عِيدُ نَيْرُوز قِبْطِيٌّ جَدِيدٌ
في تقويم الكنيسة اهتمام خاص بالاستشهاد والشهداء٬ وفي عيد النيروز نذكر الآلام والدماء والجهاد الذي احتمله القديسون، والذي صار لنا بداية وأساسًا للكنيسة وبذارًا للإيمان٬ ولازالت الكنيسة تقدم حتى الساعة شهادة الدم٬ فليس شهداء نجع حمادي والعمرانية والمقطم والقديسَيْن بالأسكندرية واللاحقون لهم والسابقون ببعيدين عنا. وقد تسجلت الضيقات والتحقيرات والتعييرات والإهانات والمظالم التي أصابت عبيد الله في الذاكرة الإلهية.
لذا جعلت الكنيسة من اليوم الأول في تقويمها السنوي عيدًا لتكريم الشهداء والمعترفين٬ الذين غلبوا وانتصروا وعبروا ولم يحبوا حياتهم حتى الموت..... فبدم شهدائك أيها المسيح إلهنا تزينتْ كنيستك منذ شهادة أبينا البكر مارمرقس الإنجيلي مرورًا بشهدائك مينا ورفقة ودولاجي ودميانة وموسى الأسود وأبانوب وأبسخيرون وسيدهم بشاي وبطرس خاتم الشهداء. فالشهادة مستمرة حتى يومنا هذا، وهي واقع ملموس معاش وأكاليل محلِّقة فوق رؤوس الشهداء عبر الأجيال الذين انضموا إلى جوقة الشهداء المختارين على مائدة الحمل... آلامهم وذبْحهم وتفجيرهم صار معبرهم للمجد المعَد لهم، وحظوا بشهادة عظيمة بلغوا بها مبلغًا عظيمًا، وُهبت لهم، وتأهلوا بها ليكونوا من مساهمي كأس مسيح القيامة وعدم الفساد.
موتهم كان ذبائحيًا، ونهايتهم كانت نتاج اعترافهم بالمخلص الذي دُعي اسمه عليهم، لذا نحسبهم ترنيمة عذبة في فم كنيسة هذا الزمان بعد أن ذُبحوا وهم في عمر الزهور، ونثق أنهم اُختيروا وانتُخبوا لقوة ولبناء الكنيسة، ودماؤهم هي مفتاحهم للفردوس.
إننا نعي بالروح والفكر، وقد لمسنا بيقين أنك يارب تحوِّل الألم من عمل هدّام إلى قوة خلّاقة إذ ليس منفعة أرضية من القتل والاستباحة المتعمدة التي يقوم بها ضدنا أناس من جنسنا البشري.... لكننا نثق يارب أننا عندما نتمسك بيقين الإيمان نتقوىَ ونمتد٬ وما يشل أجسادنا ويثقل نفوسنا سترفعه عنا حتى لا نتحطم٬ فنتحول كالسابقين الأولين من متألمين إلى شاهدين، ويصير ألمنا خلّاقًا وذبيحة عندك، عندما تحمل أنت أحزاننا وتتحمل أوجاعنا بسبب معموديتنا حسب وعدك الصادق.
والآن يارب في هذا العيد اذكر عبيدك الذين استُشهدوا في العام القبطي المنقضي٬ أولئك الذين تقدسوا بتقديم شهادتهم إليك.... والذين في ليلة عيد ميلادك قالوا "ها أنذا" (إش ٨:٦)٬ و"ها أنا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله" (عب ٧:۱٠)، إنهم أبرياء ككل شهدائك، لم يجتذبوا عقابًا لأنفسهم بأية إشارة فيها كراهية أو عدوانية.... لكنهم أطاعوا حتى الموت وحُسِبوا مختارين حينما طُلبت منهم الشهادة على أيدي الأثمة الذين غدروا بهم وذبحوهم لا لسبب إلا لأنهم أتباعك وحاملين صليبك وقد دُعي عليهم اسمك الحسن القدوس المبارك.
سكبوا نفوسهم الغضة وأعمارهم الشابة الصغيرة، وصارت دماؤهم وآلامهم خلّاقة لأنها بديلة عنا جميعًا وفدية عن الكنيسة كلها٬ وقد احتفلت الكنيسة بهم وذاع خبر شهادتهم من أقاصي الأرض إلى أقاصيها. كل واحد منهم بإسمه كجماعة وكأعضاء. إذ أن دماءهم ثمينة ومقدَّرة في الملكوت وعندنا نحن أيضًا.... ونحن نثق أن المبادلة والمشاركة والتلازم العميق يجعلهم يطلبون لأجلنا ويجعل لهم داخل الكنيسة مجالاً أوسع وقوة أكثر فاعلية إذ أنهم أدرى بما نحن فيه.... يضمون صلواتهم مع محفل الشهداء كي نتقوى على معايشة الشهادة اليومية التي لنا ليلاً ونهارًا وفي كل شيء كحقيقة حاضرة.
إن شهادتكم وملاقاتكم للموت والغدر ثم للإهمال والظلم يخبرنا أن شهادتنا قائمة بطول الحياة وكل يوم وأن موتكم صاحَبَه ميلاد وقيامة٬ فلا قيمة لكل ما هو خارج المسيح إلهنا العنقود العظيم الذي عصروه على الصليب في تحدٍّ للعقل والمنطق والزمن.
ولازال الشيطان وأتباعه يتوهمون أنه بالصليب والموت الذي يترصدوننا به ستُقتلع كنيسة الله، لكن مسيحنا الحي وعدنا بثقة الغلبة (ثقوا أنا قد غلبت العالم) فثبتنا في مواجهة المشتكي والقتّال للناس منذ البدء حتى لا نرجع إلى الوراء - لا تردنا إلى خلف - وحتى لا نترك محراث ملكوت السموات٬ مهما كان الإعصار الهادر المُحمَّل بالشك والتجاديف والقتل والمطاعن المسعورة.
وحينما نبدأ سنة قبطية جديدة في عيد النيروز نتعاهد أن لا نتخلىَ عن رسالتنا متمسكين بوديعة إيماننا مهما ازدادت موجات العداوة والكراهية والحنق الموجَّهة ضدنا، فمحبتنا ووداعتنا لا يعني اندحار أو تلاشي العداوة، لكن جهادنا وشهادتنا ورفضنا للاسترضاء الذليل لمعاندينا وإيجابيتنا ووجودنا مهما كانت مشقاته هو أعظم شهادة نحو خير البشرية. شهادة الأقوياء المقتنعين الراسخين حتى ولو كانت مخضبة بالدماء... أبناء كنيسة الشهداء التي احتملت الاعتداءات والبذاءات والافتراءات، وهي التي تتوَّج وتتقوى بالاستشهاد في بناء صرحها الأبدي، وهي دائمًا مستعدة له مهما أحاطت الأزمنة الصعبة بسفينتها.