الإيمان المسيحي
بين التقليد والتحديث
الأب سامي حلاّق اليسوعي
تثير كلمة تقليد حفيظة الناس، وتحثّهم على اتّخاذ مواقف تجاهها بين مؤيّد ومعارض. فكثير من الناس يعرفون كلمة تقليد ويقولون إنّها تخصّ أشياء قديمة متوارثة يجب، أو لا يجب، المحافظة عليها. لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة ولا هذه السهولة. ما الّذي نقصده، في التعابير المسيحيّة، بكلمة تقليد؟ وما هو موقفنا تجاهه؟
ما هو التقليد ؟
هناك حقيقة راسخة في الإيمان المسيحيّ هي أنّ الإيمان يعتمد على مصدرين: الكتاب المقدّس وتقليد الكنيسة. من هذا التعريف نلاحظ أنّ التقليد ليس فقط مجموعة من العادات والحركات والممارسات الّتي يقوم بها الإنسان تعبيراً عن انتمائه إلى جماعةٍ معيّنة، بل أعمق من هذا بكثير. التقليد والكتاب المقدّس موضوعان على مستوى واحد. فكما لا يمكننا تغيير نصوص الكتاب المقدّس، لا يمكننا تغيير التقليد. ومع ذلك، ليس التقليد، كما الكتاب المقدّس، أمراً جامداً. إنّه حيويّة وحياة. ومَن يقول حياة، يقول نموّ وتغيير. فكيف يكون ذلك؟
التقليد يشبه الكنيسة. له بعدان: إلهي وإنساني. إنّه على صورة المسيح في هذا الأمر، والمسيح منبعه وأساسه وعماده. فالتقليد إذاً أبديّ سرمديّ في هيئته الإلهيّة، ثابت لا يتغيّر ولا يمسّه الزمن بفساد لأنّه جزء من الوحي الإلهي بالمسيح، وهو استمراريّته الحيّة عبر الزمان والمكان. لكنّه في بعده البشريّ، أيّ البعد الّذي يمكّننا من استيعابه، مدعوّ إلى أن يتطوّر ويتحوّل ويتأقلم مع الظروف الجديدة الّتي يواجهها.
هناك إذاً بعدان للتقليد، أو مستويان، ومن الضروري التمييز بينهما. الواحد منهما ثابت والآخر متحوِّل. الواحد إلهيّ والآخر بشريّ. فالعقائد الكنسيّة كعقيدة الثالوث أو التجسّد أو الفداء والأسرار الكنسيّة هي تقليد ملهم من الروح القدس لا يمكننا المساومة فيه بأيّ شكلٍ من الأشكال، كأن نقول إنّ يسوع بشرٌ مثلنا لا أكثر، حتّى وإن كان في هذا القول حلّ ظاهريّ لمشكلةٍ قائمة بيننا وبين الديانات الأخرى. أمّا أسلوب الصيام وأوقاته كما أساليب الاحتفال بالرتب الليترجيّة، فهي من التقاليد البشريّة الّتي يمكننا تطويرها.
فكما أنّ الكنيسة هي في العالم وخارج العالم، تاريخيّة وأبديّة، فإنّ التقليد يتطوّر ويتحوّل عبر التاريخ، ويظلّ هو هو في جوهره. فمن واجب الإنسا الّذي يعيش في الحاضر أن يأوّنه.
ما يكوّن الإنسان، سواء على المستوى البيولوجي أو الثقافي، قد فُرِضَ عليه فرضاً بسبب ظروف ولادته وبيئته وتربيته، وعليه أن يعرف هذا ويقبله كعطيّة من الله. لكنّ هذه الخصوصيّة تختلف من جيلٍ إلى جيل، وعلى التقليد أن يتأقلم معها. فالروح القدس لا يتحدّد بأيّ شيءٍ بشريّ.
إنّ التقليد هو مثل الحياة الروحيّة، يخصّ الإنسان الحر القادر على التمييز. فإذا انحصر الأمر في نسخ الاستعمالات السابقة والعادات القديمة، يكون التقليد ميّتاً وموجّهاً إلى أموات. ولأنّ شريعة الروح شريعة حرّيّة، يعرض التقليد على الإنسان أمثلة الأجداد. وعلى هذا الإنسان أن يستقبل هذه الأمثلة، وأن يظلّ كما هو. بهذه الطريقة، يدخل التقليد في حوار عبر الزمن. حوار قوامه الوفاء والاستقلاليّة، وبنيته الشراكة والاختلاف، حيث يميّز الإنسان في الروح القدس ما ينبغي الحفاظ عليه وقبوله، وما يمكنه أن يتطوّر حين تتغيّر ظروف الحياة التاريخيّة. ووظيفة الكنيسة، المؤتمنة على التقليد، ليست أن تفرض وجهات نظرها على التاريخ، بل أن تعلن ملكوت الله لعالمٍ ساقط كي ينال البشرى ويقبلها بحرّيّة. فالأمر الوحيد الهامّ في الكنيسة هو ملء الحياة في الروح القدس. لقد وضع آباؤنا أسس التقليد. ويتوجّب علينا أن نستقبل تعاليمهم بروح تواضع وطاعة للكنيسة، وبالإيمان والانفتاح.
التقليد هو أيضاً حقيقة مكتسبة يجب قبولها كما هي. فعقائد الإيمان الّتي حدّدها الآباء بإلهامٍ من الروح القدس في أثناء المجامع المسكونيّة تؤلّف الأسس الراسخة للتقليد. فيجب إذاً استقبالها بحرّيّة لكي نعيش منها في نفس إلهام الروح القدس، ولا يمكننا تعديلها عشوائيّاً. قد يمكننا إعادة صياغتها أو تعميق مفاهيمها. لكنّ الحقيقة الّتي تحتويها لا تُمَس. هذا ما يهب التقليد قوامه وبنيته الصلبة، ويحميه من الانحلال أو الضمور عبر الزمن.
نحن والتقليد
يعرّف الأب جوزيف موان التقليد ويقول: "التقليد الأساسي هو نقل الإيمان نحو الأمام لا نحو الوراء." من هذا التعريف نستنتج أمرين:
1- إنّ كلمة تقليد لا تعني التكرار، بل النقل. المربّي ينقل التقليد إلى المتربّي. إنّه ينقل التقليد الّذي ورثه، تماماً كما فعل القدّيس بولس: "سلّمتكم ما تسلّمته" (1كو 11/22). ولا يمكن للمادّة المنقولة أن تصل إلى مآلها من دون تغيير أو تعديل إلاّ إذا كان الناقل ميتاً. جسم لا طاقة فيه ولا حيويّة ولا حياة. حين ننقل خمراً في زقٍّ فخّاريّ، تهب الخمر الفخّار شيئاً من خواصّها وتنال منه شيئاً من خواصّه. هكذا يكون حال المربّي، وكلّ إنسان، حين ينقل التقليد إلى غيره. إنّه لا يستطيع أن ينقله كما هو إلاّ إذا كان ميتاً، عديم الروح. ينقله كآلة تسجيل. جلّ ما يمكنه أن يضيفه هو بعض التشويش.
إذاً، وخلافاً لما يعتقده بعض الناس، لا يمكن نقل التقليد من دون تغيير. من دون إضافاتٍ أو حذف، من دون إبرازٍ لناحية وإخفاءٍ لأخرى. ولحياة الناقل الروحيّة دورٌ كبير في أن يكون النقل تشويشاً أو تحسيناً. الخمر المعتّقة في زقٍّ من خشب السنديان أجود بكثير من المحفوظة في زجاج.
2- على النقل أن يتمّ نحو الأمام. عليه أن يساعد الإنسان على العيش هنا والآن بحسب إرادة الله. وليس هذا فقط، بل عليه أن يعدّه لمواجهة صعاب الدنيا الّتي ستعترضه مستقبلاً. فصغير اليوم هو شابّ المستقبل. والتقليد الّذي أنقله إليه هو وسيلة خلاص لحياته لا لحياة مَن سبقوه. لذلك على التقليد المنقول أن يقرأ علامات الأزمنة، وأن يمارس الناقل دوراً نبويّاً، فيعلن مشيئة الله هنا والآن انطلاقاً من الأزمنة المعاصرة، لا بعيداً عنها، أو انطلاقاً من الأزمنة الغابرة.
يقول البابا يوحنّا بولس الثاني في رسالته "الإيمان والعقل" إنّ ما ينقص التقليد هو قليل من اللحم. ينقصه فكر العالم. على الإيمان أن يتخلّى عن مركزيّته وألاّ يكتفي بأن يفكّر انطلاقاً من نفسه، بل أن يتعلّم كيف ينظر إلى الخارج، ويفكّر في العالم والتاريخ، ويحكم فيما يحدث للناس أو يهدّدهم، ويفكّر في أمور الحياة.
التقليد وخبرة الإيمان
لم يوضع التقليد بطريقةٍ عشوائيّة، ولا بدافع نزوةٍ استولت على بعض آباء الكنيسة. بل هو ثمرة نضجٍ وحياةٍ روحيّة، وتأمّلٍ عميق بكلام الكتاب المقدّس وتعاليم السيّد المسيح. فنقل التقليد، مع التعديلات الّتي تطرأ عليه من جرّاء هذا النقل، والّتي رأينا أنّه لا بدّ منها إذا كان الناقل حيّاً روحانيّاً، يتطلّب خبرةً إيمانيّة. والتعديل فيه يتطلّب هذه الخبرة بإلحاحٍ أشد، بحيث يجعلنا التعديل أقرب إلى الحقيقة الملهمة، ويساعدنا على استيعابها بوجهٍ أفضل. وعلى هذا أضرب مثَلَين من التاريخ:
لوثر، الّذي أطلق شرارة الإصلاح البروتستانتي، كان راهباً صالحاً. لكنّ سؤالاً هامّاً كان يعتريه: ما الّذي يبرهن لي أنّني سأخلص؟ وظلّ يبحث في هذا السؤال حتّى وجد الجواب في الرسالة إلى أهل رومة: الإيمان هو الّذي يخلّص لا الأعمال. لقد وجد قناعته بعيداً عن التقليد، لكنّ اختباره يعتمد على الكتاب المقدّس. فاكتشف جانباً من الحقيقة، كان غامضاً عن عيون التقليديّين المقلّدين. لكنّه ارتكب خطأً فادحاً في طرح التقليد جانباً، ومناداته بالكتاب المقدّس وحده.
وفي العصر نفسه، وجد إغناطيوس دي لويولا جواباً آخر. ففي خبرته الروحيّة، اكتشف أنّ مفتاح الحياة المسيحيّة الحقيقيّة يكمن في اختبار العلاقة مع الله اختباراً شخصيّاً. فسعى إلى مساعدة النفوس بجعلها تختبر الله بوساطة الرياضات الروحيّة الّتي اقترحها. ومن خلال هذه الرياضات، إكتشف غنى التقليد وجوهره، فمدح فيه وقال إنّ الجماعة لا تستطيع أن تعيش من دون الاستناد إلى تاريخ. لكنّه مثل لوثر، آمن أنّ الإيمان يتكوّن وينمو انطلاقاً من الخبرة لا النقل. لذلك دعا إلى الاختيار في ممارسة الأصوام والعبادات التقويّة، والتحفّظ في البتّ بأمور الإيمان ما لم يكن المرء متواضعاً وملمّاً بالمسألة وتاريخها وتطوّرها.
إنّ التقليد لا ينفي العقل بل يتطلّبه. وناقل التقليد الّذي لا يستعمل عقله في عمليّة النقل يشوّه ما ينقله ويحرّفه. فآباء الكنيسة، الّذين وضعوا لنا هذا التقليد، اعتمدوا في بحثهم وجدالاتهم على ثلاثة أسس: الكتاب المقدّس، العقل والحياة الروحيّة الّتي كانوا يعيشونها. إلاّ أنّ الكنيسة، ويا للأسف، مرّت بفترات انحطاطٍ فكري، فكانت غالبيّة المؤلّفات تكراراً لما قيل من قبل، ومن هؤلاء ورثنا الخوف من تشغيل العقل، والحرص على عدم المساس بأبعاد التقليد البشريّة، معتبرين إيّاها إلهيّة. فتجمّدت الحياة الروحيّة، وابتعدت عن الإنسان، ودعته في بعض الأحيان إلى أن يتنكّر لإنسانيّته كي يتبعها. وقُدِّمَ التقليد للناس بصورةٍ مخالفة تماماً لصورة تجسّد الابن الّذي كان على التقليد أن يعكسها.
بالعقل نستطيع أن نعيد صياغة لغة إيماننا من دون أن نمسّ بالجوهر. بالعقل نستطيع أن نجعل البشارة الجديدة تُظهِر البشارة القديمة بأحلى تعابيرها.
والعقل لا يعني عدم قبول أيّ شيء ما لم يُستوعَب، ولا يعني نفي الإيمان، بل يعني السعي الحثيث والدؤوب لتفحّص الكتب والنهل منها وإغناء تراث الكنيسة وتقليدها.
لقد عنونّا حديثنا بـ "إيمان الكنيسة بين التقليد والتحديث". وبين التقليد والتحديث يكمن الإيمان الّذي يتجلّى في الحياة الروحيّة الملتزمة، والعقل المنار بوحي الروح القدس، والتواضع في خدمة الكلمة