|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
سليمان واختياره بعد أن توج سليمان واستوى على عرشه، أحس أنه في حاجة عميقة إلى الله، وإلى إرشاده وهدايته ومعونته، فسعى إلى جبعون الواقعة على بعد ستة أميال إلى الشمال من أورشليم حيث كانت هناك خيمة الاجتماع التي عملها موسى، وحيث كانت تقدم الذبائح لله، وأقام حفلاً دينياً عاماً يبدأ به حياته الملكية بتكريس عظيم أمام الله، وأصعد هناك ألف محرقة، وليس العبرة في حد ذاتها بهذا العدد الكبير من المحرقات كما يقول صموئيل: "هل مسرة الرب المحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش" أو كما يقول ميخا "بم أتقدم إلى الرب وأنحني للإله العلي هل أتقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة هل يسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار زيت هلى أعطي بكري عن معصيتي ثمرة جسدي عن خطية نفسي. قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك"... وقد جاء سليمان في الواقع بإحساس الضعف والاتضاع والحاجة إلى الله،.. وإذ رآه الله على هذا الوضع ظهر له في حلم، ووضع أمامه الاختيار المطلق دون قيد أو شرط،.. ولعله من اللازم قبل أن نتعرض لاختيار سليمان أن نشير إلى أنه ليس وحيداً أو منفرداً في هذا الاختيار، إذ أن كل واحد منا مثله له مملكته الخاصة، ومن حقه أن يختار اختياره المطلق، وما يريد بالنسبة لهذه المملكة صغرت أو كبرت على حد سواء،.. وإذا كان اليونانيون قد صوروا في أساطيرهم القديمة، هرقل بطلهم العظيم، وقد جلس ذات يوم في شبابه محزوناً متضايقاً، وإذا بفتاتين حسناوين تمران به، واحدة اسمها "اللذة" والأخرى اسمها "الفضيلة".. أما الأولى فقد وعدته أن تقدم له حياة رضية ممتلئة بالبهجة والمسرات، بينما وعدته الأخرى أن تقدم له حياة ممتلئة بالنفع والشهرة، ورفض هرقل نداء اللذة، واستجاب لنداء الفضيلة، وعاش حياته كلها لمعونة الضعيف والمحتاج والبائس... وإذا كان لورد ملبورن عندما أعلن الأميرة الشابة فيكتوريا أنها أصبحت ملكة انجلترا لم يجد أفضل من أن يقرأ لها حلم سليمان في جبعون، فمن الواضح أن الاختيار يواجه كل إنسان في الحياة،.. وحتى رفض الاختيار، هو نوع من الاختيار الذي لا يمكن تفاديه!!.. جاء الاختيار إلى سليمان وهو نائم، والاختيار الصحيح يأتينا مصحوباً بنوم ما، إذ لابد أن ينام فينا الإنسان الأناني الضعيف، الناقص، الشرير المقاد بالجسد، ليستيقظ فينا الإنسان الأسمى والأعلى والأعظم،.. وقد نام هذا الإنسان في سليمان، إذ أن الله عندما سأله: "اسأل ماذا أعطيك، ربما همست في أذنه التجربة.. "أطل طول أيام، أطلب ثروة وغنى، أطلب أنفس أعدائك"!!.. ويبدو هذا من قول الله: ولم تسأل لنفسك أياماً كييرة ولا سألت لنفسك غني، ولا سألت أنفس أعدائك، مما يشجع على الاعتقاد أن المجرب قد جرب بهذه كلها، ولكنه انتصر عليها جميعاً. وطلب القلب الفهيم. والقلب الفهيم يتطلب أمرين واضحين، إذ يبدأ أولاً بالذهن الجبار المقتدر الحكيم، الذي يستطيع الكشف عن الحقيقة المخبأة وراء ستار من الأضاليل والأكاذيب، وخير مثال علي ذلك قصة الزانيتين اللتين احتكمتا إليه في قصة الابن الميت والآخر الحي،.. على أن الأمر أكثر من ذلك لا يقف عند حدود الذهن بل يتعداه إلى "القلب" والذي قال عنه في الأمثال: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة"... والحكمة الصحيحة عند سليمان تتضح من قوله في سفر الأمثال: "بدء الحكمة مخافة الرب ومعرفة القدوس فهم"... وفي الحقيقة أن سليمان كان يدرك بالتأكيد أن الإنسان لا يمكن أن يكون حكيماً إلا إذا كانت له الرابطة القوية العميق بالله، والتي جعلته يقول في المزمور الثاني والسبعين: "اللهم أعط أحكامك للملك وبرك لابن الملك يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق تحمل الجبال سلاماً للشعب والآكام بالبر يقضي لمساكين الشعب يخلص بني البائسين ويسحق الظالم"... أو إذا جاز التعبير: إن الحكمة هي "الشفافية" التي يعطيها الله للإنسان لكي يبصر الحقيقة، أو الإلهام، أو الإيحاء، بالمعنى الذي قاله يعقوب: "وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطي له"!!.. كان اختيار سليمان بجانبيه "السلبي والإيجابي" مقبولاً وحسناً أمام الله، وقد أعطاه الله لذلك فوق ما يطلب أو ينتظر، إذ أعطاه الغنى والكرامة إلى جانب الحكمة الفائقة التي اشتهر بها، على أنه من اللازم أن نشير أيضاً إلى أن عطية الله كانت مشروطة بشرط واضح متكرر: "فإن سلكت في طريقي وحفظت فرائضي ووصاياي كما سلك داود أبوك فإني أطيل أيامك"... "والآن أيها الرب إله إسرائيل: احفظ لعبدك داود أبي ما كلمته به قائلاً لا يعدم لك أمامي رجل يجلس على كرسي إسرائيل إن كان بنوك إنما يحفظوا طرقهم حتى يسيروا أمامي كما سرت أنت أمامي".. "وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلب واستقامة، وعملت حسب كل ما أوصيتك، وحفظت فرائضي وأحكامي فإني أقيم كرسي ملكك على إسرائيل إلى الأبد كما كلمت داود أباك قائلاً لا يعدم لك رجل عن كرسي إسرائيل"... وقد أخفق سليمان في تحقيق هذا الشرط، أو كما قال أحدهم: إن الاختيار الموضوع أمام الإنسان ليس مجرد اختيار بين الرديء والحسن، بل أكثر من ذلك، بين الرديء والحسن والأحسن، وقد اختار سليمان الحسن، وعجز عن أن يصل إلى الأحسن، ومرات كثيرة يكون الحسن عدو الأحسن، أو أن التوقف عند الحسن قد يعود بصاحبه إلى الوراء إلى الرديء.. إنه من الحسن أن نطلب "القلب الفهيم" الذي ميز بين الحق والباطل، والخير والشر، والنور والظلام،.. ولكن الأحسن أن نطلب "القلب النقي"... ولو طلب سليمان طلبة أبيه العظيمة: "قلباً نقياً أخلق في يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" لما تردى في المنحدر الذي آل إليه فيما بعد،.. كانت طلبة سليمان الحسنة، كمن يبني قلعة عظيمة من غير أسوار، ما أسرع ما تسقط أو تنهار عند أي اقتحام أو هجوم،.. ألم يقل كونفوشيوس الحكيم الشرقي الذي جاء بعد سليمان بخمسة قرون: "هذه هي الأشياء التي ترعبني، إني لا أصل إلى مستوى الفضيلة الذي أرغبه، وأنني لا أعيش تماماً حسبما علمت، ولست قادراً على السير في حياة البر وعمله في الوقت الذي أعرف فيه أن هذا هو البر إني لا أستطيع عمل الخير، ولست قادراً على تغيير الشر في نفسي أنا لست الإنسان الذي ولد حكيماً"؟؟ |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الإنسان مسؤول عن مصيره واختياره |
دعوة الله لنا هي تقديره لنا بالحب واختياره لنا |
مُوسَى واختياره |
سليمان واختياره |
مشيئة الله وحرية الإنسان واختياره |