الروح القدس هو نائب المسيح في الكنيسة
قد يبدو لأول وهلة أن هذه الحقيقة تتعارض مع التعليم السابق شرحه من أن المسيح هو رأس الكنيسة. ولكن كلا الحقيقتين صحيح, فالمسيح هو رأس الكنيسة, ولكنه أرسل الروح القدس ليكون نائبه أو ممثله على الأرض. ولذلك فواجب كل كنيسة محلية أن تعطي الروح القدس مكانه اللائق به.
وكيف يمكن أن يكون ذلك عملياً؟
1-أولاً على الاجتماع أن يطلب إرشاده في كل أموره, سواء كان ذلك في:
أ-اختيار المكان حيث تذاع الشهادة الجهرية
ب-تنظيم الاجتماعات المختلفة التي يجب عقدها
ج-تمييز الأشخاص الذين يستخدمون كوسائل لخدمة كلمة الله
د-التصرف في مال الاجتماع
ه-الإشراف على النظام في تقوى الله, وغير ذلك.
2-وكذلك يجب على الكنيسة المحلية أن تسلم دائماً بسلطان الروح القدس, ونعني بهذا أنه يستطيع أن يعمل ما يشاء. وأنه ليس من المحتم أن يعمل كل الأشياء على وتيرة واحدة ولو أنه من المؤكد أنه لا يعمل شيئاً بطريقة تخالف كلمة الله. إن الرموز التي تشير إلى الروح القدس في الكتاب المقدس-وهي النار والزيت والماء والريح-تتحدث عن السيولة والطرق التي لا يمكن التنبؤ بها. ولذلك فإن المؤمنين الحكماء يكونون من الليونة بدرجة تفسح له المجال لهذا الامتياز الإلهي.
تلك كانت الحال في الكنيسة الأولى, ولكن سرعان ما ضاق الناس ذرعاً بالاجتماعات التي كانت على حد قولهم "حرة واجتماعية وبأقل قدر ممكن من الترتيب". وهكذا أدخلت النظم والقيود وسادت الطقسية والتقليد. وهكذا أطفئ الروح القدس, وفقدت الكنيسة قوتها.
وصف جيمس داني بأسلوبه القوي الجزل التحول من حرية الروح إلى سيادة البشر. ومع أن السيد داني يكتب بشيء من الإسهاب, ولكن القارئ المدقق سيجد مقاله مجزياً نافعاً. وهو يقول في تعليقه على القول "لا تطفئوا الروح":
"عندما حل الروح على الكنيسة يوم الخمسين" ظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم", فانفتحت أفواههم وراحوا يتحدثون بأعمال الله العظيمة. ولقد وصف الكتاب أحدهم, وهو ممن نال تلك الموهبة, بأنه حار, والمعنى الحرفي يغلي, في الروح. فكان الميلاد الثاني في تلك الأيام ميلاداً ثانياً حقاً, يذكي في النفس أفكاراً ومشاعر ما عرفتها من قبل. لقد صحب الميلاد الثاني قوةٌ جديدة, إعلان جديد عن الله, ورغبة جديدة في القداسة, وتفهُّم جديد للكتاب المقدس ولمغزى حياة الإنسان, وفي أغلب الأحيان, قوةٌ جديدة لكلمات حارة حماسية. يصف بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس جماعة مسيحية بدائية. لم يكن بينهم من يصمت. كان لكل منهم حين يجتمعون مزمور أو إعلان أو نبوءة أو ترجمة, لقد أعطي إظهار الروح لكل واحد منهم للمنفعة, وكانت النار الروحية مستعدة للاشتعال من كل ناحية. وكان اعتناق الإيمان المسيحي, وقبول الإنجيل الرسولي أمراً ذا تأثير فعَّال في حياة الناس, فلقد غيّر حياتهم في الصميم, فلم يعودوا كما كانوا قبلاً, لقد أصبحوا خليقة جديدة, تدب فيهم حياة جديدة, كلها حماسة واشتعال.
ولا شك أن مثل هذه الحالة, البعيدة الشبه بالحالة الطبيعية بالمعنى العادي, تصادفها مضايقات وأتعاب. فالمسيحي المؤمن لا يزال إنساناً, حتى بعد نواله عطية الروح القدس. بل هو إنسان عليه, أكثر من ذي قبل, أن يحارب ضد البُطل, والغش, والطمع, وحب الذات من أي نوع كان. بل قد يبدو لأول وهلة أن حماسته تزيد من شناعة أخطائه الطبيعية بدلاً من أن تستبعدها. فهي قد تدفعه للكلام-وفي الكنيسة البدائية يتكلم كل واحد متى راق له ذلك-حين الأفضل له أن يصمت, وقد تدفعه إلى الصلاة أو التسبيح أو الوعظ بطريقة يتألم لها العاقل. ولهذه الأسباب يحاول العقلاء, أو من يظنون أنفسهم عقلاء, أن لا يشجعوا استعمال المواهب الروحية بالمرة. فهم يقولون لمن قلبه يتأجج في داخله والذي لا يستريح حتى تجد الشعلة التي بداخله مخرجاً "أُحْكُمْ نفسك وتحكَّم قليلاً في شعورك فليس من المناسب لمخلوق عاقل أن يُحمل بهذه الكيفية".
وليس من شك في أن مواقف كهذه كانت شائعة في كنيسة تسالونيكي, وهي مواقف سبَّبها اختلاف السن والمزاج. فالشيوخ المسنّون الذين لا يبالون, هم بلا شك, عقبة طبعية سمحت بها العناية الإلهية في طريق الناشئين المتحمسين. إلا أن الحكمة التي تأتي عن طريق الخبرة والمران والطبع والمزاج لها عيوبها إذا ما قيست بحرارة الروح. فهي باردة وجامدة لا تنتشر ولا تلهب ما حولها. ولما كان من صفاتها هذا القصور عن إشعال روح الحماسة في القلوب لذلك يجب عليها أن لا تطفئ هذه الحماسة عندما تنطلق بتلك الكلمات النارية. هذا هو معنى "لا تطفئوا الروح". إن هذه الوصية تفترض أن الروح يمكن إطفاؤه. فالنظرات الباردة والكلمات المشحونة بالازدراء, والصمت والإعراض المتعمد, كل هذه لها أثر كبير في إطفائه, وكذلك يفعل النقد الجارح.
كلنا نعلم أن الدخان يكثر عندما تبدأ النار في الاشتعال ولكن الطريقة للخلاص من الدخان ليست هي سكب ماء بارد على النار بل ترك النار حتى تحرق نفسها تماماً. وإذا ما كنت عاقلاً فإنك تساعدها على إحراق نفسها بالكلية, وذلك عن طريق تنسيق المواد, أو توفير تيار هوائيّ أحسن. وأفضل ما يعمله غالبية الناس هو أن يتركوا النار وشأنها متى بدأت في الاشتعال. وهذا أيضاً هو أفضل طريق يتبعه الكثيرون إذا ما صادفوا مؤمناً يتقد حماسة وغيرة. لا شك في أن الدخان سوف يؤذي عيونهم, ولكن ذلك الدخان سوف يزول, ويمكن احتماله في وقت حدوثه لأجل الحرارة التي تصاحبه. ولذلك فإن هذه الوصية الرسولية تسلّم بحرارة الروح, والغيرة المسيحية للحسنى هي أفضل ما في الوجود. وهي قد تنقصها الدراية والخبرة, وقد تكون ذا عيوب كثيرة, وقد تتجاهل تماماً الحدود التي تفرضها ضروريات الحياة القاسية على آمال الإنسان الطامحة, ولكنها مع كل ذلك من عند الله, سريعة الانتشار, وهي كقوة روحية أغلى من كل حكمة الأرض مجتمعة.
ولقد ألمحت إلى الطرق التي يُطفأ بها الروح. ومن المحزن من ناحية أن تاريخ الكنيسة إنما هو سلسلة طويلة من التعديات ضد هذه الوصية يقابلها سلسلة طويلة مماثلة لاحتجاج الروح. والرسول يحدثنا في موضع آخر أنه "حيث روح الرب فهناك حرية", ولكن الحرية, في أي مجتمع, لها أخطارها؛ فهي إلى حد ما تحارب النظام؛ والقائمون على أمر النظام لا يُنتظر أن يراعوها. ولذلك فمنذ تاريخ مبكر كانت حرية الروح عرضة للكبت والتقييد رغبة في النظام والترتيب, كما قيل أن "موهبة السلطان كعصا هرون التي بدت وكأنها تبتلع كل المواهب الأخرى". وأصبح قادة الكنيسة طبقة تختلف تمام الاختلاف عن بقية الأعضاء وأصبح العمل على تنحية المواهب الروحية لبنيان الكنيسة وقفاً عليهم وحدهم. بل لقد نشأت الفكرة الشنيعة, وصارت تعلم كعقيدة, بأنهم وحدهم القادرون, وكما يقال أحياناً, الوكلاء على نعمة الإنجيل وحقه, وأنه عن طريقهم وحدهم يستطيع الناس أن يختبروا الروح القدس-وبصريح العبارة أطفئ الروح كلما اجتمع المسيحيون للعبادة. وقد ألقي على الشعلة التي اتقدت في قلوب المؤمنين ما يطفئها, ولم يسمح لها أن تظهر للعيان, أو تعكر باشتعالها في الحمد والصلاة أو كلمة الوعظ المتقدة, رصانة العبادة الإلهية وترتيبها. إلى هذا المستوى هبطت العبادة المسيحية في العصور الأولى, وهو مع الأسف المستوى عينه الذي نراه سائداً اليوم في كثير من الحالات, ترى هل أفدنا منه شيئاً؟ لست أظن ذلك. لقد أصبح الوضع في كثير من الأحيان غير محتمل. وما المونتانيون في القرن الثاني المسيحي, والطوائف الهرطوقية في العصور الوسطى, والمستقلون والكويكرز في بريطانيا, والوعاظ من أتباع وسلي, وجيش الخلاص, والأخوة البليموث, والجماعات التبشيرية في يومنا هذا, ما هذه كلها إلا أصوات احتجاج أطلقها الروح بدرجات متفاوتة, أصوات احتجاج أطلقها بحق ضد كل سلطة تحاول إطفاؤه, إذ بإطفائه تفتقر الكنيسة"[1].
3-على الاجتماع إذن ألا يقيد حرية الروح القدس, سواء عن طريق النظم غير الكتابية أو البرامج الجامدة أو الطقوس أو الخدمات الكنسية. كم يحزن الروح فعلاً بالتنظيم الجامد الذي يقول بأن الاجتماع يجب أن ينتهي في ساعة معينة, وأن الخدمة يجب أن تتبع نظاماً خاصاً موضوعاً, وأن كلما الواعظ في مرحلة ما من اجتماع العبادة غير مقبولة أبداً. إن تنظيمات كهذه لا يمكن أن تؤدي إلا إلى ضياع القوة الروحية.
4-ويجدر بنا أن نقف هنا لنسأل نفوسنا: ماذا تكون الحال لو أننا فعلاً ألقينا اتكالنا على الروح القدس كقائدنا في اجتماعاتنا المحلية؟ يعطينا س. هـ. ماكنتوش وصفاً حياً لهذه الحال المثالية, وهاك ما قاله:
"ليس لدينا إلا فكرة يسيرة عما تكون عليه الحال لو أن كلاً منا كان تحت قيادة الروح القدس, وكان اجتماعه للرب يسوع وحده. عندئذٍ لن نشكو من اجتماع بارد كليل, أو ثقيل, أو غير مثمر, أو مملّ. ولن نخاف من أي اندفاع غير مقدس أو من الجسد وأعماله الضجرة, ولن تكون هناك صلوات متكلفة, ولا وعظ لمجرد الوعظ, ولا ترانيم لتفويت الوقت. بل سيعرف كل واحد مكانه في حضرة الرب المباشرة, وسيمتلئ كل إناء ويتهيأ بيد السيد للخدمة, وستتجه كل عين ليسوع, وسيشغل كل قلب به. وإذا ما قرئ إصحاح فسيكون لكل قلب, وإذا ما رفعت صلاة فستقود النفس فعلاً لحضرة الله بالحقيقة, وإذا ما رُنمت تسبيحة فسترفع النفس لله وكأنما هي تُوقَّع على أوتار قيثارة السماء. وسنشعر وكأننا في قدس الله ونستمتع بمذاق مسبّق لذلك الوقت الذي سنعبد فيه في الديار العليا ولن نود الخروج منها
|