بيلاطس البنطى
«فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح؟» (مت 27: 22)
مقدمة
قالت إحدى السيدات للكاتب الإنجليزي الكبير توماس كارليل: لو إن المسيح جاء إلينا في أيامنا هذه، لوجد بيوتنا مفتوحة أمامه مرحبة به، ولا يمكن أن يعامل المعاملة الوحشية التي عامله بها صالبوه، وكم يسرنا أن نفعل ذلك، ونرحب بتعاليمه، أليس كذلك يا مستر كارليل!!؟ وأجابها الرجل: كلا يا سيدتي… قد نفعل هذا إذا جاءنا في موكب فخم عظيم، وأغدق علينا المال، وحدثنا بتعاليم مع ميولنا وأهوائنا! ربما نقبله عندئذ مخلصًا على هذا الأساس! أما أن يأتي إلينا بأوامر إلهية قاطعة، وليندد بالفريسيين، ويعاشر العشارين والساقطين والسوقة كما كان يفعل، فاننا سنصرخ: خذه إلى نيوجيت وعلقه هناك!!
لم يكن يعلم بيلاطس وهو يصرخ لليهود: «فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح»؟ إن سؤاله هذا قد أصبح في كل الأجيال، السؤال الذي يواجه كل بشرى!! وأن المسيح يمر أمام كل نفس لتحكم له أو تحكم عليه، وهي بذلك تقرر مصيرها الأبدي خيرًا كان أو شرًا!! وهل كان يعلم بيلاطس وهو يصدر الحكم بالصلب، أنه أصدر أخطر وأرهب القرارات التي ارتدت عليه، على مشهد من التاريخ كله، وعلى مسمع من الأجيال والعصور جميعها!! هل نستطيع أن نقترب من القصة بهذا الإحساس العميق ليرى كل واحد منا نفسه بيلاطس على المسرح في حركة الوجود الإنساني، والمسيح الهاديء الوديع يقف أمامه، وكل واحد منا في القرن العشرين يقول: «فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح».. قد يكون من الخير إذن أن نتابع القصة فيما يلي:
بيلاطس من هو
لا يستطيع الإنسان أن يعلم الكثير عن بيلاطس البنطي خارج الإنجيل ولا يستطيع في الروايات المختلفة خارج الإنجيل أن يتبين موطن الصحة أو الدقة فيها، ولكنها على أي حال تشهد بصحة رواية الإنجيل، فقد ذكر تاسيتوس المؤرخ الوثني والذي كتب تاريخه حوالي 115م: «المسيح في أيام طباريوس حكم عليه بالموت على يد بيلاطس البنطي» كما أن فيلو اليهودي السكندري، ويوسيفوس المؤرخ اليهودي، ذكرا عنه الكثير الذي يتفق مع الصورة المرسومة في البشائر، وجاءت بعد ذلك التقاليد المختلفة في التاريخ الكنسي، والتي سنشير إليها فيما بعد.. ومن خلال هذه الصور جميعًا يمكن أن نتعرف على ملامح الرجل، ومن المتصور أنه كان في ريعان الشباب عندما أرسله طباريوس قيصر ليكون واليًا على اليهودية، وقد ظل في هذه الولاية عشرة أعوام من عام 26 إلى 36 م، وكان القانون الروماني لا يسمح في العادة بأن يتولى هذا المنصب من هو أقل من السابعة والعشرين من العمر، ومن لم يمارس أعمالاً أخرى سابقة حتى إلى هذه الدرجة من الوجهتين الإدارية والعسكرية، وعلى هذا فقد كان يقترب من عمر السيد في ذلك الوقت، ومن الواضح أنه كان على حد كبير من القسوة، ويبدو هذا من أنه خلط دم الجليليين بذبائحهم، ومع أنه كان معروفًا أن اليهود من أشد الناس تعصبًا وتصلبًا من جهة مشاعرهم الدينية، وكان أباطرة الرومان أنفسهم يدركون هذه الحقيقة، ويتحاشون الاصطدام بهم إلا في أخطر الأمور، وقد درج الولاة الرومان على مراعاة أحاسيسهم الدينية، إلا أن بيلاطس في أكثر من مناسبة وموقف لم يأخذهم بالرفق بل عاملهم بأشد قسوة وعنف، ومن الواضح أنه كان يتعالى عليهم ويحتقرهم، ويتمنى أن يطأ أعناقهم بقدمه، ولعله كان يتمنى لا أن يؤتي أمامه بيسوع المسيح ليصلب، بل أن يؤتي بقيافا للقضاء عليه، وصلبه! على أنه في قسوته هذه لم يكن مجردًا من العدالة التي اشتهر بها الرومان، فإذا جاءه اليهود يطلبون القضاء على المسيح، كان عليهم أن يحددوا التهمة التي توجه ضده ولذا سألهم السؤال: «وأي شر عمل» (مت 27: 23) ويأتي الجواب مجهلاً: «أجابوا وقالوا له لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلمنا إليك» (يو 18: 30) كان إحساسه بالعدالة يدفعه إلى القول: «خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم» (يو 18: 31). وهو لا يمكن مهما كان وضعه أو تصرف اليهود معه أن ينسى أنه روماني، وأن واجبه أن يراعي العدالة ولا ويتجاهلها على الإطلاق!! وهو إلى جانب هذا كله، رجل مفكر، وعندما تحدث المسيح أمامه عن معنى الوجود: «لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق، كل من هو من الحق يسمع صوتي، قال له بيلاطس ما هو الحق» (يو 18: 37 و38) والكثيرون يظنون أنه ألقى السؤال اعتباطًا بدون أدنى رغبة في التأمل أو التعمق، ولكن كامبل مورجان يعتقد أنها صرخة إنسان مرتبك ومتحير في هذا العالم، ويروم أن يجد الجواب للسؤال المطروح على الذهن البشري في كافة العصور والأجيال!! أجل إنه لم ينتظر أن يسمع جوابًا على سؤاله ليس لأنه لا يبالي بالجواب، أو يسخر من الحق، بل لأنه كان يحس اليأس العميق من جدوى البحث عن الحق في العالم التعس الشقي المنكوب!! على أي حال، إن ملامح الرجل يرسمها بالإنجيل والمصادر التاريخية تكشف عن الإنسان الذي يجلس في مقعد السيادة والسلطة، وقد امتلأ من عواطف الكبرياء والحقد والقساوة والاحتقار للجماهير التي يتعامل معها، مع إحساس القلق والضيق والرعب، وهو يرى نفسه ينحرف بعيدًا عن القرار السليم الذي كان من واجبه أن يتخذه تجاه المسيح المقدم إليه للمحاكمة!!
بيلاطس والحكم على المسيح
لاشبهة في أن الحكم على المسيح هو شيء أعمق جدًا من أن يكو ن مجرد رواية تاريخية مضى عليها ما يقرب من عشرين قرنًا من الزمان، إذ أنها الحقيقة المتكررة التي تواجه فيها النفس البشرية السيد في كل مكان وزمان، ويكفي أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يتحدث بهذا المعنى الروحي عن الساقطين الذين لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة: إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه» (عب 6: 6) ومن ثم فمن المهم ونحن نراقب الحكم على المسيح أن نتغور إلى الأعماق النفسية والروحية التي صاحبته ولاحقته، فنكتشف الحقائق التالية:
الدوافع الوحشية خلف الاتهام
لم يكن هناك أدنى شك عند بيلاطس ببراءة المسيح من التهم الموجهه إليه، «وقال لهم، قد قدمتم إليّ هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قداكم ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه. ولا هيرودس أيضًا، لأني أرسلتكم إليه. وها لا شيء يستحق الموت صنع منه» (لو 23: 14، 15) ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أدرك بيلاطس الدافع الآثم الشرير خلف الاتهام: «لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسدًا» (مر 15: 1).. والحسد في العادة يورث الحقد البالغ والذي لا أمل في علاجه أو البرء منه... لم تتسع الأرض لأول أخوين. فقتل قايين أخاه هابيل، لأنه حسده، ولم يستح أخوة يوسف حتى تحولوا وحوشًا - وهم لا يدرون - لأنه حسدوا أخاهم، وغمسوا قميصه في الدم، وهم يظنون أنهم قضوا عليه إلى الأبد بدافع الحسد، وفقد شاول راحته عندما سمع الأغاني التي غنتها بنات إسرائيل لداود الذي أصبح بطلاً بالقضاء على جليات! وكم من ملايين الجرائم ارتكبت منذ القدم، ومازالت ترتكب إلي اليوم في السر والعلن، وخلفها الدافع الوحشي دافع الحسد، ومن المتصور أن يفعل الحسد كل شيء، وفي قضية المسيح بلغ اليهود أقصى درجات الرياء، عندما تباكوا أمام بيلاطس لأن المسيح يقول إنه ملك، وهم لا يعترفون إلا بملك واحد هو قيصر، وهو نفاق ما بعده نفاق، من أناس عاشوا طوال عصورهم يتمردون على الرومان وعلى كل ملك أجنبي!!
التحذيرات العديدة لبيلاطس
ولم يترك الله بيلاطس دون تحذيرات متكررة كان من واجبه أن ينصت إليها، ويتنبه لها، ولعل أولها جميعًا وجه المسيح أمامه، ولعلنا ذكرنا عند الحديث عن يهوذا الاسخريوطي، ما قاله تشارلس لأم عندما سئل عن أي شخصية تاريخية يود أن يراها، وكل جوابه: يهوذا الاسخريوطي، وعندما تعجب السائل قال: أريد أن أرى الرجل الذي أطل على وجه المسيح ومع ذلك استطاع أن يخونه!! ونحن بدورنا نتعجب كيف استطاع بيلاطس أن يرى الوجه الوديع الحنون الحزين الذي يقف أمامه في صمت، دون أن يهتز ويتأثر!!... لا شبهة في أن منظر المسيح هزه من الأعماق، على ما سنرى فيما بعد، عندما حاول الهروب من مسئولية صلبه!! ومن الواضح أن بيلاطس رأى الفارق الرهيب بين وجه قيافا ووجه المسيح. وبين وجوه اليهود الممتلئة بالشر والخسة والغدر وحب الانتقام، ووجه المسيح الصامت العجيب الكامل الحب والصبر والوداعة، ورواية الإنجيل تشجعنا على ملاحظة أن بيلاطس انفرد بالمسيح مرتين في أثناء المحاكمة وكان بيلاطس يتمنى أن يسمع دفاع المسيح عن نفسه، ولكن صمت المسيح النبيل السامي كان أبلغ من دوى الأرض كلها، لو زلزلت زلزالها.. على أنه لم يكن الصمت وحده أبلغ من كل كلام!! بل إن المسيح أخذ الرجل ليقف قليلاً داخل دار الولاية، فعندما سأله بيلاطس: هل هو ملك، نقله السيد إلى ما وراء ملك قيصر وروما والأرض كلها، إلى المملكة الخالدة العظيمة التي يتربع على عرشها، مملكة الحق، التي ستبقى عندما تنتهي ممالك الأرض جميعًا، والمرء مهما يكن أحساسه بالمنظور وبقوته المادية، فإنه عندما يقترب من العالم الأعظم غير المنظور يفزع ويضطرب، كما سبق لبيلشاصر وهو يرى الأصبع التي تكتب على مكلس الحائط، إزاء النبراس، وقد فزع بيلاطس، وهو يقترب من هذا الشخص العجيب الذي يقف أمامه، والذي كشف بشخصيته ومعجزاته وأعماله الخارقة، عن ارتباطه بعالم آخر أعظم وأسمى وأجل!! فإذا كان هذا التأثير قد بدأ أمامه كالنور اللامع الخاطف، إلا أن التحذير تضاعف وأضحى حقيقة مخيفة عندما خرجت زوجته على المألوف والعرف بعدم الاتصال بالقاضي وهو يحكم في قضية ما، ولكنها أرسلت تحذره بكلمات مرعبة مرهبة: «إياك وذلك البار. لأني تألمت اليوم كثيرًا في حلم من أجله» (مت 27: 19) وقد اختلف الناس في تصوير ذلك الحلم وكيف كان، فأحد المصوريين صوره في صورة أبدعها وفيها نرى المرأة تقف في شرفة واسعة تحدق في الفضاء البعيد، وإذا بها ترى مواكب الأجيال المتعاقبة تسير وفي مقدمتها المسيح حاملاً الصليب، ومن ورائه الأثنا عشر تلميذًا، فالكنيسة في العصر الرسولي والعصور الأولى بأبطالها بوليكاربوس وترتليانوس وأثناسيوس وغريغوريوس وفم الذهب وأوغسطينوس، وخلفهم الكنيسة في العصور الوسطى والصليبيون في ملابسهم الزاهية ووراءهم كنيسة العصر الحاضر وملايين لا تعد ولا تحصى من البشر، وتحف بالجميع كوكبة هائلة من ملائكة الله، وتدهش زوجة بيلاطس إذ ترى الصليب يتحول شيئًا فشيئًا حتى يضحى كوكبًا جميلاً باهرًا يملأ السماء ويفيض بأنواره المتلألئة على الكون... على أن هناك من قال ولعله الأقرب إلى التصور أنها أبصرت الدينونة، وقد انقلبت الأوضاع وجلس المسيح على كرسيه يدين الشعوب، وإذا ببيلاطس يأتي أمامه مرعوبًا مرتعدًا مصفدًا! على أي حال لا يمكن لأي إنسان أن يحاكم المسيح، ويصلبه، قبل أن يرسل الله إليه العديد من التحذيرات.
محاولة الهروب من الحكم
حاول بيلاطس الهروب من مسئولية الحكم بمحاولات متعددة دون جدوى، لقد ظن أنه يمكنه الهروب لو حكم بعدم الاختصاص، فمع أنه كان في خصومة وعداوة مع هيردوس، لكنه عندما سمع عن المسيح أنه جليلي حوله هيرودس بدعوى، أنه المختص بمحاكمته، وما أكثر ما يحاول الناس الهروب من المأزق بالحكم بعدم الاختصاص، وقد يفلح هذا الدفع في الكثير من القضايا الأرضية، ولكنه لا يفلح على الإطلاق مع يسوع المسيح، لقد ألقى بيلاطس الكرة في مرمى هيرودس، لكنها عادت إليه مرة أخرى، ولم يستطع بيلاطس أو هيرودس التخلص من اللقاء الشخصي بيسوع المسيح، بل من العجيب - كما قال أحدهم - إن مسرحية الصليب جمعت بين الجميع، وكان على كل واحد أن يلعب دوره في هذه المسرحية، دون أن يزعم بأنه لا علاقة له بها!!
"أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب، إن صعدت إلى السموات فأنت هناك، وإن فرشت في الهاوية فها أنت، إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضاً تهديني يديك وتمسكني يمينك" (مز 139: 7 - 10) فإذا لم يفلح الحكم بعدم الاختصاص، فلا بأس من الحكم بعقوبة أخف ولكنها ظالمة ومن غير مبرر، ليجلد البريء جلدًا قاسيًا، لعل هذا يكفي اليهود ويجعلهم يتخلون عن الحكم عليه بالموت، والعدالة لا ويمكن أن تعالج بأي ظلم، حتى ولو كان ظلمًا أقل ضررًا أو فداحة من الظلم الآخر، والخطأ لا يمكن أن يصحح بأي نوع من الأخطاء، ولكنها الحماقة البشرية التي تتصور أنه يمكن الهروب من الشر الأقسى بشر أقل، فإذا لم يفلح هذا أو ذاك، فلا بأس من المساومة على استبدال البريء بمجرم، وفي تصوره أنهم لابد سيفضلون المسيح على باراباس، وحدث العكس، وإلى اليوم مازال يحدث، فكم فضل الناس المجرمين والأثمة والأشرار واللصوص، وهم يسلمون المسيح، ويحكمون عليه بالهزء والجلد والصلب في أسوأ مبادلة تحدث في حياة البشر!!
الذات سر التورط في الحكم على المسيح
كان بيلاطس يعلم تمامًا أن له سلطانًا أن يطلق المسيح أو أن يصلبه، بحسب المفهوم البشري، إذ هو ممثل الإمبراطورية، ويملك الحكم باسمه وتحت سلطانه، لكن بيلاطس مع ذلك كان عاجزًا عن اتخاذ القرار الصحيح، وهذا يرجع إلى ماضيه الممتلئ بالشر والعنف والشدة والفساد، فقد أثار ضده اليهود في أكثر من مناسبة، كان المقر الرسمي للرومان في قيصرية وليس في أورشليم، وذلك لأن اليهود كانوا يعتبرون المدينة مقدسة، ولا يجوز أن يوضع فيها أي رسم أو شعار وثني، وكانت العادة أن الرومان عند دخولهم المدينة ينزعون صورة الإمبراطور أو النسر الروماني، تجنبًا لإثارة اليهود الذين كانوا يعتبرون أي شيء من هذا القبيل تدنيسًا للمدينة وكسرًا للوصية الثانية من الوصايا العشر، على أن بيلاطس أراد كسر القاعدة، وقد ظن أنه بالتهديد يمكن أن يبلغ مأربه، ولكن ثورة عارمة قامت، وظلت تهتف في قيصرية خمسة أيام ضد الصور والتماثيل التي أدخلها إلى أورشليم، وأحس بأنهم على استعداد أن يموتوا جميعًا دون أن يتراجعوا،
فتراجع ورفع ما أدخل إلى المدينة، مما يكرهون!! وفي محاولة ثانية بني خزانًا للمياه من أجل أورشليم، ولكنه أخذ النقود من خزانة الهيكل فأثار ثائرتهم، ولاحقوه بالشكاوي.
وكان بيلاطس وهو يحاكم المسيح شديد الانزعاج بعد أن خلط دمهم بذبائحهم في الواقعة المشار إليها سابقًا، لئلا يرسلون سفارة وراءه إلى روما أو بعثة يمكن أن تجعله موضع المحاسبة والمحاكمة!! كانت خطاياه القديمة أغلالاً في عنقه تمنعه من التصرف الصحيح!!
على أن المأساة تكمن في الأسلوب السياسي الذي عالج به قضية عادلة، والسياسة في حد ذاتها يمكن أن تكون صادقة وسليمة، لكنها في أغلب الحالات تتمشى مع الأهواء والنزاعات والميول التي تعطي القرار الآثم الشرير!! وقد تذبح العدالة تماماً على مذبح السياسة، وترتكب أشر الجرائم تحت تبرير من مختلف الدوافع الوطنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو ما أشبه مما امتلأت به صفحات التاريخ!!
بيلاطس والتخلص المزيف
في أواخر القرن الماضي كتب كاتب ألماني رواية رائعة عن مغسل بيلاطس، وفيها يصور أن هذا المغسل - بعد أن غسل بيلاطس يديه فيه - قد فقد. واتهم بعضهم يهوذا الاسخريوطي، بأنه سرقه، وباعه، ولكن الكاتب يبريء يهوذا الذي طرح النقود التي سلم بها المسيح في الهيكل، لكن المغسل مع ذلك ظل ينتقل من مكان إلى مكان ومن جيل إلى جيل، فكل حاكم يدوس الحق، في سبيل نصرة حزبه، والوصول إلى الحكم يغسل يديه في هذا المغسل، وكل مواطن يعيش عالة على بلده دون أن يفعل شيئًا لخدمة البلاد، يغسل يديه في مغسل بيلاطس، وكل محرر يعلم الحق، ولكنه يسكت إرضاء للجماهير، دون أن يساعد على إظهاره، يغسل يديه في مغسل بيلاطس، وكل خادم دين يغض الطرف عن الشر إرضاء لنزوة أو نزعة تأتي من غنى أو صاحب نفوذ، إنما يغسل يديه في المغسل العتيد.. والمعنى واضح بين يصور كل تخلص مزيف يحاول فيه الآثم أن يغسل يديه من الجريمة التي يرتكبها، على غرار ما فعل بيلاطس البنطي وهو يسلم يسوع المسيح لمشيئة اليهود ليصلبوه، وهو الخداع الساذج للنفس إذ ينسى أن العبرة بالتصرف، دون التنكر أو التبرير الذي لا يصلح قط أمام الحقيقة والتاريخ اللذين أخذا بتلابيب الرجل في كل العصور، فكتب مقابل اسمه: «يسوع المسيح الذي حكم عليه بالموت على يد بيلاطس البنطي» فإذا ظن الرجل أنه يستطيع أن يكتب تقريرًا إلى طباريوس قيصر على ما جاء في أقوال ترتليانوس ويوسابيوس، بالصورة التالية:
من بيلاطس البنطي إلى طباريوس قيصر لتكثر لكم التحية، كل شيء هاديء هنا، ومن الحق إن لي متاعبي مع هذا الشعب الجامح الذي لا يحتمل ولكني لم أتخل قط عن السهر والحزم من جانبي، لكن الشيء الوحيد الذي أربكني هو تصرفي السابق مع يسوع بن داود، وكم أتمنى كثيرًا لو أن رجلاً أكثر حكمة كان في مكاني، حتى يستطيع أن يعطي التقرير الأفضل عن هذه الحركة الروحية بين هذا الشعب، فلو أن يسوع هذا كان يهوديًا عاديًا غيورًا أو ممن يجلبون المتاعب بأى صورة، فإن واجبي تجاه سيدي كان يقتضي اتخاذ الاجراء الحاسم في الحال، غير أن يسوع هذا الذي يدعونه المسيح أفضل عندي، ولخدمة الإدارة من كتيبة مسلحة بأكملها، إذ أنه أعظم الناس جميعًا رغبة في السلام وعدم التعدي، وأنا أفهم ما أقول، فلقد راقبته وراقبت تلاميذه وتلقيت عنهم التقارير في كل مكان وزمان، وأكثر من ذلك لقد أندسست أنا بنفسي في وسط الناس حتى أنظر بعيني ماذا يفعل، وسمعته يتكلم عن شيء اسمه الولادة الجديدة، وعجبت كيف لا يقبلونه مع ذلك، وإذا به يتكلم أنه مرسل إلى خراف بيت إسرائيل الضالة!! غير أن الشعب مع ذلك قدمه ليصلب وإذ خفت أن يحدث اضطراب أكثر لم أجد بدا من تسليمه للموت، وكل ما يهمني هو الحرص الكامل على إخضاع هذا الشعب للسيد الإمبراطور!! وإذا سمع سيدي شيئًا غير هذا، فلا يقبله أو يصدقه!!
مسكين بيلاطس، ومسكين كل من يغسل يديه في مغسلة أو يسير على منواله، فيحكم على المسيح وهو يعلم تمامًا أنه لا علة فيه على وجه الإطلاق!!
بيلاطس والنهاية التعسة
ارتكب بيلاطس غلطة أخرى على أثر حادثة حدثت في السامرة، حيث زعم أحد المحتالين أن موسى خبأ في جبل جرزيم، أواني مقدسة، ودعا الناس إلى أن يذهبوا معه إلى الجبل ليريهم هذه الأواني، فذهبوا مسلحين، وارتاب بيلاطس فيهم، فأمر بمهاجمتهم وقتل أغلبهم في وحشية قاسية، ورفع السامرين شكواهم إلى فيتيليوس حاكم سورية والذي كان يفوق بيلاطس في الرتبة، فأمره هذا بالذهاب إلى روما ليعطي جوابًا أمام الامبراطور، وفي الطريق إلى هناك مات طباريوس، فعزله من جاء بعده، ونفاه واختلفت الروايات، عن مكان منفاه، تشفق عليه رواية - لا أعرف كيف تنسب إلى الكنيسة المصرية القديمة - تقول إنه مع زوجته قد تابا، وآمنا بالمسيحية، وقد نقبل الرواية عن الزوجة، ونؤمن أيضًا أنه لو تاب فإن رحمة الله على استعداد أن تقبله، غير أن رواية الإنجيل لا تعطي شيئًا من هذا التصور، أو تدنينا منه!!
إن السؤال الذي طرحه الرجل مازال قائمًا: «ماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح؟!» وقد اختلفت الإجابة يوم الصليب إذ قال يهوذا الاسخريوطي أبيعه، وقد باعه بثلاثين من الفضة، واستخف هيردوس به.. وقال باراباس: استبدل به مكاني!! وقالت بنات أورشليم: نبكي عليه!! وقال قيافا: أسلمه.. وقال بيلاطس: أغسل يدي منه!! وقال سمعان القيرواني: أحمل الصليب خلفه! والسؤال: ترى ماذا يكون جوابك!!؟