الضمير والإرادة
والضمير في طريقه، قد يصطدم بأمور عديدة أولها الإرادة.
فإذا مالت الإرادة نحو الخطية، وأرادت تنفيذها، وحاول الضمير منعها، فإنها تعمل على إسكات هذا الضمير أو الهروب من صوته. ويقوم صراع بين الضمير والإرادة:
إما أن ينتصر فيه الضمير، وإما أن تنتصر فيه الإرادة وتنفذ الخطأ.
إن الضمير هو مجرد صوت يوجه الإرادة نحو الخير، ويبعدها عن الشر، ولكنه لا يملك أن يرغمها.
يكفي أن يكون مجرد صوت، يصيح باستمرار في عقل الإنسان وفى قلبه: إن هذا الأمر خطأ، فيشهد للحق..
يوحنا المعمدان لم يرغم هيرودس على الخير، بل كان مجرد صوت يصيح في وجهه، إنه لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك زوجة. ولم يسمع هيرودس للمعمدان، ولكن ذلك النبي العظيم بقى ضميرًا للشعب كله، يصيح في وجه الملك الفاسد: لا يحل لك.
والإرادة قد تحاول إسكات الضمير، بحجة سلامها النفسي..!
إنها لا تريد أن يكون هذا الضمير سببًا في تعكير صفوها الداخلي، فيفقدها سلامها ويتعب نفسيتها. لذلك تسكته هذه الإرادة المريضة يهمها راحة النفس، وليس راحة الروح، فالروح تستريح في طاعة الرب وفى نقاوة القلب، وترحب في هذا بالتوبيخ، عكس النفس التي يتعبها التوبيخ..
وقد تهرب الإرادة من الضمير، ولا تعطيه فرصة..
تهرب من محاسبة النفس، وتهرب من توبيخ الضمير، بالمشغولية المستمرة. وإن أتاها صوت الضمير من مصدر خارجي، من أب أو صديق أو معلم، تحاول أن تغير مجرى الحديث إلى موضوع آخر، لأن صوت الضمير يتعبها، فتهرب منه.
وقد يجد الضمير أنه لا مجال له، فيستكين ويصمت.. ويمضى الوقت ويتعود الصمت، ولا يتدخل في أعمال الإرادة..
وتبقى الإرادة وحدها في الميدان، تعمل ما تشاء، وتتفرغ لرغباتها، ولا تعطى فرصة للضمير.. فيصيح ضميرًا غائبًا، أو ضميرًا مستترًا، أو ضميرًا نائمًا، ويتعطل عمله في الإرشاد..
وتساعد الضمير على السكوت، وسائل التسلية المتعددة، ووسائل الترفيه وطغيان لذة الخطية، والمشغولية المستمرة، وعدم جدوى التوبيخ، ويأس الضمير من إمكانية العمل،أو الوعد المستمر بتأجيل التوبة. وهكذا يبدو أمام الضمير أنه لا فائدة، وتنتصر الإرادة على الضمير وتبقى في الخطية. لآن الضمير مجرد مرشد، لا يرغم الإرادة على قبول مشورته.
الضمير مثل إرشادات المرور في الطريق، قد تضئ باللون الأحمر لكي يقف السائق، ولكنها لا ترغمه على الوقوف.
ما أسهل أن يخالف السائق إشارة المرور الحمراء، ويستمر في سيره، وتكتب له مخالفة ولا يبالي. إن الضمير مجرد مرشد، أما التنفيذ ففي يد الإرادة.
فهل إذا انحرفت الإرادة، وأسكتت الضمير، يهلك الإنسان؟
هنا تتدخل إرادة الله، ويرسل نعمته، ليخلص الإنسان من إرادته.
مادام ضمير الإنسان ضعيفًا، والإرادة المنحرفة مسيطرة، أذن لابد من قوة خارجية تتدخل لإنقاذه،هنا يدخل روح الله القدوس، وهنا تظهر ثمار صلوات الملائكة والقديسين، وتعمل النعمة، لكي توقظ الإنسان الغافل، وتلين قلبه القاسي.
مثال ذلك ما حدث لمريم القبطية، وهى في عمق الخطية، لا تفكر إطلاقًا في التوبة، بل تشتاق إلى خطايا جديدة تسقط فيها كثيرين.. ولكن النعمة اجتذبتها في مدينة القدس، وسرعان ما استجابت لعمل النعمة، وتابت بل صارت قديسة عظيمة، استحقت أن تبارك القس زوسيما.
النعمة قد تتدخل وحدها، بافتقاد من روح الله القدوس. أو تتدخل بناء على صلاة تطلب معونة الله.
وقد تكون الصلاة من شخص الخاطئ نفسه، يصرخ إلى الله قائلًا توبني يا رب فأتوب" (أر18:31). وربما تكون من أحبائه المحيطين به، المصلين من أجل خلاصه، وقد تكون الصلاة من أرواح الملائكة القديسين الذين انتقلوا.
إذن الأمر يحتاج منا إلى صلوات لتتدخل المعونة الإلهية.
إن الناس لا تنقذها مجرد العظات، فالعظات قد تحرك الضمير، وربما مع ذلك لا تتحرك الإرادة نحو الخير..!
نحن محتاجون إلى قلوب تنسكب أمام الله في الصلاة، لكي يعمل في الخطاة، ويجذبهم إلى طريقة، فالرسول يقول "الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى، فلست أجد، لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر إياه أفعل" (رو18:7،19).
هناك عبارة جميلة وردت في سفر زكريا النبي عن يهوشع الذي كان واقفًا بملابس قذرة والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه، فجاء واحد من طغمة الأرباب، وقال للشيطان "ينتهرك الرب يا شيطان، ينتهرك الرب. أفليس هذا شعلة منتشلة من النار؟" (زك2:3). وأنقذ الرب يهوشع..
ومع تدخل النعمة، يبقى الإنسان أيضًا حرًا.. يستجيب للنعمة أو لا يستجيب. يفتح للرب الذي يقرع على بابه (رؤ20:3) أو لا يفتح. يقبل عمل الروح، أو يحزن الروح، أو يطفئ حرارة الروح، أو يقاوم الروح..!