، وهي نصيحة بديهية بالطبع! حمم أولدوينيو لنجاي تضوي باللون الأحمر الباهت ليلًا فقط، وبالنهار تظل سوداء تحت أشعة الشمس. والتركيب الكيميائي الفريد نفسه لحمم أولدوينيو لنجاي هو ما يكسبها ذلك اللون النادر للحمم. فمع درجة الإنصهار المنخفضة للكاربوناتايت، لا تسخن المعادن به إلى درجة الإحمرار المميزة للحمم التقليدية إلا إذا نظرت لها ليلًا. هكذا تظل حمم بركان أولدوينيو لنجاي سوداء إلى أن تبرد فتتحول للون الرمادي ثم الأبيض. حينها تصبح هشة سهلة التكسر، وهو السبب نفسه وراء صوت تكسر الزجاج المميز الذي يصاحب سيلان الحمم السوداء من البركان بينما تبرد في طريقها إلى السفح. الأبرد لكن الأخطر! وأخبرًا وبعد ما تناولناه بالأعلى عن بركان أولدوينيو لنجاي، فقد تعتقدون أنه بركان “سهل المعشر” و”لطيف” إذا ما كان لبركان أن يوصف هكذا؛ إلا أنه في الواقع أخطر من أي بركان آخر أكثر سخونة قد تفكرون به! ويرجع هذا لعامل آخر مهم … السرعة.الحمم الحمراء الملتهبة التقليدية أغلظ وأبطأ مما تصورون، حيث تتدفق وتتحرك على الأرض بسرعة 10 كم في الساعة، أي أنك تستطيع بكل سهولة أن تسبق أي سيل من الحمم الملتهبة التقليدية، لكن الوضع يختلف تمامًا مع حمم أولدوينيو لنجاي السوداء والفضل في ذلك من جديد يرجع إلى تركيبها الفريد. مع القوام الأخف للحمم السوداء، تنساب حمم أولدوينيو لنجاي بسرعة الماء تقريبًا! تخيلوا معي سيل من الماء العرمرم ينحدر بسرعة لا تصدق من أعلى … فقط استبدلوا الماء بحمم تغلي بحرارة 510 سيليزية! هل انتهى حديثنا عن بركان أولدوينيو لنجاي وحممه السوداء المميزة؟! أجل، لكن تبقت فقط تلك التفصيلة التي وعدتكم بها في بداية المقال. كنا نتحدث حينها عن اللون الأسود؛ لا تخبرني أنك نسيت أمرها رجاءً! في كتابه بعنوان حلقات زحل The Rings of Saturn، يشير دبليو جي سيبالد W. G. Sebald إلى ذلك العُرف الذي كان سائدًا في هولندا بالقرن السابع عشر. حينها، كان من عادة الناس الذين يتوفّى لهم قريب أن يضعوا أغطية سوداء كبيرة على جميع المرايا في المنزل وكذلك جميع اللوحات التي تصوّر طبيعة أو أشخاصًا أو فاكهة أو أي من مباهج الدنيا. كانوا يعتقدون أن من شأن هذا أن يساعد الروح وهي تفارق الجسد كي لا تتشتّت أو تنشغل في رحلتها الأخيرة بانعكاس نفسها في المرايا أو بإلقاء نظرة أخيرة على الأرض ونعيمها التي يُفترض أنها ستغادرها إلى الأبد. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|