ما هو التواضع؟
ليس التواضع أن تنزل من علوك, أو تتنازل إلى مستوى غيرك.
ليس التواضع أن تشعر أنك على الرغم من عظمتك, فإنك تتصاغر أو تخفى هذه العظمة. فشعورك أنك كبير أو عظيم, فيه شيء من الكبرياء. وشعورك أنك في علو تنزل منه, ليس من التواضع في شيء. وشعورك بأنك تخفى عظمتك, فيه إحساس بالعظمة, إحساس بعظمة تخفيها عن الناس. ولكنها واضحة أمام عينيك..
إن الله هو وحده العالى, وهو وحده الذي يتنازل من علوه. هو الخالق. أما الباقون فهم تراب ورماد..
إنما التواضع بالحقيقة كما قال الآباء. فهو معرفة الإنسان لنفسه.
فتعرف من أنت؟ إنك من تراب الأرض. بل التراب أقدم منك. كان قبل أن تكون. خلقه الله أولًا, ثم خلقك من تراب.
أتذكر أننى ناجيت هذا التراب ذات مرة, في أبيات قلت فيها:
يا تراب الأرض يا جدى وجدّ الناس طرا
أنت أصلى أنت يا أقدم من آدم عمرا
ومصيرى أنت في القبرِ، إذا وُسدت قبرا
بل أنك يا أخى إذا فكرت في الأمر باتضاع. تجد أن هذا التراب لم يغضب الله, كما أغضبته أنت بخطاياك.
إعرف أنك لست فقط ترابًا. بل أنت أيضًا خاطئ وضعيف.
على أن تكون هذه المعرفة يقينية, بشعور حقيقي غير زائف داخل نفسك.. حتى وأنت في عمق قوتك, تدرك أن هذه القوة ليست منك. بل هي منحة سماوية لك من الله الذي يسند ضعفك. ولو تخلت عنك نعمته لحظة واحدة, لكنت تسقط كما سبق لك أن سقطت.
نقول ذلك, لأن كثيرين لهم مظهرية الإتضاع, بينما قلوبهم في الداخل ليست متضعة..
كثيرون يتحدثون بألفاظ متضعة.. وهذه الألفاظ ربما تزيدهم علوًا في نظر الناس. وهم يعرفون ذلك وربما يريدونه! وقد يقول الشخص منهم إنه خاطئ وضعيف. ولكن إن قال له أحد إنه خاطئ وضعيف, يثور ويغضب. ولا يحسبه من أحبائه, بل يتغير قلبه من نحوه..!
إذن التواضع الحقيقي, هو تواضع من داخل النفس أولًا..
باقتناع قلب. لا عن تظاهر أو رياء. وليس لأن هذا هو الثوب الذي ترتديه لتبدو أمام الناس بارًا. إنما لأنك تدرك تمامًا عن نفسك ببراهين وأدلة عملية أنك خاطئ وضعيف بحسب خبرات حياتك من قبل.
ولا يقتصر الأمر على معرفتك لنفسك أنك هكذا, إنما أيضًا:
تعامل نفسك حسب ما تعرفه عنها من خطأ ونقص وضعف:
تعرف عن نفسك أنك خاطئ, وتعامل نفسك كخاطئ. وإن عاملك الناس كخاطئ, تقبل ذلك, ولا تغضب ولا تتذمر, ولا ترد بالمثل, شاعرًا أنك تستحق ذلك، . وإن لم يعاملوك بحسب خطاياك بسبب أنهم لا يعرفونها, فعليك أن تنسحق من الداخل, وتشكر الله بقلبك على معاملة أنت لا تستحقها منهم, ولا منه لأنه سترك ولم يكشفك لهم..
إن كان الأمر هكذا, فالمتواضع لا يجرؤ مطلقًا على أن يمدح نفسه.
إنه لا يرى فقط أنه خاطئ وضعيف, بل انه أكثر الناس خطأً وضعفاَ, على الأقل بالنسبة إلى الإمكانيات التي أتيحت له ولم يستغلها. لذلك فهو لا يرى مطلقًا أنه أفضل من أحد, وإن بدا أنه الأفضل في نقطة معينة, فهو الأضعف في نقاط أخرى كثيرة يعرفها عن نفسه. ولهذا فهو لا يدين أحدًا.
بل إنه باستمرار يتخذ المتكأ الأخير, حسب وصية الرب (لو 14: 10).
وليس المقصود هو المتكأ الأخير من جهة المكان, إنما من جهة المكانة. وكما قال الشيخ الروحاني: "فى أي موضع حللت فيه, كن صغير أخوتك وخديمهم". وقيل "كن آخر المتكلمين, ولا تقطع كلمة من يتكلم لكي تتحدث أنت".."وحاول أن تتعلم, لا أن تعلّم غيرك وتظهر معارفك".
والإنسان المتضع يجب أن يعمل الفضيلة في الخفاء.
وذلك حسبما أمر الرب (مت 6). ولذلك لا يوافق الاتضاع مطلقًا, أن يتحدث أحد عما يقوم به من أعمال فاضلة, أو ما يحدث له من رفعة.
إن بولس الرسول الذي صعد إلى السماء الثالثة, وسمع كلمات لا يُنطق بها, لم يقل إن ذلك قد حدث له, إنما قال "أعرف إنسانًا في المسيح يسوع.. أفي الجسد لست أعلم, أم خارج الجسد لست أعلم, الله يعلم.. أُختطف هذا إلى السماء الثالثة.. أُختطف إلى الفردوس. وسمع كلمات لا يُنطق بها" (2كو 12: 2 4).
إن الفضيلة في المتضع, مثل كنز مخفي في حقل.
وما أكثر القصص التي يحكيها لنا تاريخ القديسين عن أولئك المتواضعين الذين أخفوا فضائلهم, وأخفوا معرفتهم, بل أخفوا ذواتهم أيضًا. وعاشوا مجهولين من الناس, ويكفى أنهم كانوا معروفين عند الله. وكان ينطبق عليهم قول الرب في سفر النشيد "أختى العروس جنة مغلقة, عين مقفلة, ينبوع مختوم" (نش 4: 12).. كالقديسة العذراء مريم: كانت كنزًا للرؤى والاستعلانات. ومع ذلك ظلت صامتة "تحفظ كل تلك الأمور, متأملة بها في قلبها" (لو 2: 51).