منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 23 - 01 - 2014, 04:48 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,467

مزمور 44 - تفسير سفر المزامير
حُسبنا مثل غنم للذبح



المناسبة:

زمان ضيقة حلّت بالشعب كله [9-14]، ليس بسبب ارتداد أو سقوط في العبادة الوثنية [17-21]، وإنما كانت اختبارًا للإيمان. فالمزمور يمثل صرخة شعبٍ متألم لأجل البِرّ، وهي صرخة تبقى تدوي عبر العصور منذ أباك آدم حيث قتل قايين هابيل بلا ذنب، لها صداها حتى في الفردوس حيث يصرخ الشهداء الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة إلى كانت عندهم، قائلين: "حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟!"... وقيل لهم أن يستريحوا زمانًا يسيرًا أيضًا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وأخوتهم أيضًا العتيدون أن يُقتلوا مثلهم" (رؤ 6: 9-11). إنه موكب الأجيال كلها.
يُعتبر هذا المزمور نموذجًا للدخول في الآلام على مستوى الشعب لا للتأديب بل للمشاركة في الحب الإلهي، إذ نقول: "لأننا من أجلك نُمات كل يوم، وقد حُسبنا مثل الغنم للذبح" [22].
ويعتبر هذا المزمور مثلًا حيًا لحياة الشركة الجماعية مع ممارسة العلاقات الشخصية مع الله... فكثيرًا ما يتحدث المرتل باسم الجماعة دون تجاهل لحديثه الشخصي مع الله ملكه وإلهه... إذ يقول: "أنت هو ملكي وإلهي الذي أمرت بخلاص يعقوب" [4]؛ فهو يصرخ إلى إلهه من أجل الكنيسة (يعقوب) كلها!
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
الإطار العام:

1. معاملات الله في الماضي
[1-3].
ليس بسيفهم ورثوا الأرض ولا ذراعهم خلصهم
سرّ نصرتنا هو كلمة الله المتجسد
2. قرن خلاص دائم
[4-8].
3. امتحان الإيمان الحاضر
[9-16].
الشعور بالهزيمة المرة
لم يسمح الله بالضيقة لنفع خاص به
4. كلمة عتاب
[17-22].
5. صرخة من أجل الخلاص
[23-26].
من أجلك نُمات كل النهار
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
1. معاملات الله في الماضي:

يُستهل هذا المزمور بتسبحة جماعية يترنم بها الشعب وسط الضيق، حيث يتطلع
الكل إلى معاملات الله في الماضي، فيقولون:
"اللهم بآذاننا قد سمعنا؛
وآباؤنا أخبرونا بالعمل الذي عملته
في أيامهم في الأيام الأولى" [1].
يعود الشعب كله بذاكرته إلى معاملات الله مع آبائهم في أيام موسى النبي ويشوع بن نون حين حررهم الله من عبودية فرعون وطرد أمامهم أممًا وقدم لهم أرض الموعد، لا بسيفهم ولا بقدرتهم، وإنما حسب غنى مواعيد الله. إنه عمل نعمة الله الغنية في بدايته كما في نهايته.
الماضي بالنسبة لنا كأولاد لله ليس تاريخيًا عبر وانتهى، لكنه خبرة ممتدة عبر الزمن يعيشها الإنسان مع الله مخلصه المعتني به. الله بالنسبة لنا هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، عمل في الماضي ولا يزال حيًا يعمل في الحاضر مؤكدًا صدق مواعيده معنا حتى يدخل بنا إلى شركة أمجاده المقبلة.
يقول "الهّم بآذاننا قد سمعنا" يعني أن ما بلغهم من آبائهم عن معاملات الله معهم هو أمر أكيد خالٍ من كل ريب.
إنه من واجب الآباء أن يقدموا لأبنائهم خبرة حياتهم مع الله بكونها وديعة الإيمان الحيّ العامل عبر الأجيال، التقليد المُسلم مرة للقديسين، تعيشه الكنيسة عبر الأجيال لتختبر الحياة الإنجيلية الفعّالة. ويليق بالأبناء أيضًا أن يتلقنوا هذه الخبرة المعاشة، والإنجيل العملي ليعيشوه كما عاشته الأجيال الأولى. يقول موسى النبي: "سل أباك فيخبرك" (تث 32: 7).
يُقدم لنا الأب بابياس أسقف هيرابوليس تلميذ القديس يوحنا الإنجيلي خبرته فيقول:
[لا أتردد في أن أضيف ما تعلمته وما تذكرته جيدًا من تفاسير تسلمتها من الشيوخ، لأني واثق من صحته تمامًا... فإنني ما ظننت أن ما يُستقى من الكتب يفيدني بقدر ما ينقله الصوت الحيّ الباقي[823]].
ما هي الخبرة التي ذاقها المرتل مع الشعب؟
"يدك استأصلت أممًا وغرستهم،
أضررت بالشعوب وأخرجتهم.
لأنه ليس بسيفهم ورثوا الأرض،
ولا ذراعهم خلصهم.
لكن يمينك وذراعك وضوء وجهك،
لأنك سررت بهم" [2-3].
1. أول هذه الخبرات هي أن يد الله استأصلت أممًا وثنية ليغرس شعبه. هذه هي خطة الله في حياة الإنسان، يريد أن يستأصل كل مملكة فاسدة في القلب ليقيم ملكوته داخله (لو 17: 21).
ما هي يد الله التي تستأصل لتغرس إلا الكلمة الإلهي، الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان (يو 1: 3). الكلمة الخالق والعامل تجسد لأجلنا ليطرد عنا الطبيعية الفاسدة ويغرسنا فيه أعضاء جسده المقدس. لقد عرفت الشياطين رسالة السيد المسيح، الكلمة المتجسدة، لذلك أثناء خدمته كانت تصرخ: "أتيت لتطردنا!". حقًا لقد جاء لكي يُحطم مملكتهم ويطردهم من قلب الإنسان كما من السماء ليعلن مجده السماوي فينا. لهذا قال للتلاميذ: "رأيت الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق".
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
2. "ليس بسيفهم ورثوا الأرض ولا ذراعهم خلصهم".

هذه هي خبرة أولاد الله عبر العصور، فإن شعبه لم يتحرر من عبودية فرعون بذراع بشري ولا بسيف مادي، وإنما بدم الحمل واهب الخلاص. قال موسى للشعب: "لا تخافوا؛ قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم... الرب يُقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 13، 14). وقد رنم الكل قائلين: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر؛ الرب قوّتي ونشيدي؛ وقد صار خلاصي... الرب رجل حرب" (خر 15: 1-3).
لم يغلب موسى عماليق بالسيف وإنما ببسط يديه كما على مثال الصليب.
وعند دخول يشوع أرض الموعد حطم أسوار أريحا لا بالسيف بل بأبواق الهتاف وتابوت العهد (يش 6: 4).
وقال داود الصبي لجليات الجبار: "أنت تأتي إليّ بسيف وبرُمح وبترس؛ وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (1 صم 17: 45).
لسنا نرث أرض الموعد، أورشليم العليا، بسيفنا وإنما بسيف الرب الخارج من فمه (رؤ 1: 16؛ 19: 15) القادر أن يفصل الحق عن الباطل، يبتر فينا ما هو دنس.
3. سرّ النصرة هو يمين الرب وذراعه وبهاء وجهه [3].
"يمينك" هو قوتك، ذراعك هو ابنك ذاته، ونور وجهك.
ماذا يعني هذا إلا أنك كنت حاضرًا معهم؛ بمعجزات مثل هذه أُدرك حضورك. فإنه عندما يظهر حضور الله بأية معجزة هل نرى وجهه بعيوننا؟ لا، وإنما بفاعلية المعجزة يقترب بحضرته إلى الإنسان.
القديس أغسطينوس

سرّ نصرتنا هو كلمة الله المتجسد فهو:

أ. يمين الآب، أي قوته؛ بكونه كلمة الله العاقلة أو عقل الله الناطق. يقول العلامة أوريجانوس[824]: [إنه دُعي هكذا لأن به صنع كل الكائنات مُظهرًا قوة الله].
ب. ذراع الرب، لأن كل عطية إلهية هي من عند الآب بالابن في الروح القدس. هي عطية واحدة يُقدمها الآب بتدبيره، ويحققها الابن الكلمة العاقلة، لذا دُعي ذراع الآب أو يده. عندما يقول الكتاب إن الرب بسط يده أو شمر عن ذراعه، إنما يقصد بذلك التجسد الإلهي، حيث نزل إلينا مخبرًا إيانا عن خطة الآب وحبه وعمله[825].
ج. بهاء وجه الآب، وكما يدعوه الرسول: بهاء مجده" (عب 1: 2). فهو بهاء النور، وواحد معه؛ إذ لا يمكن أن يكون النور نورًا بغير بهاء، ولا وجود للبهاء بدون النور... لهذا قيل أيضًا عنه: "نور من نور"، لأنه هو البهاء الصادر عنه أزليًا غير منفصل عنه في ذات الجوهر[826].
4. لعل من أروع الخبرات التي يتسلمها أولاد الله من خلال معاملاته مع مؤمنيه عبر التاريخ أنهم موضع سرور الله. هذا ما عبر عنه المرتل بقوله: "لأنك سررت بهم" [3].
الله ليس في عوز إلينا، إنما هو الحب المعطاء، الذي يود أن يعطينا شركة الحياة معه، لا لسبب آخر سوى أننا موضع سروره. إذ أخطأنا إليه جاء كلمة الله المتجسد ليقدم نفسه ذبيحة حب وطاعة فيشتمَّها الآب رائحة سرور ورضا حتى إذ نصير أعضاء جسده نُحسب موضوع سروره ورضاه، نازعًا لعنة الخطية عنا!
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
2. قرن خلاص دائم:

إذ يعتز المرتل بمعاملات الله مع شعبه في الماضي يحوّل هذه الخبرة إلى واقع حاضر حيّ، باختبار خلاص الله كحياة حاضرة مُعاشة.
1. خلاص جماعي شخصي، يرى في الله العامل في التاريخ كله أنه ملكه الشخصي وإلهه، وفي نفس الوقت خلال حياة الشركة الشخصية يطلب المرتل باسم الجماعة (يعقوب)، إذ يقول:
"أنت هو ملكي وإلهي،
الذي أمرت بخلاص يعقوب" [4].
خلال العلاقة الشخصية التي تربط المرتل بالله إله كل البشرية، حاسبًا إياه ملكه وإلهه صارت له ملء الدالة أن يطلب الله بوعوده... فقد وعد بخلاص شعبه، إذ يقول له: "أنت أمرت بخلاص يعقوب".
ما أجمل أن يستغل المؤمن دالته لدى الله لا لنفعه الخاص بل لبنيان الجماعة كلها، وخلاص الغير؛ فحينما ننسى أنفسنا نحبها، وحينما نطلب من أجل الغير ننال لحسابنا أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب.
2. إذ نتمسك بدالة بوعود الله مع شعبه نحمله "قوة لنا"، به ننال الغلبة على عدو الخير الذي لا يكف عن أن يشتكي ضدنا.
"بك نذبح أعداءنا،
وباسمك نرذل كل الذين يقولون علينا" [5].
لا يميز المرتل بين "الله" و"اسم الله"، فبالله نذبح أو ننطح أعداءنا، وباسمه نرذِل المشتكين علينا أو ندوس على مقاومينا. لأن اسم الله إنما يعني الحضرة الإلهية!
من هم أعداؤنا الذين نذبحهم إلا أعمال الإنسان القديم؟! ومن هم الذين نرذلهم إلا الخطايا والأرواح الشريرة؟! فالمؤمن الحقيقي إذ يقبل الله ملكًا يُسلم حياته الداخلية وجسده وسلوكه وممتلكاته لحساب الملك، فيعيش في ملكوت الله الذي لا يعرف الفشل أو الهزيمة.
3. نفتخر بالله مخلصنا، ونعترف باسمه، ونمجده من أجل أعماله معنا.
"لأني لست بمتكل على قوسي،
وسيفي لن يخلصني.
لأنك أنت الذي نجيتنا من الذين يحزنوننا.
وأخزيت الذين يبغضوننا.
بإلهنا نفتخر اليوم كله.
وباسمك نعترف إلى الدهر" [6-8].
إذ أنت ملكنا يخلص شعبك لا بقوتهم ولا بأسلحتهم بل بك، فتصير موضوع فخرهم وتسبيحهم الذي لا ينقطع.
هكذا كان الماضي، فماذا عن المستقبل؟ بك نذرّي أعداءنا. فسيأتي وقت فيه يُذرَّى أعداء المسيحيين كالقش، يُنفخون كالتراب، ويُطردون من الأرض (الجديدة أي الأبدية)... هذا بخصوص المستقبل.
إنني لا أثق في قوسي، كما لم يثق آباؤنا في سيفهم؛ وسيفي لن يخلصني [6]...
ماذا يعني "سنفتخر"؟ ماذا يعني "سنعترف" [8]؟
إنك تخلصنا من أعدائنا، إذ تعطينا ملكوتًا أبديًا، وفينا تتحقق الكلمات: "طوبى للذين يسكنون في بيتك، أبدًا يسبحونك".
القديس أغسطينوس
حينما يريد الشيطان اصطيادنا في شباكه، ولا يجد شيئًا فينا يخصه، يرحل مرتبكًا، أما نحنن فنستطيع أن نسبح الله مع النبي، ونقول للرب: "الذي نجيتنا من الذين يحزنوننا وأخزيت الذين يبغضوننا"[827].
الأب قيصريوس أسقف آرل
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
3. امتحان الإيمان الحاضر:

يصف المرتل الضيقة الحاضرة في مرثاة جماعية مُرّة، جاء فيها:
1. يشعر المرتل كأن الله قد سحب نفسه من وسط جيش شعبه، فصار الكل ضعيفًا للغاية، وحلّ بهم الخزي والعار.
"فالآن قد أقصيتنا عنك
وأخزيتنا،
ولم تخرج معنا في قواتنا" [9].
مل حلّ بالشعب ليس بسبب قوة العدو وإنما بسبب انسحاب الله إلى حين، وفي هذه المرة ليس بسبب خطية معينة للتأديب وإنما لامتحان إيمانهم.
"قد أخزيتنا"، ليس أمام ضمائرنا بل في أعين الناس، حيث كان (المسيحيون) في كل موضع يُطردون. اعتادوا أن يقولوا في كل مكان: "إنه مسيحي" كما لو كانوا مقتنعين أن هذا سب وعار!
أين إذن "إلهنا وملكنا" الذي "أمر بخلاص يعقوب"؟
أين ذاك الذي صنع كل هذه الأعمال التي أخبرنا بها آباؤنا؟
أين ذاك الذي صنع بعد ذلك كل الأمور التي أعلنها لنا بروحه؟
هل تغير؟! بلى، فإن هذه الأمور قد صُنعت "للفهم لبني قورح". إذ يليق بنا أن نفهم شيئًا وراء ذلك من أسباب، لماذا أراد لنا أن نُعاني كل هذه الأمور في وقت معين. ما هي هذه الأمور؟ لقد أقصيتنا وأخرجتنا ولم تخرج معنا يا الله في قواتنا!
لقد خرجنا لنلتقي بأعدائنا، وأنت لم تخرج معنا. لقد رأيناهم أقوياء جدًا، ونحن بلا قوة. أين هي قدرتك؟ أين يمينك وقوتك؟ أين هو البحر الذي جفَّ والمصريون المقتفون الأثر غارقين في أمواجه؟ أين انهيار مقاومة عماليق بعلامة الصليب؟ "أنت يا الله لم تخرج معنا في قواتنا".
القديس أغسطينوس
كثيرًا ما يسحب الله يديه عنا إلى حين لا ليتخلى عنا وإنما لكي يعلمنا ويدربنا إننا بدونه لا نقدر أن نغلب، ولكي يهبنا فرصة إعلان حبنا له بالجهاد حتى وإن لم توجد تعزيات سماوية. هذا ما أوضحه القديس أنبا أنطونيوس في رسائله، إذ يقول: [بإن الله في بداية الطريق يقدم تعزيات كثيرة تملأ القلب فرحًا وتبعث فينا روح الجهاد، لكنه يرفع تعزياته إلى حين دون أن يتركنا فنشعر بجفاف شديد... هنا نعلن حبنا له من أجله ومن أجل حبنا له حتى وإن لم ننل تعزيات، بإصرارنا على الجهاد وطلب نعمته المجانية!
يُشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الله بمربية تسحب يديها من تحت يديْ الطفل الذي يتعلم المشي، حتى وإن سقط مرة ومرات، حتى وإن بكى، فإنه إذ يرفع عينيه يجد
مربيته تتطلع إليه بعينها وبقلبها، لكنها تطلب نضوجه المستمر! إنها لن تتركه!
يبدو كأن الله قد طردنا من وجهه أو تخلى هو عنا، وتركنا في عارٍ، ولم يخرج معنا في جهادنا الروحي... لكن، لنؤمن أنه حالّ فينا، لن يتخلى عنا! إننا أعضاء جسد المسيح، يعمل بروحه القدوس فينا لمجدنا في الوقت المناسب.
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
2. الشعور بالهزيمة المرة، الأمر الذي يفضح مدى ضعفنا وعجزنا وجفافنا.

"رددتنا إلى الوراء أكثر من أعدائنا،
ومبغضونا اختطفونا لأنفسهم.
دفعتنا مثل الغنم للأكل.
وشتتّنا في الأمم" [10-11].
كثيرًا ما يسقط المؤمن في الكبرياء بعد نواله سلسلة من النصرات، لهذا أحيانًا يرفع الله يده عنه إلى حين، ليكتشف ضعفاته. هنا إذ رفع الرب يده ولم يخرج مع شعبه ارتدوا إلى الوراء ليحلق بهم الأعداء ويمسكون بهم ويسبونهم عبيدًا لهم، يحملونهم إلى الأعداء، ويصيرون في الشتات. هنا يدرك الشعب مدى ضعفه، فإنه أشبه بغنم عاجز عن القتال ضد الذئاب، أو هم غنم لا يصلح حتى للولادة بل يُذبح للأكل!
مسكين هو ذاك الذي يظن في نفسه شيئًا عندما يهبه الله نصرات متوالية أو مواهب ثمينة، فإنه إذ يسقط في الكبرياء تتخلى عنه النعمة الإلهية ليعرف ضعفه وخزيه وجفاف طبيعته حتى إنه لا يصلح إلا للذبح! لهذا يقول الرسول محذرًا من الكبرياء: "فهذا أيها الإخوة حولته تشبيهًا إلى نفسي وإلى أبولس من أجلكم لكي تتعلموا فينا أن لا تفتكروا فوق ما هو مكتوب كي لا ينتفخ أحد لأجل الواحد على الآخر؛ لأنه من يميزك؟ وأي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!" (1 كو 4: 6-7). كل ما بين أيدينا هو عطية الله أخذناها كهبة مجانية، فلماذا نفتخر على الآخرين؟
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
3. لم يسمح الله بالضيقة لنفع خاص به:

"بِعت شعبك بلا ثمن
وما ربحت بثمنهم" [12].
يبدو كأن المرتل يُعاتب الله إنه يبيع شعبه ولا ينال ثمنًا، فصار الشعب في خزي ولم يتمجد الله في شعبه ولا في أعدائه الذين يهينون اسمه ويذلون شعبه. وكما يقول القديس أغسطينوس: [عندما كان المسيحيون يهربون من أمام الأعداء الوثنيين، هل كانوا يقيمون اجتماعات واحتفالات لمجد الله؟ هل كانت التسابيح تُرنم بانسجام جماعي في كنائس الله كما كانت العادة في وقت السلام حيث كانت تُنشد بعذوبة الاتفاق الأخوي في أذني الله؟].
إنه عتاب ودِّي مع الله لكي يرفع الضيقة، ويسند مؤمنيه، فيسبحون وينشدون معًا في جو من السلام والأمان.
ولعله أيضًا يمثل هذا القول عتابًا موجهًا إلى الشعب، فإن الله لا يطلب نفعًا لنفسه من وراء ضيقتهم إذ لم يبعهم للعدو منتظرًا ثمنًا أو ربحًا، إنما يطلب بنيانهم وخلاصهم الأبدي ومجدهم.
4. في ضيقتنا نحتمل آلام المسيح، لنُحسب شركاءه في صلبه كما في قوة قيامته وبهجتها، لهذا جاء وصف الألم ينطبق على السيد المسيح في محاكمته وآلامه وصلبه، كما ينطبق على كنيسته التي تشاركه آلامه:
"جعلتنا مثلًا في الأمم،
وهز الرأس في الشعوب.
طوال النهار خجلي أمامي هو،
وخزي وجهي قد غطاني
من صوت المعيّر لي والثالب
ومن وجه عدوٍ مضطهد لي" [14-16].
يقول القديس أغسطينوس: [لقد تكلموا بشفاههم ونفّضوا برؤوسهم. هذا هو ما فعلوه بالرب وأيضًا بكل قديسيه... هؤلاء الذين كانوا قادرين أن يقتفوا آثارهم، ويمسكوا بهم، ويهزأون بهم، ويخونوهم، ويفعلوا بهم ما يريدون ويذبحونهم].
يرى البعض أن الحديث هنا ينطبق على الشعب القديم خاصة عند سبي أورشليم أو يهوذا حيث صارت الأمم المحيطة تهزأ بهم ويهزون رؤوسهم في سخرية، خاصة الأدوميون الذين كانوا يغلقون الطرق أمام الهاربين من يهوذا لكي يمسكونهم ويسلمونهم للكلدانيين كما حوَّلوا مدن يهوذا الخربة إلى مراعٍ لأغنامهم[828].
ويرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن نفض الرأس أو هزّها كنوع من السخرية
يشير إلى عمل الهراطقة أعداء الكنيسة الذين يودون أن يهزوا إيماننا بالرأس المسيح، بهذا نصير في عارٍ وخزي.
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
4. كلمات عتاب:

إذ يصف المرتل ما حلَّ بالشعب من ضيقة يدخل مع الله في كلمة عتاب، وهذا ما يريده الله منا وسط آلامنا، يودُّ أن نلتصق به ونحاوره، نعرف كيف نتحدث معه، فإننا في أوقات الفرج كثيرًا ما ننشغل بذواتنا ونتعرض للتشامخ والكبرياء، ولا يكون لله موضع في قلوبنا.
لنعاتبه كأبناء فهو يصغي مشتاقًا أن يعطي بسخاء! يعطي ذاته وحبه وليس فقط خبراته وبركاته!
في عتاب المحبة يندهش المرتل، متسائلًا: لماذا سمح الله للشعب بالضيقة:
"هذه كلها جاءت علينا ولم ننسَك،
ولا غدرنا بعهدك،
ولم يمل قلبنا إلى خلف،
ولا مالت خطواتنا عن طريقك" [16-17].
يشتاق أن يسمع الله مثل هذه العبارات التي لا تحمل برًا ذاتيًا ولا دفاعًا عن النفس أمام الله، وإنما إيمانا به وتمسكًا بطريقه وإعلانًا عن صدق حبنا له. إنها ككلمات الرسول بطرس بعد سقوطه: "يا رب أنت تعلم كل شيء؛ أنت تعرف أني أُحبك" (يو 21: 17)، وأيضًا كلمات الرسول بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟! أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟! كما هو مكتوب إننا من أجلك نُمات كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 35-36). هكذا يعلن المرتل بأن الشعب لم ينس الله وسط الضيقة، ولا كسر العهد معه، ولا مال بقلبه إلى خلف، ولا انحرف بسلوكه عن الطريق الملكوي. إنهم لم يفعلوا مثل امرأة لوط التي نظرت إلى الوراء فصارت عمود ملح (تك 19: 26)، ولا مثل الإسرائيليين الذين تذمروا في البرية لأنهم اشتهوا الجلوس عند قدور اللحم يأكلون خبز العبودية (خر 16: 3)، ولم يضعوا أيديهم على المحراث وينظرون إلى الوراء (لو 9: 26)؛ وإنما يفعلون مثل الرسول بولس الذي ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13).
ما هو الطريق الذي لا نُحيد عنه إلا "السيد المسيح" القائل: "أنا هو الطريق والحق والحياة"؟ كانت أنظار رجال العهد القديم تتطلع إليه في رجاء بكونه مشتهى الأمم، وفيه تمتعنا بالحياة الجديدة المقامة... وها نحن ننتظره قادمًا على السحاب، مرنمين كل يوم: "آمين؛ تعال أيها الرب يسوع" (رؤ 22: 20).
يرى القديس أغسطينوس أن المرتل هنا يُعلن أنهم لم ينحرفوا عن الطريق الضيق الذي رسمه الرب لبلوغنا الأبدية؛ هو طريق مُرّ لا يدخل بنا إلى الموت بل إلى ظلال الموت، إذ يقول المرتل: "غشيتنا بظلال الموت". فإن كانت التجار بكل شدتها تدفعنا إلى موت الجسد، إنما تدخل بنا إلى ظل الموت. [لأن موتنا هو ظل الموت، أما الموت الحقيقي فهو إدانة إبليس].
يكمل المرتل عتابه، قائلًا:
"إن كنا نسينا اسم إلهنا،
وإن كنا بسطنا أيدينا إلى إله غريب،
أفليس الله المطالب بهذه؟!
لأنه هو يعرف خفايا القلب" [20-21].
في عتابه هذا يعلن الآتي:
1. ليس لي أن أتكلم، فأنت تعلم يا الله خفايا القلب، أنت تعرف أننا لم نرتبط بإله آخر باسمك القدوس، ليس فقط في الظاهر، وإنما في أعماق القلب.
2.نحن نعرفك ولا ننساك، لذا أنت تعرفنا معرفة المحب لمحبوبيه. معرفة الله هنا لا تعني الإدراك العقلي وإنما معرفة العلاقة القوية، معرفة الحب (مت 7: 23). الله القدوس لا يقبل في معرفته إلا القديسين.
3. إن كانت الضيقة قد اشتدت جدًا، وثار الأعداء علينا، وكدنا ندخل إلى الموت، لكننا في هذا كله لم ننسك. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [كلما تحرش بنا الأعداء يزداد بالأكثر تحررنا؛ وإن كانوا يقاوموننا فإننا نجتمع معًا، وإذ أرادوا طرحنا عن الصلاح لنكرر بالأكثر قائلين: "هذه كلها جاءت علينا ولم ننسَك"[829]].
أخيرًا يختم عتابه، قائلًا:
لأننا من أجلك نُمات كل يوم،
وقد حُسبنا مثل غنم للذبح" [22].
إذ يتحدث الرسول بولس عن حب الكنيسة لمسيحها يقول: "كما هو مكتوب: إننا من أجلك نُمت كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 36).
هذا هو صوت الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور التي تقبل الدخول في الطريق الشهادة لله حتى الموت، تقبل شركة آلام المسيح بسرور، فنشتهي أن تُحسب كالغنم المقدم لأجله للذبح كما سيق هو كشاة للذبح (إش 53: 7)... تمارس الموت الاختياري كل يوم، إن لم يكن بسفك الدم فبالجهاد الروحي والبذل والعطاء لكل أحد حتى لغير المؤمنين لأجل الله محب البشر!
أنا كاهن سيدي يسوع المسيح، وله أقدم الذبيحة كل يوم، وأرغب أن أقدم حياتي ذبيحة كما قدم حياته ذبيحة حبًا فيّ[830].
لتأتِ عليّ كل هذه: النار والصليب، ومجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر... لتنصبَّ عليّ كل عذابات الشيطان، على أنني أبلغ يسوع المسيح[831].
لماذا أُسلم نفسي إلى الموت؟! إلى النار، إلى السيف، إلى الوحوش الضارية...؟! القريب من السيف هو قريب من الله، والذي مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وأنني أحتمل كل شيء لأشترك في آلامه[832].
القديس أغناطيوس الأنطاكي
هو يجعلهم ذبيحة وتقدمة (يومية) دون موت[833].
من الممكن أن نُمات عدة مرات في يومٍ واحدٍ؛ لأنه من كان مستعدًا على الدوام أن يموت يحفظ مكافأته ليستلمها كاملة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
القديسون الذين يقدمون أنفسهم (ذبيحة) لله إنما يقدمون أنفسهم أحياء كل يوم.
لنقدم أنفسنا (ذبائح)، ولنمت عن ذواتنا لأجل المسيح إلهنا.
كيف وضعوا أنفسهم للموت؟ بأن كفَّوا عن محبة العالم وما فيه (1 يو 2: 15)... عن هذا يقول الرسول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24). هكذا وضع القديسون أنفسهم للموت[834].
الأب دوروثيؤس من غزة
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
5. صرخة من أجل الخلاص:

إن كانت محبتنا لله تدفعنا أن نموت لأجله كل يوم بل طول النهار، بالجهاد المستمر ضد الخطية، وتسليم الإرادة مبذولة لتعمل نعمة الله المجانية في حياتنا، وأن نشهد للحياة الإنجيلية حتى المنتهى... هذا يتحقق لا من منطلق ليأس أو الشعور بالهزيمة وإنما بيقين التمتع بقوة قيامة الرب وبهجتها. يقول المرتل:
"استيقظ يا رب، لماذا تنام؟!
قم، ولا تُقصِنا عنك إلى الانقضاء.
لماذا تصرف وجهك عنا؟
ونسيت مسكننا وضيقتنا؟!
فإن نفوسنا قد اتضعت حتى التراب،
ولصقت بالأرض بطننا.
قم يا رب أعنا وأنقذنا من أجل اسمك القدوس" [23-26].
هذا هو إيمان الكنيسة كلها في القيامة مع السيد المسيح. هذه هي صرخات الشهداء أثناء عذاباتهم، والمجاهدين أثناء أتعابهم. ففي اتضاع يسجدون حتى الأرض وتلتصق بطونهم بالتراب طالبين قوة قيامته، قائلين مع الرسول: "فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه" (رو 6: 8)، "وأقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات في المسيح يسوع" (أف 2: 6).
ماذا يعني المرتل بالألفاظ: "استيقظ... تنام... قم"؟
يُظهر المزمور بالكلمات "تنام" صبر الله وطول أناته علينا[835].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يُطالبنا القديس جيروم أن نُيقظ السيد المسيح النائم في داخلنا، أي نيقظ إيماننا به بالتوبة، قائلًا: [إن كان بسبب خطايانا ينام، فلنقل: "استيقظ، لماذا تتغافى يا رب؟!" [44]. وإذ تلطم الأمواج سفينتنا فلنُيقظه، قائلين: "يا سيد نجنا فإننا نهلك" (مت 8: 25؛ لو 8: 24) [836]].
ويرى القديس كيرلس الكبير أن إيقاظ السيد المسيح إنما يعني الصراخ إليه وسط الضيقات والآلام مع الاتكال عليه؛ إذ يقول: [المسيح حال وسط مختاريه، وإذ يسمح لهم بحكمته المقدسة أن يعانوا من الاضطهاد يبدو نائمًا. ولكن إذ تبلغ العاصفة أوجها والذين في صحن السفينة لا يقدرون أن يحتملوا يلزمهم أن يصرخوا: "قم لماذا تتغافى يا رب؟!" [23]. فإنه يقوم وينزع كل خوف بلا تأخير[837]].
في ذات المعنى يقول العلامة أوريجانوس: [إنه نائم في هدوء مقدس يرقب صبركم واحتمالكم، متطلعًا إلى توبة الخطاة ورجوعهم إليه[838]].
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
من أجلك نُمات كل النهار

أشرقت يا شمس البر على حياتنا،
فلم يعد فيها ليل،
بل صارت كلها نهارًا!
أشرقت علينا بصليبك أيها الكاهن والذبيح!
أهّلنا أن نرتفع معك على صليبك،
ونحمل آلامك،
ونُسر بمعيتك أيها الحب الحقيقي!
أنت سيد التاريخ وضابطه،
صنعت عجائب مع آبائنا!
وتبقى يدك تعمل في حياتنا،
تستأصل من قلوبنا ممالك الشر،
وتغرس مملكتك فينا!
أنت العامل فينا،
لأننا موضع سرورك وحبك.
تملك في قلوبنا بسيف كلمتك،
بجراحات حبك!
في ضيقتنا حسبناك قد تركتنا،
بعتنا للغير بلا ثمن!
صار العدو يسخر بنا ويعيِّرنا،
ونحن في انسحاق نسجد لك،
تلتصق بطوننا بالتراب،
لتخرجنا كما من القبر،
وتهبنا قيامتك عاملة فينا!
لك المجد أيها القائم من الأموات،
أقمنا معك، وأجلسنا معك في سمواتك
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير- حُسبنا مثل غنم للذبح
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
مزمور 44 - وقد حُسبنا مثل غنم للذبح
مزمور 44 - حُسبنا مثل غنم للذبح
مزمور 92 - تفسير سفر المزامير - مزمور السبت
مزمور 38 - تفسير سفر المزامير - مزمور التوبة الثالث
مزمور 23 (22 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير - مزمور الراعي


الساعة الآن 11:39 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024