أسبوع الآلام
البابا شنودة الثالث
أسبوع الآلام هو أقدس أيام السنة, وأكثرها روحانية….
هو أسبوع مملوء بالذكريات المقدسة في أخطر مرحلة من مراحل الخلاص, وأهم فصل في قصة الفداء.
وقد اختارت الكنيسة لهذا الأسبوع قراءات معينة من العهدين القديم والحديث, كلها مشاعر وأحاسيس مؤثرة للغاية توضح علاقة الله بالبشر. كما اختارت له مجموعة من الألحان العميقة, ومن التأملات والتفاسير الروحية.
ويسمونه أسبوع الآلام, أو أسبوع البصخة المقدس, أو الأسبوع المقدس.
ففي اللغة الإنجليزية يقولون عنه The Holy Week (الأسبوع المقدس), وكل يوم فيه هو أقدس يوم بالنسبة إلى أسمه في السنة كلها. فيوم الخميس مثلًا يسمونه The Holy Thursday أي الخميس المقدس. ويوم الجمعة يسمونه The Holy Friday أي الجمعة المقدسة, وهكذا…
كان هذا الأسبوع مكرسًا كله للعبادة, يتفرغ فيه الناس من جميع أعمالهم, ويجتمعون في الكنائس طوال الوقت للصلاة والتأمل.
كانوا يأخذون عطلة من أعمالهم, ليتفرغوا للرب ولتلك الذكريات المقدسة. ولا يعملون عملًا على الإطلاق سوى المواظبة على الكنيسة والسهر فيها للصلاة, والاستماع إلى الألحان العميقة والقراءات المقدسة…. منقول من موقع كنيسة الأنبا تكلا
ما أكثر الناس الذين يأخذون عطلة في الأعياد والأفراح, وفي قضاء مشاغلهم. ولكن ما أجمل أن نأخذ عطلة لنقضيها مع الله في الكنيسة
الملوك والأباطرة المسيحيون كانوا يمنحون عطلة في هذا الأسبوع.
كانوا يمنحون جميع الموظفين في الدولة عطلة ليتفرغوا للعبادة في الكنيسة خلال أسبوع الآلام. وقيل إن الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير كان يطلق الأسرى والمساجين في هذا الأسبوع المقدس ليشتركوا مع باقي المؤمنين في العبادة, لأجل روحياتهم وتكوين علاقة لهم مع الله. ولعل ذلك يكون تهذيبًا لهم وإصلاحًا.
وكان السادة أيضًا يمنحون عبيدهم عطلة للعبادة. فإن كان الوحي الإلهي قد قال عن اليوم المقدس "عملًا من الأعمال لا تعمل فيه", فإنه قال أيضًا "لا تصنع عملًا ما, أنت وابنك وابنتك, وعبدك وأمتك وبهيمتك, ونزيلك الذي داخل أبوابك" (خر10:20). حقًا إن عبدك وأمتك لهما أيضًا حق في أن يعبدا الله مثلك, وأن يشتركا في قدسية تلك الأيام. من حق الخدم أن يتفرغوا أيضًا من أعمالهم لعبادة الرب. وهكذا حتى في أعمق أيام الرق, لم تسمح الكنيسة بأن تكون روحيات السادة مبنية على حرمان العبيد. بل الكل للرب, يعبدونه معًا ويتمتعون معًا بعمق هذا الأسبوع وتأثيره ……وقوانين الرسل -في أيام الرق- كانت تحتم أن يأخذ العبيد أسبوع عطلة في البصخة المقدسة, وأسبوعًا آخر بمناسبة القيامة.
فهل أنت تعطل خدمك وموظفيك خلال أسبوع الآلام؟؟
ومن المعروف طبعًا, أن الناس إن تفرغوا للعبادة في هذا الأسبوع, وعاشوا خلاله في نسك, فسوف لا يحتاجون إلى خدم يخدمونهم.
وكانت مظاهر الحزن واضحة تمامًا في الكنيسة.
أعمدة الكنيسة ملفوفة بالسواد. الأيقونات أيضًا مجللة بالسواد. وكذلك المانجليا, وبعض جدران الكنيسة …… الألحان حزينة, والقراءات عن الآلام وأحداث هذا الأسبوع. المؤمنون جميعًا بعيدون عن كل مظاهر الفرح. السيدات تحرم عليهن الزينة خلال هذا الأسبوع. فلا يلبسن الحُلى, ولا يتجملن, ولا يظهر شيء من ذلك في ملابسهن….الحفلات طبعًا كلها ملغاة. الكنيسة كلها في حزن, وفي شركة الآم المسيح.
فهل نحن نحتفظ بهذا الحزن المقدس خلال هذا الأسبوع؟؟؟
أو على الأقل هل نحتفظ بوقارنا فيه؟؟ أم نحن نقضى أوقات كثيرة منه في عبث ومرح ولهو. ونكون خارج الكنيسة في وضع يختلف عن وضعنا داخل الكنيسة؟؟!!
وكانت الكنيسة في هذا الأسبوع تعيش في نسك شديد.
بعض النساك كانوا يطوون الأسبوع كله. أو يطوون ثلاثة أيام ويأكلون أكلة واحدة. ثم يطوون الثلاثة أيام الباقية. وكثير من المؤمنين كانوا لا يأكلون شيئًا من الخميس مساءًا حتى قداس العيد. وغالبيتهم كانوا لا يأكلون في أسبوع الآلام سوى الخبز والملح فقط وإن لم يستطيعوا, فالخبز والدقة. أما الضعفاء, فعلى الأقل كانوا لا يأكلون شيئًا حلو المذاق من الطعام الصيامي كالحلوى والمربى والعسل مثلًا. لأنه لا يليق بهم أن يأكلوا شيئًا حلوًا وهم يتذكرون آلام الرب لأجلهم. كما كانوا لا
يأكلون طعاما مطبوخًا. بسبب النسك من جهة, ولكي لا يشغلهم إعداد الطعام عن العبادة من جهة أخرى. وفي كل هذا النسك كانوا يذكرون آلام السيد المسيح.
غالبية الأسرار كانت تعطل ما عدا سرى الاعتراف والكهنوت.
ما كانوا يمارسون المعمودية ولا الميرون في أسبوع الآلام, وما كان يرفع بخور ولا تقام قداسات, إلا يوم خميس العهد وسبت النور. وطبعًا من الاستحالة ممارسة سر الزواج. أما سر مسحة المرضى, فكانت تقام صلواته في جمعة ختام الصوم, قبل أسبوع الآلام. كذلك لم تكن تقام صلوات تجنيز في هذا الأسبوع. ومن ينتقل فيه لا يرفع عليه بخور, بل يدخل جثمانه إلى الكنيسة ويحضر صلوات البصخة, ويقرأ عليه التحليل مع صلاة خاصة.
وصلوات الأجبية كانت تعطل في أسبوع الآلام.
ويستعاض عنها بتسبحة البصخة. وذلك لأن صلوات الأجبية تقدم لنا مناسبات متعددة, ونحن نريد أن نتفرغ لآلام المسيح فقط….فمثلا صلاة باكر, نتذكر فيها ميلاد المسيح, وصلاة نصف الليل نتذكر فيها مجيئه الثاني, وصلاة الساعة الثالثة نتذكر فيها حلول الروح القدس….ونحن نريد في هذا الأسبوع أن نركز على آلام المسيح فقط. وحتى صلاة الساعة السادسة التي تذكرنا بصلبه, وصلاة الساعة التاسعة التي تذكرنا بموته, نؤجلها إلى يوم الجمعة الكبيرة, لأننا نريد أن نتتبع المسيح في هذا الأسبوع خطوة خطوة.
ومن جهة المزامير ننتقى منها في هذا الأسبوع ما يناسب.
ونترك باقي مزامير التي تشمل معاني كثيرة غير الآلام وغير أحداث هذا الأسبوع المقدس.
لماذا سمى هذا الأسبوع بأسبوع البصخة؟؟
كلمة بصخة معناها فصح ومأخوذة من قول الرب في قصة الفصح الأول "لما أرى الدم, أعبر عنكم" (خر 13:12). كانت النجاة بواسطة الدم في يوم الفصح الأول. والفصح يرمز إلى السيد المسيح "لأن فصحنا أيضًا المسيح قد ذبح لأجلنا" (1 كو 5). ونحن في هذا الأسبوع نذكر الآم السيد المسيح الذي قدم نفسه فصحًا لأجلنا, لكي حينما يرى الآب دم هذا الفصح يعبر عنا سيف المهلك, فلا نهلك. نتذكر أن دمه كان عوضًا عنا. وأنه لا خلاص إلا بهذا الدم, كما حدث يوم الفصح الأول (خر 12).
إنها أيام مقدسة
أيام البصخة هي أيام مقدسة, أو هي أقدس أيام السنة. فما الذي نقصده بأنها أيام مقدسة؟؟
المفروض طبعًا أن كل أيام حياتنا مقدسة….
وفى كل يوم يمر علينا، نصلى في صلاة الشكر قائلين: "احفظنا في هذا اليوم المقدس وكل أيام حياتنا بكل سلام….". نقول هذا في كل يوم من أيام حياتنا، لأن حياتنا التي أشتراها الرب بدمه، أصبحت حياة مقدسة، قدسها الرب بهذا الدم. ومع ذلك
لا ننكر أن هناك أيامًا مقدسة أكثر من غيرها…..
ولعل أول إشارة لذلك هي تقديس يوم للرب كل أسبوع. وعن ذلك يقول الكتاب في قصة الخليقة: "وبارك الرب اليوم السابع وقدسه" (تك3:2). ثم أمر الإنسان قائلًا: "أحفظ يوم السبت لتقدسه" (تث 12:5).
أنه يوم الرب، يوم مقدس
صورة في موقع الأنبا تكلا: خريطة كنز أسبوع الآلام، من كنيسة مارمرقس بشبرا
يوم باركه الرب وقدسه, وطلب إلينا أيضًا أن نقدسه…. يسمونه في اليونانية (كيرياكى) أي الخاص بالرب، أي يوم الرب…. هو يوم مخصص للرب، لا نعمل فيه عملًا من الأعمال حسب الوصية. وكذلك في كل الأيام المقدسة التي أشار إليها الرب (لا 23).
أنها أيام لها قداسة غير عادية، ليست كباقي الأيام.
الحياة كلها مقدسة. ولكن أيام الرب لها قداسة غير عادية، تفوق قداسة باقي الأيام. لأنها مخصصة للرب. وهناك أوقات لها قدسية خاصة، لاعتبارات روحية معينة. فمع أن الحياة كلها مقدسة، لكن
أوقات الصلاة مثلًا, أوقات التأمل، أوقات الرؤى والاستعلانات…. هي أوقات لها قدسية من نوع خاص غير عادى….
وهناك أيام مقدسة في حياة كل إنسان.
فاليوم الذي ظهر فيه الرب لشاول الطرسوسي (أع 9)، هو يوم له قدسية خاصة. واليوم الذي رأى فيه القديس يوحنا الحبيب رؤياه التي سجلها في سفر خاص، هو أيضًا يوم له قدسية خاصة. وأيام الأعياد كذلك لها قدسيتها. وكذلك أيام الصوم هي أيام غير عادية. وإن كانت أيام الصوم الكبير هي أقدس أيام السنة، وأسبوع البصخة هو أقدس أيام الصوم الكبير، يمكننا إذن أن نقول:
إن أسبوع البصخة هو أقدس أيام السنة.
الصوم فيه في أعلى درجات النسك أكثر من أي صوم آخر. والعبادة فيه على مستوى أعمق، حيث يجتمع المؤمنون معًا في الكنيسة طوال الأسبوع يرفعون الصلوات بروح واحدة، ويستمعون إلى قراءات منتخبة من العهدين القديم والجديد، مع ألحان لها تأثير خاص، وطقس كنسي ينفرد به هذا الأسبوع المقدس. وذكريات هذا الأسبوع عميقة في تأثيرها، نتبع فيها السيد المسيح خطوة خطوة، ونحن نرتل له تسبحة البصخة المعروفة "لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين، يا عمانوئيل إلهنا وملكنا".
والمشاعر الروحية في هذا الأسبوع، لها عمقها الخاص.
الناس يكونون فيه أكثر حرصًا وتدقيقًا وجدية، وأكثر تفرغًا لله. طبعًا التفرغ الكامل هو الوضع الأساسي. فإن لم يتوفر، يتفرغ الإنسان على قدر إمكانه، ويعطى الوقت لله….
إنه أسبوع ندخل فيه في شركة الآم المسيح.
نضع أمامنا كل آلامه من أجلنا، في انسحاق قلب، وفي توبة صادقة، لكي نستعد للتناول في يوم الخميس الكبير، اليوم الذي أعطى فيه الرب عهده المقدس لتلاميذه الأطهار، وأسس هذا السر العظيم…..