حواء: كيف جربت وسقطت وعوقبت ونهضت؟
أظن أنه ليس من المستحب كثيرًا ونحن نستعرض قصة السقوط أن ندخل في شكليات عقيمة لا جدوى لها : بأية صورة جاءت الحية إلى حواء؟ هل هي ذات الحيوان المعروف لدينا، أم أن هذا صورة ممسوخة عن الأصل القديم؟ وكيف استطاعت أن تتكلم وبأية لغة؟ وإنما يغنينا حقًا أن التجربة قد حدثت وأن المجرب الحقيقي كان الشيطان وأنه سعى إلى المرأة عن طريق الحية، وفي ثوبها، لأن هذا المخلوق أحيل الحيوانات وأصلحها في الإغراء والسقوط. فهو الحيوان الوحيد الذي يؤثر على ضحاياه بتأثير رائع من عينيه، كما أنه يسعى إليها في هدوء ودون جلبة، واذ يدنو منها يقترب إليها في بطء وعلى غرة، وهي لا تعرف من أية جهة يباغتها فهو يدور حولها ويلف كأنما يسعى إليها من كل جانب وهو يصرعها بأية ناحية من جسمه لأنه لا يملك كغيره من الحيوانات سلاحًا خاصًا كقرن أو مخلب أو أنياب وهو يسكن في جحره عدة شهور، ولكنه ما أن يخرج حتي يضحى أكثر من القرد تسلقًا، وأقدر من السمكة سباحة، وأسرع من الغزال عدوًا، وأشد من النمر انقضاضًا!!..
كيف أسقطت الحية حواء؟ هل كشفت لها عن وجه الخطية البشع المريع؟ وهل حدثتها عن التعدي والعصيان والتمرد والموت والهلاك؟ كلا! لقد دثرت كل هذا وأخفته وراء ملمس ناعم ومظهر خلاب وهمست في أذنها بكلمات مداهنة معسولة عن شجرة جميلة وثمرة حلوة وإدراك واتساع كالله في معرفة الخير والشر : «فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر»، «لأن كل واحد يجرب اذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة اذا حبلت تلد خطية والخطية اذا كملت تنتج موتًا» بذا قال الرسول يعقوب وقد سار وراءه، وفي أعقابه الرجل الذي أحسن التأمل في هذه العبارة وكان له من ظروفه الخاصة ومن الأحداث التي تحيط بعصره ما أعانه على تصوير مراحل التجربة تصويرًا دقيقًا بارعًا قال توما الكمبيسي : «أن التجربة تأتي إلينا أولا فكرة غامضة لا نستطيع أن نتبينها، ثم تأخذ هذه الفكرة صورة معنية واضحة مجلوة لا تلبث أن تظهر لها حلاوة ندية غريبة تتساقط قطرة فقطرة على القلب حتى تخدره. ومن ثم تتحول إلى قوة مدمرة تعصف به». كان خطأ حواء أنها أصاخت الأذن، فنظرت فاشتهت فمدت يدها وأثمت، وكان يجمل بها أن تفزع وتهرب... ألا ليتها في تلك الساعة قد ذكرت كلمة الله الأبدية المحذرة بالموت! ألا ليتها وهي تقترب من الشجرة شعرت بالذنب وألم الضمير!! إلا ليتها مدت بصرها حينئذ عبر القرون، ورأت الأجيال الغارقة في الدم والدموع والعار والتعاسة والشقاء! بل ألا ليتها رأت أرهب المناظر وأخلدها عن جبين الدهر، منظر ابن الله الحزين يركع بين أشجار الزيتون وعرقه يتصبب كقطرات دم نازلة على الأرض!! ألا ليتها فعلت هذا! إذن لارتدت مصعوقة عن قطف الثمرة.. لكنها لم تفعل فسقطت وعوقبت، وكان عقابها أشد من عقاب آدم لا لأنها أسبق في التعدي فحسب، بل لأنها قادته إليه، وإن كان ايرانيوس يجتهد كثيرًا أن يذكرنا أن العقاب من حيث الوضع البشري هو أهم ما تتشوق إليه المرأة وتنتظره، فلا أنزع إليها ولا أرغب من ولادة الأولاد والحياة الزوجية : «بالوجع تلدين أولادا وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك» ولكن، ألا نحتاج أن تتذكر أيضًا أن هذا العقاب أضحى فيما بعد تجربة بنات حواء، إن لم تحفظهن عناية الله؟ بل ألا نحتاج أن نقول مع صديقنا هوايت «أيها الأزواج : أيها الشباب الذي تخضع له النساء، ألا ليت الله في عونهن حتى لا يكون عقابهن سبب هلاكهن الأبدي لنصل لنا ولهن بكل حرارة ويقين: «بنفسي أشتهيتك في الليل يا الله... تلذذ بالرب فيعطيك سؤال قلبك.. لأنه تعلق بي أنجيه أرفعه لأنه عرف اسمى. من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي.. أما أنا فالبر أنظر وجهك أشبع اذا استيقظت يشبهك»؟
لم يكن العقاب هو المرحلة النهائية الأخيرة في قصة أمنا حواء وهيهات أن يكون، ووراءها تلك المحبة السرمدية العلية، التي سبقت فأعدت خلاصها، وخلاص بنيها قبل تأسيس العالم، في نسلها العظيم الذي يسحق رأس الحية، هذه المحبة التي طوقتها بالحنان والعطف والجود غداة السقوط فصنعت لها ولزوجها أقمصة من جلد وألبستهما لتغطي عريهما.. ولقد أدركت حواء بعد سقوطها أنها خدعت : «الحية غرتني» ومن ثم كانت شديدة اللهفة والشوق إلى مجيء الولد المخلص الذي أخطأته فظننته قايين يوم قالت: «اقتنيت رجلاً من عند الرب». ولما أنجبت هابيل دعته «البطل» ولعلك تدرك أن هذه التسمية لا تمليها إلا نفس شديدة الحساسية بالندم والحزن والتوبة والإدراك بأن : «كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضي وشهوته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» وإني من أشد الناس إيمانًا وأجزمهم يقينًا أن حواء سعت بكليتها في أيامها الأخيرة إلى هذه المشيئة الحلوة وصنعتها بذا قال موسى في سفر التكوين وقال بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس، وقال ملتون في خياله البديع في الجزء الأخير من الفردوس المفقود.
دعني إذن أغني لحواء ومعها ومع بنيها جميعًا هذه المقطوعة القديمة لمرنم إسرائيل الحلو : «الرب رحيم ورؤوف. طويل الروح وكثير الرحمة لا يحاكم إلى الأبد، ولا يحقد إلى الدهر، لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا، لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفية، كبعد المشرق عن المغرب، أبعد عنا معاصينا، كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن «الإنسان مثل العشب أيامه. كزهر الحقل كذلك يزهر لأن ريحًا تعبر عليه فلا يكون. ولا يعرف موضعه بعد. أما رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه وعدله على بني البنين، لحافظي عهده وذكرى وصاياه ليعملوها».