رجل الحرب يسترخى تحت ضغط
دخل داود وجيشه في حروب كثيرة مع الفلسطينيين الذين كانوا وثنيين، وقد تعرض داود فيها للقتل.. يقول الكتاب: "وَكَانَتْ أَيْضاً حَرْبٌ بَيْنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَإِسْرَائِيلَ، فَانْحَدَرَ دَاوُدُ وَعَبِيدُهُ مَعَهُ وَحَارَبُوا الْفِلِسْطِينِيِّينَ، فَأَعْيَا دَاوُدُ. وَيِشْبِي بَنُوبُ الَّذِي مِنْ أَوْلاَدِ رَافَا، وَوَزْنُ رُمْحِهِ ثَلاَثُ مِئَةِ شَاقِلِ نُحَاسٍ وَقَدْ تَقَلَّدَ جَدِيداً، افْتَكَرَ أَنْ يَقْتُلَ دَاوُدَ. فَأَنْجَدَهُ أَبِيشَايُ ابْنُ صَرُويَةَ فَضرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ وَقَتَلَهُ. حِينَئِذٍ حَلَفَ رِجَالُ دَاوُدَ لَهُ قَائِلِينَ: لاَ تَخْرُجُ أَيْضاً مَعَنَا إِلَى الْحَرْبِ، وَلاَ تُطْفِئُ سِرَاجَ إِسْرَائِيلَ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ أَيْضاً حَرْبٌ فِي جُوبَ مَعَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. حِينَئِذٍ سَبْكَايُ الْحُوشِيُّ قَتَلَ سَافَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَوْلاَدِ رَافَا.ثُمَّ كَانَتْ أَيْضاً حَرْبٌ فِي جُوبَ مَعَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. فَأَلْحَانَانُ بْنُ يَعْرِي أُرَجِيمَ الْبَيْتَلَحْمِيُّ قَتَلَ جُلْيَاتَ الْجَتِّيَّ(1)، وَكَانَتْ قَنَاةُ رُمْحِهِ كَنَوْلِ النَّسَّاجِينَ.
وَكَانَتْ أَيْضاً حَرْبٌ فِي جَتَّ، وَكَانَ رَجُلٌ طَوِيلَ الْقَامَةِ أَصَابِعُ كُلٍّ مِنْ يَدَيْهِ سِتٌّ، وَأَصَابِعُ كُلٍّ مِنْ رِجْلَيْهِ سِتٌّ عَدَدُهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ وَهُوَ أَيْضاً وُلِدَ لِرَافَا.وَلَمَّا عَيَّرَ إِسْرَائِيلَ ضَرَبَهُ يُونَاثَانُ بْنُ شَمعي أَخِي دَاوُدَ.هَؤُلاَءِ الأَرْبَعَةُ وُلِدُوا لِرَافَا فِي جَتَّ وَسَقَطُوا بِيَدِ دَاوُدَ وَبِيَدِ عَبِيدِهِ" (2صم21: 15-22).
كل هذه الحروب وإن كان الكتاب قد لخصها في آخر سفر صموئيل الثاني إلا أنها قد حدثت قبل الحرب مع بني عمون كما هو موضح في سفر أخبار الأيام الأول إذ ذُكرت هذه الحروب مع الفلسطينيين في الأصحاح الثامن عشر: "وَبَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبَ دَاوُدُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَذَلَّلَهُمْ، وَأَخَذَ جَتَّ وَقُرَاهَا مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ" (1أى18: 1)، ثم ذُكرت الحرب مع بني عمون في الأصحاح العشرين "وَكَانَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْمُلُوكِ اقْتَادَ يُوآبُقُوَّةَ الْجَيْشِ وَأَخْرَبَ أَرْضَ بَنِي عَمُّونَ وَأَتَى وَحَاصَرَ رَبَّةَ. وَكَانَ دَاوُدُ مُقِيماً فِي أُورُشَلِيمَ. فَضَرَبَ يُوآبُ رَبَّةَ وَهَدَمَهَا" (1أى20: 1)، تلك الحرب التي سمع داود لنصيحة رجاله الذين قالوا له: "لاَ تَخْرُجُ أَيْضاً مَعَنَا إِلَى الْحَرْبِ، وَلاَ تُطْفِئُ سِرَاجَ إِسْرَائِيلَ" (2صم21: 17)، وبقى في قصره.
"وَكَانَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْمُلُوكِ أَنَّ دَاوُدَ أَرْسَلَ يُوآبَ وَعَبِيدَهُ مَعَهُ وَجَمِيعَ إِسْرَائِيلَ، فَأَخْرَبُوا بَنِي عَمُّونَ وَحَاصَرُوا رَبَّةَ. وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَقَامَ فِي أُورُشَلِيمَ" (2صم11: 1).
ولأول مرة منذ أن مُسِح داود إلى ذلك اليوم أي على مدى ثلاثين سنة؛ من يوم أن مسحه صموئيل ملكًا، لم يكف عن أن ينزل على رأس المقاتلين ولكنه في هذه المرة بقى في قصره بأورشليم ولم ينزل إلى الحرب،وبالرغم من أنه أُجبر على ذلك من قِبَل رجاله المحبين والأشداء؛ إلا أنه لم يكن ينبغي أن ينصاع إلى مشورتهم غير الحكيمة. لأن الله نفسه لم يأمره بذلك كما تعود من قبل أن يسأل الله قبل كل تصرف مصيري. وإلا فما فائدة فصوص الأوريم والتميم.
كيف يا داود ترضى أن تمكث في القصر بينما نزل الجيش ليحارب؟! هل تخاف أن يصيبك أي أذى، لماذا تخاف؟! هل الله الذي أرسلك إلى الحرب لا يستطيع أن يحميك؟! ألست أنت يا داود الذي قلت: "في وَسطِ مِنْكَبَيهِ يُظَلِّلُكَ، وَتَحْتَ جَنَاحَيِّهِ تَعْتَصِمُ، عَدْلُهُ يُحِيطُ بِكَ كَالِسّلاحِ. فَلاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْلِ وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي النَّهَارِ. وَلاَ مِنْ أَمْرٍ يَسْلُكُ فِي الظُلْمَةِ، وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ. يَسْقُطُ عَنْ يَسَارِكَ أُلُوفٌ، وعَنْ يَمِينِكَ رَبَوَاتٌ، وَأَمَا أَنْتَ فَلاَ يَقْتَرِبُونَ إِلَيْكَ. بَلْ بِعَيْنَيْكَ تَتَأَمْلُ، ومُجَازَاةَ الخُطَاةِ تُبْصِرُ" (مز90: 4-8)(2). كيف يا داود تمكث في القصر ولا تنزل إلى المعركة؟! وماذا يهمك إن قُتِل داود في المعركة، هل الله الذي أقام داود لا يستطيع أن يقيم آخر غيره؟
لكن لسان حال داود تحت تأثير مشورة رجاله الأشداء كان يقول: يكفيني جهاد السنين الماضية، أما الآن لنسلم لغيرنا لكي يجاهد ويتعب ويحارب حروب الرب!!
وكما قلنا أن هناك فرق بين مفهومنا في العهد الجديد وبين العهد القديم؛ ففي العهد القديم كانت هذه الحروب تعتبر حروب للرب أي تعتبر شيئًا مقدسًا. لذلك عند رجوعهم من القتال منتصرين كانوا يهتفون ويسبحون ويدخلون من أبواب أورشليم وهي محاطة بالمجد والفخار لأنهم انتصروا في حروب الرب...
أما في العهد الجديد وقد جاءت شريعة الكمال وشريعة الحب والسلام، فالحرب التي في العهد القديم كانت في حقيقتها هي رمز للحرب ضد الشيطان وضد مملكته الروحية غير المنظورة. فإذا تكلمنا عن المعارك لنفهم جيدًا أنه بمفهومنا الحالي هي الحروب الروحية والجهاد الروحي.