لقطات من الأبدية
المشهد الأول :
فى خلال الساعات الثلاث على الصليب تكلّم السيد المسيح كلمات كثيرة منها أنه قال للص اليمين "اليوم تكون معى فى الفردوس" (لو23: 43). فى بداية الأمر كان اللص اليمين غاضباً جداً ومتفقاً مع اللص الآخر فى تعيير السيد المسيح. ولكن بمرور الوقت بدأ يتحول من التذمر إلى التوبة.
وكان لابد أن تكتمل هذه الصورة الجميلة التى رسمها السيد المسيح على الجلجثة. اللص اليمين كان خاطئاً تائباً ذهب إلى الفردوس، وأما اللص الشمال فكان خاطئاً لم يتب وذهب إلى الجحيم. كان المشهد كأنه لوحة فنية متكاملة على الجلجثة : فنرى يسوع -ملك البر مخلّص العالم الذى اشترك معنا وحُسِبَ بين البشر وهو الله الكلمة- يقف عن يمينه كل الذين طلبوا الغفران ونالوه،
وعن يساره كل الذين رفضوا التوبة أبدياً. فى يوم استعلان ملكوت الله سنرى نفس مشهد الجلجثة عندما قال إنه "متى جاء إبن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسى مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم من بعض كما يميّز الراعى الخراف من الجداء . فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار" (مت25: 31-33). هذا المشهد كان مجرد لقطة من الأبدية فنرى منظر المجيء الثانى أثناء إتمام الفداء على الصليب.
يقول القداس الإلهى }فيما نحن نصنع ذكر آلامه المقدسة وقيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات وظهوره الثانى المخوف المملوء مجداً..{ من هذه العبارة نعرف أن الكنيسة لا تفصل بين أحداث الخلاص وأحداث المجيء الثانى والأبدية لأن كل هذا هو عمل الله الفادى.
مثلما قيل عن مجيء إيليا النبى قبل مجيء السيد المسيح وهكذا نرى ما دونته الأسفار المقدسة وهى تشرح ارتباط نبوات المجيء الأول بنبوات المجيء الثانى وهكذا كتب القديس متى "سأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغى أن يأتى أولاً. فأجاب يسوع وقال لهم إن إيليا يأتى أولاً ويرد كل شئ. ولكنى أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا" (مت17: 10-12). وفى سفر ملاخى يقول "هأنذا أرسل إليكم إيليا النبى قبل مجيئ يوم الرب اليوم العظيم والمخوف" (مل4: 5). لذلك كلما قابل الكتبة والفريسيون التلاميذ كانوا يقولون لهم إن إيليا لم يأت فليس هذا إذاً هو المسيح. فعندما رأى التلاميذ إيليا على جبل التجلى تذكروا كلام الكتبة والفريسيين وسألوا السيد المسيح لماذا يقول الكتبة والفريسيين "ينبغى لإيليا أن يأتى أولاً" فأجابهم يجب أن تفهموا الكتب.
فالنبوة مزدوجة فحينما قال "يتقدّم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكى يُهيئ للرب شعباً مستعداً" (لو1: 17) كان المقصود بها يوحنا المعمدان، وقد قال السيد المسيح بفمه الطاهر "أن إيليا قد جاء... حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان" (مت17: 12، 13)، إذن النبوة عن مجيئه الأول ولكنها سوف تتحقق أيضاً حرفياً فى مجيئه الثانى. وفى سفر ملاخى ربط أيضاً المجيء الأول بالمجيء الثانى إذ قال "فهوذا يأتى اليوم المتقِّد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلى الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتى قال رب الجنود فلا يُبقى لهم أصلاً ولا فرعاً" (مل4: 1).
المشهد الثانى :
وهو لوحة أخرى جميلة رسمتها العناية الإلهية أثناء أحداث الصلب : عندما خرج بيلاطس البنطى الحاكم الرومانى ليقف فى المنتصف والسيد المسيح من جهة وباراباس من الجهة الأخرى. وراء هذا المشهد معنى رهيب، فهو ليس وليد الصدفة. فبيلاطس يعتبر مجرد رمز للعدل لإنه يمثّل الحكم فى الإمبراطورية الرومانية وهو يقف فى المنتصف، وملك البر - السيد المسيح آدم الثانى- يقف من ناحية، وباراباس -المجرم والعاتى فى الشر الذى يمثل آدم العتيق- يقف من الناحية الأخرى.
فى قصة الخلاص لابد أن يموت أحدهما، إذ كان لابد من الإختيار بين الإثنين. طلب الشعب أن يطلق باراباس ولكن ما وراء الأحداث فى قصة الخلاص هو أنه كان لابد أن يُحكم على الرب بالموت لكى يفلت الأثيم الفاجر (الذى يمثل الإنسان الخاطىء) من الهلاك الأبدى.
جلسة محاكمة السيد المسيح كانت عجيبة جداً، فهى أعجب محاكمة فى تاريخ البشرية كلها. هل حدث فى التاريخ كله أن القاضى يحكم فى نفس الجلسة على الشخص بالبراءة والإعدام فى نفس الوقت؟
وبعدما حكم بالإعدام "غسل يديه قدام الجمع قائلاً إنى برئ من دم هذا البار" (مت27 :24). لو قُدّر لأحد أن تنكشف عن عينيه ورأى الذين فى الجحيم أو جهنم الأبدية، سيجد بيلاطس مازال يغسل يديه، ويداه ملآنة دماء ولن تُغسل إلى الأبد لأن هذه الجريمة لا يغسلها ماء بل كانت تغسلها التوبة أو التراجع عن الشر. وكأن القاضى نطق الحكم ]حكمت المحكمة ببراءة فلان وإعدامه صلباً[. فالسيد المسيح برئ من جهة بره الشخصى، ويحسب خاطئاً لأن الآب وضع عليه إثم جميعنا حسبما هو مكتوب "جَعَلَ الذى لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه" (2كو5: 21).
المشهد الثالث :
فى سفر الأعمال عندما يتكلَّم عن حلول الروح القدس فى يوم الخمسين يقول على فم يوئيل النبى : "أسكب روحى على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى. وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحى فى تلك الأيام . وأُعطى عجائب فى السماء والأرض دماً وناراً وأعمدة دُخان. تتحوَّل الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجئ يوم الرب العظيم المخوف" (يؤ2: 28-31). وهنا يربط بين أحداث يوم الخمسين وأحداث نهاية العالم. ف
تحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم والشهير، المقصود بها هنا هو المجيء الثانى. لكن على الصليب اظلمّت الشمس أيضاً... إذن ارتبط مشهد الجلجثة بمشهد نهاية العالم. فلولا مراحم الله لإنتهى العالم يوم صلب المسيح لأنه كيف تتجاسر البشرية بأن تصلب ابن الله الوحيد. لكننا نقول فى المزمور "هذا هو اليوم الذى صنعه الرب فلنبتهج ونفرح فيه" (مز118: 24) وهو يوم الرب العظيم المخوف.
عندما تكلَّم السيد المسيح عن نهاية العالم قال "تظلم الشمس والقمر لا يعطى ضوءه والنجوم تسقط من السماء" (مت24: 29) فموضوع "تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم المخوف ويكون كل من يدعو بإسم الرب ينجو" (يؤ2 :31-32) إشارة إلى المجيء الثانى أيضاً.
كل هذا الربط بين الأحداث والنبوات لا يمكن حدوثه إلا بصلب السيد المسيح ثلاث ساعات، لكى تتم كل هذه الأحداث وهو مُعلَّق على الصليب.