|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
ديماس ومحبة العالم الغالبة ومن المؤسف أن محبة ديماس للعالم ، كما جاءت الكلمة فى الأصل لم تكن مجرد المحبة العاطفية التى قد تكون نزوة من النزوات فى ساعة الضعف لا تلبث أن تنتهى ، بل هى المحبة القوية التى تصدر عن وعى وتفكير ثابت ، أو فى لغة أخرى ، إن قرار الرجل لم يكن وليد حركة انفعالية فجائية مباغتة ، بل وليد فكرة طال اختمارها فى الذهن ، ولم تلبث أن تحولت إلى قرار يتسم بالإصرار والتصميم الراسخ !! .. فما هى هذه المحبة التى يمكن أن تكون قد تسلطت على ذهنه إلى هذا الحد !! ؟ .. ربما نستطيع أن نفهمها إذا تأملنا المدلول الصحيح لكلمة العالم التى يعنيها الرسول هنا . إن العالم لا يعنى هنا عالم الطبيعة الجميلة التى أودعها اللّه فى الكون من جبال شاهقة ووديان خصيبة ، وشلالات وأنهار ، وجداول مياه ، وخضرة وأشجار ، وأطيار ، وحيوانات وبهائم ، .. إن صاحب المزمور المائة والرابع وهو يتأمل هذا العالم العظيم ، كان أكثر اقتراباً إلى اللّه وتعبداً له : « باركى يانفسى الرب . يارب إلهى قد عظمت جداً مجداً وجلالا لبست . اللابس النور كثوب الباسط السموات كشفة المسقف علاليه بالمياه الجاعل السحاب مركبته الماشى على أجنحة الريح ، الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة ، المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر .. المفجر عيوناً فى الأودية . بين الجبال تجرى ، تسقى كل حيوان البر . تكسر الفراء ظمأها . فوقها طيور السماء تسكن . من بين الأغصان تسمع صوتاً .. حيث تعشش هناك العصافير . أما اللقلق فالسرو بيته الجبال العالية للوعول . الصخور ملجأ للوبار .. ما أعظم أعمالك يارب كلها بحكمة صنعت . ملآنة الأرض من غناك . هذا البحر الكبير الواسع الأطراف . هناك دبابات بلا عدد . صغار حيوان مع كبار .. يكون مجد الرب إلى الدهر . يفرح الرب بأعماله ... إلخ » .. وكل واحد منا يمكن أمام عالم الطبيعة أن يصيح : أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك فى كل الأرض !! .. ( مز 8 : 1 ) . وأكثر من ذلك ليس المقصود « بالعالم الحاضر » هو عالم البشر لأنه : « هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية » .. قال شاعر غربى : هل تعلـــم أن العالم يحتضـــــــر وهو فى حاجة إلى قليل من حب وفى كل مكـــان نسمــــع نحيــبه أنا فى حاجـة إلى قليـل من حــب إلى الحــــب الذى يصحح الخـطأ ويمـــلأ الكــل بالرجـــاء والتـرنم وقـــد تطلعــــــــت طــــــويــــــلا إلــــى قليـــل مـــــــن الحـــــــــــــب وبالتأكيد ، ليس مطلوباً منا على الاطلاق أن نمتنع عن حب البشر ، .. جاءت سيدة إلى أحد الرعاة ، وقالت بقلب مكسور ، إن بكرها قد مات طفلاً صغيراً ، وهى تخشى أن تكون قد أحبته أكثر من اللازم ولأجل ذلك أخذه اللّه ، .. وأجابها الراعى : أنت مخطئة ياسيدتى ، فأنت لم تحبيه أكثر من اللازم ، بل ربما أحببت اللّه أقل مما يجب ، .. ومأساتنا الحقيقية فى حياتنا أجمعين أننا نحب أقل مما يجب !! .. وليس المقصود بالعالم الحاضر، عالم العبقرية والفن والاكتشاف والاختراع فكل ما يفيد الإنسان علمياً أو طبياً أو اجتماعياً ، ويعطيه راحة أو فى لصحته وحياته وذهنه ونفسه ، .. لا يمكن أن يكون هو العالم الحاضر الذى أحبه ديماس ، .. حمل الأفريقيون الرجل الأسود الذى كان يمزقه الألم إلى ألبرت شويتزر ، وأنامه الطبيب العظيم ، وخدره ، وأجرى له العملية ، وأفاق الرجل من المخدر ، وهو يتعجب أشد العجب للألم الذى انتهى ، وإذ أخذ يشكر شويتزر قال له : لا تشكرنى .. أشكر من أرسلنى إليك ، إنه يسوع المسيح مخلص العالم . وتعرف الأفريقى على المسيح ، لأن اللّه لم يستخدم الطبيب فحسب ، بل استخدم الوسائل الطبية التى أضحت نعمة اللّه للانسان المتألم فى هذه الأرض !! .. وخذ على هذا القياس شتى الميادين الأخرى والمكتشفات والمخترعات التى أفادت البشر من مختلف الوجوه ، وأعطته من الخير ما لم يكن يحلم به على الإطلاق !! .. إذاً ما هو هذا العالم الذى يقصده بولس ، والذى أحبه ديماس ، .. إن هذا العالم هو الذى يصفه بولس بكلمة الحاضر ، والحاضر تعنى على الأقل معنيين أساسيين : الملموس أو المنظور ، فى مواجهة غير المنظور ، .. والوقتى فى مواجهة الأبدى ، .. فالعالم الحاضر هو عالم الحياة الحاضرة المنظورة التى يصرف الناس فيها قواهم ، ويعيشون للجسد بكل ما فى الكلمة من معنى، دون أن تنفتح عيونهم على العالم الروحى غير المنظور ، .. وهو العالم الذى يعرف مفاتن روما أو تجارة تسالونيكى ، ولا يستطيع أن يمتد إلى ما هو أكثر ، أو يخترق المنظور إلى غير المنظور ، ... وهو العالم الذى يبنى حياته وقصوره فى الأرض ، مجداً فى بحثه عن التمتع الوقتى بالخطية دون نظر إلى الأبدية وعالم المستقبل العتيد !! ... وحتى تتضح الصورة أمامنا ، خليق بنا أن نتمشى مع خيال أحد الخدام ، وهو يصور لنا ديماس وبولس يسيران معاً فى شوارع روما متجهين إلى مكان العبادة ، ... وبولس يدب بقدميه الثابتين ، ووجهه المنطلق إلى الأمام دون تردد أو تلفت يمنة أو يسرة ، إذ هو مشغول تماماً بفكرة العبادة التى هو ذاهب إليها ليلتقى هناك مع إخوته المتعبدين المؤمنين ، .. ولكن ديماس كان على العكس زائغ البصر ، على طول الطريق يتلفت هنا وهناك ، على ما تقع عليه عيناه من روائع روما ومتاجرها ومبانيها العظيمة وقصورها الشاهقة ، ... وإذ يخرج الاثنان من المدينة يدلفان إلى المقابر التى تنزل بهم إلى ما تحت الأرض ، حيث كانوا يتعبدون فى أيام الضيق ،الاضطهاد حيث لم تسمح لهم روما بالعبادة الحرة الآمنة الهادئة ، .. وقد انعكس هذا كله على نفس ديماس ، الذى لم يكن له حظ التمتع بالمنظور الذى أغرق الرومان فيه أنفسهم ، بل هو يعيش فى ظل الرعب والفزع من الاضطهاد الذى كان يلقى فيه بالمسيحيين إلى الموت حرقاً ، حيث كانت تشعل فيهم روما النار وتعلقهم ليضيئوا ظلمانها القاسية الرهيبة ، أو تتركهم للصراع مع الوحوش ، وتصفق بأيديها وهم يلقون حتفهم هناك فى أبشع ما عرف العالم من عنف وقسوة واضطهاد !! .. أجل لقد أُخذ فى مطلع الأمر بجمال الحياة المسيحية ، وعظمة النفوس النبيلة التى ارتفعت فوق مستوى الحياة العالمية ، وشعت بنور لا يمكن أن يصدر عن العالم نظيره أو بديله !! .. ولكنه الآن يرى الصورة الأخرى، .. صورة التعب والمعاناة والألم والاضطهاد والموت ! .. وهو أعجز من أن يفهم معنى هذا ، ولا يستطيع وقد خمدت جذوة حماسته الداخلية ، أن يبقى على هذا الوضع أو يستقر فيه، .. ومن ثم قر قراره على الذهاب إلى تسالونيكى ، ربمالأنها بلدته ، أو لأنها المكان الذى قرر أن يتاجر فيه ، أو لأنها المكان الذى يبعد فيه عن روما حتى لا يكون فى متناول يد الإمبراطور الذى قد يسجنه كما سجن بولس ، وأصبحـــــــت حياته لذلك فى خطر داهم !! .. قال أحدهم : إن لكل واحد منا بعيداً عن اللّه ، « تسالونيكى » التى يتجه إليها ويسعى ويكد ويلقى فيها عصائر حاله ، ... فهناك « تسالونيكى المال » حيث يقال إن ديماس تحول عن الخدمة إلى التجارة فيها ، .. وكم ضاع خدام للّه بدأوا بداية حسنة ولكن محبة المال ضيعتهم ، وأغلتهم بأطواق من ذهب ، ولم يستطيعوا أن يخدموا السيدين : اللّه والمال .. التقى أحدهم فى إحدى عربات الأتوبيس فى مدينة لندن بشاب كان يحمل شعار الامتناع عن المسكرات فسأله بنغمة ساخرة : كم كلفك هذا !! ؟ .. وأجاب الآخر : لا أعلم بالضبط لكنى أقول لك بالتقريب إنه يكلفنى كل سنة ما لا يقل عن عشرين ألفاً من الجنيهات ، .. كان المتكلم هو فردريك شارنجتون ابن واحد من أكبر تجار البيرة والمشروبات الروحية ، وقد انتهى به الأمر إلى رفض الثروة التى تأتى من هذا الجانب المفسد والمضيع للكثيرين ممن يتعاطون الخمور ويدمنون عليها ، .. ولكن الكثيرين على العكس على استعداد أن يجعلوا تسالونيكى أمل حياتهم بكل ما فيها من ربح حرام ، ومال دنس !! .. وهناك تسالونيكى « الشهرة » كمن باعوا أنفسهم للشيطان ليصبحوا نجوماً وكواكب لامعة فى السينما أو غيرها من ميادين الشهرة ، وهم لا يتورعون عن ارتكاب أحط أنواع المباذل والمفاسد ، طالما تصفق لهم الجماهير أو يهتف لهم البشر ، أو تظهر أسماؤهم أو صورهم فى الصحف والمجلات والكتب !! .. وهم فى سبيل ذلك قد يهجرون الاسم الحسن الذى دعى عليهم فى بيوتهم وهم صغار وأطفال !! .. وهناك « تسالونيكى الشهوة » حيث يذهب ملايين الناس ليتساقطوا كما يتساقط الفراش المحترق ، وهو يسعى إلى النار ، وأغنيتهم: «اليوم خمر وغداً أمر» ، وهم مندفعون بجنون كامل إلى المباذل والمفاسد والشرور دون ورع أو تعقل أو اهتمام بالمصير الذى إليه ينتهون .. وهناك ، « تسالونيكى العلم » وهى عند الكثيرين المعبد الذى يتعبدون فيه دون اللّه ، .. فهم يصرفون حياتهم بأكملها ، فى دروب ومتاهات الفلسفة والاختراع والاكتشاف ، دون أن يرفعوا رؤوسهم إلى « المعلم » الحقيقى والسيد الذى يعطى الحكمة الحقيقية والمعرفة الصحيحة على هذه الأرض !! .. ومهما تكن المظاهر المختلفة «لتسالونيكى» عند البشر ، إلا أنها القصة القديمة : «تركنى لأنه أحب العالم الحاضر» .. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
هذا هو العالم الذي أحبه ديماس |
ديماس ومحبة العالم الفانية |
العالم الذي أحبه ديماس هو «العالم الحاضر» |
ديماس ومحبة العالم |
ديماس قد تركنى اذ أحب العالم الحاضر |