الحب في الزواج أو البتولية
لا تحصر العلاقات الزوجية في الممارسات الجسدية وحدها، بل تبقى هذه الأخيرة جزءًا متكاملًا مع بقية جوانب الحياة، فهي تحمل معنى الوحدة بين الزوجين لا على مستوى الجسد وحده، وإنما على مستوى الفكر والعاطفة وبذل الذات، أي تقديم الإنسان نفسه his self للآخر. بهذا يُعلن الحب في العلاقات الجسدية الزوجية لا كتقديم خدمة للآخر أو إرضاء له ولا كاشباع لذة ذاتية للإنسان (يتقوقع حول الأنا) وإنما كاتساع قلب خلاله يمارس الإنسان عطاء النفس self-giving ببهجة قلب. بهذا المفهوم المشترك لدى الطرفين يقوم الزواج كسّر حب صادق وإلا تحطم.
بهذه النظرة الحية نتفهم العلاقات الزوجية بما تتضمنه من علاقات جسدية، إنها ليست تحطيمًا لعذراوية النفس وطهارتها. لهذا يرى القديس أغسطينوس أن الزوجين لا يفقدان بتوليتهما (الروحية) وعفتهما ما دامت الشهوات المنحرفة لا تسيطر عليهما، إنما يسلكان بطريقة طبيعية ليحقق الزواج هدفه (الإنجاب)، حتى إن تم الجماع أو الإنجاب (8).
لسنا ننكر ما لبتولية الجسد من أثر على بتولية النفس، وذلك كما للصوم الروحي الحيّ من أثر على انسحاق النفس، إن قدمت هذه الممارسات (بتولية الجسد والصوم الخ...) بفكر روحي متفتح وحياة حكيمة جادة مع اتساع القلب بالحب لله والناس.
ما يلزم تأكيده هنا أن العلاقات الزوجية ليست فقدانًا لفضيلة البتوليّة الداخلية، ما دام الإنسان لا يعيشها خلال لذة الجسد وتأكيد الأنا وإنما خلال الحب العملي والبذل وعطاء النفس. هذه الحياة التي لن يتفهمها الإنسان كما ينبغي أو يمارسها إلا بمساندة النعمة الإلهية المجانية، ليعيشا معًا بروح الله القدوس في المسيح يسوع رأس الكل، يصيرا واحدًا معه، مختبرين أبوة الله المحتضنة للبيت ككنيسة صغيرة، لذا يدعى الزواج سرًا Sacramental.
الزواج هو "وحدة القلب" على صعيد الإنسان بكليته، يسند بتولية النفس ويؤكدها، لأن المتزوج (والمتزوجة) يحتاج إلى الاتحاد مع الله "الحب الحقيقي" لكي يملك في داخله الحب ويتفهمه ويعيشه ويقتنع به وينمو فيه ويقدمه،بمعنى آخر نمو علاقتنا مع الله يهبنا الحب لنعيشه سواء في الحياة البتوليّة أو الزوجية نعيشه في قدسية، فلا ننظر إلى العلاقات الزوجية كأمور معيبة أو دنسة كما يتصورها البعض، لأنها في الواقع تحمل أعماقًا داخلية ترتفع فوق حدود الجسد.
هنا أود أن أوضح أن انغماس بعض المراهقين في الجنس خلال لذة الجسد، في انحراف وإباحية، يفسد نظرتهم حتى للحياة الزوجية، فيرونها في كليتها جنسًا بالمعنى الجسدي الضيق. مثل هؤلاء غالبًا ما يفشلون حتى في حياتهم الزوجية، إذ يركزون على "الجنس" عند اختيارهم لشريك (أو شريكة) الحياة. عوض أن ينفتح القلب بالحب ويستنير بروح الله ليتعرف الإنسان على جوهر نفسه core self حتى يقدمها للغير، ويدرك أيضًا ما للآخر ليلتقيا معًا على صعيد عطاء النفس الباذل ووحدة الروح والفكر مع الجسد، يعطي الإنسان أيضًا ما يناسب الآخر وما يليق به؛ نجده منشغلًا بإشباع لذاته الذاتية.
نظرة الكنيسة الأولى للحياة الزوجية في علاقتها بالحياة البتوليّة
نستطيع أن نلخص نظرة الكنيسة الأولى للحياة الزوجية في علاقتها بالحياة البتوليّة في الآتي:
1- امتاز آباء الكنيسة بروح الاعتدال متى امتدحوا الحياة البتوليّة إذ لم يتجاهلوا قدسية الزواج وكرامته؛ ومتى تحدثوا عن قدسية الزواج أبرزوا بهاء، البتوليّة أيضًا. ففي القرن الثالث إذ كتب الأب ميثوديوس أسقف أولمبيا "وليمة العشرة عذارى" في مدح البتولية كان حريصًا أن يستنكر كل إدانة للزواج. فمن كلماته: (يبدو لي واضحًا من الكتب المقدسة أن كلمة الله عندما أدخل البتولية إلى العالم لم يُلغِ الزواج تمامًا... ما دام الله لا يزال يخلق كل يوم الإنسان حتى يومنا هذا خلال الاتحاد الزوجي، أفلا يُحسب هذا تهورًا أن ندين التوالد البشري الذي لا يتردد الخالق القدير نفسه عن أن يشترك فيه بيديه اللتين بلا دنس؟! مرة أخرى، أي غباء هذا أن نمنع الاتحادات الزوجية ما دمنا ننظر إلى وجود شهداء وقديسين وقديسات في المستقبل بعدنا؟! (9)).
قدسية الكنيسة للزواج وللأعضاء التناسلية تبرز في منع من يخصي نفسه عن قبول أية درجة كهنوتية، حتى إن كان قد نذر البتولية. وقد بدأ الخلاف بين البابا الإسكندري ديمتريوس والعلامة أوريجانوس يدب بسبب قبول الأخير الكهنوت بعدما خصى نفسه (10).
2- وجد أيضًا تطرف آخر لدى الهراطقة وذلك بجحدهم البتولية عند مديحهم للحياة الزوجية، كما حدث في مقالات اكليمندس المزورة (11). لذا أكّد الآباء سمو الحياة البتولية حتى أثناء حديثهم عن قدسية الزواج.
نحتم حديثنا هنا عن قدسية الزواج بالكلمات التي كتبها القديس يوحنا ذهبي الفم الراهب والبتول:
(كيف يصيران جسدًا واحدًا؟ كأن قطعة من أنقى جزء من الذهب تمتزج بذهب آخر، هكذا بالحقيقة تتقبل المرأة أغنى جزء لتلتحم كما في بهجة فيحدث انتعاش وتدليل، وتقوم بالمشاركة معه لإنجاب كائن بشري. هكذا يكون الطفل جسرًا خلاله يصير الثلاثة واحدًا... أنا أعرف أن البعض يخجلون مما أقوله، ذلك بسبب نجاستهم ودنسهم... لماذا نخجل مما هو مكرَّم... إنكم تدينون الله الذي سِنَّ هذه الأمور (12)).
(بالتأكيد لو كان الزواج مُدانًا لما كان القديس بولس يدعو المسيح والكنيسة عريسًا وعروسًا (13)).
ما دمت أكتب للمراهقين الأحباء وليس للمتزوجين فإنني لا أود الدخول في تفاصيل خاصة بالحياة الزوجية إنما أكتفي بعد الحديث عن قدسية الزواج أن أشير إلى مفهوم الرجولة والأنوثة في الحياة الزوجية، حتى يُبنى الفكر الخاص بالزواج على أساس سليم.
_____