|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
«وتوما الذي يقال له التوأم» (يو 21 : 2)
مقدمة كان توما الوحيد بين الاثنى عشر الذي يطلق عليه التوأم!؟ وقد اختلفت التفاسير حول المقصود بكلمة «التوأم» والرأي الغالب أن أمة حبلت به في بطنها مع آخر، ظنه البعض بغير دليل متى لمجرد أنه كان يأتي في ترتيب الأسماء سابقًا أو لاحقًا للبشير متى، وهو قول لا يقوم على أساس، ولا يظهر من روح الإنجيل أو رؤيته أنه راجح أو دقيق، وهناك تقليد قديم أن الآخر كان اختاً اسمها لوسيه، على أن هناك تفسيرًا عجيبًا يتجه إلى أنه أطلق عليه اللقب لأنه كان توأم نفسه، أي به ذلك الازدواج الذي يتكرر إلى حد ما في شخصية الإنسان الذي لا يستقر على حال، فهو مرة مؤمن غاية الأيمان، وأخرى يكاد يكون له لا إيمان له، وهو صورة للصراع النفسي الذي صوره الرسول بولس في الأصحاح السابع من رسالة رومية.. على أني أود أن آخذ التوأم بصورة أخرى، قد ترضيني وتريحني أكثر، إن هذا الرجل أخذ مركزه في وسط التلاميذ، وأنا وأنت توأمه الصحيح، لقد قبله المسيح رغم التذبذب الشديد الذي يرتفع إلى أعلى الجبال أو يهبط إلى أعماق الوديان، وهذه صورتي وصورتك التي لا تستقر فقط على حال في سير الحياة على الأرض، وهو الرجل المحاط بالضباب، أمام الطريق المجهول، وهو يتساءل مثلي ومثلك «لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق»! (يو 14 : 5) وهو الرجل الذي ينعزل في آلامه وأحزانه، والدنيا كلها لا تستطيع إقناعه، حتى يصبح أمام رؤية المسيح : «ربي وإلهي»! (يو 20 : 28) فإذا سألك أحد بعد ذلك من هو التوأم الآخر لتوما، فيمكنك أن تخرج له من جيبك صورتك الصغيرة، وتقول هذا هو توأم توما، أو تقدم له مرآة ينظر فيها إلى وجهه ليرى الآخ الحديث للتمليذ القديم بين الاثنى عشر، وشكرًا لله لأنه قبل توما القديم ومازال إلى اليوم يقبلني ويقبلك!! توما من هو يرد اسم توما في الأناجيل الثلاثة الأولى مجرد اسم في قائمة الاثنى عشر، وهو يرد في هذه الأناجيل مرتبطًا باسم متى، كما سبقت الإشارة، مع ملاحظة أن متى في إنجيله يقدم اسمه على اسمه هو، وإن كان في مرقس ولوقا يرد اسمه لاحقًا لمتى. ويظن البعض أنه كان صيادًا، دون أن يقوم الدليل الثابت على ذلك، وقصته تظهر في إنجيل يوحنا في أكثر من موضع وموقع، ونستطع أن نتعرف على خلاله وسجاياه، بصورة واضحة ونحن نتعقب هذه المواقع، وهو يبدو أو كل شيء الإنسان الوفي العميق الوفاء والإخلاص، الإنسان الذي أحب سيده حتى الموت، وهو على استعداد كامل أن يموت معه ومن أجله، ويبدو هذا عندما كان السيد يواجه الخطر، وقرر الذهاب إلى بيت عنيا عندما سمع عن مرض لعازر، وكانت عداوة اليهود قد استحكمت ضده، وحاول التلاميذ وهم في العبر أن يمنعوا المسيح من الذهاب إلى بيت عنيا، حتى لا يواجه الخطر الماحق الذي يواجهه، وإذ أصر السيد على الذهاب أيقن توما أنه لابد أن يموت هناك، فوضع قراره الثابت المؤكد : «فقال توما الذي يقال له التوأم للتلاميذ رفقائه : لنذهب نحن أيضًا لكي نموت معه» (يو 11 : 16) ومهما يكن من تصوره أو إحساسه بالخطر، إلا أنه أعطى صورة الرجل الوفي العميق الوفاء والحب لسيده العظيم، إنه يعطي صورة للمسيحي الصحيح في مشاعره تجاه السيد، وهو هنا صديقي وتوأمي الحلو الجميل، وإذا كان أحد الشبان الفرنسيين وهو يصعد إلى المقصلة، ويستمع. لمن يقول : «مسكين هذا الشاب إذ يذهب شبابه الجميل الغض هكذا!..» وإذ يسمع الشاب هذا، يتلفت إلى الراثين له ليقول : «أيها السادة لست أنا المسكين بل أنتم المساكين الذين لم تذهبوا وراء ملككم ووطنكم وعهودكم!..» أي توما ما أكثر ما يخطيء الناس فهمك! وما أكثر ما يعجزون عن أن يصلوا إلى أغوار قلبك! وما أكثر ما استوقفتهم صور أخرى عنك! لكني مع ذلك سأذكرك أخًا توأمًا شقيقًا كلما لاح في الأفق ما يستدعي الدفاع عن اسم السيد، أو يستدعي الشهادة أو الاستشهاد من أجل اسمه، أجل أنا أعلم أنك لم تمت في بيت عنيا، وأن موتك تأخر سنوات طويلة بعد ذلك، وأنه حدث على الأغلب في الشرق البعيد، فإذا صح التقليد، فإنه كان على مقربة من بمباي في الهند، وأنك مت وأنت راكع تصلي، بطعنة رمح، ومهما يكن المكان والزمان فإنك لم تركع لأحد في شجاعتك الكاملة في مواجهة الخطر، إلا لذلك الذي يحق له وحده السجود والركود!! إن شعارك شعار المسيحي الصحيح الذي يقول : أموت حيث هناك وأجبي! لم يكن توما محبًا مخلصًا شجاعًا فحسب، ولكنه كان إلى جانب ذلك الإنسان الصريح البعيد الصراحة، كان المسيح يتحدث في الليلة التي اسلم فيها عن تركة التلاميذ والذهاب إلى أبيه، وأنه سيذهب وسيعلمون الطريق الذي سيذهب فيه، وأغلب الظن، أن التلاميذ لم يفهموا جميعًا المعنى المقصود من الذهاب والطريق، وصمتوا في حيرتهم إلا توما الذي كان صريحًا وهو يقول : «يا سيد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق» (يو 14 : 5) والصراحة أساسها في الواقع الإخلاص للحقيقة حسبما تصل إلى فهم الإنسان وإدراكه، لقد كان مخلصًا للمسيح في محبته، وتكشف الإخلاص عن استعداده للموت مع السيد أو من أجله، وكان مخلصًا لفكره وذهنه، فهو لا يدعي علمًا لا يستطيع الوصول إليه، ولا يتظاهر بمعرفة تبدو في الحقيقة بعيدة عنه، والله يسر كثيرًا بمثل هذا الإنسان، الذي لا يعرف الالتواء أو يتحدث بالرياء، وما أكثر الذين يفعلون هذا بمختلف المظاهر والطرق، فهو ينطق مثلاِ بحمد الله وقلبه ممتلئ بالتذمر والتمرد، وهو يزعم الإدراك والفهم، وهو كثير الحيرة والجهل، على أن الصفة الواضحة في توما - إلى جانب هذا كله أنه سوداوي المزاج ينظر إلى الحياة دائمًا النظرة المتشائمة، هو الرجل الذي يضع دائمًا على عينيه المنظار الأسود، وينظر إلى الدنيا كلها نظرة سوداء، ومن هنا اختلفت نظرته عن بقية أخوته ورفقائه، فإذا كانوا هم يقدرون أن ذهاب المسيح إلى بيت عنيا محفوف بالخطر، فإنه يسير هو خطوة أبعد وأعمق، إذ أن الأمر عنده، ليس خطرًا محققًا، بل موتًا محققًا، وهو سيذهب مع المسيح، لا ليواجه الخطر، بل هو ذاهب ليموت معه بكل تأكيد، وعندما يموت المسيح على الصليب تستولى عليه الأحزان إلى الدرجة التي ينعزل فيها عن كل إنسان ولا يظهر مع أخوته في يوم القيامة، بل هو وحده مع آلامه وأحزانه، ولا يستطيع أن يصدق أخبار القيامة، حتى ولو أكدها التلاميذ أنفسهم ومن ثم أضحى الرجل مثلاً للشك وعدم التصديق، وأنهالت عليه من كل جانب الأحكام القاسية فمن قائل : «إنه الرجل الوحيد الذي يلام لعدم إيمانه عندما نقارنه بجميع الذين كانوا في العلية من تلاميذ المسيح» « لو أن هناك متشائمًا يحسن الترنم باللحن القابض للنفس، فإن توما هو أفضل المغنين بذلك» «كان توما حار القلب سوداوي المزاج» «له حب كبير وإيمان قليل» «يخضع غير المنظور للمنظور» وقد صوره الكسندر هوايت في صورة الإنسان الكئيب الحزين الذي تستطيع أن تغني أمامه أجمل الأنغام إذا غنيت له لحن البكاء والألم! فإذا كان التلاميذ الأثنا عشر أنماطًا مختلفة من الحياة، اختارها السيد بدقة لكي تكون نموذجًا للتلاميذ الذي سيأتون بعدهم في مكان العصور والأجيال، وإذا كان لنا أن نقترب في أفكارنا أو عواطفنا من هذه الأنماط حتى نتعرف على التلميذ الأقرب إلى حياتنا وطباعنا، فإن الذين ينطوون على أنفسهم، ويقتربون إلى حياة التشاؤم والنظرة الحزينة الباكية في الحياة، والذين يترددون في تصديق الفرح كنصيب الإنسان في الأرض، هؤلاء جميعًا سيجدون التلميذ القديم توما هو أدنى التلاميذ إلى صفهم وأقربهم إلى حياتهم وأسلوبهم!. توما ومعاملة المسيح له لعله من المناسب أن نلاحظ على الدوام أن معاملة المسيح لأي من تلاميذه الأثنى عشر تختلف عن الآخر، فهو لا يمكن أن يعامل توما معاملة بطرس والعكس صحيح، وقد قيل إنه لو قال لتوما : «أذهب عني يا شيطان» التي قالها لبطرس في يوم من الأيام، لفقد توما إلى الأبد، إذ أن السوداوي المزاج الذي تغلب عاطفته على عقله، ومشاعره على فهمه، لا يمكن أن يعالج بأسلوب الانتهار أو القمع، بل لعل الحنان والإحسان أقرب إلى إدراكه ومشاعره، وفي البيت الواحد لا يمكن أن يعامل سائر الأبناء بأسلوب واحد، بل لابد أن تختلف المعاملة باختلاف طبيعة كل ابن، فهناك من تكفيه الإشارة، وهناك من يحتاج إلى زجر، وهناك من ينتفع بأسلوب المعاملة البالغة الرقة، وآخر قد تأتي به المعاملات الشديدة القاطعة! وقد عامل المسيح توما بأسلوبين واضحين هما الحنان والإنارة لم يقس عليه قط، إذ يكفيه قسوة الحياة التي يتطلع إليها من خلاله منظاره الأسود للدنيا، وكل حاجته أن يرفع عن عينيه هذا المنظار الكئيب، حتى لا يرى الشمس مظللة بالقتام، أو ينظر الحقيقة مدثرة بالثوب الأسود، والحقيقة أساسًا ليست سوداء، ولكن زجاج المنظار الأسود هو الذي غطاها بالسواد، قال المسيح لتوما : «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو 14 : 6) ولعل هذا التعبير يعطينا الصورة المثلى للحنان والإنارة اللتين تمتع بهما توما، ونتمتع نحن بهما إلى «أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبنا» (2بط 1 : 19).. ولن نملك آخر الأمر إلا أن نصيح مع الرجل القديم : «ربي وإلهي! المسيح الطريق كان الضباب يلف توما ويلف سائر التلاميذ، وهو يتحدث إليهم عن آلامه، وتسليم أحد التلاميذ له، ونكران بطرس، وذهابه ليعد لهم مكانًا، ثم يأتي ليأخذهم إليه، وكان الحديث في مجمله أبعد من أن يفهموا مقصده ومرماه البعيد، وإذ قال لهم : «وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق. قال له توما يا سيد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق» (يو 14 : 5) ولعل التصور الذي كان يراودهم هو أن المسيح ذاهب ليعد مكانًا أرضيًا ليبدأ من هناك سلطانه، وملكوته، ومع أن جهلهم كان بالغًا، لكن العجيب أن المسيح أكد لهم أنهم سيعلمون الطريق، ولم يكن في هذا أدنى مبالغة، إذ ما هي إلا فترة وجيزة من الزمن حتى وقفوا جميعهم على رأس الطريق الخالد إلى الله، لقد تحدث إليهم بهذا في الليلة التي أسلم فيها، وبعدها علمهم خلال الأربعين يومًا التي ظهر فيها بعد القيامة، إرساليته العظمى، وعندما جاء يوم الخمسين ملأهم بروحه لينطلقوا إلى أقصى الأرض في الطريق العظيم الخالد في الاتجاه الأبدي.. لقد كان المسيح لهم أولاً - وبادئ ذي بدء - الطريق إلى معرفة الله، وهو لم يأت ليشرح لهم من هو الله، وكيف يمكن أن يتصوره ويتخيلوه!؟ لقد كان هو الله الذي ظهر في الجسد، ومن ثم قال لفيلبس : «الذي رآني فقد رأي الآب» (يو 14 : 9) وليس هناك من يضارع النور المسيحي من هذا القبيل، ويكفي أن نلاحظ تخبط الوثنية التي صورت الآلهة بهذه الصورة المتعددة في الوقت الذي بلغت فيه الفلسفة اليونانية ذروتها وقمتها، وما زال الفكر الوثني إلى اليوم في تصوره العقيم عن الله، ويكفي أن تطلع على البوذية أو الكنفوشية أو الهندوسية أو ما أشبه في تصورها لله، لكي ترى الحماقة الكاملة حتى في القرن العشرين بعد الميلاد! لقد عجز هؤلاء جميعًا عن أن يعرفوا الطريق الذي يرى الله في وجه يسوع المسيح ربنا!! على أن المسيح لم يعط مجرد معرفة الله، بل كشف طريق الخلاص الإلهي، وما أكثر الذين يخرجون في رحلة الحياة، وقد ضلوا طريقهم في البرية، وما أكثر ما عثر الناس على هياكل آدمية قتلها الجوع والظمأ، وكانت تظن أنها تسير في الطريق الصحيح، وهي على ضلال بين إذ تاهت قافلتهم، وهي تسير منحرفة إلى هنا أو هناك، وهم يعلمون أو لا يعلمون! وهكذا في الرحلة الأبدية، كم ضل البشر في طريق قايين أو أحزابه من الهالكين، وجاء المسيح ليحمي من كل هذا الضلال، وهو يقول : «أنا هو الطريق» (يو 14 : 6)... في هذا الطريق ارتفع صليب المسيح كالعلامة المؤكدة الثابتة إلى مدينة الله، ... تاه الصبى الصغير في مدينة لندن، واقترب منه الشرطي ليسأله عما يبكيه، وإذ أدرك أنه تائه عن بيته، ابتدأ يسأله عن عنوان البيت، والولد الصغير لا يستطيع أن يعطي الإجابة الشافية، ذكر له الشرطي أسماء كثير من الشوارع، والولد حائر، تستند به الحيرة، وأخيرًا قال له الشرطي، هل تعرف ميدان الصليب، وإذا بالولد يصيح : نعم قدني إلى هذا الميدان أنا من هناك أعرف الطريق إلى بيتي! والبشرية كلها هي الولد الذي يتخبط في الظلام، حتى يقاد إلى هضبة الجلجثة، ومن هناك تعرف الطريق الأبدي إلى الله، في الخلاص بيسوع المسيح. على أن الطريق أكثر من هذا هو طريق الشركة مع الله، إنه الطريق الظليل بأشجار الحب الإلهي، وهو الطريق الذي علم ملايين البشر أحلى أغانى الحياة!! إن الحقائق التي كشف عنها المسيح لتلاميذه كانت مذهلة إلى الدرجة التي جعلت يوحنا يقول : «انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله» (ايو 3 : 1). كان أحد المرسلين يترجم هذه الآية إلى اللغة الوطنية لقبيلة وثنية متوحشة، وسمعه أحد الوطنيين الذين كانوا يساعدونه في الترجمة!!... فتوقف الرجل وهو يقول : هل هذا حقيقي!؟… وقال المرسل : نعم!!… فصرخ الرجل : وكيف تنطق بهذه الآية بدون دموع؟!... ولم يقف المسيح عند هذا الحد، بل تحدث عن الطريق إلى بيت الله، ... عندما كشف عن المنازل الكثيرة في بيت أبيه، المنازل التي سيذهب ليعدها لكل واحد منا، ... أجل لقد «أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل» (2تي 1 : 10). المسيح الحق لم ينر المسيح الطريق فحسب، بل أكثر من ذلك تحدث عن الحق، والحق الذي جاء وجسده في الأرض بشخصه وحياته ورسالته، وما أجمل ما قاله السيد أمام بيلاطس : «لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق» (يو 18 : 37) وقد سأل بيلاطس سؤاله المتعجل؟! ما هو الحق؟ وما يزال الكثيرون - مع بيلاطس - يسألون هذا السؤال دون عمق أو تأمل، ولو فطنوا لسألوا : من هو الحق أكثر من السؤال القديم ما هو الحق؟ ولست أظن أننا نستطيع أن نجيب إجابة أفضل وأعمق قبل أن تعرف من أي نقطة يبدأ الإنسان السؤال؟ يعتبر إيمانوئيل كانط من أعظم الفلاسفة الذين ظهروا في التاريخ والحديث، وقد وصف جهل الإنسان أبلغ وصف عندما صور الحياة في هذه الصورة : «أننا نعيش فوق سطح جزيرة في قلب بحر، ونحن ملوك هذه الجزيرة. ويمكننا أن نبحث أو ندرس أو نفكر على هذه الجزيرة بما يرضي هوانا ومع ذلك فكلما درسنا جزيرتنا كلما تبينا أننا نعرف فقط من الأشياء ما هو ظاهر دون أن نتبين حقيقة الأشياء ذاتها.. وحول هذه الجزيرة هناك بحر بغير حدود، ونحن لا نستطيع الاقتراب من هذا البحر المغطى بضباب كثيف. وإذ نحاول الدخول نجد قتامًا أحلك من الليل البهيم يمنعنا من الإبحار فيه، ويردنا إلى الجزيرة التي نقبع فوقها، وقد تظهر أحيانًا بعض الأشياء المبهمة، والتي تبدو هنا وهناك دون أن نعرف حقيقتها» هذه هي نقطة البدء، وأخشى أنها هي نقطة النهاية أيضًا بعيدًا عن يسوع المسيح! لقد ارتبط الحق بالمسيح، ولسنا في حاجة إلى أن نبحث عنه بعيدًا عن شخصه ومبادئه وأعماله ورسالته ونهج الحياة التي طلب أن نعيشها في الأرض! ومهما تتذبذب أوضاع الناس وتتغير أفكارهم، وتتلون عصورهم، فإن تعاليم المسيح ستبقى وحدها التعاليم التي لا تكذب أو تخدع، ومبادئه المثال الوحيد الذي لا يمكن أن يكون له نظير أو بديل!. المسيح الحياة لم يكن المسيح الطريق أو الحق، بل هو أكثر من ذلك، إنه الحياة وقد مد المسيح يده برفق وحنان إلى توما المتعثر، ليريه هذه الحقيقة في أكثر من صورة أو وضع، لقد أرجأ المسيح زيارته لمريض بيت عنيا حتى يموت لعازر، وقد كان التصور المؤكد في ذهن توما، أن المسيح لن يرجع من المكان حيًا، وهو يسير مع المسيح تحت هذا اليقين، لكي لا يموت المسيح وحده، بل يموت التلاميذ أيضًا معه، وسار المسيح والتلاميذ إلى المقابر لا لكي يروا لعازر ميتًا، بل لكي يروا المسيح سيدًا على الموت، ومعطيًا للحياة، ولست أعلم كيف نظر توما في تلك اللحظة إلى وجه لعازر، ثم عاد ليتأمل وجه سيده، من هو هذا الذي يمكن أن يهتف بنداء الحياة في قلب الموت على هذه الصورة العجيبة المذهلة! وإذا كان اسبينوزا الفيلسوف اليهودي، قد قال إنه على استعداد أن يؤمن بالمسيح لو أنه آمن بقيامة لعازر من الأموات! فإن توما كان من المستحيل أن يحتفظ بمنظاره الأسود أمام قاهر الموت، الذي أخرج الميت بهذا الاقتدار العزيز الرهيب! وكان من الممكن أن يطوح توما بمنظاره الأسود إلى غير رجعة، لولا الكسوف الكلي للشمس يوم الصليب، إن معطي الحياة، أسلم الروح ودفن في القبر، وختم على القبر بحجر كبير لا يمكن أن يزحزح من مكانه، وضاع الأمل وذهب الرجاء، ولم تعد الحياة ذاتها عند توما تحمل أي معنى للحياة!! أين ذهب توما، ولماذا لم يكن مع التلاميذ يوم القيامة؟ لقد ذكرنا أنه كان سوداوي المزاج، يرى الظلام في قلب النهار، فماذا يكون حاله عندما يأتي الليل على الصورة التي جاء بها يوم الصليب، لقد كره الرجل الحياة ونفسه والناس جميعًا، وآثر ألا يرى أحدًا، أو أن يراه أحد، ولعله حبس نفسه في مكان ما يجتر فيه حزنه، وإذا قدم عليه أحدهم يبشره بأن المسيح ظهر للتلاميذ جميعًا، وإذا جاءه ثان وثالث ليقول نفس القول، فإن جوابه : لو أن الدنيا بأكملها أخبرتني بهذا الخبر فأنا لا أستطيع أن أصدق، لقد طواه اليأس العميق، وأسقطه في بالوعة يرفض أن يخرج منها، ليتنسم الهواء ويرى الشمس مرة أخرى، ومع أنه كان من الممكن أن يستعيد صورة لعازر الذي قام من القبر، ويرى في ذلك بارقة أمل يمكن أن تشد أزره وتوقفه على قدميه، لكن طبيعته السوداوية المزاج سيطرت عليه، ورجحت كفة الشك وعدم اليقين، ولعله قال لنفسه ألا يحتمل أن يكون التلاميذ قد رأوا شبحًا أو خيالاً ظنوه المسيح، وإذ ألحوا عليه بالقصة والرواية، كان جوابه : «إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أؤمن» (يو 20 : 25) .. كانت صدمة الرجل قاسية! وقد شاء الله أن تكون كذلك ليس من أجله وحده فحسب، بل من أجل أجيال المتشككين في قيامة المسيح، والذين تصوروا أنها يمكن أن تكون أسطورة أو خيالاً أو وهمًا توهمه جماعة من المتحمسين لسيدهم، ليخرجوا على الناس بهذا الحماس الوهمي منادين بالقيامة، لكن توما رغم عدم إيمانه، خدم القضية أجل خدمة، ولا شبهة في أن المسيح ظهر في الأحد التالي للقيامة، خصيصًا من أجل توما، ولسنا في حاجة إلى أن نذكر مع القائلين إن توما ظل أسبوعًا كاملاً فريسة الشك واليأس، لأنه لم يحضر اجتماعًا مع الأخوة ومع يسوع المسيح في يوم القيامة، ويوم نغيب عن اجتماعات الكنيسة مع الأخوة القديسين، ويوم نغيب عن لقاء الرب في يوم الأحد، فإن العذاب قد يطول إلى أن نحضر الاجتماع مرة أخرى!! على أي حال لقد اتسمت معاملة المسيح لتوما بالرقة البالغة والحنان الكامل، وهو يكشف له أنه سيد الموت، والقادر على أن يدخل والأبواب مغلقة لينادي توما من وسط التلاميذ «هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا» هل وضع توما إصبعه في جنب المسيح، كما يصوره الرسامون؟ أنا لا أتصور ذلك، واتفق مع كامبل مورجان، في أنه لم يفعل بل صرخ بصيحته المدوية «ربي وإلهي» ! لقد تفجر أمامه الحنان والنور معًا، وفي خطوة واحدة انتقل الرجل من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين، وبخطوة واحدة انتقل من عدم الإيمان إلى الإيمان الكامل!! وقد قال أحد رجال الله : إن مجد هذه الصرخة في استعمال صيغة المفرد : «ربي وإلهي» وإذا كان من أفضل الأشياء وأعظمها أن ننطق بإيماننا الجماعي كمؤمنين معًا، فان حلاوة الانفراد بالاعتراف بالإيمان المسيحي مرات كثيرة ما يكون أنصع شهادة وأقوى أثرًا!! توما وخدمته المجيدة سار توما في خدمته المجيدة، وقيل إن ثلاثة من الملوك آمنوا على يديه لو صحت رواية التقاليد، وأنه عمل بين فارس والهند، وأنه احتمل الاضطهاد حتى ناداه سيده إليه، بعد أن أكمل سعيه وأتم رسالته، وإذا صح أنه طعن بحربة وهو يصلي، فنحن لا نعلم أين كان موقعها من جسده، وهل وصلت إلى جنبه، وهل تحسس مكانها، وهو يجود بأنفاسه الأخيرة؟ وهل ذكر ذلك الجنب المطعون الذي أراد أن يرى موضع الحربة فيه؟ على أي حال لقد حمل صليبه وراء السيد، ووقف في كل التاريخ توأمًا سباقًا في الحب والولاء والخدمة والطاعة والشهادة والاستشهاد لاخوته الذين ساروا على نفس النهج، وسلكوا ذات الدرب، ليلتقوا في مدينة الله معًا أمام السيد الذي أحبوه واسترخصوا كل شيء في سبيل مجده وملكوته الأبدي العتيد!! |
09 - 11 - 2013, 11:19 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: توما
شكرا على المشاركة الجميلة
ربنا يباركك |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|