بنعمه المسيح نبدأ:
أمهات قديسات فى تاريخ المسيحية...
(( افنيكي . . . أم تيموثاوس ))
أفنيكي
لا يكاد المرء يذكر أفنيكي حتى يتذكر قصة تلك الغابة الواسعة في قلب أوروبا، والتي كان يقصدها الكثيرون من الزائرين والرحالة والمولعين بصيد الوحوش والحيوانات، وكان في الأحراش فيها منزل أنيق جميل، هو أشبه الكل بفندق أو استراحة، لمن يصل إلى المكان وينشد راحته.... وقد حدث أن جماعة وصلت إلى هناك، وكان معها أنواع مختلفة من الشراب، وبينما هم يلعبون ويشربون، كسرت زجاجة، وتدفق من الشراب ما تدفق على جدار في القاعة، فأفسدها وشوه منظرها على نحو مثير مفجع، ولم يستطع أحد إصلاح المنظر حتى جاء أحد الرسامين، وغطى البقعة الفاسدة بصورة غزال يرتاد بحيرة ويشرب من الماء.. وقد قيل إن الكثيرين كان يقصدون المكان ليروا المنظر الساحر العظيم، وهكذا حول الرسام الماهر نقطة الضعف واللوثة والقبح، إلى ما لم يكن يتخيل أحد من جمال وسحر وجلال! ومن العجيب أن الرسام الأعظم يفعل نفس الشيء في حياة المؤمنين، عندما يغطي الضعف ويستر العورة والعيب، ويصنع من أقبح ما ترى العين، أروع ما يمكن أن تقع عليه الرؤية وتستريح إليه!! وقد حدث هذا بالتمام في قصة أفنيكي، التي يعد زواجها من رجلها من أقسى ما بليت به، أو سقطت فيه، غير أننا نعلم أن هذا الزواج قد أنجب تيموثاوس الابن الصريح في الإيمان، والذي غطى الصورة البائسة المحزنة في الشركة المنكودة بين الأبوين!! ألا يكون من الطيب بعد هذا أن نتأمل قصة هذه الزوجة والأم، لنرى كيف دثرت زواجها الفاشل بحياتها المنتصرة وابنها العظيم، ومن ثم يمكن أن نراها فيما يلي:
أفنيكي ومن هي؟
الكلمة «أفنيكي» معناها المنتصرة السعيدة، وهي كما تظهر امرأة يهودية الأصل، عاشت على الأغلب، في لسترة في آسيا الصغرى، ونحن لا نكاد نعلم شيئًا عن حياتها الأولى، سوى أنها كانت تعيش مع أمها لوئيس تعني «صالحة» أو «مرغوبة» ومن المتصور أن أفنيكي كانت على حد كبير من الجمال، اجتذب إليها زوجها اليوناني الذي أخذ بسحر جمالها، واستطاع أن يفوز بها زوجة حلوة جميلة فاتنة، كما يذهب بعض الكتاب، على أنها كانت أكثر من ذلك دمثة الأخلاق، رضية الحياة، رقيقة المشاعر، ومن المرجح أن بولس كان يأوى إلي بيتها كلما ذهب إلى المدينة في غدواته وروحاته، كما أن تيموثاوس ابنها قد ورث عنها الرقة البالغة، التي يذكرها بولس في لغة الدموع عندما افترق الواحد منهما عن الآخر في قوله: «مشتاقًا أن أراك ذاكرًا دموعك» كما أنها كانت يهودية مؤمنة، من ذلك الطراز الذي يلهج نهاراً وليلاً بالكتب المقدسة، ويرتوي منها، هي أشبه الكل بالشجرة المغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، ومن المعتقد أنها آمنت بالمسيحية في رحلة بولس الرسول الأولى، واشتهرت هي وأمها وابنها بالإيمان الصريح العديم الرياء، غير المتقلقل والثابت والمستقر، وهي لهذا كانت مظهرًا من أروع المظاهر المسيحية الصحيحة في الأصل للكلمة «العديم الرياء» - فهي في الظاهر كما في الداخل، وفي السيرة كما في السريرة، وفي العقيدة كما في الأفعال، لا تناقض أو إبهام أو اضطراب أو ازدواج عندها على الإطلاق... ومن أننا لا نستطيع أن نحدد مدى الآثار البعيدة والعميقة لحياة الصراحة التي عاشتها هذه المرأة، سلبا أو ايجاباً على سواء، إلا أنه يبدو أن صراحتها جلبت عليها من الناحية السلبية، واحدا من أقسى ما واجهت في الحياة من متاعب وآلام، إن الصريح يتصور في العادة لما جبل عليه من الوضوح والصراحة، إن غيره من الناس يمكن أن يكون هكذا أيضًا، فإذا ظهر، أو تظاهر إنسان بالصراحة، ما أسرع أن يصدقه ويثق فيه، ولا يرتاب فيه البتة، وقد يكون هذا هو السبب في زواج أفنيكي التعس بزوجها اليوناني، ومع أننا لا نعرف تفاصيل هذا الزواج، وكيف تم، إلا أننا يمكن أن نضع الصورة التي تصورها الكسندر هوايت عندما قال ما ملخصه: «كيف حدث أن هذه المرأة لوئيس التي تخاف الله والقوية الإيمان العديم الرياء، كيف حدث أن تسقط سقطتها البالغة، فتعطي ابنتها الوحيدة لرجل وثني يتزوجها، كيف أمكن للمرأة الطيبة،. وكيف أمكن لابنتها أن ترتكبا هذه الغلطة القاسية الشنيعة بالتزوج من رجل وثني!! دعنا نتصور ونخمن لقد بدأ هذا الرجل المحب لابنتها يأخذ سبيله إلى المجمع اليهودي، حتى أوشك أن يتهود، تحت تيار عاطفة المحبة التي ملكت عليه قلبه، وكان من الممكن، لولا بعض الموثرات الوثنية القوية، أن يكون كما كانت تحلم الأم أو الفتاة وتصلي أن يصبح مؤمناً خالصًا لله، ولعله كان يؤكد للوئيس أنه بمجرد أن تصبح أفنيكي زوجته، فإنه لن يخيب قط الثقة أو الرجاء فيه.. ولا نتصور أن المحب اليوناني كان يخدع أو يغش فيما يقول، بل لعله كان يعني كل كلمة يفوه بها، وكان يعتقد أنه وزوجته سيكونان أسعد زوجين وأوفاهما وأصدقهما في الحياة الزوحية، وقد صدقته لوئيس، وصدقته أفنيكي، وكما يفعل الكثيرون ممن نصدقهم ونثق بهم، دون أن ننتبه، إلى الخداع النفسي الذي يأتي إلى قلوب العشاق من الشباب، وما أكثر ما رأينا الآلاف منهم، وهم يؤكدون، بصدق وحماس وغيرة نبل مشاعرهم، وعمق عواطفهم، وحسن نواياهم، وهم في كثير من الأحايين كذلك، حتى يتم الزواج، ولكن هل يتحقق ما ذكروه أو تحدثوا به، أو وعدوه، أغلب الظن أن هذا لن يتحقق، وترى الفتاة المؤمنة نفسها، في رباط مع قلب وثني، لا يرتد فقط عن الوعود الكثيرة التي أجزلها، بل لعله يعود إلى أسوأ وأردأ، ومع أننا لا نستطيع أن نقطع عندما نذكر كلمات الرسول بطرس: كذلكن أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن حتى وإن كان البعض لا يطعيون الكلمة يربحون بسيرة الناس بدون كلمة ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف الله...» لماذا لم تؤثر حياة أفنيكي في زوجها، وعاش، ومات وثنياً، وهل يلام هو أم تلام لوئيس أم تلام أفنيكي نفسها أم يشترك الثلاثة في هذا اللوم؟ أيا كان الأمر فمن الواضح، أن المرأة كانت تعسة في هذا الجانب من الحياة، وأن غلالة من الألم والشقاء أرسلت ظلالها الداكنة الحزينة على البيت، ومع أن البعض يعتقد أن الرجل كان قد مات، وأنها كانت أرملة يوم عرفت المسيحية وآمنت بها، وأن هذا قد أعطاها فرصة أوفى وأوسع في تعليم ابنها والتأثير في حياته، إلا أن صمت الكتاب على أي حال عن الرجل سوى أنه يوناني، لا يمكن تفسيره إلا أنه النقطة السوداء في كتاب ناصع، أو البقعة المشوهة لجمال عظيم!!.
أفنيكي وابنها تيموثاوس
وعلى قدر ما أصاب أفنيكي من الفشل في الحياة الزوجية، على قدر ما أصابها من النجاح مع ابنها العظيم تيموثاوس، وقد ساعدنا بولس إلى حد كبير، في إدراك سر هذا النجاح الباهر، وأغلب الظن أن ثلاثة عناصر أساسية مكنتها من الوصول إليه، وهي الزمن، والمعلم، والكتاب! أما الزمن فواضح أنه «منذ الطفولية» أي منذ اللحظات التي تفتحت عيناه فيه على الحياة، أو كما يقال منذ نعومة أظفاره، أو عندما بدأ مع الأيام عودا رقيقًا رطبًا لينًا سهل التوجيه والتهذيب والتقويم، ولعل المرأة وأمها وقد أدركتا مبلغ المعاناة والصعوبة التي لاقياها، وهما تحاولان المحاولات المتعددة اليائسة مع أبيه الوثني، لم تريا بدا من البدء مع الصغير من المهد حتى تقتربا من النجاح الذي عز عليهما، وهما تحاولان شتى المحاولات مع الكبير المتقسي المتصلب العنق والإرادة، وربما يذكرنا هذا بجواب ذلك الغلام الذي سئل ذات يوم عما يتصور أن يكون مستقبله مع الأيام، فقال: سأكون أما مرسلاً أذهب إلى حقول الخدمة المسيحية أو بائعًا للخمور، ولما أظهر السامع تعجبه أجاب الصغير: إن الأمر يتوقف على من يستلمني أولاً وهل هو يسوع المسيح أو الشيطان؟ ولعل أفنيكي أرادت أن تقطع الطريق على الشر وهي ترى زوجها يدب بقدميه فيه، فآلت على نفسها، أن تأتي بصغيرها إلى الله، قبل أن يتعامل معه الشيطان أو يستلم حياته ليفسدها ويهدمها ويدمرها، إن المأساة القاسية أن الكثيرين من الآباء أو الأمهات لا يحسنون التصرف في الزمن الأول من أعمار أولادهم الصغار، أو كما قال واحد: متى نبدأ بتربية الولد وأجاب: قبل أن يولد بثمانين سنة أو بتربية جده أو جدته، كما نرى هنا الجدة لوئيس والأم أفنيكي.. وتساءل آخر عن نصيب التربية الدينية في كل أسبوع، وقال إنه من المثير حقًا أن يحظى النوم عند الطفل بسبعين ساعة أسبوعيًا، والأكل واللعب والعمل بسبع وستين ساعة، والدرس بثلاثين ساعة، وكل هذه لفترة حياته القصيرة الأرضية، في الوقت الذي لا يعطي فيه أكثر من ساعة في مدرسة الأحد، لاعداد حياته المسيحية والأبدية الطويلة التي سينتهي إليها، ولا حل أو علاج على الإطلاق الا بأن يعطي الصغير أفضل الأوقات وأحلاها وأجملها على الإطلاق، للربط بينه وبين سيده، على النحو الذي فعلته لوئيس وأفنيكي منذ الطفولية مع الابن الحبيب الحلو تيموثاوس، ولكن هل يدرك الكثيرون أن مأساة عصرنا الحاضر، أن التربية الدينية أن وجدت عند ملايين الأطفال، تأتي في المركز الخامس كما قال أحدهم بعد الأكل والملبس واللعب والمدرسة.. ومع أن الشريعة اليهودية تعتبر الابن الآتي من زواج مختلط يهوديا، وتنادي بالبدء في تربيته ابتداء من الثالثة من عمرة، إلا أنني اعتقد أن أفنيكي ربت ولدها قبل هذا التاريخ، اذ أرضعته مع لبنها الحق الإلهي، تماماً مثلما فعلت يوكابد مع موسى، وحنة مع صموئيل، واليصابات مع المعمدان، وكل أم عظيمة تحرص على سلامة وسلام ابنها أمام الله والناس، والحياة الحاضرة والعتيدة أيضاً، فإذا أضفنا أن الفتي وقع تحت يد ثلاثة من المعلمين الممتازين العظام، وهم لوئيس، وأفنيكي، وبولس وأن الثلاثة أعطوه أصفى تعليم وأتقاه، ومن ثم شب على الصورة الحلوة الرائعة التي قال عنها أحدهم أنه يشك في أن واحداً كان أقرب إلى قلب بولس من تيموثاوس، ولا شبهة في أن أمومة أفنيكي كان لها الأثر المعلي في هذه التربية القويمة، والأم تعلم بحياتها قبل قولها، وبصلاتها قبل كلامها، وبحبها قبل تعليمها، وما أكثر ما جاءت الشهادات المتواترة في كل الحقب والعصور عن هذه الحقيقة الرائعة في حياة أعظم الأبطال في المدنية والحضارة والتاريخ،.. كانت أم تشارلس كنجلسي تأخذ ابنها الصغير إلى مناظر الطبيعة الرائعة في هولن ودارتمور، وهي تأمل أن السعة والجمال والشاعرية تأخذ بلباب ابنها من مطلع الحياة، وقد صدقت، إذا أن الولد تربي ليكون واحدا من أصفى النفوس وأرقها وأزكاها في هذه الأرض!... وقد قال أحدهم، وهو يتأمل حياة روبرت لويس استفنسون: «ان الوراثة تفعل أثرها العميق في الحياة الدينية، كما تفعل في سائر الأمور سواء بسواء».. وقد لاحظ واحد وهو يقرأ خطابات توماس كارليل خطابا كتب بيد مرتعشة وتحت عنوان «خطابي الأخير لأمي» وفيه يقول «لقد سرت مع الأيام في خطى واسعة نحو الشيخوخة، وقد كان لي الكثير، مما عملته أو احتملته في السنين الكثيرة من حياتي، ولكن ليس هناك ما يعدل شكري في الحياة عن أمي الحبيبة! ليكافئك الله يا أمي لأني لا أقدر على هذه المكافأة!!»... وكتب يوحنا ويسلي عن أنه يقول: «كان فهمها جيداً مثل قلبها سواء بسواء، وقد أخذت عنها يقظة الذهن، وسرعة الإدراك، وكان من المستحيل بدونها أن أنجز نصف ما وصلت إليه أو ما أتيح لي أن أقوم به من أعمال؟!» أجل وهذا حق تمامًا، ويفسر ما قاله نابليون عندما سأل: «ما الذي يحتاجه الشعب حتى يتعلم تعليمًا صحيحاً سليماً؟ وردت عليه في الحال مدام كامبان: «الأمهات» وإذ سمع أجاب : «أجل.. هنا نظام من التعليم في كلمة واحدة»... ولا شبهة في أن أفنيكي بحياتها وحكمتها وسهرها وصبرها ودقتها ورقتها، وجمال أسلوبها وهي تنحني على ولدها في مهده، أو في الإصباح والإمساء الكثيرة وهي تنتقل به هنا وهناك، تصلي معه، وتعلمه روائع القصص الكتابية، وسير الأبطال، وتفتنه بحياة يوسف وموسى وداود وصموئيل ودانيال وغيرهم، كانت تزرع فيه أحلى حياة وأجملها، على الصورة التي عرفناه عليها فيما بعد! أجل كانت أفنيكي معلمًا عظيمًا وأمينًا وحكيمًا معًا، وهي نموذج رائع للأمهات والمعلمين الدينيين في كل زمان ومكان!.
لم يكن الزمن أو المعلم، بل كان هناك الكتاب أيضًا، وقد أحسنت أفنيكي عرضه على ولدها، لقد أكلته هي وتشربته، فسرى في شرايينها مسرى الحياة والدم، وكان هو الحياة بعينها للأم والولد جميعًا، أليس هو كلمة الوحي التي لا يوجد كما يقول - الفرد بلامر - لها ضريب أو مثيل في تاريخ العالم. وحتي ما يحسب منافسًا من آداب العالم أو تعاليمه لا يمكن أن يرقي البتة إلى مستواها العظيم.. فإن لها من السمة أو القيمة الروحية أرفع المستويات وأعلاها، وأى كتب أخرى يمكن أن تمنح الرجاء والتعزية لقارئيها، وصلاحيتها لكل العصور أو الأحوال، ومجابهتها لأرفع لاحتياجات القلب وآماله مثل الكتاب المقدس، قد يجد المرء في الكتب الأخرى ما يفيد في المعرفة أو التقدم أو المسرة أو البهجة أو الثروة، أو ما أشبه، لكن هذا الكتاب وحده هو الذي يدفع إلى الحكمة التي تعمل على خلاص الإنسان ومجده الأبدي، إذ تقدمه لحياة البر، بما له من قدرة تعلم الجاهل، وتقنع المذنب، وتقيم الساقط، وتدرب الجميع على حياة القداسة، حتى يضحي الكل كاملين كأبناء الله، مستعدين تمامًا لكل عمل صالح، أو كما ذكر دكتور سكوفيلد: «هذا الكتاب المقدس يواجه كافة الاحتياجات للقلب البشري المعقد، وهو يمسك تمامًا بهذا التركيب المحير والسري والذي يطلق عليه الإنسان! افتح الكتاب، وستجد أنه يتحدث إليك في لحظة عن حياتك، مالا تستطيع أن تصل إليه بالبحث الذاتي طوال حياتك على هذه الأرض! إنه يتحدث بالحق عن الإنسانية، ويرشدك بالنصيحة الصادقة والأمينة، ويجيب على كل ما تحتاج إليه النفس من كل أسئلة في هذه الحياة، إنه ليس بالكتاب الأثري، الذي ينظر إليه ككتاب قد انقضي عهده إذ أنه يخاطب القلب العصري، تمامًا مثلما خاطب قلب الآباء فيما بين النهرين، وليس هناك كتاب أكثر تقدما منه، وفي كل التقدم والتطور الحضاري ليست هناك تجربة صادفت الإنسان حتى اليوم، ولم يكن لها علاج عنده، ولم يحدث أن ظهرت حالة عند إنسان مالم يعطها الكتاب جوابًا، مع أن العالم العصري ممتليء بالتعقيدات، والحياة الحضارية المرتفعة، والكتاب الذين كتبوه عاشوا في الشرق في ظروف أكثر بساطة واستقراراً، وهذا يؤكد بكل يقين أنه كتاب الله، ويعطي التفسير الوحيد الصحيح لأثره وفاعليته في الحياة البشرية».. ومن المعروف أن كولردج آمن بالوحي الإلهي لأنه وجده، وهو في الواقع يجدنا، لأنه يجد حاجتنا، ويجد أعماقنا، ويصل إلى قلوبنا، ويلمس آلامنا!!.
في إحدى الصور القديمة الجميلة نرى أفنيكي تجلس على مقعد، وأمامها منضدة، بسطت عليها الكتاب المقدس، وعلى مقربة منها تجلس أمها، بينما يتكيء ابنها الصبي تيموثاوس بمرفقية على المنضدة، وهو ينصت إلى أمه، في تأمل ورقة ووداعة، وهي تتحدث إليه، بما شكل حياته، وجعل منه فيما بعد الخادم العظيم، الذي حمل الراية، من بولس، وأبى أن تسقط إلى الأرض يوم سقط الرسول العظيم، وهو يصبغ الشهادة الأمينة، بدمه الذكي، من أجل الخدمة المقدسة ومجد يسوع المسيح في هذه الحياة.
ولعلنا لا نستطيع أن نختم قصة أفنيكي وأمها وتيموثاوس، دون أن نذكر ذلك الغلام الذي وقف يحدق في أبيه، وهو ينظف زجاج النافذة في كاتدرائية عظيمة، وإذ سقطت قطعة من الزجاج من يد الأب العجوز المرتعش الحركة، أسرع الولد والتقطها وأعادها مرة أخرى إلى أبيه، وهو يقول: لقد تسلم أبي من جدي هذا العمل، وهو باق فيه وسيبقى حتى يذهب كما ذهب جدي، وأستلمه أنا، وتمضي الأيام هكذا متسلسلة متوالية... ألا يمكن أن نقول بهذا المعنى، وعلى صورة أجمل وأكمل وأبهر وأجل ما قاله الرسول لتلميذه الحبيب في آخر رسالة له على هذه الأرض: «إني أشكر الله الذي أعبده من أجدادي بضمير طاهر كما أذكرك بلا انقطاع في طلباتي ليلاً ونهارًا مشتاقًا أن أراك ذاكرًا دموعك لكي امتليء فرحًا اذ أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي سكن أولا في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي ولكني موقن أنه فيكى ايضا
القديسة( أنثوسا) Anthusa أم القديس يوحنا ذهبى الفم
وإذا كان يوحنا ذهبي الفم من أعظم قديسي الكنيسة الجامعة ومعلميها,ومن أشهر آبائها,فلأمه (أنثوسا) فضل تنشئته في مخافة الله وتقواه,وقد رسمت له بسيرتها الطاهرة الخطوط العريضة لمسار حياته.
إليك أيتها الأم (أنثوسا) تحيات تكريم وتقدير,لأنك وقد ترملت في شبابك الغض,لم تتطلعي إلي زواج وقد حام الشبان من حولك,وإنما آثرت الترمل علي الزواج الثاني...كثيرات علي مر الزمن ترملن في مثل سنك المبكر,ولكن منهن من تذمرت علي الله,أو جدفت عليه,أو حسدت غيرها ممن لم يصبهن ما أصابها,أو تشاءمت واسودت الدنيا في عينيها,وقالت:هذا قدري المشئوم ونصيبي الحزين,أو نظرت إلي نفسها علي أنها مظلومة بائسة عصفت بها الأيام,وقالت:لماذا هذا؟ وماذا صنعت من شر حتي يكون هذا نصيبي دون أترابي من البنات؟
أما أنت يا (أنثوسا) فقد علوت علي التجربة,وارتفعت فوق الكارثة,ورفعت عينيك إلي السماء,فتحول الشر إلي خير,وقلت:هذه (درجة روحية) رفعني الرب إليها,فلماذا لا أقبلها بشكر؟!
إن (أنثوسا) أم ذهبي الفم,فقد اختارت الطريق الأفضل,طريق الذين تبتلوا لله,وانقطعوا لعبادته وهي تواظب علي التضرعات والصلوات ليلا ونهارا.
علي أن (أنثوسا) وجدت هدفا عزيزا آخر أوقفت له وعليه حياتها مع عبادتها المتواصلة.هذا الهدف هو تربية ابنها يوحنا التربية المسيحية المثالية.فلم تهمله,بل عاشت معه ومن أجله,ربته ولازمته وأعطته كل حبها ووقتها وجهدها,وأولته كل رعايتها.
أن (أنثوسا) أم وإمرأة,ولم تكن لها شهرة ولدها القديس.ولكن فضلها علي الأجيال لا ينسي,لأنها هي التي ربته وأنشأته,وهي التي قدمته لله وللكنيسة وللعالم خير رجل مجمل بالفضائل.
كان يمكنها أن تتزوج برجل يؤنس وحدتها ككل امرأة,ولكنها رأت أن مثل هذا الزواج سيحتل في قلبها وفكرها مكانا يحتاجه ولدها,فآثرت أن تضحي براحتها وسعادتها حتي لا تنقص سعادة ولدها وراحته.
فلما كبر (يوحنا) إلي سن المدرسة أرسلته أمه إلي إحدي المدارس في أنطاكية,وظل يرتقي في سلم الدراسة درجة درجة...وفي مرحلة الشباب انتظم دارسا في مدرسة للبيان أنشأها الخطيب الشهير (ليبانيوس) (314-حوالي 393) في أنطاكية,وتتلمذ عليه (يوحنا) كما تتملذ عليه القديس باسيليوس الكبير,ونال يوحنا أعلي شهادة في زمانه في الفصاحة والبلاغة كما مضي إلي أثينا ودرس الحكمة والفلسفة في مدارسها ثم ذهب إلي الإسكندرية وأمضي في مدرستها اللاهوتية الشهيرة خمس سنوات,عاد بعدها إلي بلده أنطاكية شابا مرموقا يشار إليه بالبنان,وصار محط أنظار الناس جميعا.وكاد يوحنا يتيه عن نفسه في جو الإعجاب الذي أحاط به وهو شاب صغير,لولا أن تلقفته يد صديق مخلص هو حبيب عمره (باسيليوس) الذي رافقه وزامله,وزين له حياة القداسة,وأقنعه ببطلان الحياة الدنيا,وأبرز له تفاهة الأرضيات بإزاء السمائيات,وزوال الزمنيات بإزاء الأبديات,فأصغي إلي نصائح صديقه,وتنبهت فيه تعاليم أمه (أنثوسا) التي أرضعته إياها مع لبن الرضاعة,فتشددت روحه,واعتزم علي أن يتبتل منقطعا لخدمة الله في أحد الأديار,فعلمت أمه بذلك,ومع ابتهاجها بتقواه ومسيرته في طريق الكمال المسيحي,إلا أنه آلمها أن يتركها وحيدة,وهي التي بذلت في سبيله حياتها,فأخذت تبكي متضرعة إليه أن يرجئ أمر رهبنته حتي توفي أيامها وتنتقل إلي العالم الآخر,فبكي لبكائها,واقتنه بكلامها,وعدل مؤقتا عن مفارقتها,وبقي معها في البيت عابدا,وكان لا يخرج إلا لعمله ثم عود إلي عكوفه وصلواته.
وفي هذه الأثناء رسمه البطريرك ملاتيوس (360-381) شماسا برتبة (قارئ) للفصول الكنسية (أناغنوستيس) وظل يخدم مع البطريرك مدة ثلاث سنوات.وحدث أن توفي اثنان من أساقفة الكرسي الأنطاكي,فكان طبيعيا أن تتجه الأنظار إلي (يوحنا) وإلي صديقه (باسيليوس) الذي كان قد انتظم في سلك الرهبنة.ولما كان يوحنا يعرف ما اتصف به باسيليوس من فضائل,فقد استدعاه إليه,فلبي دعوته وترك صومعته ونزل إليه,فأخذ (يوحنا) يلح علي باسيليوس بقبول الرسامة,فاعتذر باسيليوس بحرارة وشدة,ولم يثنه عن رأيه إلا وعد من صديقه يوحنا بأن يقبل هو أيضا السيامة الأسقفية بعد أن يقبلها باسيليوس,وهكذا نجح يوحنا في رسامة باسيليوس أسقفا علي مدينة (رافانه) بالقرب من أنطاكية.أما يوحنا نفسه فلما جاء دوره للسيامة هرب منها,واعتزل في أحد الأديرة البعيدة,فأرسل إليه صديقه باسيليوس يؤنبه علي تخليه عن وعده له,وخيانته لعهده معه,فكتب إليه (يوحنا),لا خطابا بل كتابا,في عظمة سر الكهنوت وجلاله,من أعظم ما خلفه لنا أباء الكنيسة من تراث أدبي روحاني لاهوتي,وأصر يوحنا علي عدم أهليته شخصيا لقبول تلك الكرامة,ولكنه عاد بعد حين إلي عمله مع البطريرك
ودى رسالة للقديسة أنثوسا لأبنها يوحنا ذهبى الفم
من رسالة إلى ابنها القديس يوحنا الذهبي الفم
" الصديق الأمين دواء الحياة" (إبن سيراخ 16:6). "الصديق الأمين ملجأ حصين" (إبن سيراخ 14:6).
ما هو الأمر الذي لا يفعله الصديق الأصيل؟ أيّة سعادة لا يخلقها لنا؟ أيّة منفعة وأي أمان؟ قد تسمّي ألف كنز ولكن أيّاً منها لا يقارَن بصديق حقيقي.
لنذكر أولاً كم من السعادة تجلب الصداقة. الصديق وضّاء بالفرح، وهو يفيض عندما يرى صديقه. لإنّه متحد به بوحدة هي للنفس سعادة لا تُوصَف. إنّ مجرد تفكيره به يجعله مرتفعاً ومحمولاً بفكره. أتحدث عن الأصدقاء الأصيلين المتفقين. الذين قد يختارون الموت من أجل أصدقائهم، من أجل الذين يحبونهم بحرارة. لا تتخيّل أنك قادر على على ردّ ما أقول عن طريق وصف أولئك الذين يحبون بخفة ويجالسونك المائدة (إبن سيراخ 10:6) وليس لك بهم إلا معرفة ضئيلة. مَن عنده صديق كالذي أصف يفهم كلامي. إنّه يصلّي من لصديقه كما لنفسه. أعرف رجلاً، إذا طلب الصلاة من اشخاص قديسين، يطلبها لصديقه أولاً ثم لنفسه.
إن الصديق الحقيقيّ هو ذلك الذي تصبح الأوقات والأماكن محبوبة بسببه. إذ، كما أن الأشياء المشعّة ترمي بلمعانها على الأماكن المجاورة، كذلك الأصدقاء يضفون نعمتهم على الأماكن التي يكونون فيها. ونحن في أكثر الأوقات، عندما نقف في هذه الأماكن بدون أصدقائنا، ننوح ونتنهد لتذكرنا الأيام التي كنّا فيها معاً.
ليس ممكناً التعبير من خلال الكلمات عن السعادة التي يسببها وجود الأصدقاء، إنما الذين اختبروها يعرفونها. يستطيع المرء أن يطلب خدمة من صديق، ويحصل عليها بدون أي ريبة. عندما يطلب الأصدقاء منا أي شيء نكون ممتنين لهم ونحزن عندما يبطئون بالطلب. نحن لا نملك شيئاً ليس لهم. وغالباً، مع أننا نمقت كل الأشياء الأرضية، ‘لا إننا لا بسببهم لا نرغب بالرحيل عن هذه الحياة، وهم مرغوبون عندننا أكثر من النور. نعم، بالواقع، الصديق مرغوب أكثر من الضوء نفسه. أتحدث عن الصديق الأصيل. لا تعترض، قد نفضّل أن تُطفأ الشمس من أن نُحرَم الأصدقاء. قد نفضّل أن نعيش في الظلام من أن نعيش بدون أصدقاء. وكيف اقول هذا؟ لأن كثيرين من الذين يرون الشمس هم في الظلام. أما الأغنياء بالأصدقاء فلا يكونون في محنة أبداً. أتحدث عن الأصدقاء الروحيين الذين لا يضعون شيئاً فوق الصداقة. هكذا كان بولس، الذي أراد طوعياً أن يضحي بنفسه، من دون أن يسألن واراد طوعياً ان يسقط في الجحيم من أجل إخوته (روما 3:9). بهذه عاطفة تتأجج المحبة. خذْ هذا مثلاً عن الصداقة. الأصدقاء يتخطون الآباء والبنين، أي الأصدقاء بحسب المسيح.
الصداقة هي أمر عظيم وعظمتها لا نتعلمها بالدرس أو بكلمات الشرح، إنما فقط بالخبرة نفسها. ذاك لأن غياب المحبة جلب الهرطقات وجعل الأمم عبّاد وثن. إن الذي يحب لا يتمنّى أن يحكم أو أن يتسلّط، بل بالأحرى يكون أكثر امتناناً إذا تلقّى طلبات. إنّه يفضّل أن يقدّم الخدمات بدل أخذها لأنّه يحب والأخذ لا يشبع شهوته. إنه لا يبتهج في اختبار اللطف كما في أن يكون لطيفاً لأنه يفضّل أن يحفظ صديقه على ارتباط معه بدل أن يكون مديوناً له، أو بالأحرى إنه يتمنى أن يكون مديوناً لصديقه وأن يكون صديقه الدائن. إنه يتمنى أن يمنح الخدمات لا كَمَن يقدم خدمات بل كَمَن يفي ديناً.
عندما تُفقَد الصداقة، نحن نربك بخدماتنا الذين نخدمهم ونضخم الأمور الصغيرة. إنما عندما توجد الصداقة فنحن نكتم الخدمات ونتمنى أن نُظهِر الأمور الكبيرة كصغيرة حتى نظهر صديقنا كمديون لنا بل على العكس كدائن ونحن كمديونين. أنا أعرف أنّ كثيرين لا يفهمون ذلك، إنّما السبب هو أنني أتحدث عن أمر سماوي. إنّه كما لو أني أتحدث عن بعض النباتات التي تنمو في الهند والتي لم يختبرها أحد. لا تستطيع اللغة أن تظهر هذه النبتة حتى ولو استعملنا عشرات الآلاف من الكلمات. حتى الآن، كل ما أقوله يبقى بلا جدوى لأن أحداً لا يقدر ان يصفها. هذه النبتة قد غُرسَت في الملكوت، وأغصانها محملة لا بالجواهر بل بالحياة التي لا تنتهي، الحياة الأكثر متعة من الجواهر.
ولكن عن أي نوع من المتعة أنت ترغب ابلكلام؟ أهي المتعة الشائنة أم المتعة الفاضلة؟ إن حلاوة الصداقة تتخطى كل المتع الأخرى. أنت قد تذكر حلاوة العسل، غير أن العسل قد يؤدي إلى التخمة، بينما الصديق لا يتخم طالما هو صديق. تزداد الشهوة عند إرضائها، بينما هذه المتعة لا يمكنم لها أن تتركنا مشبَعين. إن الصديق أكثر حلاوة من الحياة الحاضرة. لهذا، يتمنى كثيرون الموت بعد رحيل أصدقائهم. مع الصديق، يصبح النفي محمولاً بينما من دونه لا يختار أحد العيش حتّى في موطنه. حتّى الفقر محمول مع الصديق والغنى والصحة لا يطاقان من دونه.
أن يكون عندك صديق هو أم يكون عندك نفس أخرى. إنه الانسجام والتناغم اللذين لا يساويهما شيء. في هذا يساوي الواحد كثرة. إذ لو اتّحد إلإثنان أو عشرة، فإن كلاً منهم لا يعود واحداً بل يصبح لكل منهم قدرة العشرة وقيمتهم. وسوف تجد الواحد في العشرة والعشرة في الواحد. إذا كان لهم عدو، فهو لا يهاجم الواحد بل العشرة، وبالتالي لا يُهزَم ولا يتراجع من الواحد بل من العشرة. إذا وقع واحد منهم في عوز، فهو ليس مهجوراً لأنه يزدهر بجزئه الأكبر، أي بالتسعة، ويكون جزؤه الأضعف في أمان أي أن الجزء الأصغر يزهو. لكل منهم عشرون يد وعشرون عين والعدد نفسه من الأرجل, لأنه لا ينظر بعينيه الشخصيتين فقط بل بأعين الكل. إنه لا يسير برجليه الشخصيتين فقط بل بأرجل الكل ولا يعمل بيديه فقط بل بأيدي الكل. إن له عشرة أنفس، لأنه لا يهتم لنفسه بل التسعة الآخرون يهتمون له. ولو كانوا مئة فالأمر نفسه سوف يحدث والقدرة سوف تزداد.
أنظر إلى فضيلة المحبة التي من الله! كيف أنها تجعل شخصاً واحداً غير مقهولر ومساوياً لكثيرين. كيف يمكن للشخص الواحد أن يكون في أماكن مختلفة. أن يكون الشخص في روما وفي بلاد فارس في آن واحد، ما تعجز الطبيعة عن عمله تعمله المحبة. إذ إن جزءً من المرء سوف يكون هناك وجزء آخر هنا. بل بالأحرى سوف يكون كله هناك وكله هنل. وإذا كان له ألق صديق، والفان، تصوّر إلى أي ذروة ترتفع قوته. أترى كم أن المحبة هي أمر نافع؟ إنه لأمر رائع: أن تجعل المرء ألف صعف. إذاً السؤال هو: لمَ لا نحوز هذه القوة ونضع أنفسنا في أمان؟ إنها أفضل من كل قوة ومن كل فضيلة. إنها أكثر من الصحة وأفضل من ضوء النهار نفسه. إنها الفرح. إلى متى نحتجز محبتنا في شخص أو اثنين؟
تعلّم من اعتبار العكس. لنفرض أن شخصاً ما لا اصدقاء له، هذا غاية الجهل ("يقول الأحمق لا صديق لي" ابن سيراخ 16:20). ما هو نوع الحياة التي يحياهاهذا الشخص؟ حتى ولو كان عنده غنى مضاعفاً ألف مرة، ولو كام يعيش في الوفرة والرفاهية ويمتلك أضعافاً من الأشياء الجيدة، فهو محروم بالمطلق وعارٍ. ولكن مع الأصدقاء الأمر مختلف. حتى ولو كانوا فقراء فمعهم أكثر من الأغنياء. ما لا يجازف امرء بقوله لنفسه، فإن صديقه يقوله له. وما لا يستطيع تأمينه لنفسه، فيستطيع تأمين أكثر منه من خلال الآخرين. وهكذا يكون الصديق لنا سبباً لكل سعادة وفرح. لأنه من المستحيل أن يُصاب مرء ما بأذى وهو محاطٌ بكثرة من الحراس. حتى حراس الإمبراطور الشخصيون ليسوا حريصين كما الأصدقاء. فأولئك يحرسون بالخوف من النظام أما هؤلاء فبالمحبة. المحبة أكثر إلزاماً من الخوف. بالواقع، قد يخشى الملك حراسه أما الصديق فيثق بأصدقائه أكثر من نفسه وبسببهم لا يخشى المتآمرين عليه.
إذاً لندبّر هذه السلعة لأنفسنا: الفقير حتى يتعزّى عن فقره، والغني حتى تصبح ثرواته في أمان، الحاكم حتى يكم بسلام والمحكوم حتى يكون له حكامٌ صالحون.
إن الصداقة فرصة لعمل الخير ومصدر للرحمة. حتى بين الوحوش، فإن أكثرها وحشية وصعوبة مراس هي تلك التي لا تتآلف معاً. نحن نسكن المدن وعندنا أسواق حتى نبني علاقات مع بعضنا البعض. هذا أمر به الرسول بولس عندما حرّم " " (عبرانيين 25:10). إذ لا شيء أسوأ من العزلة وغياب المجتمع والعلاقة مع الآخرين.
قد يتساءل البعض إذاً: ماذا عن الرهبان، وعن المتوحدين على رؤوس الجبال؟ إنهم ليسوا بدون أصدقاء. لقد نزحوا عن جلبة الأسواق ولكن عندهم الكثيرين ممَن هم على اتفاق معهم ومرتبطون ببعضهم البعض في المسيح. وهم قد انسحبوا إلى هناك لكي يتمموا هذا الأمر. ولأن الحماسة في الأعمال تقود الكثيرين إلى النزاعات فهم قد تركوا العالم ليحصّلوا المحبة الإلهية بقوة أكبر. قد يقول المشكك: ماذا؟ إذا كان الرجل وحيداً، كيف يكون له أصدقاء؟ أنا بالواقع أتمنى لو كان ممكناً أن نعيش كلنا معاً ولكن في الوقت نفسه أن تبقى الصداقة ثابتة. إذ ليس المكان ما يصنع الصديق ، إلى هذا، فالرهبان عندهم الكثيرون ممن يحترمونهم، ولا أحد يحترم إلاّ الذي يحب. فالرهبان يصلون لكل العالم وهذا أكبر دليل على الصداقة.
وللسبب نفسه نحن نقبّل بعضنا بعضاً في القداس. حتى نكون واحداً مع أننا كثيرون. ونحن نصلي من أجل غير المؤمنين والموعوظين والمرضى وثمار الأرض والمسافرين في البر والبحر. لاحظ قوة المحبة في الصلوات وفي الأسرار المقدسة وفي التعليم. إنها سبب كل الأمور الحسنة. إذا التزمنا بهذه الوصايا مع الانتباه اللازم فسزف نقدر على تدبير الأمور الحاضرة جيداً ولحصول على الملكوت.
القديسة مونيكا أم القديس أغسطينوس
طفولتها:
"أنت الذي جبلتها يا الله... أما أبواها فلم يعلما في ذلك الحين قيمة الدُرَّة الخارجة من أحشائهما". وُلدت سنة 332م في قرية تاغستا (سوق الأخرس الآن) بشمالي أفريقيا، وتربت تربية مسيحية صادقة. كانت وهي طفلة تترك رفيقاتها أحيانًا وتترك لعبها وتختفي وراء شجرة تركع وتصلي. وكلما كانت تكبر كانت تتفتح في قلبها رياحين المسيحية. كان جمالها بارعًا، وقامتها فارعة، وعقلها سديدًا، وحكمتها عظيمة، ونفسها كبيرة، وعاطفتها قوية.
حياتها الزوجية:
"كانت هي خادمة خدامك يا إلهي. كل من عرفها مجّد اسمك القدوس الذي فيها وسبَّحه وأحبه". تزوجت مونيكا بغير إرادتها من رجلٍ وثنيٍ شريرٍ يدعى باتروشيوس، كان يشغل وظيفة كبيرة، فخُدِع أهلها به. كانت أمه حسودة شريرة كما كان الخدم أشرارًا، لكنها أيقنت بعد زواجها أن الله يريدها أن تحمل الصليب، فلم تتذمر لشرور زوجها وحماتها بل كانت تظهر لهما جمال المسيحية ووداعتها. هُزمت حماتها أمام تواضعها وطول أناتها ولم تعد تسمح للخدم أن يشوا بمونيكا لديها أو لدى باتروشيوس، بل وطلبت من ابنها جلد الخدم الأشرار. كانت مونيكا تقابل ثورات غضب زوجها بالحلم والصمت والصبر. وحينما كان يهدأ كانت تشكو له برقة وحنان ما نالها من غضبه فكان يلوم نفسه ويّعِد بإصلاح ذاته، لكنه كان يعود لسيرته الأولى. رزقت بثلاثة أولاد كان أكبرهم أغسطينوس، فكانوا موضع عنايتها وكانت تتعزى بهم عن حماقة زوجها وشراسته.
حياة الصلاة مع العمل:
أهم ما تتصف به هذه القديسة البارة هو إيمانها بقوة الصلاة، لقد تم فيها قول الآباء: "طوبى لمن يقف على باب الصلاة". بالصلوات الحارة الخارجة من قلبها المفعم بالإيمان كسبت كلاً من زوجها الشرير وابنها الذي انحرف، شأن شباب عصره. وضعت في قلبها أنها لابد أن تربح نفس زوجها، وكان إيمانها وطيدًا حتى كانت ترشد المُعَذَبات مثلها بأن الصلاة هي مفتاح الفرج. كانت الثمرة الأولى لصلاتها هي إيمان زوجها الوثني، ففرحت لذلك جدًا ونسيت آلامها، لكنه ما لبث أن مرض ومات وترملت في شبابها. استجاب الله لدعاء مونيكا فقبل زوجها باترشيوس الإيمان في الوقت الذي كان أغسطينوس في السابعة عشر من عمره. بعد وفاة زوجها تفرغت لأولادها ولخدمة القريب وأعمال العبادة، فكانت تذهب كل يوم إلى الكنيسة. وهبها الله نعمة الدموع حتى اشتهرت بين قديسي الكنيسة بهذه الفضيلة. وكانت تخصص أوقاتًا طويلة لزيارة المرضى وخدمتهم وخدمة الفقراء وتعزية الأرامل وتقوية قلوب الزوجات المتزوجات بأزواج أشرار والأمهات اللواتي لهن أولاد شاردون.
انحراف أغسطينوس:
أتم أغسطينوس دراسته في مدرسة مادورا Madaura بثاجست Thagaste وكان متفوقا حتى على معلميه إذ كان موهوبًا وذكيًا. أراد والده أن يرسله إلى قرطاجنة ليقضى عامين في الدراسة. وكان لا بد من قضاء سنة في بيته حتى يدبر له والده المال اللازم لنفقات الدراسة. وكانت هذه السنة تمثل وباء أفسدت حياة أغسطينوس إذ كان في بطالة وكسل لا عمل له سوى أصدقاء السوء. كان قائدًا لهم في سرقة الكمثرى من حدائق جيرانهم مع أن حديقته كانت مليئة بتلك الثمار. لكنه كان يهوى القيادة، يسرق ليلقى بالكمثرى للخنازير. برع في دراسته بقرطاجنة وفاق الجميع واشتعل قلبه بحب الحكمة. وكانت أمه تطمع له في المزيد من العلم، إذ كانت تأمل أن العلم يرتقى به إلى معرفة الله. ما أن وصل ابنها أغسطينوس إلى سن الشباب حتى انحرف انحرافًا خطيرًا، إذ أن سيدة تكبره أغوته وهو شاب صغير. ووصل الأمر به أن صار له خليلات عشيقات وابن غير شرعي. كانت نصائحها له غير مجدية على الإطلاق. فيقول أغسطينوس بعد توبته في مناجاة لله: "أمي التقية قد تكلمت، وصوتها على ما أرى كان صدى صوتك. فلأنها كانت تلح عليَّ بشدة لأعتزل الغواني وكل أنواع الفجور، لم أكن أعيرها أذنًا صاغية ولا أكترث بأقوالها، لأنها أقوال امرأة، بينما هي صادرة من لدنك. فكان امتهاني لها امتهانًا لك، وعدم اعتباري لها عدم اعتبار لأقوالك". وضعت كل ثقلها في الدموع والصلاة والصوم لكي يعيد الله ابنها.
يقول القديس أغسطينوس: "باتت أمي تبكي عليَّ بكاءً فاق بكاء الأمهات على فقد أولادهن بالموت الجسدي. وأنت يا مولاي قد استمعت لها. ولم تزَل تلك الدموع التي كانت تذرفها في صلواتها بين يديك حيث كانت تبلل وجه الأرض بدموعها". أخذت تركض وراءه من بلدٍ إلى بلدٍ، وهو الابن الضال، وتسأله بدون تذمر أو يأس، وبقيت على هذه الحال عشرين سنة.
رؤيا مطمئنة:
إذ سكبت القديسة مونيكا الدموع لسنوات من أجل ابنها، وطلبت من الكاهن أن يصلي لأجله قدم لها الله تعزية في حلم. رأت نفسها تقف علي منصة خشبية وإذا بصبي مشرق الوجه يبتسم بينما كان الحزن يملأ كيانها. جاء الصبي يسألها عن سبب حزنها ودموعها المستمرة التي لا تجف، فأجابته: "إنني أبكي من أجل ضياع نفس ابني". قال لها الصبي: "انظري وتأملي أيتها الأم، في المكان الذي تقفين يقف ابنك أيضًا"، تلفتت مونيكا وإذا بها تقف علي منصة عالية ومعها ابنها أغسطينوس. روت هذا الحلم على ابنها، أما هو فقال لها: "لا تيأسي يا أمي! فربما تصيرين حرة يومًا ما مثلي" . أما هي ففي يقين بعمل الله قالت له: "كلا! إنه لم يقل لي حيث يكون ابنك تكونين، بل حيثما تقفين فهناك يقف ابنك أيضا".
جهادها لخلاص ابنها:
في عام 382م سافر القديس أغسطينوس إلى روما بإيعاز من أصدقائه طلبًا للمجد الزمني والغنى. حاولت والدته أن تصدّه عن ذلك فلم تفلح، لذلك عزمت على السفر معه. احتال عليها بقوله أنه ذاهب ليودع صديقًا له على السفينة تاركًا إيّاها غارقة في دموعها. طلب حاكم ميلان من حاكم روما أستاذًا للبيان فأرسل إليه أغسطينوس، هناك التقى بالقديس أمبروسيوس أسقف ميلان. أحبه أغسطينوس وأعجب بعظاته لما فيها من قوة البيان، دون أن يهتم بخلاص نفسه. لم تستسلم القديسة مونيكا بل أبحرت إلى ميلان لتلتقي بابنها. توسلت في إحدى المرات إلى القديس أمبروسيوس أن يتناقش مع ابنها ليردّه إلى صوابه. ولكنه اعتذر، لأنه كان يدرك أنه لا جدوى من النقاش مع إنسان يعتز بعقله وذكائه وله أسلوب في المراوغة، وطلب إليها الأسقف أن تصلي. لكنها ألحَّت عليه أكثر، فردَّ عليها بعبارة مشهورة: "اذهبي في طريقك والرب يباركك. ثقِ يا امرأة أن ابن هذه الدموع لن يهلك".
تركها أغسطينوس إلى روما حيث الشهرة، وكانت الأم تبكي وتتوسل إلى ولدها لكي يبقى إلى جوارها، ليس من أجل راحتها وحنانها وشوقها إليه، إنما كانت دموعها من أجل بُعدِه عن الله، لأنه لم يكن قد نال نعمة العماد بعد ولم تكن هناك بارقة أمل في توبته. أخيرًا بعد هذه السنوات الطويلة أتت نصيحة الأسقف ثمارها وأنبتت دموع الأم غرسًا مباركًا. تاب أغسطينوس وحق أن يُدعى "ابن الدموع"، وصارت له أمه مونيكا أمًا بالجسد والروح، فقد تمخضت به وولدته إنسانًا للعالم، وناحت عليه حتى ولدته ابنًا للمسيح والكنيسة. يتذكر أغسطينوس بعد توبته ومعرفته لله أمه ودموعها السخية فيقول في مناجاته لله: "خادمتك، عبدتك، التي حملتني في الجسد لأولد للنور الزمني. وحملتني في القلب لأولد للنور الأبدي. أمي التي أنا أؤمن أن كل ما يفيض فيَّ من حياة يرجع إليها، إلى الدموع الأمينة إلى الدموع الدائمة، إلى دموع أمي وُهِبْتُ حتى لا أهلك". سافرت إلى ميلان بإيطاليا وحضرت عماد ابنها أغسطينوس على يد أسقفها العظيم أمبروسيوس مرشده الروحي، وكانت فرحتها لا توصف. وارتفع قلبها إلى عرش الله مع من كانوا يسبحون قائلين: "نسبحك ونباركك يا الله. بالحقيقة نعترف أنك ربنا. الأرض وملؤها تسجد لك أيها الآب الأزلي. أنت الذي يقف أمامك الملائكة والرئاسات والسلاطين والقوات. أنت الذي يسجد أمامك الشاروبيم والسيرافيم يمجدونك على الدوام صارخين بغير سكوت قائلين قدوس قدوس قدوس".
بعد العماد أراد أغسطينوس العودة إلى أفريقيا فرافقته أمه مونيكا في السفينة وكانت تقول له: "يا بُنيَّ إن بقائي على الأرض أضحى فضوليًا، ولا أدري لماذا لا أزال حية، لأنه لم يبقَ لي شهوة أطمع فيها فلقد تحققت رغباتي كلها". وبعد خمسة أيام من هذا الكلام مرضت مرضها الأخير الذي عبر بها إلى الأبدية. وقالت لابنها: "ادفنِّي أينما شئت. أسألك فقط أن تذكرني دائمًا أمام هيكل الله أينما كنت وحيثما اتجهت". وفارقت روحها جسدها وانطلقت إلى المسيح الذي أحبته وهي تصلي وتتشفع بالعذراء الطاهرة والقديسين سنة 387م، ولها من العمر ست وخمسين سنة. يُعلق القديس أغسطينوس على انتقال أمه بقوله: "كنت أشعر بأمواج من الأحزان تثور في أحشائي. وكنت أتماسك لكي لا أذرف الدمع أمام أمي وهي في لحظاتها الأخيرة، بل كنت جاثيًا أمامها كمن يجثو أمام الأيقونات في الكنيسة".
الشهيدة رفقة وأولادها الخمسة...
تكشف سيرة القديسة رفقة وأولادها عن اهتمام الأسرة المسيحية بالتمتع بالإكليل السماوي. فلم يكن يشغل قلب هذه الأرملة إلا أن تتمتع مع أولادها الخمس بالأحضان الإلهية, مهما كلفهم الثمن. لذا لم تفقد هذه الأسرة سعادتها وسط الآلام, بل تحولت الأتعاب إلى مصدر فرح جماعي لهم ، وشهادة حية أمام الجماهير لينالوا خبرة هذه الأسرة ويتخذوا منها مثالاً وقدوة حسنة ، ومن جانب آخر إذ ارتفعت قلوب أعضاء الأسرة إلى السماء أرسل الله ملاكه عدة مرات لكي يسند القلوب المتألمة ويوجهها ويبهجها! فالحياة المقدسة مفرحة للمؤمنين وللسمائيين.
ترمّلت هذه السيدة وكانت أمًا لخمسة أبناء وهم (أغاثون ) و( بطرس ) و (يوحنا ) و( آمون ) و( أمونه ) . وكان موطنهم قامولا مركز قوص بجوار الأقصر محافظة قنا. اهتمت الأم بتربية أولادها في الرب، فالتهبت مشاعرهم بحب اللَّه الفائق.
أعلن لهم ملاك الرب في رؤيا أنهم سينالون إكليل الشهادة بشبرا بالقرب من الإسكندرية، وأن أجسادهم ستنقل إلى نقرها بمحافظة البحيرة (وهي جزء من مدينة دمنهور الحالية).
إذ تمتعت الأم وأولادها برؤية رئيس الملاك ميخائيل امتلئوا فرحًا. فكانوا يترقبون تمتعهم بإكليل الاستشهاد الذي تهيئوا له كل أيام حياتهم.
وعندما أمر الإمبراطور الروماني الجاحد دكلديانوس بهدم الكنائس، وحرق الكتب المقدسة، وتعذيب المسيحيين حتى ينكروا الإيمان ويقبلو الوثنية ، جمعت القديسة رفقة أولادها لتحثهم علي الثبات في الإيمان. ذكَّرتهم بقول الرب: "في العالم سيكون لكم ضيق"، "لا تخافوا من الموت" كما قالت لهم : " إن أعظم عطية يقدمها الإنسان هي حياته، يقدمها بغير تردد ولا ندم، بل بكل فرحٍ وشجاعة " ٍ.
وقفت الأم مع أولادها للصلاة والتوسل إلي اللَّه لكي يرحم كنيسته ويثبت شعبه في الإيمان.
بينما كانوا يصلون ظهر لهم ملاك الرب، وأعلن لهم أنهم سينالون إكليل الشهادة علي اسم السيد المسيح. عزاهم الملاك وبشرهم قائلاً: "الرب معكم ويقويكم حتى تكملوا جهادكم، فلا تخافوا الموت، ولا تجزعوا منه، اشهدوا للرب"، فشعروا بفرحٍ عجيبٍ لا مثيل له.
الآن وقد حان الوقت فرحوا ووزعوا مالهم على المحتاجين ثم توجهوا إلى ديونيسيوس القائد والي بلدة قوص. وعندما طلب الوالي منهم التبخير للأوثان والجحود بالإيمان المسيحي فصرخوا جميعًا: "نحن مسيحيون، لا نعبد سوى رب السماء والأرض الذي بيده جميع البشر". حاول القائد إغراءهم بهبات كثيرة، كما هددهم بالموت إن اعترفوا باسم المسيح. لكنهم أعلنوا شوقهم نحو الموت ليلتقوا مع محبوبهم المسيح وجهًا لوجه. وهناك اعترفوا بإيمانهم بثبات، فابتدأ يعذبهم عذابًا شديدًا، مبتدئًا بأمهم التي أثبتت صبرًا واحتمالاً، بل وكانت تشجع أولادها. وهكذا عذَّب الأبناء الخمسة كلهم، وبسبب ثباتهم وما احتملوه من عذاب آمن كثيرون وأعلنوا إيمانهم واستشهدوا لأجل اسم المسيح . أما القديسة رفقة وأولادها فوضعهم الوالي في السجن الذي كان محتشدًا بجموعٍ غفيرةٍ من الشعب مع أساقفة وكهنة.
ولما كان الابن الأكبر( أغاثون ) وكان مقدم بلدته ومحبوبًا من مواطنيه، وبسببه هو وأمه واخوته استشهد كثيرون، أشار البعض على القائد بأن يرسلهم إلى أرمانيوس والي الإسكندرية حيث لا يعرفهم أحد هناك. ولما كان أرمانيوس غائبًا في بلدة شبرا، فقد أُرسلوا إلى هناك. وبعد أن عذبهم عذابًا مؤلمًا بخلع أسنانهم، ألقاهم جميعًا في السجن حيث ظهر لهم رئيس الملائكة ميخائيل للمرة الثانية، وشجعهم وشفى أجسادهم. وفي الصباح دُهش الجند وكل جمهور الشعب، إذ لم يروا علامة واحدة من الجراحات على أجسادهم. صرخت الجماهير تُعلن إيمانها بالرب يسوع، فأمر الوالي بقتل كل من آمن وقبل المسيح .
وضع الوالي القديسة رفقة وأولادها على أسرّة من حديد وأوقد نارًا تحتهم، ولم يُصب أحد منهم بشيء، بل أرسل اللَّه مطرًا بعد ثلاث ساعات أطفأ النيران، واعترف جمهور غفير بالسيد المسيح رباً وإلهاً واستشهدوا.
لم يتحرك قلب الوالي بل ازداد عنادًا وأمر بتقطيع أعضاء هؤلاء القديسين ووضع الخلّ ومادة الجير عليهم. فظهر لهم رئيس الملائكة للمرة الثالثة وأنار حولهم وشفاهم. فألقاهم الوالي في السجن مقيّدين بسلاسل فسمعوا صوتًا يقول: "جهادكم قد اقترب، وها أنا أعددت لكم أكاليل الحياة".
أمر الوالي بصلبهم منكسي الرؤوس، ثم وضعهم في خلقين (برميل)، فانقلب الخلقين بالزيت المغلي على الجنود المكلفين بتعذيبهم فماتوا. ثم أمر بقطع رؤوسهم وطرح أجسادهم في البحر.
وهنا أُعلن لرجل مسيحي ثري من نقرها من أعمال البحيرة، بواسطة رؤيا أن يحفظ هذه الأجساد، فقدم للجند بعض المال وأخذ الأجساد منهم قبل أن يرموها ، وحفظها عنده حتى زال الاضطهاد.
وعندما حلّ الخراب بمدينة نقرها نقل المؤمنون الأجساد إلى مدينة ديبي في كنيسة الشهيد مارمينا , وظلت هناك حتى نُقلت إلى سنباط نسبة إلى حاكمها الروماني سنابيط . ومازالت هذه الأجساد الطاهرة في الكنيسة التي بُنيت على اسمهم ببلدة سنباط في محافظة الغربية. وكان استشهادهم في اليوم السابع من شهر توت القبطي .
دولاجي الأم الشهيدة
تُعتبر هذه الشهيدة بكر شهداء إسنا وشفيعة المدينة، ويعتبرها البعض شفيعة الصعيد كله.
في زمن الاضطهاد الذي أثاره الطاغية دقلديانوس كانت منطقة إسنا بالصعيد الأعلى غنية بقديسيها من إكليروس وعلمانيين، متبتلين ومتزوجين.
قام أريانوس والي أنصنا برحلة تجول في بلاد الصعيد ليرى مدى تنفيذ مراسيم سيده الإمبراطور، ولكي يشبع شهوة قلبه الداخلية في تعذيب المسيحيين وقتلهم، وقد تردد علي هذه المدينة علي الأقل ثلاث مرات.
الزيارة الأولي: قدمت المدينة باكورة شهدائها القديسة الأم دولاجي وأولادها.
الزيارة الثانية: قدمت المدينة بعض أراخنة الشعب.
الزيارة الثالثة: استشهدت الرشيدة وكل أهل المدينة، أما الثلاثة فلاحين فاستشهدوا إما في هذه الزيارة أو في زيارة لاحقة أثناء عودة أريانا وجنوده من جنوب إسنا.
لقاء مع الصبية القديسين:
لم نسمع شيئًا عن زوج القديسة الأم دولاجي، ولا نعرف حتى اسمه، إذ يبدو أنها كانت أرملة.
يذكر التاريخ أنها كانت غنية وزعت ما لديها علي الفقراء والمساكين. وحالما دخل أريانوس والي أنصنا مدينة إسنا قابله أربعة صبية أشقاء وهم صوروس وهرمان وأبانوفا وشنطاس، كانوا يسوقون دابة محملة بالبطيخ.
فأوقفهم وأمرهم أن يسيروا معه للسجود للأوثان،
لكن الصبية الشجعان أبوا وأعلنوا مسيحيتهم.
حاول معهم بالإغراء فلم يفلح، فأخذ الوالي يتوعدهم بأنه سيلحق بهم التعذيب حتى الموت، وإذ لاحظ إصرارهم على التمسك بالإيمان أمهلهم لكي يتراجعوا عن إصرارهم.
الأم دولاجي تشجع أولادها:
طار الخبر إلى أمهم التقية والشجاعة دولاجي، والتي تُحسب مفخرة من مفاخر الشهداء. هّبت مسرعة إلى مكانهم. وأمام الوالي كانت تشجعهم وتقويهم، فامتلأ أريانوس غيظًا، وأمر بحبسهم جميعًا، تمهيدًا لمحاكمتهم.
الأم تُعد أولادها للاستشهاد:
في داخل السجن أخذت الأم دولاجي تصلّي مع أولادها. كانت تطلب عونًا إلهيًا ليثبت هؤلاء الأولاد الصغار. استطاعت الأم بأحاديثها العذبة أن ترفع قلوب أولادها إلى السماء، وأن يشتهوا نوال أكاليل المجد. وفي الليل ظهرت لهم السيدة العذراء، وكانت تشجعهم وتخبرهم بأن السيد المسيح قد أعدّ لهم مكانًا أبديًا في السموات. وقد كانت الرؤيا مشجعة لهم ومقوية لإيمانهم.
محاكمتهم:
في الصباح استدعاهم الوالي، وحاول معهم مرة أخرى أن يبخروا للآلهة، فإذا بالأم دولاجي تصرخ معلنة إيمانها المسيحي هي وأولادها، قائلة: "إني مسيحية مؤمنة بالسيد المسيح الذي خلق السموات والأرض والبحار والأنهار وكل ما فيها". وكان من خلفها أبناؤها الذين كانوا يهتفون "نحن مسيحيون" وأنهم يرفضون عبادة الآلهة الكاذبة.
أُلقيت الأم وأولادها في السجن لتنفيذ حكم الإعدام.
استشهادهم:
امتلأ أريانوس غضبًا وأمر بقطع رؤوسهم،
على أن يُذبح أولادها على ركبتيها الواحد تلو الآخر، وفيما كانوا يفعلون ذلك كانت ترتل وتصلي، وأخيرًا قطعوا رأسها.
مازالت أجسادهم الطاهرة بالكنيسة التي تحمل اسمهم بمدينة إسنا حتى الآن.
تحتفل الكنيسة بعيد استشهادهم في السادس من شهر بشنس.
ظلت كنيسة السيدة الأم دولاجي تحت مستوى الأرض مدة حتى قام المرحوم الأميرلاى أبادير أديب ببناء كنيسة في نفس المكان على سط
الشهيدة جوليتا أو يوليطة وأبنها قرياقوس
تكشف لنا قصة استشهاد القديسين يوليطة وطفلها الصغير قرياقوس عن قوة الإيمان الذي تحدي الإمبراطورية الرومانية بكل أسلحتها وسلطانها، وتحدى العذابات والألم، بل وتحدي المشاعر الطبيعية كالأمومة ليحيا المؤمن أشبه بكائن سماوي يفوق الزمن.
القديسة يوليطة:
قسّم الرومان منطقة آسيا الصغرى (تركيا) إلى عدة أقاليم رومانية مثل ليكاؤنية وكيليكية وكبادوكية وبيسيدية وفريجينية وجاليتا الخ. لكل إقليم عاصمته. وُلدت القديسة يوليطة في مدينة أيقونية عاصمة ليكاؤنية. وهي تنحدر من سلالة ملوك آسيا، لها مركزها الاجتماعي المرموق بجوار غناها وجمالها وتقواها. كانت محبة لخدمة الفقراء والمحتاجين. تزوّجت رجلاً تقيًا يخاف الرب، وأنجبت منه طفلاً بهي الطلعة حسن المنظر أسمياه قرياقوس، وهي مشتقة من غريغوريوس أو جريجوري. توفي الزوج في ريعان شبابه وترك قرياقوس مع الأرملة الشابة يوليطة. عندما شدّد دقلديانوس اضطهاده على المسيحيين هناك أرادت ترك مدينتها طلبًا للسلام لتذهب إلى مكان آمن حيث لا يعرفها أحد. فقد بدأ الحاكم الروماني دومتيانوس في نشر الاضطهاد في جميع مدن الإقليم بكل وحشية. خشيت الأم لئلا إذا قُتلت يقع طفلها الصغير في أيدي الوثنيين فلا يتمتع بالإيمان المسيحي.
إلى سلوكية ثم إلى طرسوس:
أخذت طفلها قرياقوس الذي كان عمره ثلاث سنوات، وكان جميلاً جدًا وجذابًا، مع اثنين من خدمها وذهبت أولاً إلى سلوكية بسوريا، حيث وجدت حاكمها الروماني أشد عنفًا وقسوة من حاكم ليكاؤنية في تعذيبه للمسيحيين، ومن ثمّة تركت المدينة وذهبت إلى طرسوس عاصمة كيليكية. كان وصولها إلى المدينة مع وصول الحاكم إسكندر وحاشيته معه، فتعرّفوا عليها وفى الحال قادوها إلى السجن. أما الجاريتان فهربتا من وجه الجنود، ولكنهما كانتا تتبعان يوليطة وابنها وتنظران إليهما من بعيد.
دعوة للاستشهاد:
بعد هروبها من وجه الاستشهاد مرتين خوفًا علي إيمان طفلها شعرت حين أُلقي القبض عليها بسلامٍ داخلي. أدركت أن عناية الله التي دعتها للاستشهاد كفيلة برعاية ابنها والحفاظ علي إيمانه.
محاكمة يوليطا:
لما أحضروها لتُحاكم، وقفت أمام إسكندر ممسكة بيد ابنها. اندهش الحاكم الروماني لجمالها الفائق وصغر سنها، وتعجّب لهذا الطفل البهي الطلعة، فنزل من كرسيه ودنا منها ودار بينهما الحوار التالي: ما هو اسمك أيتها الحسناء؟ ومن أين أتيت؟ أنا مسيحية. مسيحية! هل أنت من أتباع المصلوب؟ نعم أنا مسيحية! ألا تعلمين أن ملكنا المعظم قد أمر بتعذيب جميع المسيحيين وقتلهم؟ نعم أنا أعلم ذلك. كيف إذن تجاهرين وتعترفين أنك مسيحية؟! ألا تخافين الموت؟ ألا تنظرين إلى جمالك؟ اعلم أيها الوالي أن جميع المسيحيين مستعدون للعذاب والموت من أجل مسيحهم القدوس. وثق أن تعذيبكم وقتلكم لهم يزيدهم شجاعة وعددًا. ألا ترهبون الموت؟ كلا! لأن الموت هو طريقنا للحياة مع إلهنا الحي يسوع المسيح، وجميعنا نشتاق إلى هذا اليوم. ثار الحاكم جدًا وحكم عليها بالتعذيب، وأُخذ قرياقوس من بين يديها بالرغم من دموعه وتوسلاته. وحمله الحاكم على ركبتيه في محاولة لتهدئته، لكن عيني الطفل وأذنيه كانت متجهة فقط نحو أمه. وأثناء تعذيبها كانت يوليطة تردد: "أنا مسيحية" فصرخ قرياقوس بشدة: "وأنا أيضًا مسيحي". استشاط الحاكم غضبًا، وأمر بتجريد القديسة يوليطة من ثيابها وجلدها حتى يتمزق جسمها.
استشهاد الطفل كيرياكوس:
بينما كان الجلادون يضربون القديسة يوليطة بكل وحشية أمام ابنها، كانت تصرخ: "أنا مسيحية!" كانت تحتمل الألم بإيمان وفرح وهي تنظر إلى ابنها كمن تسنده للثبات علي إيمانه. كان الوالي يلاطف الطفل وأراد أن يقبّله، لكن الطفل لم يعره اهتمامًا بل كان متجهًا نحو أمه. أخيرًا في محاولة الطفل للتخلص من يديْ إسكندر للذهاب إلى أمه، ركله ونشب أظافره في وجهه، فاستشاط إسكندر غضبًا وأمسك برجل الطفل وقذفه من على السلم، فكُسرت جمجمته واستشهد في الحال. وبدلاً من أن تتأسف أمه على موته، قدمت الشكر لله لأنه وُهب لابنها إكليل الاستشهاد.
استشهاد القديسة يوليتة:
ضاعف موقفها هذا من غضب الحاكم الذي شدّد عذاباتها حتى قُطع جنبيها، وأخيرًا أمر بقطع رأسها بحد السيف وإلقاء جثمانها وجثمان ابنها في الموضع الذي تُلقي فيه قمامة المدينة. ربط الجلادون حبلاً في رقبتها وسدّوا فمها حتى لا تنطق بعبارة: "أنا مسيحية"، ثم ساقوها إلى ساحة الاستشهاد. هناك سألتهم أن يصبروا عليها قليلاً. فركعت القديسة وصلّت إلى ربنا يسوع قائلة: "أشكرك يا إلهي القدوس لأنك دعوت ابني الحبيب قرياقوس قبلي. وبأخذك إياه من هذه الحياة الفانية وضعته مع مصاف ملائكتك وقديسيك في فردوس النعيم. الآن أتوسل إليك يا مخلصي الصالح أن تقبل روح أَمتك يوليتا. وأن تجعلني مع العذارى الحكيمات اللواتي دخلن إلى المساكن العلوية النقية البهية الطاهرة، حيث أباركك يا يسوع إلهي مع أبيك الصالح وروحك القدوس إلى الأبد آمين". إذ أكملت صلاتها رشمت ذاتها بعلامة الصليب المقدس وسلّمت رقبتها للجلادين فقطعوا رأسها. وألقوا بجسدها مع ابنها خارج المدينة، وكان ذلك حوالي سنة 304م.
جسدا الشهيدين:
تقدمت الخادمتان سرًا وأخذتا الجسدين ودفنتاهما في حقلٍ بالقرب من المدينة. حين انتهى زمن الاضطهاد بمُلك قسطنطين، تقدّمت إحدى الخادمتين وكشفت عن مكان القبر، ويُقال أن عظام القديس قرياقوس قد نُقلت في القرن الرابع إلى إنطاكية. إنك في سنك الصغير وعقلك الناضج احتملت الآلام بطريقة موحشة يا قرياقوص المنتصر... تعالوا وانظروا يا جميع الناس مشهدًا جديدًا ونادرًا. من رأى واليًا ظالمًا مهزومًا أمام طفل صغير؟ يا للمنظر العجيب، فإنه يرضع من ثديي أمه ويهتف أثناء الرضاعة: لا تخافي يا أمي من تعذيب سلطان هذا العالم، لأن المسيح قوة للذين يؤمنون به.
السلام لك يا قرياقوس القديس، لأنك في الثالثة من عمرك غلبت العدوّ وما لديه من آلات تعذيب كثيرة. (لحن بيزنطي).
الشهيدة صوفية وبناتها العذارى الشهيدات
قبول الإيمان بالمسيحية كانت صوفيا من عائلة شريفة بإنطاكية، قبلت الإيمان بالمسيحية. ورُزقت بثلاث بنات دعتهن بهذه الأسماء: بيستس أي الإيمان، وهلبيس أي الرجاء، وأغابي أي المحبة. لما كبرن قليلاً مضت بهن إلى روما لتعلّمهن العبادة وخوف الله. فاحت رائحة المسيح الذكية في حياة الأم صوفيا وبناتها، فكانت النساء يأتين من كل أنحاء المملكة يتمتعن باللقاء الروحي الممتع معهن. تحوّل بيتهن إلى مركز كرازي لنشر الإيمان المسيحي. كما كنّ يعطين اهتمامًا لرد النفوس التي خارت بسبب الضيق.
الإمبراطور هادريان يستدعيهن:
بلغ أمرهن إلى الملك أدريانوس الوثني فأمر بإحضارهن إليه. فشرعت أمهن تعظهن وتصبرهن لكي يثبتن على الإيمان بالسيد المسيح، وتقول لهن: "إيّاكن أن تخور عزيمتكن ويغُرّكن مجد هذا العالم الزائل فيفوتكن المجد الدائم. أصبرن حتى تصرن مع عريسكن المسيح وتدخلن معه النعيم". وكان عمر الكبيرة اثنتي عشرة سنة، والثانية إحدى عشرة سنة، والصغيرة تسع سنين.
محاكمتهن:
إذ وقفن أمام الإمبراطور سألهن: "هل أنتن اللواتي يعبدن المضلّ، وتضلّلن نساء مدينتنا؟" أجابت الأم [نحن لا نضلّل أحدًا، إنما ننقذ النفوس من ضلال الخطية والموت". من أنتِ أيتها المرأة العجوز؟ ومن هنّ أولئك الفتيات؟ أنا مسيحية، أعبد ربي وإلهي يسوع المسيح، وهؤلاء الفتيات بناتي. أيّ جُرمٍ تفعلينه أيتها المجنونة! هل تعلمين مصير الذين يعترفون بهذه الديانة؟ أليس لك قلب حتى تدفعين وتُغرّرين بهؤلاء الفتيات الجميلات؟ إنني أصبح مجرمة إن لم أشهد لربي يسوع المسيح، وأنا أعلم تمامًا أن خلع هذا الجسد هو عقاب من تعترف بالرب يسوع، فلي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل جدًا. أما بناتي فلسن أقل مني في محبتهن لله. - سيكون لهن مراكز عالية. ويعاملن معاملة الأميرات ويلبسن الحُليّ والجواهر الغالية الثمينة. المراكز العالية لأهل العالم، والجواهر ليست من طبع الذين يريدون الأكاليل السمائية والحياة الأبدية. إن عقلك قد ذهب أيتها العجوز المجنونة. إنني سأقتلك وبناتك معك. أمر الملك غاضبًا بسجنهم حتى الصباح لكي يبدأ في تعذيبهن. أما القديسة صوفية فقد دعت بناتها للثبات في الإيمان وفي محبة المسيح إلى النفس الأخير، فقالت البنات الثلاثة لأمهن "لن نترك الإيمان بل نحن معكِ إلى النفس الأخير". وفي الصباح الباكر أحضروا الأم صوفية وبناتها للمثول أمام الملك الذي أخذ يوعد الأم والبنات بعطايا كثيرة فلم يتراجعن، ثم أجابته الابنة بستس قائلة: أيها الملك لسنا في احتياج إلى عطاياك، ولن نترك إلهنا المسيح. ما اسمك؟ وكم عمرك؟ أنا بستس (الإيمان) وعمري 12 عامًا. بل اشك أن هذه العجوز هي السبب في عدم سجودك لإلهتنا. اسجدي لكي تنعمي بما سأعطيه لك. أنا لا أسجد إلا لربي يسوع المسيح. أما هذه الحجارة فقد قال عنها الله في سفر المزامير لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها مناخير ولا تشم، لها أيدي ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشي. ما هذا الذي تتكلمين به؟ كيف تجدفين على الآلهة؟ اترك ضلال طريقك وهذه الأوثان، وتذوّق حلاوة ومحبة ملك الملوك ورب الأرباب. طلب الملك منها أن تسجد للأوثان فيزوّجها لأحد عظماء المملكة وينعم عليها بإنعامات جزيلة، فلم تمتثل لأمره. أمر بضربها بالمطارق وأن تقطع ثدياها وتوقد نار تحت قازان به ماء يغلي وتوضع فيه. كان الرب معها ينقذها ويمنحها القوة والسلام، فدهش الحاضرون ومجدوا الله، ثم أمر بقطع رأسها. أما القديسة فأخذت تصلّي وتسبح الله وسط الأتون، وإذ بملاك الرب نزل من السماء وجعل النيران مثل ندى بارد. وحينما رأى الإمبراطور أن النيران لم تمسّها بسوء أمر بضرب رقبتها بحد السيف فنالت إكليل الشهادة. بعد ذلك قدّموا له الثانية فتكلم الملك معها قائلاً: أيتها الصبيّة الجميلة ما اسمك؟ وكم عمرك؟ اسمي هلبيس (الرجاء) وعمري إحدى عشر سنة. طبعًا رأيتِ أختك وكيف أنهَت حياتها بهذه الطريقة المؤلمة، وأنا متأكد أنك ستتركين ذاك المسيح الذي سيُنهي حياتكن. أختي بدأت حياة جديدة في السماء وأريد أن أكون مثلها. لابد من قتلك. لي رجاء فيك أيها الملك أن أكون مثل أختي. أرى أنكِ تهذين. إنها الحقيقة، "ليّ الحياة هي المسيح والموت هو ربح". أي ربح في الموت؟ الحياة الأبدية التي لا تعرفها أنت أيها الملك. فلما سمع الملك هذه الكلمات التي تفوق سن هلبيس غضب جدًا، وأمر الجند المكلّفين بمهام التعذيب أن تُحرق بالنيران. وإذ لم يفد حرقها لأن رئيس جند الرب كان معها، أمر بتقطيعها إربًا إربًا، وفي صيحات عالية أخذ يقول اضربوها بالسياط، اقطعوا رقبتها بالسيف. فأخذ الجند هلبيس وقطعوا رقبتها، ونالت إكليل الشهادة. أما الصغيرة فقد خافت عليها أمها أن تجزع من العذاب فكانت تقوّيها وتصبِّرها. ثم دعاها الملك قائلاً: لقد رأيتِ بعينيّ رأسك ماذا حدث لأختيكِ، فلا تكوني مثلهن ذي رأي خاطئ أيتها الوحيدة. أُختاي ذهبنا إلى السماء وأريد أن أذهب إليهما. ما اسمك؟ وكم عمرك؟ اسمي أغابي (المحبة) وعمري 7 سنوات. ارجعي إلى عقلك وتطلّعي إلى جمالك. عقلي وقلبي في محبة يسوع المسيح. اخرسي. فلما أمر الملك أن تعصر بالهنبازين وتُطرح في النار، صلّت ورسمت وجهها بعلامة الصليب وانطرحت فيها، فأبصر الحاضرون ثلاثة رجال بثياب بيض محيطين بها والأتون كالندى البارد. فتعجبوا وآمن كثيرون بالسيد المسيح. فأمر الملك بقطع رؤوسهم، ثم أمر أن تُجعل في جنبيّ الفتاة أسياخ محماة في النار، وكان الرب يقوّيها فلم تشعر بألم. أخيرًا أمر بقطع رأسها ففعلوا كذلك. وهكذا أكملن جهادهن على الأرض، وأصبحن أمثلة طيبة وقدوة حسنة صالحة إلى أجيال عديدة، وهذا يرجع إلى تربية الأم التربية المسيحية الحقّة التي ليس فيها شائبة. حملت أمهن أجسادهن إلى خارج المدينة وجلست تبكي عليهن وتسألهن أن يطلبن من السيد المسيح أن يأخذ نفسها هي أيضًا، فقبل الرب سؤلها وصعدت روحها إلى السماء، فأتى بعض المؤمنين وأخذوا الأجساد وكفّنوها ودفنوها بإكرام جزيل. أما الملك أدريانوس فقد أصابه الرب بمرض في عينيه فأعماهما، وتدوَّد جسمه ومات ميتة شنيعة، وانتقم الرب منه لأجل العذارى القديسات
دهوم وابنتها وحفيدتها الشهيدات
استدعاؤها بعد أن استشهد الزوج أرسل الملك اليهودي يستدعي الزوجة دهوم بنت أذمع من نجران؛ وطلب منها الحضور لتجحد مسيحها وإلا تموت.
لقاء مع النجرانيات إذ جاءها الرسول نزلت مع ابنتها وحفيدتها من المنزل متجهة نحو الملك. اجتمع حولها كثير من النساء المسيحيات واليهوديات والوثنيات.
التقين بهن، وقد ظهرت علامات الفرح والبهجة على وجهها. وفي حديث طويل معهن قالت لهن: "أيتها النساء النجرانيات، أنتن تعلمن إني مسيحية. وتعلمن جنسي وعشيرتي، فلديّ من الذهب والفضة الكثير، وأيضًا العبيد والإماء، ولا يعوزني شيء. لقد قُتل زوجي من أجل المسيح، فإن شئتُ أن أصير لرجلٍ فإن كثيرين يطلبونني. لديّ أربعين ألف دينارًا في خزينتي غير ما تركه لي زوجي مع حُليّ وجواهر وحجارة كريمة...
إنني اليوم أتمتع بالفرح كأيام عرسي الأول، وقد زينت بناتي الثلاث للسيد المسيح عِوض زواجهن... لقد دخلت مرفوعة الجبين في زفافي الأول. والآن اذهب إلى المسيح ربي وإلهي وإله بناتي مرفوعة الجبين".
محاكمتها إذ التقت بالملك اليهودي طلب منها أن تقول بأن المسيح إنسان وأن تبصق على الصليب وتمضي إلى بيتها هي ومن معها. دُهشت الحفيدة لكلمات الملك، وكانت في التاسعة من عمرها. وإذ سمعت ذلك بصقت على الملك وقالت: "يعلم الله أن جدتي أشرف منك ومن أمك، وعشيرتي أنبل من عشيرتك يا أيها القاتل ربّك!" مذبحة قاسية إذ سمع الملك ذلك أمر بإلقاء الجدة على الأرض وذبح الحفيدة على وجهها حتى يسيل دم الحفيدة في فم الجدة، ثم ذُبحت والدتها آمة على صدر أمها وسال دمها في فمها.
أقامها الملك، وفي سخرية قال لها: "كيف تتذوقين دم حفيدتك وابنتك؟" أجابته دهوم: "إني أتذوقه كقربانٍ طاهرٍ لا عيب فيه". فأمر الملك بقطع رقبتها وكان ذلك في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 523م.