القديسة تريزا الأفيلية
St. Teresa of Avila
مقدمة
يعجُّ القرن السادس عشر بالقديسين والقديسات الذين ملأوا الدنيا بعبير قداستهم، أمثال بورجيا وغيرهم.تريزا الأفيلية والقديس يوحنا الصليب والقديس اغناطيوس دي لويولا والقديس فرنسيس غير أن تريزا تبقى في طليعة هؤلاء القديسين لما امتازت به من شخصية جذّابة وقويّة، إذ أقدمت على إصلاحٍ شامل للرهبانيّة الكرمليّة بفرعيها النسائي والرجالي، وتركت لرهبانيتها وللكنيسة جمعاء، تراثاً ضخماً من أعمالٍ وإنشاءات وكتابات واختبارات روحية، وضعت تريزا في مصاف كبار معلّمي الكنيسة، وبين كبار مؤسّسي طريق الكمال المسيحي.
هناك أكثر من قديسة تحمل اسم تريزا، لمعت في سماء الكرمل والكنيسة:الأولى هي تريزا الأفيلية، إسبانية من مواليد القرن السادس عشر. والثانية هي تريز دي ليزيو، فرنسية، من مواليد القرن التاسع عشر. الأولى هي تريزا ليسوع، الأم الكبيرة، مصلحة رهبانيّة الكرمل، ومعلّمة الكنيسة (1970)، والثانية هي تريز الطفل يسوع، الإبنة البارة لتريزا ليسوع التي شقَت درب الطفولة الروحية وملأت الآفاق بنعمها وأعاجيبها (1873-1897) وقد أعلنتها الكنيسة "معلّمة لها" سنة 1997 على مثال أمها الروحية تريزا. تريزا ليسوع الأندسية، تريزا بنديكتا للصليب، تريزا ماريا للصليب...
مولد تريزا وحداثتها
ولدت تريزا دي اهومادا سنة 1515 في مدينة آفيلا في إسبانيا، من أبوين من أشراف تلك البلاد. فعكفا على تربية عائلة كبيرة، ضمّت ثلاث أَخوات وتسعة إخوة، تربيةً مسيحية أثّرت بتريزا تأثيراً بالغاً. فنشأت متوقِّدة الذهن، مشتعلةً حماسةً لإيمانها المسيحي. وخير دليل على تلك الحماسة، أنها، وهي في السابعة من عمرها، أقنعت أخاها الأكبر منها سنّاً، ويدعى رودريك، واقتادته إلى بلاد المغاربة، مبتغية بذلك أن يموتا شهيدين من أجل المسيح، وينالا إكليل المجد الذي لا يزول. غير ان عمّهما فرنسيسكو، التقى بهما صدفة على طريق مدينة سلامنكا وارجعهما إلى البيت الوالدي. وعندما أخذ العم يلوم الفتى رودريك، لكونه الأكبر سنّاً، أجاب عمّه: "ان الصغيرة هي التي اقنعتني واقتادتني إلى ذلك العمل". ولمّا توجه العم بالملامة إلى تريزا أجابته: "كنت أريد أن أرى الله، ولكي أراه كان يجب أن أموت".
هذا، ومنذ حداثتها، كانت ألعابها وتسلياتها تقوم على بناء صوامعَ وأديارٍ في الرمل والتراب، وتنحني بالقرب منها للصلاة.
وكانت والدتها تنفرد بها في أمسيات الشتاء، فتحدّثها عن محبّة الله، وعن التعبد لمريم العذراء، وعن الفرسان الأبطال ومغامراتهم. وقد أخذت، وهي في سن العاشرة، تقرأ قصص الفروسية وتتحمّسُ لها.
تريزا في عمر المراهقة:
كانت تريزا في الثالثة عشرة من عمرها عندما فقدت والدتها. فأحسّت بالضياع. ولكنّها ذهبت وانطرحت أمام تمثال السيّدة العذراء، مصليةً بدموع حارة، طالبةً من العذراء أن تكون من الآن فصاعداً أمَّها...
انقضت أيام الحزن، فانصرفت تريزا للهو والتبرّج. فأخذت تتزيّن وتظهر بمظهرٍ جذّاب، شأنَها شأنَ كلّ بناتِ جنسها، إلى أن أحبّها وعشق جمالها أحد أولاد عمّها. ففقدت تقواها، وفترت عبادتها، وجعلت همَّها في تجعيد شعرها، وتعطير ثيابها، والإدمان على مطالعة سير الفروسية والحبّ، كما ابتعدت عن الكنيسة وحضور القداس.
وعندما شعر الوالد التقي بما يتهدّد ابنته من مخاطر، قرر إنقاذها. فوضعها كطالبة داخلية في مدرسةِ الراهبات الأوغسطينيات في دير "سيّدة النعم". فما لبثت تريزا أن عادت إلى جو الصلاة والتقوى وتذوّقِ أمورِ الروح...
ألم يقل المثل: "قل لي من تعاشر أقل لك من أنت!"
وفي الدير، أخذت تريزا تتأرجح بين خيارين: "الله والعالم" ولكنّ طرقَ اللهِ وأحكامَه غيرُ طرقِ البشر وأحكامِهم. فانتابها المرض بعد سنة ونصف، وغادرت المدرسة، وأقفلت راجعة إلى بيت والدها. فوجدت أيضاً أن حياة الدنيا لا تُشبعُ نهمها إلى المطلق... فأخذت تفكّر طويلاً وتقول: "حقاً، إن كلَّ شيء عدم. والحياة قصيرة وزائلة"!. عندها أخذت تشعر بميلٍ عميق إلى الحياة الرهبانيّة، الى حياة الزهد والابتعاد عن العالم.
تريزا الراهبة الكرمليّة في دير التجسد
كانت تريزا بعمر 18 سنة، عندما قررتِ الدخولَ إلى دير التجسد الكرملي في مدينة آفيلا، عازمة أن تعيش لله وحده بكلّ قواها. لقد كانت خطوتُها الحاسمة. فدخلت الدير. وكانت تظنّ أن الحياةَ فيه صعبةٌ للغاية. ففوجئت، وهي ضمنَ الدير، بسهولة الحياة الرهبانيّة، التي كانت الراهبات الكرمليّات يعشنها: فالقانون سهل، والراهبات يعشن حياة الرخاء والإكتفاء، ملابس فخمة، مآكل، إجتماعات، زيارات، خروج من الدير، وبكلمة مختصرة، حياتُهن حياةُ تقوى عادية مثلُ أيِ مسيحي كان. وكلّ ما يميّزَهُنّ عن غيرهنّ، حياةُ البتوليّة.
فأخذت تريزا تتساءل في نفسها وتقول: أين التجرّد في الحياة الرهبانيّة! أين الإماتة والتواضع! أين التفرّغ المطلق لله والصلاة! أين لذّة الطاعة وأجرُها! أين الفقر الرهباني!... كيف لا تتساءل، وفي الدير ذاته، راهباتٌ غنيات، وأخريات فقيرات. والمعاملة لم تكن متساوية للجميع. والحالة هذه كانت سائدةً في غالبية أديار الكرمليّات.
ولكنّ العناية الإلهية كانت تُعِدُّ تريزا لعمل خطير، لقداسةٍ سامية، لتغييرِ مسلك تلك الأديرة وإصلاحها، فتعودَ لتصبحَ معاقلَ لحياةِ التقشف، والانقطاع عن العالم وإغراءاته، أماكنَ للصلاةِ والتأمّل، كما كانت منذ نشأتها الأولى.
وفي مطلع عام 1554، قرأت تريزا كتاباً بعنوان "اعترافات" للقديس أغسطينوس. هذا الكتاب الزاخر بمحبّة الله، الطافح بالندامة والرجوع إليه تعالى... فانفتحت عيناها على الأسرار العليا، وبدأت تحيا من جديد حياة الصلاة والحرارة والإماتة. وأخذت تقول: "حسبي الله". "الله وحده يكفيني". وعملت على إصلاح ذاتها قبل إصلاح غيرها. فعكفت على التأمّل والصلاة العقلية. وأخذت تختبر حالاتٍ من الانخطاف والأعراض الخارقة. فلجأت إلى استشارة لاهوتيين كبار، من يسوعيين ودومنيكان وفرنسيسكان، فطمأنوها إلى أن هذا كلّه مصدرُهُ الله، ولا خوف عليها... وأخذ الربّ يسوع يظهر لها، ويضرم قلبها بنار حبّه الإلهي، حتى إن أحد الملائكة طعنها بحربةٍ نارية اخترقت فؤادَها فألْهَبَهُ بنارٍ من الحبّ كادت لا تُطيق تحمّلَ لظاه.
هذا، وقد بدأت تميت جسدها بشتى أنواع الإماتات. فكانت تلبس المسح الخشن وتزنّر جسدها بحزام من معدنٍ مسنّن، وتصوم وتصلّي، حتى أصبح جسدُها أسيراً لنفسها المتعطشة لله، المشرقة بالأنوار السماوية...
إصلاح الكرمليّات:
في أيلول سنة 1560 كانت جماعة من الراهبات تتحدث مع تريزا في غرفتها في دير التجسد. وكان الحديث يدور حول الحياة الرهبانيّة وضرورة تأسيس دير جديد، تعيش فيه الراهباتُ الكرمليّات بموجب القانون الكرمليّ المتشدّد. فأخذت تريزا تفكّر بهذا الأمر مستعينة بالصلاة وطلب النور من العلاء. وبعد أيام نالت موافقة رئيسها الإقليمي الكرملي، ومن بعده موافقة روما. فاشترى لها ذووها بيتاً، عملت تريزا على ترميمه وإصلاحه، ليصبح مؤهّلاً لسَكَنِ الراهبات. ووضعت هذا الدير الجديد تحت حماية القديس يوسف، وقد كانت شديدة التعبد لهذا القديس. فأقيم فيه القداس الإلهي. وعُرض القربان المقدّس، بعدما انتقلت إلى هذا الدير الجديد أربعُ راهبات. كما توشّحت أربعٌ من المبتدئات بالثوبَ الرهباني. ووُضع حِصْنٌ للدير فَفُصلَ عن العالم. وأخذت الراهبات والمبتدئات، بإشراف تريزا، يعشن حياةَ الفقر والتأمّل والصمت والعمل.
وعكفت تريزا في هذا "البيت-الدير" الجديد، على القيام بالأعمال اليومية، من طبخ وكناسة وغسل. وبنت في البستان مناسك للإختلاء والصلاة. وكان همّها الأول تنشئة المبتدئات، تلك التنشئة الرهبانيّة الأصيلة... ولهذا الغرض كتبت كتابها "طريق الكمال". فزاع صيت ذلك الدير وازداد من جهة، عدد الراغبات في حياة ذلك الدير الجديد، كما ازدادت المقاومة من جهة أخرى لهكذا عمل وهكذا إصلاح.
ولكنّ تريزا كانت واضعة هدفها الإصلاحي نصب عينيها. فالخطوة الأولى صعبة من دون شك. ولكنّها عزمت على تخطّي جميع العقبات، متكلةً على نعمة الروح وقوّته. فطبّقت القانون المتشدد-واضعةً صرامةً شديدةً في الطعام واللباس، وفي ساعتيّ تأمّل عقلي في اليوم، وفي حياة انقطاع تام عن إغراءات العالم. والإقلال من الاجتماعات والزيارات والخروج من الدير.
وكان بعد مدة أن مرّ من هناك الرئيس العام للرهبانيّة الكرمليّة الأب روبير، فأُعجب بذلك النمط الجديد، ورعى مشروعَها، وشجّعها على بناء وإصلاح أديارٍ أخرى. فوُلد الدير الثاني في "مدينة دل كمبو"Medina Del Campo…
ولكنّ تريزا أدركت أن الحياة الرهبانيّة الأصيلة وتطبيق القانون الأولي المتشدّد، لن يتحققا إلاّ بانضمام الرهبان أيضاً إلى هذا الإصلاح... فكتبت تريزا بهذا الخصوص إلى الرئيس العام الأب روبير فسمح لها بتأسيس أديرة للرهبان الكرمليّين الذين يعيشون بدورهم حياة الرخاء والتساهل في شتّى الميادين.
وبدأت تريزا تبحث عن رهبان كرمليين تنسجم أفكارهم وأفكارها لمساعدتها في عملية إصلاح الفرع الرجالي. فحظيت بمعرفة راهبين هما يوحنا الصليب وأنطونيو دي هيريديا، اللذين أخذا عهداً على نفسيهما في مساعدتها بعملية الإصلاح هذه...
وفي هذا الوقت كانت عملية تأسيس وإصلاح أديرة الكرمليّات قائمة على قدم وساق، ومتلاحقة دون هوادة لمدة خمس عشرة سنة، بهمّة قل نظيرها، ساخرةً بالأتعاب والأسفار الطويلة، غير عائبة بالحرّ أو البرد، ممتطيةً بغلةً أو راكبة عربة. فأسّست 16 ديراً للكرمليّات. وكانت تقوم بنفسها بجميع قضايا الإشراف على البناء أو الترميم، وقضايا الإستئجار أو الشراء أو المعاملات مع السلطات المدنية والدينية، كما كانت تقتني دفتر الحاسبات، وتبحث عن الأموال الضرورية للبناء. وفي الوقت ذاته كانت تتحمّل الكثير من المضايقات ضد الرهبانيّة المصلَحة، فتزور كلَّ أديرتها، وتستمع إلى كلّ راهبةٍ بمفردها، وتشجّعُ الجميع، خصوصاً المبتدئات. وفي الليل كانت تتفرّغ للكتابة والمراسلات وتكريس وقتٍ طويل للصلاة واستمداد العون من العلاء.
إصلاح الكرمليّين
همّ تريزا الكبير، كان إصلاح الفرع الرجالي للكرمليين، إذ بهذا يصبح عندها كهنةً مرشدين ومعرّفين للكرمليّات.
فالتقت، كما أشرنا، بكرملي شاب، هو يوحنا الصليب (1542- 1591) الذي طلب من الرئيس العام الأب روبير أن يسمح له باتّباع القانون المتشدّد. فكان هناك حديث وانسجام بالأفكار بين تريزا ويوحنا. فأطلعته تريزا على نوع الحياة في أديرة الكرمليّات، وعلى نوعية القانون والتقشّفات وممارسة المحبّة الأخوية والتأمّل والصلاة والفرص المشتركه داخل الدير، تلك الحياة التي يسودها الفرح والبشاشة... فكان يوحنا منسجما تمام الإنسجام مع الروحانية الجديدة... وتمّ تأسيس أول دير للكرمليين المتشدّدين، في 28 تشرين الثاني 1568. وسكنه ثلاثةُ رهبان: يوحنا الصليب، والأب انطوان ليسوع، وأخ آخر... وبعد أشهر زارتهم تريزا. فاندهشت من حياة هؤلاء الكرمليّين المتشدّدين: حياة الفقر، حياة التمسّك بالقوانين، حياة الصلاة والتأمّل. ومجّدت الله على ذلك.
وما لبث الكرمليون الجدد أن فتحوا داراً للإبتداء في مدينة (باسترانا) لاستقبال الدعوات. ولكنّ هذه الخطوة كانت شاقّة وعسيرة. لا بل لاقت مقاومات عنيفة، خصوصاً من جهة الرهبان، الذين رفضوا أن تقوم امرأة بإصلاحهم. لا بل اتخذت هذه الخطوة طابع الإضطهاد، إذ إن المناوئين لهذه الحركة الإصلاحية المتشدّدة، توصّلوا إلى حجز تريزا في أحد الأديرة وإلى اختطاف يوحنا الصليب وزجّه في سجن دير طليطلة، ومعاملته أقسى معاملة. وازداد الإضطهاد، مما دفع الكرمليّين الحفاة إلى إقامة إقليم منفصل عن الكرمليّين الملطّفين (العائشين حسب القانون الملطف السهل). وسنة 1586 أصبحوا رهبانيّة لها حكمها الذاتي. وسنة 1593 أصبحوا رهبانيّة مستقلّة تماماً.
رغم الإضطهاد، لم تستسلم تريزا لليأس، بل واصلت الكفاح بعناد وجرأة من أجل متابعة هذه المسيرة الاصلاحية. وأخذت تكتب وتنصح وتوبّخ.
وكتبت إلى الرئيس العام الأب روبير، وإلى الملك فيليب الثاني. كما أنها عكفت على كتابة كتاب روحي نفيس عنوانه "الصرح الداخلي". واستأنفت أسفارها وإصلاحاتها، وقوّة الروح تؤيّدها وتدفعها دوماً إلى تخطّي العقبات... لا، بل كلّما زادت الصعوبات كلّما أمعنت في الصلاة والجلوس ساعاتٍ طوال في حضرة الله، مستمدةً منه العون والسلام واليقين والطمأنينة.
مرضها ووفاتها
إنّ كثرة الأسفار والتأسيسات، والإصلاح والزيارات لجميع الأديرة التي أسّست، والإهتمام بكلّ راهبة وكلّ مبتدئة، والسعي الحثيث لإنجاح إصلاح الكرمليّين، والتقشفات الكثيرة، والصلوات المتواصلة، وقلّة النوم: هذا كلّه تراكم على جسد تلك المرأة الجبّارة، فساءت صحّتُها وَهَزَلَتْ بُنْيَتُها. ورغم كلّ ذلك ورغم سنيّها السبع والستين، انطلقت مجدّداً سنة 1582 لتأسيس دير جديد للراهبات في مدينة بورغسBurgos. فشعرت بالمرض يتآكلها، وبالسفر يضنيها، وبالبرد القارس ينهشها، وبالحمّى تجتاحُها. فما لبثت عندئذٍ أن عادت بعد ثلاثة أشهر إلى مدينة آفيلا، إلى ديرها الأول، دير القديس يوسف، الذي ستختم فيه حياتها...
وفي 30 ايلول 1582 حدث لها نزيفٌ أَلزمها الفراش. فأدركت انها موشكةٌ على الموت. فاستدعت الراهبات وجمعتهنّ حولها وأعطتهن توصياتها الأخيرة. وطلبت الصفح من جميع أخواتها الراهبات في جميع الأديرة. وطلبت المعرّف فاعترفت للمرّة الأخيرة. وبينما الأب أنطونيو يناولها القربان المقدّس صرخت بحرارة قائلة: "ربي وإلهي، ها قد أتت الساعة التي كنتُ أنتظرها بشوق كبير. نعم لقد حان الوقت لكي نرى بعضنا بعضا وجهاً لوجه. لقد حانت الساعة. لنمضِ. لتكن مشيئتك يا رب. يا رب أنا أموت ابنة للكنيسة". وعندما أتمّت هذا، سلّمت روحها لله بهدوء وسلام، يوم 15 تشرين الأول 1582، وهي ابنة سبع وستين سنة...
تعليم تريزا
لقد شقّت تريزا طريقاً جديداً للكمال المسيحي والوصول إلى الله. وهذا الطريق نابعٌ من خبرةٍ واستحضارٍ دائمٍ لله، كما يرتكز على شرحٍ مبسّط للجفاف الداخلي ولليبوسات الروحية التي غالباً ما تساعد على تطهير النفس وتُهيّئُها لعطاءٍ أكملَ وأقوى.
فالحياة عند تريزا ليست جموداً واستسلاما وبِطالة،
الحياة عند تريزا ليست مسيّرة مفروضة ومكتوبة بحروف من بولاد، إنها عكس ذلك، إذ هي تحرّكٌ مستمرّ نحو الأكمل، وعملٌ دؤوبٌ في خدمة الله والقريب، ومواظبةٌ على التأمّل وطلب النور من أبِ الأنوار. وحياة الكمال المسيحي كما جاء في تعليم تريزا ليس إلاّ حوارَ المحبّة المتواصل بين الله والنفس... وعند استحالة الصلاة تكفي عبارة: أنا أحبّك يا يسوع.
وقد عرفت تريزا كيف توفّق تماما بين شطرين في الحياة ضروريين: حياة التأمّل وحياة العمل – صلِّ واعملْ. إنه مبدأ كلّ حياة رهبانيّة...
من هنا برزت تريزا كمعلّمة كبيرة في الحياة الروحية أثّرت أبلغ تأثير على أخواتها الراهبات الكرمليّات، وعلى الرهبان الكرمليّين الحفاة، وعلى مرشديها ومعرّفيها، وعلى جميع الذين عايشوها من إكليريكيين وعلمانيّين وأساقفة، حتى بلغ صيتها جميع أنحاء إسبانيا.
وبعد موتها، تَخَطَّت شهرتها حدود إسبانيا إلى العالم كلّه، خصوصاً بعدما تُرجمت كتاباتها إلى معظم اللغات الأوروبية والشرقية. كما أقدم الآباء الكرمليون في لبنان على ترجمة "أعمالها الكاملة" إلى اللغة العربية، بعد أن أصبحت تلك الكتابات مرجعاً أوّلياً للاّهوتيين والمعلّمين الروحيين، وخصوصاً للمهتمين بالدراسات والحالات الصوفية التي عاشتها شعوب الشرق والغرب، خصوصاً في الهند والصين واليابان. وهذا ما حدا بالبابا بولس السادس إعلانها ملفانةً ومعلّمةً للكنيسة الجامعة في 27 ايلول 1970. وهكذا أصبح لدى الكنيسة ثلاث نساء يحملن لقب معلّمات الكنيسة: تريزا الأفيلية وكاترين السيانية وتريز الطفل يسوع.
واليوم ما زال لتعليم تريزا ولحياتها ولكتاباتها ذلك الإنتشار الواسع، وذلك التأثير العميق في معاصريها، وفي الأجيال اللاّحقة، حتى أيامنا هذه. وقد قال عنها شارل دي فوكو: "إن القديسة تريزا هي من هؤلاء المؤلفين الذين يجعلهم المرء خبزه اليومي...
الكتب التي تأثّرت بها تريزا
كثير من القديسين درس على ذاته أو بالأحرى تعلّم على سراج الأنوار العليا التي تضيء النفس وتنير زواياها المُعْتِمَة. وتريزا غاصت على تلك الحقائق الإنجيلية رغم عدم تخصّصها بأية دراساتٍ عليا... ذلك لأنها تشرّبت القداسة منذ صغرها، بفضل والدين تقيين، وبفضل إقبالها على مطالعة سير القديسين. أجل، لقد طالعت تريزا وتأثرت ببعض الكتب التي تأتي على ذكرها في كتاباتها. نذكر منها في الدرجة الأولى:
الكتاب المقدّس الذي تستشهد به دوماً؛ ورسائل القديس ايرونيموس؛ كتاب "الإقتداء بالمسيح"؛ وكتاب "أخلاقيات" للقديس غريغوريوس، وغيرها.
وطبعاً، المطالعة بالنسبة لتريزا، تعني تحويل ما طالعته إلى عناصر حيّة في حياتها كما تعني ارادة الهضم والصَّهر والتطبيق في الحياة. وقد اقتبست تريزا ما احتوته تلك الكتب من روحانيات تعلّمتها وعاشتها ووضعتها في كتب لكي تصبح لنا طريقاً يقودنا إلى الله.
كتاباتها
تركت لنا تريزا مؤلفات عديدة هي ثمرةُ خبرةٍ روحية غنيّة، أرادت من خلالها أن تعبّر عنها تعبيراً بسيطاً صادقاً وحيّاً. من كتاباتها نذكر:
كتاب "السيرة": الذي يحتوي على سيرة حياتها وقد كتبته بخط يديها سنة 1562 تلبية لأمر الأب غارسيا. وأكملته سنة 1565.
"طريق الكمال": كتاب قيّم جداً. كتبته تريزا سنة 1566 تلبية لإلحاح الأب بانييس الدومينيكي وأعادت كتابته سنة 1576 ليكون نافعا لجميع المسيحيين.
كتاب "التأسيسات". بدأت بكتابته سنة 1574 نزولاً عند طلب الأب ريبالدا، وأنجزته شهرين قبل وفاتها نظراً لأشغالها الكثيرة.
"المنازل": كتبته سنة 1577 واستغرقت ثلاثة أشهر في كتابته وذلك نزولاً عند طلب الأب غراسيان. وهذا الكتاب هو تُحفة من اللاهوت الصوفي. وهو بمثابة خلاصة لتعاليم تريزا الروحية. إنه دروس خِبرة عميقة في التأمّل والحياة الروحية. وهذا الكتاب هو بحق أروع ما خرج من قلبها وما خطّه قلمها.
هناك كتابات أخرى نذكر منها: "الأحاديث الروحية" و"أفكار حول محبّة الله" وكتابات غيرها نثراً وشعراً.
أمّا "رسائلها" فعديدة جداً. وهي موجّهة إلى مختلف الأوساط. وهي إنْ دلّت على شيء، فإنّما تدلّ على تطلعات تريزا واهتماماتها بالحياة الإنسانية والروحية والمادية وكيفيّة التعاطي مع الأشخاص.
أخيراً، إن الملاحظة التي لا بدّ من قولها هي أن تريزا لم تكتب شيئاً إلاّ بأمر رؤسائها ومرشديها ومعرّفيها.
روحانية تريزا
قلنا إنّ تريزا عاشت روحانية هي نتيجة خبرة روحية حاولت أن تعبّر عنها في كتاباتها، ونلخصها بالأفكار التالية:
الله وحده يكفي: الإنسان الذي يعيش في دوّامة التمزّق والأنانية ويجد نفسه أمام حائط مسدود، إنّما ذلك نتيجة حتمية لولوج هذا الإنسان الخطيئة، وغياب الصلاة عن حياته.
ولكنّ الخطوة الحاسمة الأولى، تقوم على العودة إلى الذات، وتركها تتمركز في الله الذي يستحوذ على النفس، ويمتلك كلّ طاقاتها، فيحرّرها ويضعها في دوّامة حياة إلهية جديدة.
روحانية تريزا تدور بمجملها حول حياة جديدة متجدّدة باستمرار في المسيح:
قال بولس: "لست أنا الحيّ بل المسيح هو الحيّ فيّ". وتريزا اختبرت ذلك وعرفت أن الحياة الجديدة في المسيح لا تقوم إلاّ على نعمة الموت والولادة والقيامة على حياة جديدة، تماماً على مثال المسيح.
الصلاة حديث مع الله: تريزا هي محترفة صلاة. ففي أسفارها وأشغالها كانت تصلّي. وفي سكون الليل كانت تصلي. ومن خلال كتاباتها نستشف أن الصلاة كانت محور حياتها ورفيقة أعمالها ونجاح مشاريعها..
من أقوالها
أَنْ أموتَ، نعم. أن أُهزم أبداً.
لا يُقلقك شيء ولا يُرْهِبُك شيء. فكلّ شيء يزول، الله لا يتغيّر. وهو وحده يكفي.
الصبر ينال كلّ شيء ومن له الله لا يعوزه شيء.
فلتكن رغباتك أن ترى الله، وليكن خوفك أن تخسره، وليكن غمّك عدم امتلاكه، وليكن فرحك بالذي يقودك اليه، عندها فقط تحيا بسلام.
خلاصة
أجل هذه هي تريزا الأفيلية. هذه هي الراهبة الفذّة التي عرفت كيف تملأ حياتها وأيامها من العمل لبناء ملكوت الله على الأرض فتدَفَّق عملُها حبّاً عارماً لله وللكنيسة وللقريب. هذه هي شخصية تلك المرأة "المغرمة بالله" التي حلّقت في سماء الكنيسة، فعاشت بانيةً، مصلحةً، معلّمةً، تحت تأثير الروح والفرح والحرية والعطاء.
وهذا ما حدا باللاهوتي والمؤلف والشاعر الإسباني الأب لويس دي ليون الأغسطيني أن يكتب عنها فيقول:
"انا ما عرفت الأم تريزا ليسوع، ولا رأيتها أثناء حياتها على الأرض. أمّا الآن وهي حيّة في السماء، فإنني أعرفها وأكاد أراها دائماً في صورتين حيّتين تركتهما لنا عن ذاتها هما: بناتُها ومؤلّفاتها".
ونحن أبناء القرن الحادي والعشرين نقف اليوم حيارى أمام هذه الراهبة الجبّارة ونتعرّف إليها من خلال بناتها وأبنائها المنتشرين اليوم في كلّ بقعة من الأرض، يتابعون رسالتها. ونتعرّف إليها أيضاً من خلال مؤلّفاتها، وسيرة حياتها، إذ استطاعت من خلال صلاتها، وتسليمها المطلق لإرادة الله، وثقتها بنفسها وصبرها وفضيلتها وأشغالها وأسفارها وإنشاءاتها أن تقوم بوضع منهجيّة جديدة للرهبانيّة الكرمليّة. وعملها هذا يَعْجَزُ عنه جمهور من الرجال والنساء مجتمعين. فكيف بتريزا تناضل لوحدها! ولكنّها لم تكن لوحدها، بل الروح الكامن في أعماقها كان يُلهمها ويلهبها طيلة مسيرتها، فكانت المرأة والراهبة والرئيسة والمصلحة والمؤلفة والمؤسسة والمعلّمة الصوفية والإنسانة المغرمة بالله وبالكنيسة. وقد قيل عنها بأنّها أعظم امرأة في التاريخ بعد مريم العذراء. إن الله لعجيب حقاً