اللاهوت المعاصر والأديان الأخرى
لكن كل هذا لا ينفي التأكيد أن اللاهوت المسيحي حول حقيقة الأديان الأخرى والخلاص فيها هو من نتاج العصر الحديث. إن الوعي المسيحي الجدي بأن ثمة بشراً آخرين ينظمون حياتهم بطرق مثيرة للإعجاب، ويسعون إلى الحقيقة ويتوقون إلى الخلاص من ضمن تلك الطرق أو الأديان، هو وعي حديث العهد. لم تكن الأديان الأخرى، قبل العصر الحديث، تشكل سياقاً أو خلفية مهمة للاهوت المسيحي. لم يكن اللاهوت المسيحي يشعر أن وجود أديان أخرى يشكل تحدياً بالنسبة لفهم المسيحية ذاتها.
لكن الأمر بدأ يتغير بعد رحلات الاستكشاف الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وبعد الإرساليات المسيحية إلى الشرقين الأقصى والأوسط، وبعد تطورات فكرية في القرن التاسع عشر، عنيت وعي تاريخانية كل فكر بشري، بل كل حدث وواقع وظاهرة بشرية، وتالياً وعي نسبيتها. هناك فرع لاهوتي اليوم اسمه "لاهوت الأديان" يعالج مسائل حول علاقة المسيحية بالأديان الأخرى، فيسأل: هل ثمة حقيقة خارج المسيحية؟ ما علاقة الحقيقة خارج المسيحية، إذا وجدت، بيسوع المسيح وبالكنيسة؟ هل ثمة خلاص في الأديان الأخرى أو بواسطتها؟ هل يمكن أن تعترف المسيحية بشرعية أديان أخرى أم تتعامل مع أفرادها فقط؟ يمكن تمييز ثلاثة مواقف أساسية كبرى في اللاهوت المسيحي المعاصر حول "الأديان الأخرى". هناك موقف حصري (exclusivist) وموقف تعددي (pluralist) وموقف شمولي (inclusivist).
يكتسب الموقف الحصري تسميته من كونه يحصر الخلاص والحق في المسيحية. الإيمان المسيحي هو الحق، وكل الأديان الأخرى والتراثات الإيمانية الأخرى باطل. الخلاص يتأتى من الإيمان بيسوع وحده ولا خلاص إلا به. ألم يعلن الرسول بطرس أنه "ليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص". (اع 12:4)؟ وهناك أقوال وأفكار كثيرة مشابهة في الكتاب المقدس تفسر حصرياً. كما أن هناك تعابير تاريخية لهذا الموقف الحصري أشهرها عبارة "لا خلاص خارج الكنيسة"، التي فسّرت بتشدد لافت من جانب باباوات ومجامع. أذكر منها ما أعلنه مجمع فلورنسا (1438- 1445) من أن "الكنيسة الرومانية المقدسة تؤمن وتعترف وتعلّم أنه لا يستطيع البشر أن ينالوا الحياة الأبدية إن بقوا خارج الكنيسة الكاثوليكية، وليس فقط الوثنيون بل أيضاً اليهود والهراطقة والمنشقون، فكلهم مصيرهم إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته (متى 41:25) إلا إذا انضموا إلى الكنيسة قبل مماتهم". المهم في الأمر أن الموقف الحصري له تعابير كلاسيكية عبر التاريخ، وهو لا يقتصر على كنيسة واحدة.
فالإنجيليون الأصوليون هم أيضاً من أتباع النظرية الحصرية: الخلاص والحق في المسيحية الكتابية فقط، وكل الأديان والطرق الأخرى باطلة، وتؤدي إلى الهلاك. في النظرة الحصرية هناك حذر شديد، إن لم نقل رفضاً مبدئياً، للانفتاح على الأديان الأخرى أو الحوار معها، إلا إذا كان الهدف تبشير الآخرين لتنصيرهم. وكل انفتاح وحوار بغير هذا الهدف، إنما هو خيانة لكشف الله في يسوع المسيح، ومساومة على الحقيقة، لان ذلك يفترض أن ثمة حقيقة خارج المسيح أو الكنيسة، أو ثمة ما يمكن تعلمه من الآخرين. الموقف الحصري المتشدد شائع بين المسيحيين من جميع الطوائف، ولعل قوته تكمن في ولائه المطلق لنهائية يسوع المسيح، لكنه موقف لم يعد قادراً أن يقف في وجه النقد اللاهوتي والكتابي له.
هذا الموقف لا يميّز بين يسوع المسيح - كشف الله النهائي - وأفكار البشر وتعابيرهم عن المسيح. لا يميز بين محتوى الكشف الإلهي والوسائط الإنسانية التاريخية التي بواسطتها يأتينا ذلك الكشف. المسيح هو الحقيقة النهائية، ولكن المسيح لا يؤسر في معادلة واحدة أو صياغة واحدة أو تعبير واحد أو عقيدة أو كتاب أو مؤسسة واحدة، بحيث نستطيع السيطرة عليه، وادعاء امتلاكه كلياً. ثم إن في الكتاب المقدس شواهد عدة على أن الله "لم يترك نفسه بلا شاهد" (اع 17:14) في العالم، وان كلمة الله الذي تجسّد في يسوع هو النور الذي ينير كل العالم وكل الحياة (يو1:9)
إن الموقف الحصري، وما يستتبع من نتائج حول حصر الحقيقة والخلاص في المسيحية وحدها، وما قد يستجر ذلك من تفوق واستعلاء للمسيحية على الأديان الأخرى، هو تماماً ما يريد أتباع الموقف التعددي تجنبه بل تخطيه. ينطلق الموقف التعددي من كون المسيحية أحد الأديان العالمية الكثيرة، لكنها، ككل الأديان الأخرى، لها واقع تاريخي معين يستجيب بطريقته الخاصة للحقيقة النهائية في هذا الكون. غير أن الاستجابة المسيحية ليست الاستجابة الوحيدة الشرعية أو الممكنة. يشدد اللاهوتيون التعدديون على أن وعي النسبية التاريخية الأساسية لكل الأحداث ولكل معرفة، يقودنا إلى إزالة الوهم بأن ثمة تعبيراً بشرياً واحداً أو طريقاً واحداً إلى الحقيقة النهائية للوجود تكون صالحة لكل أنواع البشر في كل الأزمان. إن الله أكبر بكثير من تصوراتنا وتعابيرنا وقدراتنا المعرفية. الله سر لا يسبر غوره، وهو يكشف ذاته للبشر بأنواع مختلفة في أديان وأوضاع مختلفة. التركيز في الموقف التعددي هو على "الله".
كل الأديان تتمحور حول "الله" أو حول حقيقة نهائية مطلقة. بالنسبة للمسيحيين، إن يسوع هو الذي يكشف لهم هذه الحقيقة النهائية ويوصلهم إليها، ولكن بالنسبة لغير المسيحيين هناك طرق أخرى، وربما تجسدات أخرى للحقيقة الإلهية. ويؤكد التعدديون على أن كل الأديان هي مجالات خلاص وتحرير لاتباعها. يصر التعدديون على أن المسيحية هي استجابة مشروعة للحقيقة النهائية، كما يصرون على المسيحيين أن يستمروا فيها ويحيوها، كما عرفوا الحق فيها في الله الآب المتجلي في تعاليم يسوع. ويفترض بالأديان الأخرى أن تفعل الشيء عينه. يمكن بل يجب أن يتم ذلك من دون تنافس وعداء، لأن الطريق الصحيح للعلاقة بين الأديان هو التفاعل والحوار، وليس ادعاء التفوق ومحاولة ابتلاع الآخر. أما في ما يتعلق بنهائية يسوع المسيح وفرادته، فيؤكد التعدديون أن يسوع هو حقا كشف الله الخلاصي، لكنه ليس بالضرورة وحده كشف الله الخلاصي.
ليس يسوع هو الحقيقة الإلهية الكاملة والنهائية والفائقة، ولكنه يأتينا حقا برسالة عالمية وحاسمة لا غنى عنها. انه كلمة الله الخلاصية، ولكنه ليس كلمة الله الخلاصية الوحيدة، وهذا يعني أن ثمة إظهارات أخرى للحقيقة النهائية، إلى جانب يسوع. هذا شرح فيه شيء من التبسيط للموقف التعددي، لأن هذا الموقف هو نفسه متعدد ولا يساوي بسذاجة بين جميع الأديان، كما لا ينكر أن في الأديان أموراً سلبية. لكن النظرة التعددية هي في الجوهر واحدة. ولكي يعتنق اللاهوت المسيحي الموقف التعددي، بما يتضمن من اعتراف بحقيقة الأديان الأخرى والخلاص فيها المستقلين عن المسيحية، عليه أن يعيد النظر في عقيدة المسيح (الكريستولوجيا) إعادة نظر أساسية، تؤدي في النهاية إلى إعادة الإطاحة بالاعتقاد المسيحي أن الله كشف ذاته وأعطى ذاته في يسوع المسيح. الموقف التعددي يرسو في النهاية على المفهوم النسبي للحقيقة. والسؤال المطروح يصبح: هل يتوافق هذا الموقف مع شهادة الكتاب المقدس واختبار الإيمان المسيحي؟
إن الاتجاهات الكبرى للاهوت المسيحي حول الأديان الأخرى تندرج اليوم تحت ما يمكن تسميته الموقف الشمولي. فهذا الموقف يتجنب انغلاقية الموقف الحصري ونظرته الضيقة إلى حقيقة الله وعلاقته بالعالم كله، كما يتجنب الإطاحة بمركزية يسوع المسيح ونهائيته، في تعددية تساوي بين جميع الأديان بشكل مبدئي. ان معظم اللاهوتيين الإنجيليين الكبار اليوم هم شموليون، وكذلك المجمع الفاتيكاني الثاني، ولاهوتيون كاثوليك وأرثوذكس كثيرون. الشمولية تعني أن ثمة حقيقة وخلاصاً عند الآخرين وفي أديانهم، ولكن ليس باستقلال عن المسيح. فالمسيحية، في شكل أو آخر، تشمل الأديان الأخرى، وتشمل الحق والخلاص فيها.
إن الموقف الشمولي موقف قديم، وليس وليد العصر الحديث، كما قد يظن البعض. فهو يعود إلى أوائل الفكر المسيحي المبني على لاهوت "الكلمة" أو "اللوغوص" في إنجيل يوحنا، كما نجده، مثلاً، عند يوستينوس الشهيد وإريناوس. فالأول تحدث عن شذرات (أو بذور) الكلمة الإلهية الموجودة عند الذين لم يعرفوا المسيح، والثاني تكلم على البشر الذين لم يعرفوا المسيح، لكنهم عاشوا بمحبة الله ومخافته، ومارسوا البر والتقوى تجاه الله والقريب، فهم سينالون الملكوت أيضاً. طبعاً ليس هناك نظرية لاهوتية متطورة في موضوع الأديان الأخرى في الكتابات القديمة، لكن الفكرة الشمولية موجودة بوضوح عند بعض آباء الكنيسة، مع أنها غالباً ما تتناول الذين عاشوا قبل مجيء المسيح وليس من أتوا من بعده، ولم يؤمنوا به.
إن الموقف الشمولي المعاصر هو تطوير وتوسيع وتعميق لهذه النظرة الشمولية التي نجدها في التراث المسيحي القديم. لكن الموقف الشمولي متعدد الاتجاهات والنظرات. لن يتسع هذا البحث لذكرها كلها أو حتى معظمها، لذلك سأكتفي بعرض موجز لثلاثة اتجاهات لاهوتية شمولية لها أثرها في لاهوت الأديان المعاصر. أ. النظرة التدرجية أو التطورية: يقول هذا الاتجاه اللاهوتي بان العلاقة بين الإيمان المسيحي والأديان الأخرى هي علاقة الناقص بالمكتمل. فالأديان الأخرى هي إعداد لقبول حقيقة المسيح، وكلها سوف تجد اكتمالها وتتحقق في إنجيل يسوع المسيح. نهائية المسيح هي بمثابة قمة السلم أو أعلى حلقة في السلسلة. يندرج اسم اللاهوتي فريديريك شلايرماخر هنا، كما المفكر الألماني هيغل الذي قرأ تاريخ الأديان كله، كحركة تقدمية في اتجاه واحد. كل دين عبر عن لحظة خلاقة ثم تطور وارتقى إلى ما هو أعلى منه، حتى اكتمل التطور في المسيحية. بحسب بعض اتباع المفهوم التدرجي للأديان، لا يلعب التسلسل الزمني دوراً كبيراً، فقد يكون هناك دين ظهر بعد المسيحية لكنه في محتواه وجوهره سابق على المسيحية.
إن النموذج الأساسي لهذه النظرة هو المفهوم التقليدي للعلاقة بين اليهودية والمسيحية. اليهودية كانت إعداداً للمسيحية التي ورثتها وأكملتها. هناك طبعاً اعتراضات مهمة على هذا المفهوم، ليس أقلها أن الدراسات الموضوعية والمعمقة للأديان الأخرى تظهر أنه لا يمكن ترتيبها في سلسلة هرمية ذات اتجاه واحد. إن محاور الأديان الأساسية مختلفة، ولكي نفهم كل دين، كما يفهم هو ذاته، علينا أن نقاربه من الداخل، وليس كمرحلة إعدادية للمسيحية. ب. نظرة الإيمان الضمني: ترتبط هذه النظرة باسم اللاهوتي الكاثوليكي كارل راهنر الذي علّم بأن نعمة الله وكشفه موجودان وفاعلان كشروط لا بد منها لوجود الخليقة على الإطلاق، أي أنهما موجودان وفاعلان في الخليقة وفي البشر جميعهم حتى لو لم يعلنا صراحة ونهائياً إلا في حدث يسوع المسيح. إن للمؤمنين من الأديان الأخرى بحسب هذا الموقف الشمولي مدخلاً إلى نعمة الله السابقة رغم أنهم قد لا يعرفون شيئا عن المسيح، أو لأسباب معينة وشرعية قد رفضوا البشارة المسيحية. كل من يحيا بصدق وإخلاص، بحسب النور المعطى له من الله، بحسب ضميره الصالح، هو مسيحي مجهول الاسم (غير مسمى). إذاً، هناك إيمان ضمني خارج الكنيسة.
كل من عنده هذا الإيمان الضمني هو مسيحي مجهول الاسم، والإيمان عند هؤلاء البشر هو أيضاً من عمل الله. والأديان العالمية يمكن أن تكون أقنية للتعبير عن هذا الإيمان الضمني، وتالياً يمكن أن تكون وسائط خلاص. إذا كانت الأديان تؤدي دوراً يساعد على إقامة علاقة صحيحة مع الله رغم نواقصها وشوائبها، فإنها أديان شرعية تؤدي إلى الخلاص. لكن موقف راهنر ليس في النهاية تعددياً أو نسبياً لأنه يصر على أن المسيحية هي الدين المطلق للجميع، وما هو مجهول الاسم وغير منظم ومبعثر وضمني عند الآخرين، قد كشف كلياً وصراحة في يسوع وفي الكنيسة. وعندما تسنح الفرصة، ينبغي على المؤمن الضمني أن يصير مؤمناً صراحة، وينضم إلى الكنيسة حيث ينعم بالحقيقة الكاملة. لقد كان لفكر كارل راهنر حول الأديان الأخرى أثر مهم على المجمع الفاتيكاني الثاني، كما على الكثيرين من اللاهوتيين الكاثوليك، لكنه تعرض أيضاً لانتقادات كثيرة، خصوصا بالنسبة لمفهوم المسيحيين المجهولي الاسم.
قال بعضهم إن هذا موقف لاهوتي استعماري، يفرض على الجميع صفة المسيحية من حيث يدرون أو لا يدرون. فلماذا لا يقول البوذي، مثلاً، أن المسيحيين هم "بوذيون مجهولو الاسم"؟ لكن جاذبية نظرة راهنر وقوتها تكمنان في أنه استطاع أن يعترف بالحقيقة عند الآخرين، وبإمكان الخلاص لهم من دون أن يساوم على نهائية يسوع المسيح أو يتخطاها. كما أن موقف راهنر لا يؤدي إلى التخلي عن التبشير، لان هدف التبشير هو إخراج الإيمان الضمني إلى العلن. ج. نظرة الكشف النهائي: في الجانب الإنجيلي، يبرز اسم اللاهوتي الألماني ولفهارت باتنبرغ كأحد أهم اللاهوتيين الشموليين في نهاية القرن العشرين. ينطلق باتنبرغ من أن جميع البشر يتوقون إلى النهاية المطلقة التي سوف تضفي معنى على كل ما سبق، وتنير كل ما حدث. ويؤمن المسيحيون بأن تلك النهاية حدثت في قيامة يسوع المسيح، إلا أننا نرتقب حدوثها للعالم كله.
كل الأديان هي الآن ناقصة وغير مكتملة، بما فيها المسيحية. لكن المسيحية ذاقت النهاية المطلقة، واختبرت الكشف النهائي في المسيح، لذلك فهي تحتوي على الحقيقة النهائية وعلى الخلاص. لكن ذلك لا يعني أن المسيحية حصرية في نظرتها إلى الأديان الأخرى. يرى باتنبرغ أن شهادة الكتاب المقدس لا تبرر ولا تدعم الحصرية، خصوصاً في ضوء (متى 11:8) حيث يقول يسوع "إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع ابرهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات"، وأيضاً في ضوء (متى 31:25) وما يتبع، حيث تجتمع أمام كرسي الديان كل الشعوب فيقضي بينها على أساس ما فعلته ليسوع في بني البشر، وليس على أساس معرفتها أو عدم معرفتها الشخصية بيسوع وبالكنيسة والأسرار وما إليه.
يسوع هو مقياس الخلاص، ولكن هذا لا يعني أن على المخلص أن يكون التقى بيسوع بالوسائط التاريخية المعروفة. كل البشر وكل الشعوب سوف تدان بحسب تعاليم يسوع، حتى الذين لم يلتقوه قط. يعلّم باتنبرغ أن كثيرين من غير المسيحيين سوف ينالون الخلاص في اليوم الأخير، لكن الاشتراك في الخلاص الآن مؤمن في الكنيسة فقط. بالمعمودية والإيمان يتحد البشر بالمسيح، وينالون تأكيد الخلاص، شرط أن يحيوا حياتهم وفق معموديتهم وإيمانهم المسيحي. إن الثقة بالخلاص غير ممكنة حالياً خارج الكنيسة، ولكن هذا لا يمنع أن يكون هناك كثيرون سينالون الخلاص في اليوم الأخير، وهم ما عرفوا يسوع قط. لكن كل من ينال الخلاص، إنما يناله على أساس توافق حياته مع تعاليم يسوع. وللأديان دور ممكن هنا.
فإذا كانت الأديان الأخرى مجالا يساهم في توافق حياة اتباعها مع تعاليم يسوع، فهي تلعب دوراً في إمكان الخلاص، لكن الخلاص ليس بواسطتها. يبقى مقياس الخلاص وواسطته ومعيار الاشتراك فيه، هو مدى قرب الأديان الأخرى من رسالة يسوع، أو بعدها عنها. والأديان هنا مختلفة، فيجب فحص كل دين على حدة بالنسبة لهذا الموضوع. المقياس هو حب القريب المؤسس على رسالة الملكوت عند يسوع.
يصور بعض التعدديين الدينيين العلاقة بين المواقف الثلاثة وكأنها علاقة تطورية زمنياً وفكرياً. فالموقف التقليدي هو الحصري، لكن يتخلى عنه في الموقف الشمولي لتنفتح المسيحية على عمل الله خارج الكنيسة وخارج الإيمان الصريح. غير أن هذا الانفتاح يبقى ناقصاً وغير وافٍ، إلى أن يؤدي إلى الاعتراف الكامل بأن في الأديان الأخرى كشفاً إلهياً خاصاً، وهي طرق خلاص لاتباعها، باستقلال عن المسيح والكشف الإلهي فيه. يعطي الانطباع كأن الموقف التعددي هو الموقف الناضج والنتيجة المنطقية لمسار لاهوتي يتطور. لكن في هذا التصوير للأمر تبسيطاً كبيراً، بل أن فيه فهماً خاطئاً لحقيقة الأمر. ثمة ثلاث سمات طبعت المسيحية منذ بداياتها في علاقتها مع الغير، وهذه السمات أسهمت إلى حد كبير في تشكيل المواقف من الأديان الأخرى أو أتباع الطرق الأخرى. أولاً: كانت المسيحية منذ البدء حركة إرسالية انطلقت إلى الآخرين ومدت لهم يد الشركة بهدف تعريف العالم بالرب والمخلص يسوع المسيح.
وهذه الانطلاقة إلى الآخرين، غالباً ما عنت أن المسيحية تفاعلت مع الحضارات والاتجاهات الدينية للآخرين، تعلمت منهم وأثرت فيهم، ثم خرجت من التفاعل والصراع معهم مسيحية متجددة وغنية. فالمسيحية التي تفاعلت مع الفكر اليوناني أو الحضارة الهلينستية، مثلاً، اغتنت وتغيّرت بعض الشيء، أو عبّرت عن نفسها بطريقة جديدة.
ثانياً: اتسمت المسيحية منذ البداية أيضاً بتشدد وعداء، وفي بعض الأحيان بممارسات عنفية، عندما رفض الآخرون الرسالة المسيحية أو حاولوا تشويهها أو تمييعها أو التخلي عنها. من هنا مصدر الحصرية في المسيحية، ونرى عبر التاريخ أن الموقف الحصري المتشدد وعباراته الشهيرة مثل "لا خلاص خارج الكنيسة" و"ليس بأحد غيره الخلاص" إنما قيلت لمن كان رفيق الدرب، ثم حاد عنه، أو من كان في الكنيسة وحاول شقها أو الخروج على تعليمها. التشدد كان غالباً موجهاً للداخل، لأهل البيت، ولم يكن في الدرجة الأولى مقصوداً به اتباع الأديان الأخرى التي لم تعرف المسيح.
ثالثاً: أقرّت المسيحية، منذ بداياتها أيضاً بعمل لله في الشعوب الأخرى وفي حضاراتها، خصوصاً في ضوء مقدمة إنجيل يوحنا التي تتحدث عن "الكلمة" الذي "به كان كل شيء" والذي ينير كل العالم. في المسيحية اعتراف مبدئي واحترام لعمل روح الله وكلمته في الكون كله، حتى الذي لم يعرف المسيح، ولم يعترف به. اذكر هنا القول المنسوب إلى القديس امبروزيوس "كل حق، كائناً من كان قائله، هو من الروح القدس". من هنا مصدر الموقف الشمولي. النظرة حيال الآخرين غير المسيحيين، يحددها هذا الاعتراف بعمل الله الخالق في جميع البشر. لذلك فالشمولية هي، في قناعتي، عنوان العلاقة المسيحية مع الآخرين. أما الحصرية فهي إجراء بيتي داخل لمن عرف المسيح واعترف به ثم ضّل أو شكك أو حاول المساومة والتمييع. الشمولية والحصرية في مقصدهما الأساسي حركتان، بل موقفان لا مفر منهما في المسيحية، بسبب طبيعة المسيحية ذاتها.
لكن التعددية الدينية شيء آخر تماماً ولا يمكن اعتبارها النتيجة المنطقية للتخلي عن الحصرية أو تحقيقاً كاملاً لمقصد الشمولية. الموقف التعددي الديني هو موقف جديد ومنفصل، لأنه يتخلى عن نهائية يسوع المسيح، وكونه هو الخلاص ليعتبره مجرد طريق للخلاص، إلى جانب طرق أخرى. للمسيحية قدرة كبيرة على التفاعل مع الغير والتأثر به، إلى حد إعادة صياغة الذات كما حصل مرارا عبر التاريخ لكن ثمة فرقا بين إعادة صياغة الذات، أو التعبير عن الجوهر بطريقة أخرى، وبين ضياع الذات أو التعبير عن جوهر آخر. وهذا ما اعتقد انه حاصل في مدرسة التعدد الديني. أن نقول ونعتقد، كمسيحيين، بان جميع الأديان كشف إلهي، وأن فيها خلاصاً مستقلاً عن كشف الله الآب في يسوع المسيح، لهو تخلٍ عن جوهر المسيحية.
هناك حق في الأديان الأخرى، وهناك إمكان خلاص لأتباعها، ولكن الحق فيها لا يمكن أن يكون مستقلاً عن ملء الحق الذي هو المسيح، والخلاص الذي فيها هو خلاص المسيح بشكل أو آخر. غني عن القول أن أتباع الموقف الشمولي هم أيضاً دعاة حوار بين الأديان. وكلهم يشددون على الحوار المبني أولاً على الانفتاح والاحترام المتبادل، وعلى نقد الذات. فالحوار الحقيقي ليس مجرد وسيلة للتعريف بالذات تجاه الآخرين، وحضّهم على مواجهة شوائب أديانهم ونقائصها، بل يهدف أيضاً إلى تجديد الذات وإصلاحها والعمل من الآخرين.
فمع أننا، كمسيحيين، نؤمن أن الحقيقة النهائية معطاة لنا، إلا أن هذه الثقة إنما تصيب الحقيقة لجهة المحتوى. أما شكل الحقيقة، أي طرق التعبير عنها وصياغتها وممارستها، فهذه أمور غير منزّلة، وهي عرضة للتشويه، وفي حاجة دائمة للتجديد والنقد والإصلاح. "لنا هذا الكنز في آنية خزفية" يذكرنا الرسول بولس (2 كور :4 7). إن وعينا المستمر لخزفية الأواني التي تحتوي على الحقيقة، إنما ينمي فينا روح الانفتاح والتواضع والصبر والتسامح، وما هذه سوى سمات الحوار الأصيل مع الأديان الأخرى
.
نقلاً عن مقال عميد معهد اللاهوت للشرق الأدنى
(الخاص بالكنائس الإنجيليّة)
الدكتور جورج صبرا: اللاهوت المعاصر والأديان الأخرى..
الله يعمل في كل الشعوب
"النهار"