إن أوّل صفة نُطلقها على الله في قانون الايمان هي أنّه أب. إنه أب قبل أن يكون ضابطاً للكل أو خالقاً. وهو يضبط الكل ويخلق انطلاقاً من طبيعته الأزليّة، طبيعة الأب. والأب في جميع الثقافات هو المسؤول عن عيش الأسرة. إنّه يؤمّن لها ما تقتات به. ويصف يسوع الأب البشريّ ويقول إنّه يُعطي الهبات الحسنة لأولاده: الخبز والسمك والبيض. ولا يُعطي أبداً ما هو رديء كالحجر والحيّة والعقرب (لو11/11). فإذا كان الأب البشريّ يتصرّف على هذا النحو، ألا يتصرّف بطريقةٍ أسمى مَن تأخذ منه كلّ أبوّةٍ معناها وجوهرها؟ لهذا السبب نقول في الصلاة التّي تختصر جميع الصلوات: أبانا ... أعطنا خبزنا كفاف يومنا. وعلى هذا الأساس أيضاً، يُعلن يسوع على الملأ في عظته على الجبل: "لا تهتموا فتقولوا: ماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟ وماذا نلبس؟ ... أبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا كلّه ... لا يهمّكم أمر الغد، فالغد يهتّم بنفسه" (متى 6/31-34).
إنّ هذا النصّ يثير الجدل والتساؤل بمقدار ما تثيره عبارة: "مَن لطمكَ على خدّك الأيمن فاعرض له الآخر" (متى5/39). كيف لا نهتمّ للغد وآلاف الأطفال يموتون جوعاً وعشرات الآلاف يجور عليهم الزمن، فيعيشون في ظروف لا إنسانيّة، ويفعلون أبشع الشرور؟ كيف لا نهتمّ للغد ومئات الآلاف من الأُسَر تفلِسُ نتيجة التكاليف الباهظة لعلاج أحد أفرادها ...
يقول بعضهم: علينا ألاّ نفهم كلام المسيح هذا حرفيّاً. كيف نفهمه إذاً؟ فما نراه، ما نلمسه، ما نختبره واضح بيّن: إنّ الله الآب يترك الحبل على الغارب. إنّه يترك الأمور تسير على هواها، ولا يتدخّل لعمل المستحيل. صحيح أنّ الناس يكلّمونا على معجزاتٍ تحدث هنا وهناك، ولكنّها تحدث دوماً للآخرين وتُحبَسُ عناّ مع أننّا في أمسّ الحاجة إليها؟ قد يكون الله أباً، لكنّنا نشعر في محنة الألم أنّه تركنا، كما ترك البنه الوحيد يُصلَب. فما اختبره يسوع من ترك الأب يختبره كلّ إنسان، في الماضي أو في الحاضر. وخير برهانٍ على ذلك هو صراخ العبرانيّين في بلاد السبي. والمزامير تنقل لنا صدى هذا الصراخ بأمانةٍ:
"قد كان لي دمعي خبزاً نهاراً وليلاً، إذ قيل لي طول يومي: أينَ إلهكَ؟" ... أقول لله صخرتي: لماذا نسيتني. ولماذا أسير بالحداد من مضايقة العدوّ؟ عند ترضّض عظامي عيّرني مضايقيّ بقولهم لي النهار كلّه: أينّ إلهك؟" (مز 42)