الصليب في الحياة العملية
كان بولس الرسول يهودياً متعصباً , يكره المسيح المصلوب , ويذيق أتباعه أشد أنواع العذاب , إلى أن أشرق عليه نوره وسمع صوته يناديه من السماء ((شاول شاول لماذا تضطهدني ؟)) فلما سأله وهو مرتعد ومرتعب ((من أنت ياسيد ؟)) أجابه صاحب الصوت المبارك ((أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده)) أع 8:22 , وتجدد شاول الطرسوسي الذي كان مجدفاً ومضطهداً ومفترياً , وسمى بعدئذ باسم ((بولس)) , وأحب بولس المسيح الذي خلصه , أحبه من قلبه , وملك عليه هذا الحب كيانه ومشاعره وكل عاطفة تختلج في داخله , فصار داعية الصليب الأول , وكتب إلى كورنثوس مدينة العلم , والرقي , والخطية يقول ((لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً)) 1 كو 2:2 وسجل بحروف ضخمة في رسالته إلى أهل غلاطية كلماته الخالدة ((وأما من جهتي فحاشى لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم وأنا العالم)) غلا 14:6
فلماذا افتخر بولس بالصليب بعد أن كان عدوه اللدود ؟ لقد رأى بولس في الصليب قوة الله وحكمة الله , قوة الله التي انتصر بها على الشيطان, والموت , والخطية , وحكمة الله التي وفقت بين عدله ورحمته , ولذلك فقد جعل الصليب رسالته الوحيدة العظمى وكتب عن ذلك قائلا ((نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله)) لكنه مع ذلك رأى في الصليب كل شيء في حياة المؤمن , فهو أساس غفران خطاياه , وأساس سلامه مع الله , وأساس اعتزاله عن العالم , وأساس احتماله للآلام, أو كما قال فيه أحد القديسين ((إن صليب المسيح هو أخف حمل أحمله على كتفي , انه كثقل الأجنحة للطائر , يسمو بي إلى آفاق أعلى , وكثقل الشراع للسفينة , يدفعني إلى مرفأ الأمان)) وكل هذه النواحي دفعت بولس للافتخار بالصليب
ويجدر بنا أن نلفت النظر هنا , إلى أننا عندما نتحدث عن الصليب , لا نتحدث عن قطعة من الخشب أو من الذهب , وإنما نتحدث عن ذلك الشخص المبارك الذي صلب على الصليب , نحن لا نتحدث عن شيء بل عن شخص , فالمسيح المصلوب هو سر بركة العالم المسكين ومن أسف أن كثيرين من المسيحيين قد أهملوا قوة الصليب , تماماً كما أهمل العبرانيون السيف الذي قتل به داود جليات , وكل ما فعلوه أنهم وضعوه وراء الأفود , فدعونا نأخذ هذا السيف من جديد ونرى مدى تأثيره المبارك في الحياة العملية :
1- الصليب هو أساس الغفران والتبرير :
فإذا سأل أحدهم كيف أنال الغفران ؟ وكيف أتبرر عند الله ؟ أجابه بولس الرسول قائلا ((الذي لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا)) أفسس 7:1 ((نحن متبررون الآن بدمه)) رو 9:5 , فدم يسوع المسيح المراق على الصليب هو الوسيلة الوحيدة للغفران والتبرير لأنه ((بدون سفك دم لاتحصل مغفرة)) عب 22:9 , والدم يعني ((الموت والحياة)) ((والموت ((هو قصاص الخطية , و ((الحياة)) تعطى لنا عن طريق الدم ((لأن نفس الجسد هي في الدم)) لا 11:7 , ومن العجيب أن الدم ولو سفك فانه يعتبر حياً , لذلك يقول الله لقايين بعد سفكه دم أخيه ((صوت دم أخيك صارخ اليّ من الأرض)) تك 10:4 ونقرأ في رسالة العبرانيين ((دم رش يتكلم أفضل من هابيل)) عب 12 , 24 وهذا يرينا أنه مع الدم يمثل الموت فهو كذلك وسيلة الحياة الأسمى
وهذا الفكر المزدوج يظهر واضحاً في الذبيحة اليهودية فكان اليهودي يأتي بالذبيحة إلى الدار الخارجية من خيمة الاجتماع , وهو بنفسه – لا الكاهن – يذبحها وبعمله هذا كأنه يعترف بإثمه الخاص وباستحقاقه القصاص موتاً , هذا هو الوجه الأول للذبيحة أما الوجه الثاني فنرى فيه الكاهن كنائب عن الله يأخذ دم الذبيحة ويرشه على المذبح معلناً أن الحياة قد قدمت إلى الله
وقد تم هذا كله في المسيح المصلوب يعني هذين الفكرين ((موته)) و ((حياته)) ففي يوم الكفارة كانت الذبيحة تنحر في الدار الخارجية وهذا معناه ((الموت)) ثم كان رئيس الكهنة يأخذ الدم ويجتاز به إلى قدس الأقداس ويرشه على عرش الرحمة وهذا معناه ((الحياة)) , وعلى هذا فينبغي أن لا ننظر فقط إلى موت المسيح بل إلى قيامته وصعوده كجزء جوهري من عمل الفداء لأنه ((أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا)) رو 25:4 فالدم الذي هو الموت , والقيامة التي هي الحياة , والصعود الذي هو الخلود كتلة واحدة في عملية الكفارة
ففي متى 28:26 يقول ((هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك لمغفرة الخطايا)) وهذا هو الدم والموت. وفي عب 20:13 يقول ((واله السلام الذي أقام من الأموات ربنا يسوع بدم العهد الأبدي)) وهذا هو الدم والقيامة
وفي عب 12:9 و 24 يقول ((بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقية بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا)) وهذا هو الدم والصعود
وعلى هذا فنحن نرى في دم يسوع المسيح , الموت لأجلنا , والحياة لأجلنا كما هو ظاهر في صلبه وقيامته وصعوده
فدم يسوع هو أساس غفران خطايانا , بل أساس فدائنا , وتبريرنا , لذلك إذ أشرق هذا الحق أمام عيني الأسقف لانسيلوت اندروزركع عند الصليب قائلا ((بعرقك الدامي المتجمد , ونفسك الحزينة المتألمة , برأسك المكلل بالأشواك , بعينيك المتدفقتين بالدموع , وأذنيك الممتلئتين بالسباب , بفمك المبلل بالخل والمر , ووجهك الملطخ بالبصاق , برقبتك المنحنية من حمل الصليب
وظهرك الممزق بالجلدات , بيديك المثقوبتين وقدميك بصرختك الحادة الهي الهي , وقلبك المطعون بالحربة , بالدم والماء الجاريين من جنبك , بجسمك المكسور ودمك المسفوك اغفر سيدي آثام عبدك واستر جميع خطاياه))
حدثنا خادم جليل من خدام الله كان قد عهد إليه أن يهتم بالأمور الروحية لمجرمي الحرب الأخيرة من زعماء النازي عن قوة دم المسيح للغفران حتى لأفظع المجرمين قال ((في سنة 1945 عبرنا المانش إلى فرنسا وفي 15 يوليو من تلك السنة كنا في ألمانيا , وبعد شهور قليلة عهد اليّ برعاية الحالة الروحية لزعماء النازي المسجونين رهن المحاكمة في نورتبرج وقبل أن أبدأ زياراتي لهؤلاء المجرمين في زنزاناتهم سألت نفسي هذا السؤال : ((أينبغي عليّ أن أسلم على هؤلاء الرجال الذين جروا الدمار والخراب على العالم , وجلبوا الويلات والآلام على الناس , وأزهقوا ملايين النفوس ؟ أينبغي أن أسلم عليهم وولداي قد ذهبا ضحية أفعالهم الشريرة ؟ وماذا أنا فاعل إزاءهم حتى يمكنهم أن يشعروا بحاجتهم إلى قبول كلمة الله ؟)) وأول ما فعلت دخلت ((زنزانة)) المارشال ((جورنج)) فوقف وأدى التحية العسكرية ومد لي يده , وبعدئذ واحداً بعد الآخر زيارة قصيرة وكان ذلك في العشرين من نوفمبر قبيل المحاكمة , وقضيت تلك الليلة في الصلاة طالباً من الله أن يعطيني رسالة لهم ومن تلك اللحظة أعطاني الله نعمة اقتفاء آثار خطوات الرب يسوع في أن أكره الخطية لكن أحب الخطاة ورأيت أن هؤلاء الرجال يجب أن يسمعوا أشياء عن المخلص الذي تألم ومات على الصليب لأجلهم
كانوا واحداً وعشرين مسجوناً , أربعة منهم كاثوليك وثلاثة عشر بروتستانت , أما ستريشر , ويودل , وهيس , وروزنبرج فلم يهتموا بسماع أية خدمة
أما الكاثوليك فكانوا فرانك , وسايس انكوارت , وكالتنبرونر , وفون بابن , والبروتستانت , كانوا : كيتل , وفون ربنتروب , ورايدر , ودونيتز , وفون نوارت , وسبير , وشاخت , وفريك , وفونك وفريتش , وفون شيراش , وسوكل , وجورنج , وجرت عادتنا أن نرنم ثلاث ترنيمات ونقرأ فصولا من الكلمة , ثم ألقى رسالة قصيرة , ونختم بالصلاة , وكان سوكل أول واحد بينهم فتح قلبه لقبول كلمة الله , وقد كان أباً لعشرة أطفال, وكانت زوجته مسيحية مؤمنة , وبعد زيارات قليلة له كنا نركع سوياً عند سريره , وكان يصلي صلاة العشار قائلا ((اللهم ارحمني أنا الخاطئ)) وأنا أعرف أنه كان صادقاً ! كذلك عمل الله بقوة في فريتش , وفون شيراش وسبير لأنهم في تأثر عميق طلبوا الاشتراك في مائدة الرب , ورايدر كان غيوراً ومجتهداً في قراءة الكلمة وكثيراً ما كان يلقاني متسائلا عن معاني عبارات عسرة الفهم كما طلب الاشتراك في المائدة معنا
ثم صدر حكم المحكمة وهو يقضي بالإعدام شنقاً على كل من جورنج , وفون ربنتروب , وكيتل , وكالتنبرونر, وروزنبرج , وفرانك , وفريك , وستريشر , وسوكل ويودل , وسايس انكوارت , وبالسجن مدى الحياة على هيس , وفونك , ورايدر وبالسجن عشرين عاماً على فون شيراش , وسبير , وبالسجن خمسة عشر عاماً على فون نويرات , وعشر سنوات على دونيتز , وبراءة كل من شاخت , وفون بابن , وفريتش
وبعد الحكم حتى يوم التنفيذ كنت ملازماً للمحكوم عليهم أغلب الوقت , وقد سمح للمحكوم عليهم أن يروا زوجاتهم مرة واحدة فقط , وكان اللقاء محزناً للغاية , ولقد سمعت فون ربنتروب يطلب إلى زوجته أن تعاهده على تربية أطفالها في خوف الرب ! وسوكل طلب من زوجته أن تتعهد بتربية أولاده في ظل الصليب , أما جورنج فسأل زوجته عما قالته ابنته الصغيرة ((ايدا)) عندما سمعت منطوق الحكم عليه , فقالت له زوجته إن ((ايدا)) قالت ((أرجو أن أرى أبي في السماء)) فتأثر من هذه العبارة تأثراً شديداً ولأول مرة رأيته يبكي
وليلا ونهارا كنت أقضي الوقت مع أولئك الذين سلموا حياتهم لله , وكنت أزور بعضهم خمس مرات يومياً , وكان كيتل يتأثر جدا ًمن العبارات التي تتكلم عن قوة دم المسيح للغفران , وكان يردد الآية القائلة ((دم المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية)) 1 يو 7:1.
وفي ليلة تنفيذ الحكم تقابلت مع جورنج ومكثت معه وقتاً طويلا , وكلمته كثيراً عن لزوم استعداده لملاقاة الله, فكان يهزأ ببعض حقائق الإنجيل , ورفض أن يصدق أن المسيح مات لأجل الخطاة وكان يقول ((الموت هو الموت)) , فذكرته بما قالته ابنته الصغيرة وبرجائها في أن ترى أباها في السماء فقال ((هي تؤمن على طريقتها وأنا على طريقتي)) فتركته وبعد ساعة تقريباً سمعت لغطاً وأصواتاً كثيرة وعرفت أن جورنج انتحر , فدخلت زنزانته وكان نبضه لايزال مستمراً فسألته ولكنه لم يجب وكانت على صدره أنبوبة زجاجية فارغة , لقد ذهب إلى نهايته المخيفة واقتربت ساعة التنفيذ , وقبل أن يتقدم ((فون ربنتروب)) للمقصلة قال انه يضع كل ثقته في دم المسيح الذي يرفع خطية العالم ! ثم صدر إليه الأمر أن يتقدم إلى غرفة الإعدام فتقدم ويداه مربوطتان وصعد إلى المقصلة ورفعت أنا قلبي بصلاة قصيرة ولم أره بعد ذلك
وتبعه ((كيتل)) وكان واثقاً في قوة الدم للغفران , وتقدم ((سوكل)) بعد أن ودع زوجته وأولاده وصلى صلاة قصيرة
أما روزنبرج فقد رفض أية مساعدة روحية , ولما سألته هل أصلي من أجله ؟ قال ((كلا أشكرك)) لقد عاش ومات بلا مخلص
وهكذا انطلق من آمن في قوة الدم الغافرة في ملء الاطمئنان !!
2- الصليب هو أساس السلام مع الله :
سألت سيدة أحد الشبان : هل صنعت سلامك مع الله ؟ فأجاب كلا ياسيدتي ! قالت : وهل تريد أن تصنع سلامك مع الله ؟ فأجاب : كلا ياسيدتي !! ولما رأى دهشتها التفت إليها قائلا : ليس في مقدور أحد أن يصنع سلامه مع الله , لكن الرب يسوع قد صنع سلامي مع الله بالصليب , ولذلك فأنا أقول مع بولس ((فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح)) رو 1:5 أجل , إن جراحات الصليب هي أساس سلامنا مع الله , وهذا الحق واضح في إنجيل يوحنا إذ نقرأ ((ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم. ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب)) يو 19:20 , 20 فضمان سلامنا مع الله هو جراحات فادينا ((لأنه هو سلامنا))
3- الصليب هو دافع التكريس لله :
إذ أراد بولس أن يحرك الكورنثيين لتسليم حياتهم بالكامل للرب , لم يجد دافعاً أقوى من الصليب فكتب لهم قائلا ((أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل الروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله)) 1 كو 19:6 و29.
ثم عاد يكتب لهم في رسالته الثانية فقال ((لأن محبة المسيح تحصرنا إذ نحن نحسب هذا أنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع اذاً ماتوا وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام)) 2 كو 14:5 و15 فالصليب يدفع المؤمن للحياة لمن مات لأجله وقام لأنه يشعر أن محبة المسيح تحصره فلا يستطيع إلا أن يكرس نفسه له ليرد صدى هذه المحبة الغامرة ونجد في سفر اللاويين صورة واضحة للتكريس بالدم إذ نقرأ ((ثم قدم الكبش الثاني فذبحه وأخذ موسى من دمه وجعل على شحمة أذن هرون اليمنى , وعلى إبهام يده اليمنى وعلى إبهام رجله اليمنى)) لا 23:8 فما معنى وضع الدم على الأذن واليد والقدم ؟ ! معناه أن الأذن تسمع وتعرف صوت الله , وأن اليد تعمل لخدمة الله , وأن القدم تسير مع الله !! وهذا هو ما يفعله دم الصليب المرشوش على المؤمنين
4- الصليب هو دافع الغفران للآخرين :
لم يجد بولس دافعاً يدفع المسيحي أن يغفر للآخرين أقوى من الصليب فكتب لأهل أفسس قائلا ((كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح)) أفسس 32:4 , وكذلك قال للمؤمنين في كولوسي ((كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً)) كو13:3
قص علينا رجل من رجال الله قصة عن فتاة أرمنية عاشت في أيام اضطهاد الأرمن كانت سائرة يوما في رفقة أخيها وأبيها وإذا بجندي متوحش ينقض على والدها وأخيها ويذبحهما أمام عينيها , أما هي فقد أفلتت منه بأعجوبة ثم اشتغلت كممرضة في إحدى المستشفيات , وذات يوم حمل رجال الإسعاف جريحاً إلى ذلك المستشفى ليكون تحت رعاية تلك الممرضة , وسرعان ما تفرست في وجهه حتى عرفته أنه ذلك الجندي المتوحش الذي سفك دم أبيها وأخيها , وهنا وقفت تلك الممرضة المسكينة أمام عاملين , عامل الانتقام لدم أبيها وأخيها من ذلك الجندي الجريح الذي صار الآن في قبضة يدها , وعامل الرحمة والإشفاق والمغفرة لأجل خاطر المسيح الذي أحبها وافتداها , وما هي إلا لحظة حتى غلب الصليب , وملأ قلبها بالصفح , فخدمت ذلك الجندي وسهرت على راحته حتى شفي من جراحه !! فهل امتلأنا بروح الصليب , روح الغفران ؟
5- الصليب هو سر احتمال الحزن والألم والاضطهاد :
كتب الرسول للعبرانيين قائلا ((لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي فجلس في يمين عرش الله فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم)) عب1:12-3
وكتب بطرس الرسول يقول ((لأنه أي مجد هو إن كنتم تلطمون مخطئين فتصبرون بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله لأنكم لهذا دعيتم فان المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته)) 1 بط20:2و21.
أجل , فالصليب يعطينا نصرة على الاضطهاد , وعلى الألم , وعلى الحزن
كان أحد خدام الله يعظ في شيكاغو , وفجأة تقدم أحدهم من الصفوف الخلفية حتى اقترب من الخادم وقال له أمام الجمع ((في استطاعتك أن تقول عن المسيح أنه عزيز لديك , وانه يسدي إليك العون في تجاربك , لكن لو كانت لك زوجة توفيت كزوجتي وتركت لك أطفالا صغاراً يبكون وينادون على أمهم أن تأتي إليهم وليس من يحير جواباً !! لو كان هذا حالك ماكنت تستطيع أن تتكلم بما تكلمت به اليوم))
وبعد مدة وجيزة راحت زوجة هذا الخادم الجليل ضحية حادث من حوادث القطارات , وكانت موهوبة وفاضلة وحكيمة , فأتوا بالجثة إلى شيكاغو للصلاة عليها , فوقف الخادم المجرب بعد الخدمة وألقى بنظرة إلى الزوجة الراحلة , وقال : ((منذ مدة قال لي أحدكم إني لا أستطيع أن أقول أن المسيح كفايتي , لو توفيت زوجتي وتركت لي أولاداً يصيحون في طلبها, فإذا كان هذا الشخص موجوداً الآن في هذا المكان فاني أقول له أن المسيح كاف جداً وأن صليبه سر عزائي , صحيح أن قلبي مكسور وممزق ولكن هناك سلاماً تتردد أصداؤه في قلبي , والمسيح هو مصدر هذا السلام , لأنه يتكلم بالتعزية إلى اليوم)).
ولقد كان ذلك الرجل موجوداً في الاجتماع , فتقدم وركع بجانب التابوت , وصلى قائلا ((إنني أسلم لك نفسي أيها الرب يسوع ما دمت تستطيع أن تعزي الإنسان بهذا العزاء الجميل))!!.
6- الصليب هو سر الموت المزدوج :
والموت المزدوج هو موت العالم في نظر المؤمن , وموت المؤمن في نظر العالم , وهذا ما يقوله الرسول ((الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم)) , فالمؤمن ينظر إلى العالم فيراه مصلوباً أمامه , ولا يجد فيه إغراء أو جاذبية لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة وهذه كلها قد صلبت في الصليب , ونرى مثالا لهذا في احتقار موسى للعالم كما يقول كاتب العبرانيين ((بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون مفضلا بالأحرى أن بذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة)) عب 24:11 -26 فموسى حسب عار المسيح الذي هو الصليب غنى أعظم من خزائن مصر , وكان الصليب هو سر انتصاره على العالم , ولذا فالرسول يحضنا على السير في ذات الطريق قائلا ((لذلك يسوع أيضاً لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب فلنخرج اذاً إليه خارج المحلة حاملين عاره لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة)) عب 12:13 -14 فهل صلبنا الجسد مع الأهواء والشهوات وخرجنا وراء ربنا خارج المحلة ؟
يحدثنا الرسول عن اختباره قائلا ((مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ)) غلا 20:2 , أجل ! جاء يوم ذهب فيه بولس إلى الجلجثة , وتمدد على صليب المسيح , وقال يناجي رب الصليب ((ياسيد سمر يديّ اللتين قبضتا على المسيحيين وعذبتاهم , وسمر قدميّ اللتين سارتا في طريق تحطيم عملك , وكلل رأسي الذي فكر بالأفكار الرديئة بإكليل الشوك , واطعن قلبي الخداع النجس بحربة الموت لكي أموت أنا وتحيا أنت ياسيدي فيّ)) ومن ذلك اليوم مات بولس ليحيا المسيح فيه و ((الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات)) غلا 24:5
7- الصليب هو أساس شركتنا مع الله :
هذا هو الحق اللامع في رسالة العبرانيين إذ يقول الرسول ((فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات يسوع ابن الله فلنتمسك بالاقرار لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثى لضعفاتنا بل مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه)) عب 14:4 -16 ثم يعود قائلا ((فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقاً كرسه لنا حديثا حيا بالحجاب أي جسده وكاهن عظيم على بيت الله لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي لنتمسك بإقرار الرجاء راسخاً لأن الذي وعد هو أمين)) وهكذا نرى أن أساس شركتنا مع الله, وثقتنا في الدخول إلى عرش النعمة , وإيماننا الراسخ في استجابة صلواتنا هو ((دم الصليب)). كما هو مكتوب ((الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء)) رو 32:8.
والآن ! ! ما هو موقفك بإزاء المسيح المصلوب ؟ لقد سأل بيلاطس اليهود قائلا : ((ماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح ؟)) مت 32:27 , وهذا سؤال شخصي يجب أن توجهه لنفسك بعد أن عرفت حقيقة شخصية المصلوب , وأن تقرر نهائياً إجابتك على هذا السؤال الخطير ؟!
فما هو قرارك ؟! هل قررت أن تكمل التكفير في شخص المسيح ؟ أو عزمت على أن تفضل عليه شرك وخطاياك ؟ أو قررت أن تقبله في حياتك , وتخصص عمله الفدائي لنفسك ؟
يحدثنا دكتور ((ايرنسيد)) عن جندي من جنود الحرب الأهلية الأمريكية , ساءت أحواله حتى صار يعيش في فقر مدقع لكن السلطات الأمريكية فكرت أن ترسله إلى مزرعة تعول فيها الفقراء , ولما جاء مندوب الحكومة يحمل هذا الخبر للجندي البائس الفقير , رأى على حائط كوخه المهدم ((إطاراً)) !! لم يكن في هذا الإطار صورة , وإنما كان فيه ورقة تشبه ((الشيكات)) وتقدم مندوب الحكومة وانتزع الإطار من على الحائط وأخرج الورقة , وإذ به يجدها ((شيكا)) على الحكومة بإمضاء الرئيس لنكولن ليصرفه ذلك الجندي كمكافأة له على خدمته !! ولما سأل المندوب ذلك الجندي العجوز لماذا احتفظ بهذا الشيك ؟ قال : احتفظت به لأنه يحمل إمضاء أبراهام لنكولن !!! وهنا هتف به المندوب قائلا : أيها الرجل هذه الورقة تحمل لك ثروة ضخمة ومع ذلك فأنت تكتفي بالتطلع إليها كل صباح وتعيش في هذا الفقر المرير !! وصرف الرجل الشيك وعاش بقية حياته في راحة ورغد واستقرار
فهل تكتفي بأن تعلق صليباً في بيتك , أو على صدرك , وتعيش حياة الخطية , والفتور , والجفاف وتموت دون أن تتمتع بما لك من حقوق في الصليب !! أو تسرع إلى الله وتنال غفرانه بالتوبة والإيمان بعمل الفداء العجيب ؟!! إن الصليب هو الحد الفاصل بين الهالكين والمفديين , فعلى أي جانب أنت ؟!