منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 06 - 03 - 2014, 03:36 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,180

مزمور 112 (111 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
خوف الرب غالب كل المخاوف



في المزمور السابق كان المرتل يُسَبِّح بكل قلبه، سواء في مخدعه أو بين الشعب كخورُسٍ متهللٍ، يجد لذته في التمتع الدائم بمعرفة الله وأسراره والعبادة الحية والسلوك العملي والتلذذ بالوصية الإلهية، وتذوق خلاص الله العجيب. الآن في هذا المزمور يرى المرتل الإنسان التقي خائف الرب يمارس الحياة المطوبة بلا قلق، لأن الله نفسه سنده لن ينساه قط!
يرى بعض الدارسين أن واضع المزمور السابق هو نفسه واضع هذا المزمور بوحي الروح القدس. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن افتتاحية هذا المزمور تأتي كتكملة لنهاية المزمور السابق، وكأنهما مزمور واحد.
* يبدو لي أن الافتتاحية تأتي ملاصقة لخاتمة المزمور السابق له، وأنه استمرار له وملتصق به كجسمٍ واحدٍ. أقصد أنه هناك قال: "بدء الحكمة مخافة الرب" (مز 111: 10)، أما هنا "طوبى للرجل الذي يخاف الرب"، مُقَدِّمًا تعليمًا خاصًا بمخافة الرب بكلمات مختلفة، لكنها تحمل ذات الفكر.
هناك تذكروا أنه قال بأنه حكيم، وهنا يقول أنه سعيد (مطوّب)[1].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يُقَدِّم لنا هذا المزمور صورة للإنسان خائف الرب أو التقي الخاضع لإرادة الله، والمطيع له في كل شيء.
هذا المزمور هو أحد المزامير الخاصة بالحكمة، يُقَدِّم لنا مقارنة بين الإنسان الحكيم خائف الرب الذي يتحدى كل المخاوف، والشرير الذي لا سلام له. يقول إشعياء النبي: "قدِّسوا رب الجنود، فهو خوفكم، وهو رهبتكم" (إش 8: 13).
في هذا المزمور نرى خائف الرب متهللًا جدًا بوصاياه [1]، لا يخاف أحدًا ولا شيئًا ما [7-8]. من يخاف الرب لا يحتاج أن يخاف من شيءٍ ما أو من ظروفٍ معينة.
من يخاف الرب:
أ. لا يضطرب أو يقلق على نسله
[2].
ب. لا يخاف على بيته وأسرته
[3].
ج. لا يخشى الظلمة
[4].
د. لا يرتبك في اتخاذ قراراته
[5-6].
هـ. لا يخشى الأخبار المزعجة
[7-8].
و. لا يخشى الأشرار
[10].
يبدأ الإنسان الحكيم خائف الرب بالمخافة واهبة السلام، وينتهي بالبهجة العظيمة في الرب وممارسة وصاياه، خاصة الحب العملي والعطاء بسخاء!
* كثيرًا ما أخبرتكم أن كل التفاسير الخاصة بالإنسان البار تشير إلى المسيح. القديسون هم رموز تشير إلى المخلص القدوس حقًا. هذا بالحقيقية بالنسبة ليوسف وداود وسليمان وكل بقية القديسين. الآن فإن الإنسان المطوَّب الموصوف في هذا المزمور بالحقيقة إنما هو رمز للبار الحقيقي...
جاء المزمور 111 (112) بترتيب أبجدي مثل المزمور 110 (111)[2].
القديس جيروم

1. خائف الرب المتهلل
1.
2. خائف الرب وبيته المقدس
2-3.
3. خائف الرب يتحدى الظلمة
4.
4. خائف الرب الثابت إلى الأبد
5-8.
5. خائف الرب المترفق
9.
6. الشرير يتصاغر أمام خائف الرب
10.
من وحي المزمور 112
مزمور 112  (111 في الأجبية)  - تفسير سفر المزامير - خوف الرب غالب كل المخاوف
1. خائف الرب المتهلل

هَلِّلُويَا.
طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَّقِي الرَّبَّ،
الْمَسْرُورِ جِدًّا بِوَصَايَاهُ [1].
في المزمور السابق رأينا مخافة الرب هي الينبوع الذي يفيض علينا بالحكمة الإلهية، وهنا نجدها مصدر كل تطويب حقيقي، وسعادة صادقة أبدية.
بروح تعبدية تقوية يمجد الله بتطويبه خائف الرب. إنه يُسَبِّح الله من أجل معاملاته ورعايته وعطاياه لمن يتقيه ويتكئ عليه.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن متقي الرب هنا من الأمم، لأنه في المزامير عندما يشير إلى اليهود يذكر إسرائيل، أو بيت هرون، أو بيت لاوي وبعد ذلك يقول خائفي الرب أو متقي الرب. فواضح أنه يتحدث هنا عن متقي الرب من الأمم.
* الرجل الذي يخاف الرب، الإنسان المطوَّب، يطيع وصايا الرب بسرورٍ. إنه يحب وصاياه بحبٍ عميقٍ وقويٍ؛ لتدركوا ماذا يعني هذا. لم يقل المرتل إنه مجرد يذعن لوصايا الرب؛ فإن كثيرين يطيعون بسبب الخوف، ولا ينالون مكافأتهم. الرجل الذي يخشى جهنم، فلا يرتكب الزنا، لا ينال مكافأة عظيمة مثل ذاك الذي يخدم الرب بأمانة خلال الحب. أما الرجل الذي إرادته هي في ناموس الله، يريد ما يريده الله، يرغب بكل غيرة أن يتمم إرادة الله... فهو يحمل حبًا عظيمًا على الدوام ليتمم إرادة الرب ليس فقط يفعل أوامره، إنما يريدها، ليس فقط بطريقة عابرة، وإنما بكل غيرة قلبه[3].
القديس جيروم
* لما كانت الشياطين تخاف الرب وترتعب منه، فلئلا تظنوا أن هذا كافٍ لخلاصنا، فإن المرتل فعل هنا كما فعل قبلًا (في المزمور السابق). فإنه إذ قال: "بدء الحكمة مخافة الرب" أضاف: "فطنة جيدة لكل عامليها" (مز 111: 10)، رابطًا التعليم بطريق الحياة المطابق له.
هكذا هنا بعد أن أشار إلى المخافة، لم يتوقف عند المخافة التي حتى الشياطين لديها هذه المخافة، بل أضاف الآتي: "يجد طمأنينة كاملة بوصاياه"...
لم يقل: "سيتمم وصاياه"، إنما قال: "يجد طمأنينة (سرورًا) كاملة"، مطالبًا بشيء آخر. ما هو هذا؟ أن نتممها بحماسٍ بكوننا محبين لها بغيرة، تابعين متطلباتها، محبين لها ليس لأجل المكافأة المُقَدَّمة عنها، وإنما من أجل الذي يصدرها. نمارس الفضيلة برضا، وليس خوفًا من جهنم، ولا خشية التهديد بالعقوبة، ولا من أجل الوعد بالملكوت، وإنما من أجل واضع الشريعة.
في موضع آخر يظهر الشبع الذي يناله في وصايا الله، قائلًا: "ما أحلى قولك لحنكي، أحلى من العسل لفمي" (مز 119: 103).
هذا ما يتطلع إليه بولس أيضًا، حيث يتحدث بطريقة غامضة هكذا: "لأنه كما قدَّمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيدًا للبرّ للقداسة (للشبع)" (رو 6: 19). بمعنى كما بغيرة عظيمة ورغبة حارة سلكتم في الإثم، وهو لا يُقَدِّم مكافأة بل بالحري عقوبة وجزاء، هكذا اسلكوا في الفضيلة على نفس المنوال...
محبة واضع الناموس تجعل الناموس لطيفًا، حتى وإن بدا أنه يحمل صعوبات...


مزمور 112  (111 في الأجبية)  - تفسير سفر المزامير - خوف الرب غالب كل المخاوف
St-Takla.org Image: Two Ox with yoke for the Plough
صورة في موقع الأنبا تكلا: ثوران (ثور) موضوع عليهم النير، للمحراث
من يحب زانية لا يبالي بما يصيبه من تعسفٍ وشتائمٍ وضربٍ وعارٍ وطردٍ من المدينة وميراث من الأسلاف ولا من نظرة والده إليه، ويحتمل تبعات أخرى قاسية، محتملًا هذا كله برضا من أجل شهوة مُنْحَلَّة... هكذا إن كنتم تقبلون الوصايا بحماسٍ تجدونها خفيفة وسهلة. لهذا قال المسيح: "نيري هين وحملي خفيف" (مت 11: 30)[4].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* في أعمال الرسل كانوا يدعون المسيحيين خائفي الرب، وهنا لا يطوَّب إلا من كان منهم يمارس وصايا الله، ليس حياءً من الناس، ولا على سبيل العادة، ولا خوفًا من العذاب العتيد، ولا طمعًا في نوال أجرٍ، ولا من أجل الوعود المُنتظَرَة، وإنما يمارسها لأنه يهواها، أي محبة في من أوصى بها. وأما محبته فلا تكون قليلة وزمنية، بل جزيلة ودائمة، هذا هو معنى قول النبي "المسرور جدًا بوصاياه".
الأب أنسيمُس الأورشليمي
مزمور 112  (111 في الأجبية)  - تفسير سفر المزامير - خوف الرب غالب كل المخاوف
2. خائف الرب وبيته المقدس

نَسْلُهُ يَكُونُ قَوِيًّا فِي الأَرْضِ.
جِيلُ الْمُسْتَقِيمِينَ يُبَارَكُ [2].
تمتع بولس الرسول بالحياة المطوَّبة كمؤمنٍ خائف الرب، ولم يكن له نسل حسب الجسد، لكنه ولد كثيرين في الإنجيل، وصار له أبناء أقوياء يشهدون لإنجيل المسيح.
أي ميراث نُقَدِّمه لأبنائنا وأحفادنا أعظم من بهجتنا بوصايا الرب، وتمتعنا بالحياة المُطوَّبة، أي إيماننا العملي الحي!
* إنني أنا الذي أطيع الله باختياري أتأهل أن أكون أبًا لقديسين... ليت الرب يمنحكم أيضًا يا من تستمعون لي أن تكونوا جيلًا مستقيمًا[5].
القديس جيروم
* اعتاد الكتاب المقدس أن يدعو النسل ليس من هو مولود حسب نظام الطبيعة، وإنما من يتبع الفضيلة. هكذا أيضًا بولس يفسر: "لنسلك أعطي هذه الأرض" (تك 12: 7)، قائلًا: "ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعًا أولاد؛ بل بإسحق يُدعَى لك نسل" (رو 9: 7)...
تبعًا لذلك فإن الشعب الفاضل وأبناء خائفي الرب هم في عداد هؤلاء: "نسله يكون قويًا في الأرض" [2]. لماذا يقول: "في الأرض"؟ لكي يُظهِرَ أن هذا يتم قبْل الرحيل من هنا، وقبْل خبرة الخيرات هناك. كما قلتُ سابقًا إن الفضيلة لها مكافأتها حتى قبل أن تُمنَح الأكاليل...
ليس شيء أقوى من الفضيلة، إنها أصلب من الصخر، وأكثر متانة من الصلب. وبالتالي ليس شيء أدنى من الرذيلة، ليس ما هو أضعف منها، حتى وإن كانت تحوطكم ممتلكات بلا حصر؛ حتى وإن كان لكم سلطان خارجي له اعتباره.
الآن إن كانت قوتها هكذا على الأرض، تأملوا كم تكون عظمة القدرة التي للذين سيتمتعون بالسماء[6].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إن افتخر اليهود فيما أُعطوا، وهو أن نسلهم يكثر على الأرض ويقوى، تقول لهم إن كثيرين من أتقياء الله لم يذكر الكتاب لهم نسلًا مثل ملكي صادق ويشوع بن نون وإيليا وإرميا وغيرهم من الأنبياء. فإذًا قول النبي هنا لا يعني النسل البشري، إنما النسل الروحي، أي جماعة المؤمنين الذين قبلوا مثل أرضٍ جيدة البذرة التي يغرسها الرسل القديسون، وأثمروا ثلاثين وستين ومائة، وكثر عددهم على الأرض، وقووا على محاربة قوات الظلمة، وغلبوها بالإيمان بالمسيح الإله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
رَغْدٌ وَغِنًى فِي بَيْتِهِ،
وَبِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ [3].
إذ يلتصق خائف الرب بالله، يسكن الله فيه، ويقيم من قلبه بيتًا له، يفيض فيه من غنى نعمته وعطاياه الإلهية، فلا يحتاج إلى شيءٍ، بل يصير مصدر عطاء للآخرين.
يتمتع خائف الرب بثمر روح الله القدوس من محبة وفرح وسلام ووداعة وتعفف وصلاح؛ يصير قلبه جنة مُغْلَقَة تحمل ثمارًا روحية.
* أشار الرسول بوضوح إلى الغنى الذي للمؤمنين: "ألستم أنتم إكليل مجدي؟" (راجع 1 كو 1: 5)[7]
القديس جيروم
* يشهد الرسول أن أعمال الرحمة هي بذور المحصول المُقْبِل، إذ يقول: "لا نفشل في عمل الخير، لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل" (غل 6: 9). وأيضًا: "هذا وأن من يزرع بالشُح، فبالشُح أيضًا يحصد" (2 كو 9: 6).
ولكن أيها الإخوة أي شيء أقدر من أنه ليس فقط اشترى زكا ملكوت السماوات بنصف أمواله (لو 19: 8)، وإنما حتى الأرملة اشترته بفلسيْن (مر 12: 42)، وكل منهما سينال نصيبًا مساويًا للآخر هناك؟
وماذا أكثر قدرة من أن نفس الملكوت الذي يستحقه الغني بتقديم كنوزه، يناله الفقير بكأس ماء بارد...؟ "مجدًا وغنى يكون في بيته" [3]. لأن بيته هو قلبه، ففيه بالتسبيح لله يعيش في غنى أعظم، مع رجاء في الحياة الأبدية عن الناس المتملقين الذين يعيشون في قصور من الرخام، مُزيَّنة بأسقف فخمة مع الخوف من الموت الأبدي.
"برُّه قائم إلى الأبد". هذا هو مجده، هناك يوجد غناه[8].
القديس أغسطينوس
* هذا هو الغنى الحقيقي، ألا تشعر أنك في عوزٍ إلى غنى[9].
* "مجد وغنى في بيته" [3]. هذا لا يحتاج إلى تفسير. فإن هؤلاء لهم مجد من الله... لقد قبلوا (الرسل) مثل ملائكة الله، وأتوا بممتلكاتهم ووضعوها عند أقدامهم. وصاروا أكثر شهرة من الذين يلبسون الأكاليل.
أي ملك جعل دخوله في بهاء مثل بولس، هذا نلاحظه أينما كان يتكلم، إذ كان يطرد الموت، وينزع الأمراض، ويجعل الشياطين تهرب، ويصنع عجائب حتى من ثيابه نفسها. لقد حوَّل الأرض إلى سماء، وقاد كل واحدٍ إلى الفضيلة.
نعم، إن كانوا قد حققوا مثل هذه الأمور على الأرض، تأملوا أي مجد سينالونه في السماء.
الآن ماذا يعني: "في بيته"؟ تعني في نفسه الثروة التي تأتي من مصادر خارجية لا تنتمي لصاحبها، لأنها لا تبقى في أمان هناك، بل هي في أيدي المغرورين والمتملقين والحكام والخدم. لهذا السبب يقوم بتوزيعها في كل الاتجاهات، وهو غير واثقٍ أن يحتفظ بها في بيته في أمان.
هذا هو السبب لوجود حراس للخفارة، وإن كان هذا لا يفيد مادام هو نفسه معرضًا أن يتركها[10].
* "برّه قائم إلى الأبد" [3]... كل ما هو بشري يخضع للفناء. أما ثمر الرحمة فيبقى بدون فساد إلى الأبد. ولا تشوهه مشكلة ما مع الزمن، فإنه حتى الجسم ينحل، أما (الرحمة) فلا تختفي مدى الحياة، بل وتتقدم لتعد مسكنًا رائعًا لكم. وكما يقول المسيح: "في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 14: 2). بهذا فهي أسمى من أشياء البشرية في هذا الأمر، إذ تتسم بالديمومة والثبات، الأمر الذي لا وجود له في أي شيء من هذه الحياة.
إن ذكرتم الجمال، فإنه يذبل مع المرض، ويضيع من الزمن.
إن ذكرتم السلطان، فغالبًا ما لا يكون موثوقًا فيه.
إن ذكرتم الثروة أو أي شيء من الغنى والشهوة في الحياة الحاضرة، فإن هذه إما أنها تفارق الناس وهم أحياء أو يصير الميت عاريًا ومجردًا من كل شيء.
ثمر البرّ على العكس تمامًا، لن يفسده الزمن، ولا يُحَطِّمه الموت، بل يصير أكثر أمانًا، خاصة عندما يصل إلى النقطة التي فيها يبلغ إلى الميناء ويصير محميًا من العواصف[11].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الممتلكات الرديئة تلك التي قيل عنها: "الأشبال احتاجت وجاعت" (مز 10:34)، "ولكن ويل لكم أيُّها الأغنياءُ، لأنكم قد نلتم عزاءَكم" (لو 24:6). انتزاع هذا الغنى فيه سمو في الكمال، إذ يقول الرب عن الفقراء (الذين ليس لهم هذا الغنى): "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" (مت 3:5). وجاء في المزمور: "هذا المسكين صرخ، والربُّ استمعهُ" (مز 6:34)، وأيضًا "الفقير والبائس ليُسَبِّحا اسمك" (مز 21:74).
والغنى (الممتلكات) الصالح هو ما يمتلكه مقتنى الفضائل... صانع البرّ الذي يمدحه النبي داود، قائلًا: "نسلهُ يكون قويًّا في الأرض. جيل المستقيمين يُبارَك. رغد وغنًى في بيتهِ، وبُّرهُ قائِم إلى الأبد" (مز 2:112-3). وأيضًا: "فدية نفس رجلٍ غناهُ" (أم 8:13).
ويتحدث سفر الرؤيا إلى المفتقر والمُعدَم من هذا الغنى قائلًا: "أنا مزمع أن أتقيَّأَك من فمي. لأنك تقول إني أنا غنيّ وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيءٍ، ولستَ تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان. أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفًّى بالنار لكي تستغني. وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك" (رؤ 16:3-18)[12].
الأنبا بفنوتيوس
مزمور 112  (111 في الأجبية)  - تفسير سفر المزامير - خوف الرب غالب كل المخاوف
3. خائف الرب يتحدى الظلمة

نُورٌ أَشْرَقَ فِي الظُّلْمَةِ لِلْمُسْتَقِيمِينَ.
هُوَ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ وَصِدِّيقٌ [4].
* "نور أشرق في الظلمة للمستقيمين". بحقٍ يوجه الأتقياء قلوبهم نحو الله؛ وبحق يسيرون مع إلههم، مُفَضِّلين إرادته عن أنفسهم، ليس لديهم وقاحة متشامخة واعتداد بذواتهم. يذكرون أنهم في وقتٍ ما كانوا في ظلمة والآن هم نور في الرب (أف 5: 8).
"هو حنَّان ورحيم وعادل (صديق)".
يبهجنا إنه رحيم وحنَّان، ولكن ربما يُرعبنا أن الرب الإله عادل (صدِّيق).
لا تخف، ولا تيأس مطلقًا أيها الإنسان الذي يخاف الرب، ولك بهجة عظيمة في وصاياه، ولتكن سعيدًا ولتترأف وتقرض. لأن الرب عادل هكذا، فإنه يقضي بدون رحمة لمن لا يظهر رحمة (يع 2: 3).
لن يتقيأه الله من فمه كما لو كان غير محبوب. وإنه يقول: "اغفروا، يُغفَر لكم. أعطوا تُعطوا" (لو 6: 37-38).
حينما تغفرون لكي يُغفَر لكم، فأنتم رحماء. وحينما تعطون لكي تُعطَوا، فأنتم تقرضون[13].
القديس أغسطينوس
* "نور أشرق في الظلمة للمستقيمين"... ما معنى "في الظلمة"؟ إن كانوا في ضيق ومصاعب وتجارب ومخاطر.
هذا ما يدعوه بالحقيقة ظلمة. إنه على الفور يؤكد أنهم يشعرون براحة عظيمة...
لما كان الناس في ذلك الوقت (حيث الضيق) يتجاهلون السماء، ويبحثون عن الله على الأرض، فإنه يوضح لهم اعتبارًا معينًا لكي يقودهم إلى الأعالي دون حدود[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "هو حنَّان ورحيم وعادل (صديق)". لاحظوا السمتيْن اللتيْن له: الرب رحوم وعادل. إن كنتَ خاطئًا، لا تيأس من نوال المغفرة، فإن الرب رحوم. إن كنتَ متكبرًا ومستغلًا لرحمة الله، احذر فإنه هو أيضًا عادل[15].
القديس جيروم
* لتعرف أنك لست نورًا لنفسك، بل بالحقيقة أنت عين لا نور.
ما فائدة العين حتى إن كانت مفتوحة وسليمة دون وجود نور...؟!
كنتُ بكليتي ظلمة، لكنك أنت هو النور الذي يبدد ظلمتي، وينير لي.
أنا لستُ نورًا لنفسي، ليس لي نصيب في النور إلا بك؟[16]
القديس أغسطينوس

* يدعو النبي الجهل ظلمة، وأيضًا المحن والتجارب. أما الرجل الذي يخاف الرب ويحب وصاياه جدًا، فيشرق تعليمه على عديمي المعرفة، ويؤازر الذين في المحن، وينير ظلمتهم بمساعدته كأنه نور...
أيضًا قبل تجسد ربنا كان ظلام الضلال مكتنفًا العالم، وكان الناس يطلبون الله على الأرض بين المخلوقات، لأنهم صاروا يؤلهون المخلوقات. لذلك أشرق الله على الأرض متجسدًا لكي ينيرهم، ويرفع عقولهم إلى السماء، فاستناروا من هذا النور المُشرِق على الأرض.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
مزمور 112  (111 في الأجبية)  - تفسير سفر المزامير - خوف الرب غالب كل المخاوف
4. خائف الرب الثابت إلى الأبد

سَعِيدٌ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَرَأَّفُ وَيُقْرِضُ.
يُدَبِّرُ أُمُورَهُ بِالْحَقِّ [5].
خائف الرب لا يتشبه بسيده فحسب، وإنما ينهل من شركة سماته، فيصير صورة حيَّة لمخلصه، يتسم بالرأفة والعطاء، لا لأجل منفعة شخصية، مادية أو رمزية، وإنما من أجل حبه للحق الإنجيلي.
إن كانت الشريعة تمنع المؤمن من أن يأخذ فائدة أو ربا من أخيه متى كان في ضيقة واحتاج أن يقترض، ففي ظل الإنجيل يُقَدِّم المؤمن لأخيه المحتاج بفرحٍ وسرورٍ.
* انظروا كم من مكافأت تُقدَّم للناس المُحبِّين: ثمر حنوهم يثبت بلا توقف، سيتحررون من التجارب، يتمثلون بالله، إذ الله رحوم، وينالون غفرانًا لخطاياهم.
فوق هذا كله هذا هو معنى: "يدبر أقواله بالحكم" [5 LXX]، أي أنه سينال الانتفاع بالدفاع عنه، وحمايته، فلا تكون عليه دينونة في ذلك الحين، رحمته تسنده بدفاعٍ مُجدِ.
توجد ترجمة أخرى: "يدبر أموره بالحكم"، أي أنه سيتمتع بخيرٍ عظيمٍ، ولا يكون ضحية لأية هزة، بكونه أفضل مُدَبِّر...
يدعو المرتل المُدَبِّر الحكيم رحومًا، إذ يشتري الكثير بالقليل، يشتري السماء بالمال، والملكوت بالثياب، والخيرات العتيدة بخبزٍ ومشروبٍ باردٍ. أي شيء يُقارن بمثل هذا التدبير، حينما تترك أمورًا هالكة وعابرة وفاسدة لتنال هذه الخيرات العتيدة التي لن تزول، وبهذه الوسيلة تنعم حسنًا بأمان في الحياة الحاضرة؟[17]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لأن الرب كريم ولطيف، فإن الإنسان البار يقتدي بربه، فهو أيضًا يترأف ويرحم[18].
القديس جيروم
* ليس الغني هو من يملك ثروته ويحفظها، إنما ذاك الذي يعطي ولا يأخذ فهو سعيد. السخاء هو ثمرة النفس، والغنى الحقيقي يستقر في القلب[19].
القديس إكليمنضس السكندري
* "سعيد هو الرجل الذي يترأف ويقرض" (مز 112: 5). كم بالأكثر ذاك الذي يقرض الله على الأرض لكي يستلم مضاعفًا في الحياة الأبدية؟ فإنك عندئذ تستحق أن تقف أمام كرسي القضاء الذي للقاضي الأبدي، أمام الملائكة، ويمكنك القول بيقينٍ وبضميرٍ نقيٍ: أعطِ يا رب، فإني قد أعطيتُ. ارحمْ، فقد أظهرتُ الرحمة"[20].
الأب قيصريوس أسقف آرل
* الرجل الصالح صفته أن يتراءف ويشفق على بني جنسه وشركائه في الطبيعة البشرية، ليس بغرض الربح، بل راجيًا من الله المكافأة، لأن من يصنع الصدقة والإحسان إلى الناس يكون كمن يقرض الرب، كما قال سليمان في الأمثال، وهو يعوضه أضعافٍ كثيرة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّهُ لاَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ.
الصِّدِّيقُ يَكُونُ لِذِكْرٍ أَبَدِيٍّ [6].
خائف الرب لا يتزعزع عن موقفه أو سلوكه التقوى، كما لا يفقده عطاؤه غناه الداخلي وإمكانياته الخارجية. يصير مثلًا حيًا عبر الأجيال، إذ يكرمه الله نفسه. وكما جاء في ملاخي: "الرب أصغى وسمع وكُتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمُفَكِّرين في اسمه" (مل 3: 16). ويقول الرب نفسه: "من يغلب، فذلك سيلبس ثيابًا بيضًاء، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته" (رؤ 3: 5).
أوضح القديس إكليمنضس السكندري[21] أن الغنوسي أو المسيحي الأمثل صاحب المعرفة الحقيقية هو البار الذي لا يتزعزع إلى الدهر [٦]، إذ يستخدم كل أنواع المعرفة ولا يخاف الفلسفة بل يستفيد منها. حقًا إن الجماهير تخاف الفلسفة كما يخاف الأطفال من القناعات لئلا تضلهم عن الطريق. لكن المسيحي يَقدِرُ بالإيمان أن يعرف الحق ويُمَيِّزَه؛ يفصل الحق غير المتغير عن الآراء الباطلة، فيكون كالصرَّاف الذي يقدر بخبرته أن يفصل العملة الحقيقية عن الزائفة. هكذا لا ينخدع الغنوسي بالكلمات الزائفة، وكما يصرخ داود قائلًا: "البار لا يتزعزع إلى الأبد" (مز 112: 6)، لا بالكلمات الزائفة، ولا باللذات الخاطئة. إنه لن يتزعزع عن ميراثه، "لا يخشى من خبر سوء" (مز 122: 6)، فلا ترعبه افتراءات لا أساس لها، ولا يهتز من آراء باطلة تنتشر حوله[22].
* الآن يصرخ داود: "البار لا يتزعزع إلى الدهر". وبالتالي لن يتزعزع بحديثٍ مخادعٍ، ولا بمسرةٍ باطلة. لهذا فهو لا يتزعزع قط من ميراثه. إنه لا يخشى من خبر السوء، وبالتالي لا يخشى من افتراء لا أساس له، ولا من رأي باطل يقوم حوله. ولا يرهب كلمات خبيثة، ذاك القادر أن يُمَيِّزها، ويجيب بحق عما يُسأل عنه[23].
* قد يقول قائل إن اليونانيين اكتشفوا الفلسفة خلال الفهم البشري، لكنني أجد الكتاب المقدس يقول بأن الفهم هو من عند الله. لذلك يصرخ المرتل، قائلًا: "أنا عبدك فهمني..." (مز 199: 125)[24].
القديس إكليمنضس السكندري
* "لأنه لا يتزعزع" هذا ما قاله المسيح تمامًا عن الشخص الذي بنى بيته على الصخرة، ليس أنه لا يحتمل هجوم عاصفة، وإنما لا تزعزعه (مت 7: 25). هذا بالحقيقة ما يستحق الملاحظة، ليس لأنكم تكونون في أمان من حدوث تجارب في البرية، وإنما تبقون ثابتين أمام خداعات الآخرين المتكررة.
أنتم ترون أن الأمر لا يمكن تصوُّره أن النفس الغنية في العطاء، لن يمكن أن تلطمها أمواج مشاعر البؤس[25].
* "الصديق يكون لذكر أبدي"... فإنه إذ يُدفَن جسمه ويودع في الأرض، تبقى ذكراه خضراء في كل مكان. قوة الفضيلة هي هكذا: لا تخضع لعبور الزمن، ولا تفسد بعدد الأيام. هذا يحدث بالنسبة لشئون الأشرار، أما الفضلاء فلا حاجة لهم إلى رأي الناس الصالح فيهم. على العكس الذين يعيشون في الرذيلة يحتاجون إلى إطراء الناس ليصيروا أكثر غيرة خلال الاسم الحسن لأعمال الآخرين ليتحرروا من الرذيلة... على وجه الخصوص أظهر المرتل أن الفضيلة كما أقول كثيرًا تحمل مكافأتها فيها، في طليعة كل المكافأت الأخرى[26].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كل من يفعل أو يتكلم بالعدل والبرّ ويميز ذلك ويفرزه، هذا لا يزعزعه من رصانته شيء ما؛ لا حزن، ولا محنة، ولا وعيد من الناس أو من غيرهم. ولا يفزع من خبرٍ كريه، مثل أيوب الصديق الذي لما تواترت عليه أخبار إبادة أمواله، قال شاكرًا الرب: "عريانًا خرجتُ إلى الدنيا، وعريانًا أذهبُ عنها".
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لاَ يَخْشَى مِنْ خَبَرِ سُوءٍ.
قَلْبُهُ ثَابِتٌ مُتَّكِلًا عَلَى الرَّبِّ [7].
قد يبلغ إلى مسامع خائف الرب أخبار سوء كثيرة، لكن قلبه الذي يسكن فيه الرب، ويحفظه في يديه لن يتزعزع، بل يبقى ثابتًا إلى الأبد. الله هو الصخرة التي من يُبنَي عليها لا تهزه زوابع الحياة.
* "لا يخشى من خبر سوء"... لم يقل إنه لا يسمع خبر سوء، إنما عند سماعه له لا يخشاه. كيف لا يكون لديه خوف؟ حتى إن شاهد حربًا قد اندلعت، وزلزالًا ابتلع مدنًا، ولصوصًا يسرقون كل شيء، ومتوحشين يهاجمون، ومرضًا يهدد بالموت، وغضبًا قاضيًا، وما غير ذلك فإنه لا يخاف. إنه يودع ثروته في مكان أمين، والاقتراب من النهاية أبعد ما يكون عن أن يقلقه، إنما يجعله يسرع كي ينطلق إلى المكان الذي هو موضع اهتمامه بالحق. "حيث يكون كنزه، هناك يكون قلبه" (راجع مت 6: 21).
"قلبه مستعد ليتكل على الرب". جاء في ترجمة أخرى "قلبه ثابت"، مشيرًا إلى نفس الشيء... ليس من شيء يجعله منزعجًا، أو يربطه بالأمور الحاضرة، بل بالحري هو متجه بالتمام نحو الله، ينتظر تحقيق ذاك الرجاء[27].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بالتأكيد أيها الأعزاء المحبوبون، قد سمعتم عن المديح والثناء على الرحمة. ارغبوا في الرحمة، واشتاقوا إليها، اطلبوها، وعندما تجدوها تمسَّكوا بها بشدة في هذا العالم حتى لا تستخف بكم في الحياة العتيدة، في يوم الدينونة تجدون الرحمة. الآن إن كنا نحن جميعًا نطلبها، إن كان كل البشر يريدون أن يجدوها في المستقبل، فليجعلوها نصيرهم في هذه الحياة، حتى تتنازل هي، فترحب بكم، وتدافع عنكم في المستقبل. إن كنا نستخف بها في بلدنا، كيف تتنازل هي وتتطلع إلينا في بلدها؟[28]
الأب قيصريوس أسقف آرل
قَلْبُهُ مُمَكَّنٌ فَلاَ يَخَافُ،
حَتَّى يَرَى بِمُضَايِقِيهِ [8].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "قلبه ثابت فلا يزول، حتى يرى بأعدائه".
* الأساس الذي عليه يقوم أمانهم مضاعف: من النعمة الحالة من العلا، من التسهيلات التي تحت. ليس من شيء يمكن أن يزعجهم، لا خسارة مال ولا شتائم تلحق بهم، ولا كوارث. ليس لديهم ما يفقدونه، مالهم هو أنهم يتركون هنا لأجل السماء؛ إلى موضع لن يقدر شر أن يقترب إليه ولا مكائد تلحق به...
من هو عدو لمثل هذا الشخص إلا الشياطين الأشرار وإبليس نفسه؟[29]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* ليكن قلبنا ثابتًا غير مرتد حتى نرى بأعدائنا. فإنهم يريدون أن يروا الأمور الصالحة للبشر في أرض الأموات، لكننا نثق أن الأمور الصالحة للرب هي في أرض الأحياء (مز 27: 13)[30].
القديس أغسطينوس
مزمور 112  (111 في الأجبية)  - تفسير سفر المزامير - خوف الرب غالب كل المخاوف
5. خائف الرب المترفق

فَرَّقَ، أَعْطَى الْمَسَاكِينَ.
بِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ.
قَرْنُهُ يَنْتَصِبُ بِالْمَجْدِ [9].
يتسم الإنسان التقي بثبات قلبه، فلا يفقد سلامه الداخلي وهدوءه وشجاعته. أما سرّ هذا فهو ثقته في الله. يحمل المؤمن الحقيقي شخصية سوية، لا تهزه التجارب مهما اشتدتْ وتنوعتْ.
إذ يفتح المؤمن قلبه بالحب العملي للمساكين، يرُد الله هذا الحب بتقديم روح القوة (القرن) والمجد.
عندما هدد قيصر فالنس القديس باسيليوس الكبير، قال له: "إن هذا البُعبع Bugbears يوضع أمام الأطفال". وكأنه حسب هذه التهديدات مهما بدتْ خطيرة وأيا كان مَرْكز الذي يهدده أشبه بخيالات وهمية يخيفون بها الأطفال غير الناضجين. وأما القديس أثناسيوس الرسولي قال: "إنه ضباب حالًا ينقشع".
* الإنسان البار فيه حنو، البار يقرض. كل عالم الغنى يخضع عند قدمي الحكيم والبار. الإنسان البار يحسب أن ما هو للكل كأنه له؛ وما هو له مِلْكٌ عام[31].
القديس أمبروسيوس
* أقرض الله أموالك، فتكون غنيًا بالحقيقة. يُعَلِّمنا الطريقة التي بها تقرض: "بيعوا ما لكم، وأعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياسًا لا تفنى، وكنزًا لا ينفذ في السماوات". يعلمنا أيضًا إياه داود الطوباوي في المزامير، حيث يتكلم عن كل رجل صالح ورحوم: "فرَّق، أعطي المساكين، برَّه يبقى إلى الأبد"[32].
* لا تشير كلمة "قرن" إلى القوة فحسب، بل وإلى السلطان الملوكي، فإن المسيح مخلصنا الذي ظهر من أسرة داود الملك هو ملك الملوك وقوة الآب العظيمة[33].
القديس كيرلس الكبير
* دعونا نرى أي مُعطٍ للصدقة يقصد، ذاك الذي يعطي من الفيض الذي عنده، أو ذاك الذي يحرم نفسه مما لديه. واضح جدًا أنه يقصد الشخص الذي يحرم نفسه مما عنده، الذي يُقَدِّم ما لديه بسخاءٍ، وذلك كما يطلب بولس: "من يزرع بالبركات، فبالبركات أيضًا يحصد" (2 كو 9: 6).
لاحظوا كيف يستخدم أيضًا الكاتب الموحي إليه كلمات بطريقة رائعة. لم يقل: "وزَّع" ولا "قسَّم"، وإنما "فرَّق dispersed". وهي تشير إلى السخاء المُعطِي ونثر المادة التي يقدمها... هكذا يفعل المزارعون، ولكن بينما يفعلون هذا دون التأكد من المحصول، فإن الأرض هي التي تقبل البذور. أما انتم ففي يد الله حيث لا يتبدد شيء منها[34].
* "يرتفع قرنه بالمجد" إنه يشير دومًا على وجه الخصوص إلى ما يرغب فيه الناس. وهو الشهرة والسمعة، الاثنان يرافقانهم في الحياة القادمة وفي هذه الحياة يأتيان بوفرة عظيمة. ليس أحد له شهرة هكذا مثل الشخص الرحوم... الفضيلة موضوع مديح حتى بالنسبة للذين لا يمارسونها، كما أن الرذيلة توجد مشينة وموضوع اتهام حتى بواسطة الذين يمارسونها[35].
* هل ترغب في السيطرة على المال أو تشتهي أن تحفظه؟! لا تقم بشرائه، بل أعطه في أيدي الفقراء. لأن المال وحش مفترس، إن أمسكته بإحكام يهرب، وإن تركته بلا رباط يبقى. إذ قيل: "فرق، أعطي المساكين، برّه قائم إلى الأبد" (مز ١١٢: ٩).
وزِّعه إذن، حتى يبقى معك، ولا تدفنه لئلا يهرب منك.
يسرني أن أسأل الذين رحلوا: "أين هو الغنى؟!" وأنا لا أقصد بقولي هذا التوبيخ. الله لا يسمح. ولا أقصد إثارة القروح القديمة، بل أسعى لإيجاد ملجأ لكم بعيدًا عن الهلاك الذي أصاب الآخرين[36].
* "باطل الأباطيل، الكل باطل" (جا 2: 4). اسمع أيضًا ما يقوله النبي: "يجمع ذخائر، ولا يدري لمن يضمها" (مز 39: 6). باطل الأباطيل هي المباني الفخمة التي لك، وغناك المتسع، وقطعان العبيد... فإن هذا لم يأتِ من يد الله، إنما هو من صُنعِك أنت. ولماذا هذه الأمور باطلة؟ لأنه ليس لها هدف نافع. الغنى يكون باطلًا إن أُنفق على الترف، ولكنه يكف عن أن يكون باطلًا عندما يُفرَّق ويعُطى للمساكين (مز 112: 9)[37].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بقوله "فرّق" دل على السخاء في عطائه، وعلى أن الصدقة تُنثر مثل الزرع الذي يغرسه الفلاح بدون بُخل آملًا في زيادة المكسب. فإن من يبذر الزرع في الأرض المرتاب في خصوبتها ينال محصولًا، فكم بالأحرى ذاك الذي يذخر للسماوات أمواله يلزمه أن يقدمها بسخاء.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* إن التصق إنسان بالأمور الثقيلة يستحيل عليه أن يكون خفيفًا. لهذا يليق بنا أن نميل إلى الأمور العلوية. لنصير فقراء في الأمور التي تحدرنا إلى أسفل، حتى نرحل في المواضع العلوية...
الإنسان الذي يعطي الفقير سيشاركه في ذاك الذي صار فقيرًا، فلا تخافوا من الفقر.
لكن ذاك الذي صار فقيرًا لأجلنا، يملك على كل الخليقة. لهذا إن صرتَ فقيرًا لأنه صار فقيرًا، فستملك أنت أيضًا، لأنه هو يملك. "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات"[38].
القديس غريغوريوس النيسي
* لا يدين الرسول من يملك الغنى، بل من يشتهيه، وذلك عندما يقول: "الذين يطلبون أن يكونوا أغنياء، يسقطون في تجربة وشباك الشيطان"[39].
الأب قيصريوس أسقف آرل
* عندما نُقَدِّم الضروريات للذين في حاجة نعطيهم في الحقيقة ما هو لهم وليس لنا. إننا بالحري ندفع دين العدالة، ولا نقوم بأعمال الرحمة. لذلك عندما يتكلم الحق الإلهي ذاته عن الاحتراز والحيطة التي نحتاج إليهما في أعمال الرحمة يقول: "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس" (مت 6: 1)[40]. يتفق هذا مع ما كتبه صاحب المزامير: "فرَّقَ، أعْطَى المساكين، بِرُّهُ (عدله) قائمٌ إلى الأبد" (مز 112: 9). وهنا عندما يذكر العطية المُقدَّمة للفقراء، يذكر كلمة "عدل"، وليس كلمة "رحمة". لأن العطية التي وهبنا الله إياها هي بالتأكيد شأن من شئون العدالة، وهي أننا نُقَدِّم العطية للصالح العام. لذلك يقول سليمان النبي: "أما الصديق فيعطي ولا يمسك[41]" (أم 21:26)[42].
الأب غريغوريوس (الكبير)

* يوجد صالح يخلق صالحين، وصالح يمكن به أن يصنع صلاحًا. الصالح الذي يخلق صالحين هو الله، لأنه لا يستطيع أحد أن يجعل إنسانًا صالحًا إلا الصالح إلى الأبد، لذلك فلتدعُ الله لكي ما تكون صالحًا، ولكن يوجد صالح يمكن به أن تفعل صلاحًا، وذلك هو كل ما تملكه. يوجد ذهب وتوجد فضة وهما أشياء صالحة، ولكنهما لا يجعلانك صالحًا، بل يمكن أن تصنع بهما صلاحًا.
لديك ذهب وفضة، وأنت ترغب في المزيد منهما. لديك كليهما وتريد زيادة، فأنت مرتوي وظمآن. إنه مرض وليس غنى، عندما يمرض البشر بمرض الاستسقاء، فإنهم يكونون مرتوين بالماء، ومع ذلك فهم عطشى دائمًا. فكيف يسر هؤلاء بثروتهم، الذين لديهم تلك الرغبة المريضة بمرض الاستسقاء؟
أنت تملك ذهبًا وهو شيء صالح، ومع ذلك فإنه ليس لديك ما يجعلك صالحًا، بل ما يمكن أن تصنع به صلاحًا.
أتسأل أي صلاح أفعله بالذهب؟ ألم تسمع في المزمور "فرَّق، أعطى المساكين، برّه قائم إلى الأبد" (مز 112: 9)، هذا صالح. هذا هو الشيء الصالح الذي به تصيرون صالحين، أي إن كان لديك الصالح الذي به تصير صالحًا.
فلتصنع صلاحًا، بذلك الصالح الذي لا يستطيع أن يجعلك صالحًا.
لديك مالٌ، استخدمه بسخاء، فباستخدامه بسخاء تزداد برًا. لأنه "فرَّق أعطي المساكين، برّه قائم إلى الأبد".
انظر ماذا ينقص وماذا يزداد. تنقص أموالك، ويزداد برّك. ينقص ما ستفقده قريبًا، ينقص ما ستتركه بعدك عن قريب، ويزداد ما ستملكه إلى الأبد[43].
القديس أغسطينوس
مزمور 112  (111 في الأجبية)  - تفسير سفر المزامير - خوف الرب غالب كل المخاوف
6. الشرير يتصاغر أمام خائف الرب

الشِّرِّيرُ يَرَى فَيَغْضَبُ.
يُحَرِّقُ أَسْنَانَهُ وَيَذُوبُ.
شَهْوَةُ الشِّرِّيرِ تَبِيدُ [10].
لا يتحدث المرتل عن الشرير في نوعٍ من الشماتة، إنما في حزن على حاله. فالتقي يحمل الحياة المطوّبة في أعماقه، والشرير يحمل فساده ودماره في داخله. خطاياه في داخله تُحطِّمه، تُفقِده سلامه. بينما يمتلئ خائف الرب بالرجاء المُفرِح، مترقبًا يوم مجده بفرحٍ وبهجة قلب، يسيطر اليائس على قلب الشرير وهو ينتظر يومه القادم.
لا يطيق الشرير أن يرى الإنسان البار، لأنه يمثل ثقلًا على قلبه. وكما يقول الحكيم: "وحتى منظره ثقُل علينا؛ لأن سيرته لا تشبه سيرة الآخرين، وسُبله مختلفة" (حك 2: 15). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يكره السارق النور[44].]
* الفضيلة شبه هكذا: إنها تزعج الرذيلة، وتمثل ثقلًا عليها. أقصد كما أن النار تبيد الشوك، هكذا الرأفة تهيج الناس القساة المتوحشين. إنها موجهة للاتهام بالنسبة للرذيلة. وعلى العكس لاحظوا أصحاب الرذيلة، فإنهم لا يتجاسرون أن يتهموا أو يتفرسوا مباشرة في قوة الفضيلة حتى وهم ينحلون...
الرذيلة تشبه هذا حتى وإن بلغت العرش نفسه للرؤساء المتوجين.
الرذيلة دنيئة ومنحطة عن كل شيءٍ، تمثل بحرًا مرعبًا ومضطربًا وهائجًا، حتى وإن زُينتْ بكل نوع من السلطة.
الفضيلة هي على نقيضها، فإنها حتى وإن كانت في عوزٍ تام، وإن كانت في سجنٍ، فهي أكثر شهرة من الجالسين على العروش، وتتمتع بهدوءٍ كامل، وفي راحة تستلقي في ميناء هادئ، ليس فقط لا تعاني شيئًا من الأشرار، وإنما لديها القدرة أن تنتقم منهم بالصمت، وتوقيع العقوبة على الشر.
فوق هذا كله، أي شيء أكثر بؤسًا من أناسٍ يعيشون في الخطية[45].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* عندما يرى البخلاء صِدْق المحسنين يغتاظون ويصرون بأسنانهم، وأيضًا عندما يبصر الشيطان المؤمنين يصر بأسنانه حسدًا. هكذا غير المؤمنين، إذا رأوا المسيحيين ناجحين في الإيمان يصرون بأسنانهم. هؤلاء جميعًا يهلكون بالنار التي لا تُطفَأ، وتهلك شهواتهم الباطلة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* حتى قبل يوم الدينونة، تثور عذبات الضمير الشرير داخله، وبعد ارتكابه للشر لا يجد مجالًا للهروب من العقوبة، إذ يصير هو نفسه عقوبة لجريمته[46]
الأب قيصريوس أسقف آرل
مزمور 112  (111 في الأجبية)  - تفسير سفر المزامير - خوف الرب غالب كل المخاوف
من وحي المزمور 112

أشرِقْ بنور حبك فيّ!


* أعماقي تصرخ إليك يا أيها النور الحقيقي.
من يطلقني من الظلمة،
ويشرق في داخلي سواك!
سمِّرْ خوفك في لحمي.
مخافتك تهبني الحكمة.
مخافتك تنطلق بي في سماء حبك البهي.
أتطلع إلى وصاياك، فتتهلل نفسي بها.
تتغذى عليها نفسي، فتتشدد بك.
تعمل كلمتك فيّ،
فأحمل ثمار الروح العجيبة!
* أجذبني بروحك القدوس، فأجري إليك.
ويجري كثيرون معي، ليتمتعوا بك.
يصير لي نسل قوي على الأرض.
أشهد لإنجيلك بعمل نعمتك فيّ.
تباركني وتبارك الكثيرين معي.
فننعم بأمجادك وغناك.
نحمل برَّك، يا أيها القدوس.
فلا تستطيع كل عواصف الشر أن تسيء إلينا.
أنت صخر الدهور، نختفي فيك، فنثبت إلى الأبد!
* تشرق علينا بنور حبك.
نراك كلي الحب والحنو،
وكلي البرّ والعدل.
في وسط ضعفاتنا لن نيأس.
نتطلع إليك، فتُغفَر لنا خطايانا بصليبك.
لن تقدر كل قوى العدو أن تُفقِدَنا رجاءنا فيك.
أنت بار وعادل، إن دفعنا العدو للاستهتار نلجأ إليك،
تُسَمِّر خوفك فينا، فلا نتهاون ولا نسترخي.
* هب لي روح الحنو كما أنت حنان.
هب لي الرحمة كما أنت رحوم.
دعني أقرض إخوتي،
بل أُقَدِّم لهم كل ما وهبتني.
كل ما لدي هو لك.
إني مدين لك بكل حياتي وإمكانياتي.
* هب لي روح الحكمة، فأُدَبِّر أموري حسنًا.
لا أشتهي شيئًا سواك،
ولا أخاف أحدًا إلا أنت.
يتصاغر العالم كله في عيني،
بل وتزول الأرض كلها من أمامي.
يتزعزع كل ما هو حولي،
وأبقى ثابتًا فيك إلى الأبد.
* لا أرهب خبرًا ما، مهما كانت صورته.
لن يهتز قلبي، مادام بين يديك.
تتكئ نفسي على صدرك،
فترتفع بجناحي الروح إلى السماء.
ليس من عدو يقدر أن يضايقني.
بك لن تقدر كل قوات الظلمة أن تطفئ نورك الذي سكبته فيّ.
حلولك يسكب بهاءً عجيبًا في أعماقي!
* لماذا يحاول العدو أن يرعبني.
يبذل كل جهده ليجعل من الفضيلة طريقًا مستحيلًا.
ما هي الفضيلة إلا التصاقي بك يا من تسكن في أعماقي!
وما هي الرذيلة والشر إلا هروبي منك.
ألتقي بك، فأتمتع بمجد الفضيلة،
وتسقط كل رذيلة كأوراق الشجر الخريفي.
أنت حياتي ومجدي وغناي!
ماذا أطلب بعد سوى أن تُسَمِّر خوفك في جسمي،
وتلهب كل كياني بحبك؟
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
مزمور 122 (121 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - الفرح ببيت الرب
مزمور 111 (110 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - مخافة الرب طريق المعرفة
مزمور 84 (83 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير -السكنى في بيت الرب
مزمور 27 (26 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - الثقة في الرب
مزمور 25 (24 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - الرب معلمنا


الساعة الآن 02:11 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024