|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
كُن جسوراً واختصرْ فاطمة ناعوت أقصرُ رسائل التاريخ لم تكن جملةً واحدة، ولا كلمة، ولا حتى حرفاً واحداً. بل كانت مجرد «علامة ترقيم»! عام 1862، سافر فيكتور إيجو، الروائى الفرنسى الأشهر، ليستجمّ بعد نشر روايته العظمى «البؤساء» Les Misérables (1200 صفحة). وبعد أيام أرسلَ تلغرافاً للناشر مكتوباً فيه: «؟». فردَّ عليه الناشرُ يقول: «!». علامةُ الاستفهام التى كتبها إيجو معناها: «ما أخبار التوزيع؟». وردُّ الناشر يعنى: «فوق الخيال!». يعلم كتّابُ الأعمدة الصحفية صعوبةَ الاختزال. ويعلم المبتدئون سهولةَ الثرثرة والإطناب والتكرار والحشو واللغو؛ ما يسميه الغرب Bla Bla، أى الكلام الكثير دون مضمون. لهذا ختم الزعيمُ سعد زغلول إحدى رسائله قائلا: «معذرة على الإطالة، لم يكن لدىَّ وقتٌ للاختصار!». فى رواية «حرير»، للإيطالى أليساندرو باريكو، دخل رجلٌ على عمدة القرية، وألقى على مكتبه منديلاً من الحرير، ثم سأل: «تعرف ما هذا؟» فأجاب العمدة: «أشياءُ نسائية!» فقال الرجلُ بامتعاض: «غلط.. بل أشياء رجالية.. مال!» فطرده العمدة. خرج المطرود «بالدابيو» وشيّد معملاً وكوخاً قرب الغابة. وراح يربّى دود القز فى صمت. ثم عاد إلى العمدة بعد شهور، وألقى على مكتبه رزمةً ضخمة من المال، وسأله: «تعرف ما هذا؟». فأجاب العمدة: «مال». فرد بالدابيو: «غلط. هذا هو الدليل على أنكَ تيس!» وجمع ماله ومضى. فاستوقفه العمدة صارخاً: «ماذا بحق الشيطان علىّ أن أفعل؟». فأجابه: «لا تفعل شيئاً فتصيرُ عمدة بلدة غنية».. وبعد سنوات امتلأت البلدة بمعامل حلِّ الشرانق، لتغدو من أكبر المراكز الأوروبية لتصدير الحرير. الاختصارُ فى القول سمةُ الأدباء الكبار. ونذكرُ الشاعرَ الأمريكى «عذرا باوند» الذى حذفَ من قصيدة صديقه البريطانيّ ت. س. إليوت أكثرَ من نصفها؛ لتغدو «الأرضُ الخراب» The Waste Land فى ثوبها المُختزل (434 سطراً) إحدى أشهر قصائد التاريخ وأعظمها. ولا تقتصرُ عبقريةُ الحذف على الإبداع الأدبىّ وفنون القول، بل تمتد لتشمل الفنونَ الأخرى؛ فهذا بيكاسو يقول: «اللوحةُ عادةً ما تكون بناءَ طبقات فوق طبقات، على نحو تراكمىّ، أما فى مدرستى، فاللوحةُ تتطور عن طريق حذف الطبقات والخطوط؛ حتى تصلَ إلى تجريد مُتقشّف للهدف المرسوم بأقل عدد من الخطوط والمسطحات». وفى مصر لدينا الفنان الجميل عمر جهان، الذى يرسم أعقدَ التكوينات بخطوط نحيلة، وقليلة. وتُعلّمنا التكنولوجيا ضرورةَ الاختزال، وذكاءه فى الموقع المُغرّد Twitter. فكل تويتة يجب ألا تزيد على 140 حرفاً، ولو أزدت حرفاً تأتيك رسالةُ توبيخ: Try to be more clever! تماماً كالعصفور الذى «يُزقزق» نغمةً قصيرة، لكنها تحمل أعظمَ رسائل الدنيا: الموسيقى والجمال. الوطن |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|