|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع المَلِك والدَيْنونَة العُظمى النَّص الإنجيلي (متى 25: 31-46) 31 ((وإِذا جاءَ ابنُ الإنسان في مَجْدِه، تُواكِبُه جَميعُ الملائِكة، يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه، 32 وتُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم، فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخِراف عنِ الجِداء. 33 فيُقيمُ الخِراف عن يَمينِه والجِداءَ عن شِمالِه. 34 ثُمَّ يَقولُ المَلِك لِلَّذينَ عن يَمينِه: ((تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلِكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: 35 لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآويتُموني، 36 وعُريانًا فَكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إِلَيَّ)). 37 فيُجيبُه الأَبرار: ((يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعًا فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟ 38 ومتى رأَيناكَ غريبًا فآويناك أَو عُريانًا فكَسَوناك؟ 39 ومتى رَأَيناكَ مريضًا أَو سَجينًا فجِئنا إِلَيكَ؟)) 40 فيُجيبُهُمُ المَلِك: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه)). 41 ثُمَّ يقولُ لِلَّذينَ عنِ الشِّمال: ((إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه: 42 لأِنِّي جُعتُ فَما أَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيتُموني، 43 وكُنتُ غَريبًا فما آوَيتُموني، وعُريانًا فما كَسوتُموني، ومَريضًا وسَجينًا فما زُرتُموني)). 44 فيُجيبُه هؤلاءِ أيضًا: ((يا رَبّ، متى رَأَيناكَ جائعًا أَو عَطشان، غَريبًا أَو عُريانًا، مريضًا أَو سجينًا، وما أَسعَفْناك؟)) 45 فيُجيبُهم: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه)). 46 فيَذهَبُ هؤُلاءِ إلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إلى الحَياةِ الأَبدِيَّة)). المقدمة تنتهي السَّنة الليتورجيّة بعيد يسوع المَلِك. وفي خاتمة خطاب يسوع الأخير (25: 31-46)، يصف متى الإنجيلي يسوع ملكًا الذي يأتي في مجده في آخر الأزمنة ليكون ديَّانًا لجميع شعوب الأرض قاطبة (يوحنا 5: 22)، ويجازيها خاصة على أعمال الرَّحمة التي مارسوها والتي لم يُمارسوها تُجاه المحتاجين إليها. العَالَم بحاجة إلى المسيح الإنساني، المسيح الفقير، المسيح المتألم، المسيح المُشرّد، المسيح المَصلوب، المسيح المَلِك الذي يُقابلنا في كل هؤلاء. ويُعلق بيّوس الحادي عشر "إن اعترف البشر بالسَّلطة المَلِكيَّة للرّب يسوع المسيح في حياتهم الخاصة وفي حياتهم العامّة، ستنتشر بركات عظيمة، كالحرّيَّة العادلة والهدوء والطُمأنينة والوفاق والسَّلام، بشكل مؤكَّد في المجتمع بأكمله"(الرَّسالة العامّة: في البَدءِ (Quas Primas)، سنة 1925). وننال رضاه في الحياة الآخرة. ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النَّص الإنجيلي: (25: 31-46) 31 وإِذا جاءَ ابنُ الإنسان في مَجْدِه، تُواكِبُه جَميعُ الملائِكة، يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه، تشير عبارة " ابنُ الإنسان" إلى إحدى الألقاب المُميَّزة للسَّيد المسيح، حيث فضَّلته الجَماعة المسيحيَّة الأولى على سائر الألقاب التي أطلقتها عليه (متى 8: 20 و11: 19 و17: 13 و27 24: 30). وسُمِّي يسوع بذلك بيانًا لاتحاد لاهوته بناسوته، وتكرّر هذا اللقب خمسين مرة في الإنجيل. ويُعزي بعض المُفسّرين هذا اللقب إلى ما ورد في حزقيال النَّبيّ "يا ابنَ الإنسان " (حزقيال 2: 1)؛ لكن أكثرهم يردّونه إلى التَّقليد الرؤيوي " كنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلاً فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إلى أَمامِه"(دانيال 7: 13)، وفقًا لهذا التَّقليد سيأتي ابن الإنسان في اليوم الأخير ليدين الخاطئين ويُخلّص الأبرار. فالمسيح حين يأتي ليدين العَالَم لا يأتي بمجرد لاهوته بل بطبيعته " لِأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَداً بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن"(يوجنا 5: 22). أمَّا عبارة " في مَجْدِه " فتشير إلى بهاء يسوع المسيح، باعتباره ابن الله، كما جاء في صلاة يسوع الكهنوتيَّة "فمَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العَالَم" (يوحنا 17: 5). وتشير العبارة أيضًا إلى شرفه الذي أعطاه الآب إياه جزاءً لاتِّضاعه بتجسّده وموته فاديًا " فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء "(فيلبي 2: 8-9). أمَّا عبارة "جاءَ ابنُ الإنسان في مَجْدِه" فتشير إلى اقتباس هذه الآية أيضًا من سفر زكريا "يأتي الرَّبُّ إِلهي وجَميعُ القِديسينَ معَه (زكريا 5: 14)، وهي وصف نبوي للدَيْنونَة الأخيرة " فسَوفَ يَأتي ابنُ الإنسان في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه"(متى 16: 27)؛ ويُعلّق القِديس أوغسطينوس "إن الابن المُتجسّد هو الذي يدين، حتى لا يرى الأشرار أمجاد اللاهوت، إنّما تقف نظرتهم عند حدود الجَسد الذي يظهر مُرهبًا لهم. يظهر بشكل عبد للعبيد، ويحفظ شكل الله للأبناء". أمَّا عبارة " جَميعُ الملائِكة" فتشير إلى إضافة من قبل متَّى الإنجيلي لإيضاح موقف الملائكة تُجاه ابن الإنسان، الذِين تواكبه في اليوم الأخير خاصة في مجده لدى مجيئه الثاني يوم الدَيْنونَة (آية 31)، كما صرَّح بولس الرَّسول: "لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء" (1 تسالونيقي 4: 16). أمَّا عبارة "الملائِكة" في الأصل اليوناني ἄγγελος (معناها رسول) فتشير إلى رسول يقوم بتنفيذ أوامر الله ومشيئته وإعلان حلوله وإجراء مقاصده وإظهار عظمته وقوّة جبروته. أمَّا عبارة " يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه " فتشير إلى ابن الإنسان كملكٍ ديّانٍ في نهاية الأزمنة وملكًا (يوحنا 5: 22)؛ وهو الذي يأتي من السَّماء لا ليدين الشَّعب المختار وحده بل الأرض كلِّها، كما صرّح يسوع أمام مجلس اليهود "سَوفَ تَرونَ ابنَ الإنسان جالِساً عن يَمينِ القَدير، وآتِيًا في غَمامِ السَّماء "(مرقس 14: 62). وفي موضع آخر يضيف يسوع "أَنتُم الذِين تَبِعوني، متى جلَسَ ابنُ الإنسان على عَرشِ مَجدِه عِندما يُجَدَّدُ كُلُّ شَيء، تَجلِسونَ أَنتم أيضًا على اثنَي عَشَرَ عَرْشًا، لِتَدينوا أَسباطَ إِسرائيلَ الاثَنيْ عَشَر" (متى 19: 28). فما أعظم الفرق بين حال يسوع على عرش مجده وحاله عندما كان طفلا في مذود بيت لحم "لم يَكُنْ لَهُما (يوسف ومريم) مَوضِعٌ في الـمَضافة"(لوقا 2: 7)، وعندما كان يتجوَّل يبشّر في الإنجيل "َلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه"(متى 8: 20)، وحين تركه تلاميذه وأحاط به أعداؤه وهم يسخرون منه (متى 27: 29)، وحين وقف كمُذنب أمام بيلاطس (متى 27: 22) وحين جُلد ووضعه الجنود إكليلاً من الشَّوك على راسه (يوحنا 19: 1-2)، وأخيرا حين صُلب بين لصين (يوحنا 19: 18). تعلن هذه الآية عن ألوهية المسيح. 32 وتُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم، فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخِراف عنِ الجِداء تشير عبارة "تُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم" إلى يسوع الدَّيَّان الذي هو المَلِك والرَّاعي الذي يجمع شعبه للدَيْنونَة (حزقيال 34: 12-17)، والدَيْنونَة هنا لا تدل على دَيْنونَة الأموات، كما هو وارد في رؤيا "رَأَيتُ الأَمواتَ كِبارًا وصِغارًا قائِمينَ أَمامَ العَرْش. وفُتِحَت كُتُبٌ، وفُتِحَ كِتابٌ آخَرُ هو سِفرُ الحَياة، فحوكِمَ الأَمواتُ وَفقًا لِما دُوِّنَ في الكُتُب، على قَدرِ أَعْمالِهم" (رؤيا 20: 12)، إنَّما دَيْنونَة جميع الأحياء والأموات. والدَيْنونَة هنا هي عاقبة أبديه تقرِّرها الأعمال، كما يؤكِّد ذلك سفر رؤيا " فحوكِمَ كُلُّ واحِدٍ على قَدرِ أَعْمالِه" (رؤيا 20: 13). يدين يسوع المَلِك جميع الشُّعوب ويُجازيها على أعمال الرَّحمة التي صنعوها أو لم يصنعوها للآخرين المحتاجين. والرَّحماء عنده يُرحمون، كما صرّح يسوع في عظة التَّطويبات "طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون"(متى 5: 7). أمَّا عبارة " جَميعُ الأُمَم " فتشير إلى جميع شعوب الأرض "كل العَالَم " (متى 24: 9، 28: 19). ولا يستثنى منها أحد لا اليهود ولا الوثنيِّين (لوقا 24: 47). نقف جميعًا أمام الدَّيَّان، مسيحيُّون وغير مسيحيِّين، مُؤمنون ومُلحِدون، مُسلمون وهندوس... يجتمع أمام المسيح الدَّيَّان جميع الأحياء والأموات منذ بدء الخليقة إلى يوم القيامة (يوحنا 5: 28). أمَّا عبارة "الرَّاعي" فتشير إلى مُهِمَّة الرَّاعي التي تُشبه مهمة المَلِك، أي الرَّعاية والاهتمام والاعتناء بكامل القطيع. فكلُّ المحتاجين: الجِياع والعِطاش، والغُرباء والذِين بلا مأوى، والعُريان والمِرضى والمَساجين، هم أعضاء مملكته. أمّا عبارة "فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ" فتشير إلى تمييز الملائكة الناس الأخيار عن الناس الأشرار حيث يُفصلون إلى الأبد اعتبارًا من أعمالهم بحسب أيمانهم بالمسيح أو عدم إيمانهم به. أمَّا عبارة "يَفصِلُ الرَّاعي الخِراف عنِ الجِداء" فتشير إلى حكم المسيح على الأبرار والأشرار بفصلهم عن بعضهم البعض كما يفصل الراعي الخِراف والجِداء الكثيرة التي ترعى معًا، ولكنها تُعزل عن بعضها، عندما يأتي موسم الجِزاز. ويشير حزقيال النَّبي إلى الحكم بين ماشية وماشية، بين الغَنم والماعز وبَينَ الكِباشِ والتُّيوس بقوله " وأَنتُنَّ يا خِرافي؟ هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: هاءَنَذا أَحكُمُ بَينَ شاةٍ وشاة، بَينَ الكِباشِ والتُّيوس" (حزقيال 34: 17). وهو دليل واضح أنَّ العَالَم ينقسم في اليوم الأخير إلى قسمين فقط بين الأبرار والآشرار، كما أشار ربنا إلى ذلك في مثل القمح والزؤان (متى 13: 24-30) ومثل الشَّبكة" فلَمَّا امتَلأَت أَخرَجَها الصَّيَّادونَ إلى الشَّاطِئ وجَلَسُوا فجَمَعوا الطَّيِّبَ في سِلالٍ وطَرَحوا الخَبيث" (متى 13: 47-50). 33 فيُقيمُ الخِراف عن يَمينِه والجِداءَ عن شِمالِه تشير عبارة "يُقيمُ الخِراف عن يَمينِه والجِداءَ عن شِمالِه" إلى فصل الخِراف (الأبرار) عن الجِداء (الأشرار)، لا على أساس الدَّيِن أو الطَّائفة أو المَال أو المَنصب أو الشِّهادة الجَامعيَّة، إنما على أساس موقف كلِّ واحدٍ تُجاه الفُقراء والمَساكين. تصف هذه الآية يسوع المَلِك في صورة الرَّاعي الذي يفصل بين الخِراف والجِداء كي يُبيِّن الفَرق بين المؤمنين وغير المؤمنين. ويُعلق القِديس أوغسطينوس "ما هو العدلُ والحقُّ؟ سيجمعُ إليه مختارِيه للدَيْنونَة، ويَفصِلُ الباقِين عنهم. فيضعُ البعضَ عن يمينِه والبعضَ الآخَرَ عن شِمالِه. أوَ ليسَ هذا هو العدلُ نفسُه؟ أليس هذا هو الحقُّ نفسُه؟"؛ أمَّا عبارة " الخِراف " فتشير إلى لونها الأبيض التي يرمز للبِرِّ (رؤيا 7: 14). وأراد يسوع بالخِراف هم الأشخاص الصالحون، لأنَّ الخِراف وديعة لا تؤذي، ولأنها تُحب راعيها وتَخضع له وتشعر بحاجة إليه (متى 18: 12، يوحنا 10: 8). فكل الذِين آمنوا بيسوع وأظهروا إيمانهم بأعمالهم يُحسبون صالحين وخراف رعيته. أمَّا عبارة عن يَمينِه" فتشير إلى الجَانب الأيمن (1 ملوك 2: 19)، وهو موضع الإكرام (أعمال الرسل 7: 55) ومحلِّ الشَّرف، فالذِين في ذلك المَحلِّ هم في رضى المَلِك وحمايته، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "الَّذي عَمِلَه في المسيح، إِذ أَقامَه مِن بَينِ الأَمْوات وأَجلَسَه إلى يَمينِه في السَّمَوات" (متى 32: 44). أمَّا عبارة " الجِداءَ " فتشير إلى لونها ألأسود، وهذا اللون يشير للخطيئة (ارميا 23:13) والمُراد بها الأشرار، وهم اقل من الخِراف قيمة ونفعًا وألفة وطاعة. أمَّا عبارة " عن شِمالِه " فيشير إلى محلِّ الإهانة، فالذِين هم في هذا المَحل يَحكم عليهم المَلِك، ويرفضهم. 34 ثُمَّ يَقولُ المَلِك لِلَّذينَ عن يَمينِه: تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلِكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم تشير عبارة " المَلِك " إلى المسيح الذي سُمي في هذا الفصل من الإنجيل أيضًا ابن الإنسان والرَّاعي والدَّيَّان. وكثيرَا ما تكلم المسيح قبل ذلك عن ملكوته، وهي المرَّة الأولى التي سُمَّى يسوع بها نفسه ملكًا، ودعاه غيره بذلك (لوقا 19: 38)، وذلك قبل صَلبه بأقل من ثلاثة أيام. ولمَّا سأله بيلاطس " أَجابَ يسوع: ((هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العَالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إلى صَوتي "(يوحنا 18: 37)، وهو معروف في السَّماء ملكًا (رؤيا 17: 14). فالمسيح يجلس في يوم الدَّين ملكًا وديانًا ليمتحن ويحكم بالثَّواب والعِقاب ويُجري قضاءه، ولا يكون ملك اليهود وحدهم، كما كُتب على الصَّليب، بل ملك العَالَمين “ورَبُّ الأَرْبابِ ومَلِكُ المُلوك" (رؤيا 17: 14). أمَّا عبارة " تَعالَوا" فتشير إلى اليوم الذي يدعو يسوع النَّاس " تَعالَوا إِليَّ " للخلاص" تَعالَوا إِليَّ جَميعًا أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم"(متى 11: 28) فالذِين يسمعونه ويأتون إليه يقول لهم في ذلك اليوم " تعالوا" للمجد (يوحنا 17: 24). وهذا هو اعتراف المسيح بهم أمام وجه أبيه والمَلائكة القِّديسين. أمَّا عبارة " يا مَن بارَكَهم أَبي " فتشير إلى هؤلاء الذِين زهدوا في نفوسهم (متى 16: 24) وبذلوا حياتهم في سبيل المسيح (لوقا 18: 29). فأصبحوا مُباركيه وهم أحياء على الأرض؛ وعلامات كونهم انهم مباركي الآب أنَّهم منتخبون للخلاص " إِنَّ الرَّبَّ يَعرِفُ الذِين لَه "(2 طيموتاوس 2: 19)، وأنَّهم عطيَّة الآب للمسيح، كما ورد في صلاة يسوع الكهنوتيَّة " إِنِّي أَدعو لَهم ولا أَدعو لِلعالَم بل لِمنَ وَهبتَهم لي لأَنَّهم لَكَ" (يوحنا 17: 6)، وان الله قَدَّرهم على صالح الأعمال بوساطة الرُّوح القُدُس، وأخيرًا إنَّ الله أحبّهم ومجّدهم في السَّماء. أمَّا عبارة "رِثوا" فتشير إلى الميراث النَّاشئ عن كون الشَّخص عضو في أسرة. لذلك لم يقل يسوع لتلاميذه خذوا بل "رثوا "، فهم أبناء يرثون مجد أبيهم وليسوا غرباء. وفي هذا الصدد يقول بولس الرَّسول "فإِذا كُنَّا أَبْناءَ الله فنَحنُ وَرَثة: وَرَثَةُ اللهِ وشُرَكاءُ المسيحِ في المِيراث، لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أيضًا"(رومة 8: 17)، ويُعلق القِديس أوغسطينوس "أنتم الذِين كنتم المَلِكوت لكن بغير سلطان لتحكموا، تعالوا لكي تملكوا! أنتم الذِين كنتم قبلًا في الرَّجاء وحده، أمَّا الآن فتنالون السُّلطان كحقيقة واقعة"؛ أمَّا عبارة " المَلِكوتَ " فتشير إلى الحقوق والبركات المختصَّة بالمَلِكوت الذي المسيح راسه، وبدليل ذلك قال بولس الرَّسول" فلَيس مَلَكوتُ اللهِ أَكْلًا وشُرْبًا، بل بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوح القُدُس" (رومة 14: 17). أمَّا عبارة "المُعَدَّ " فتشير إلى طول المدَّة التي شُغلت بإعداده ووفرة كنوز حكمة الله وغِناه التي أُنفقت عليه. أمَّا عبارة "لَكُم" فتشير إلى كلِّ فرد منكم على قدر حاجته، فلم يُعدْ للبشر عمومًا ولا للكنيسة بجملتها، بل لكلِّ نفسٍ من المؤمنين. أمَّا عبارة "المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم " فتشير إلى المكافأة عظيمة وأبدية، وهي المَلِكوت المُعدٌّ قبل وجود أي عمل صالح، انه معَّدْ للإنسان منذ الأزل وليس من بدء الخليقة، وذلك في قصد الثالوث الأقدس وقضائه، ويُوكَّد بولس الرَّسول هذه الكلام "ذلِك بِأَنَّه اختارَنا فيه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحَبَّة" (أفسس 1: 4). ولم يكمل الإعداد للملكوت إلاّ بعد موت المسيح، لان موته كان الجِزء الأعظم من الإعداد، والمسيح صعد إلى السَّماء ليكمله بدليل قوله " في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقامًا" (يوحنا 14: 2)، وإعداد المَلِكوت للمؤمنين منذ الأزل يؤكِّد أنَّه هبة من الله تعالى لا أجرة، لأنَّه اعدَّ قبل أن يخلق المؤمنون، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "أَمَّا هِبَةُ اللهِ فهي الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ في يسوعَ المَسيحِ ربِّنا" (رومة 6: 23). تبدأ مسيرة الإنسان إلى المَلِكوت المُعَدّ بأعمال المَحَبَّة والرَّحمة للإخوة على الأرض. القريب المُحتاج هو الباب المفتوح الذي نرى من خلاله الرب يسوع قادمًا، وهو جسر لملكوت السَّماء. 35 لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآويتُموني تشير عبارة "لأَنِّي" إلى سبب إظهار المؤمنون بأعمالهم استعداداهم لذلك المَلِكوت المُعَّد لهم. كما أنَّ المَلِكوت مُعَّد لهم، يجب أن يكونوا هم أيضًا مُعدِّين له. ويظهر أنَّ كل النَّاس يُدانون في يوم القَضَاء حسب أعمالهم. ولا تناقض بين هذا وكون الخلاص بالإيمان، لأنَّه لا بدَّ إظهار صحَّة الإيمان بالأعمال. أمَّا عبارة "أَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني" فتشير إلى سبب دَيْنونَة التي تفاجئ الجَميع، وهو تقمُّص يسوع شخصيَّة الفقراء والمُعوَزين؛ ويربط كل فعل محبة بضمير المتكلم: أطعمتموني أنا. أمَّا عبارة " وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآويتُموني وعُريانًا فَكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إِلَيَّ " فتشير إلى مظاهر الشَّقاء البشري. سيحكم الله علينا على قدر محبتنا له من خلال القريب، ومن ميزات هذه المَحَبَّة الإنسانيَّة: نُطعم الجِياع، نأوي المَطرودين واللاجئين، وان نكسو العُراة، ونزور المَرضى والمَسْجونينَ ونَعتني بهم. وهناك تَطابق بين الأعمال التي يُثني يسوع عليها وأعمال التَّقوى التي يُشيد بها الدَّين اليهودي. فالدَّين اليهودي يُطالب بهذه الأعمال "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْرارًا وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟ أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟" (أشعيا 58: 6-8). أمَّا عبارة " عَطِشتُ فسَقَيتُموني " فتشير إلى المسيح الذي يُشيد في العهد الجَديد بأهميَّة رواء العطاش "مَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع " (متى 10: 42). أمَّا عبارة " كُنتُ غَريبًا فآويتُموني " فتشير إلى إكرام الضُّيوف كما أشاد يسوع "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني. مَن قَبِلَ نَبِيًّا لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقًا لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال (متى 10: 40-41)، مُطابقا بينه وبين جميع البُؤساء الذِين هم إخوته. 36 وعُريانًا فَكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إِلَيَّ تشير عبارة "عُريانًا فَكسَوتُموني" إلى أهميَّة كساء العراة، كما كان يوصي يوحنا المعمدان “مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه. ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك" (لوقا 3: 11)؛ أمَّا عبارة "مَريضًا فعُدتُموني" فتشير إلى زيارة المرضى، كما ورد في مثل السَّامري الرَّحيم "وَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه"(لوقا 10: 33). لا يتطرق يسوع إلى موضوع تربية الأيتام، ولا دفن الموتى، بل يضيف يسوع زيارة السُّجناء. 37 فيُجيبُه الأَبرار: ((يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعًا فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟ تشير عبارة " يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعًا فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟ " إلى جواب الأبرار الذي يُبرز دهشتهم وتواضعهم، لأنهم شعروا بأنهم لم يستحقوا المدح والثواب، إذ هم جهلوا أنَّ يسوع في الفقراء والمنبوذين والمهمشين وأنَّ المَلِكوت هو نصيب أولئك الذِين قاموا بأعمال الرَّحمة والمَحَبَّة تجاههم، وأنَّ فعل الخير لهم فعل للمسيح نفسه. 38 ومتى رأَيناكَ غريبًا فآويناك أَو عُريانًا فكَسَوناك؟ تشير هذه الآية إلى دهشة الأبرار الذين لم يروا يسوع الغرباء والعُرى عندما أضافوهم في بيوتهم وقدَّموا لهم الملابس. وتعلق القديسة الأم تريزا " أحبُّوا الفقراء ولا تديروا عنهم وجوهكم، لأنَّكم يوم تديروا عنهم وجوهكم تديرون وجهكم عن المسيح، هو الذي جعل نفسه جائعًا وعريانًا ومشردًا لكي يتيح لنا ولي الفرصة لكي اخدمه". 39 ومتى رَأَيناكَ مريضًا أَو سَجينًا فجِئنا إِلَيكَ؟ تشير هذه الآية إلى دهشة الأبرار الذين لم يروا يسوع في المرضى والسجناء عندما قاموا بأعمال الرَّحمة تجاههم للتخفيف من آلامهم. لكن هؤلاء الأبرار رأوا أخًا محتاجًا لهم، فقاموا بمساعدته على تحمل أعباء الحياة. عندئذ يكشف الرَّبّ يسوع نفسه للإنسان الذي يمرّ بلحظات ضُعْف ويُعلمنا أين نبحث عنه. وهكذا يتمكَّن هؤلاء الأبرار من العبور من النظر إلى الذَّات إلى إدراك آلام من التقوا بهم ليروا يسوع فيهم ويُدركوا العلاقة بين رؤية القريب المتألم ورؤية المسيح. 40 فيُجيبُهُمُ المَلِك: الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" تشير عبارة " متى رَأَيناكَ " إلى تكرارها مرة أخرى في هذا النَّص الإنجيلي (متى 25: 37). وهي تدل على من يجعل نفسه قريبًا من أي إنسان في معاناته، فإنه يفعل ذلك، دون علمه، أنَّه يفعله للرَّب نفسه، الموجود في الأخ المتألم، أي أن كل لفته محبة تُجاه أي شخص هي لفته للمسيح. أمَّا عبارة "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار" فتشير إلى التَّلاميذ والمُرسلين لإعلان الكلمة (متى 10: 11)، ولكن تدل هنا إلى كل إنسان قريبٍ مُحتاجٍ. كشف يسوع الدَّيَّان للأبرار أن ما يصنعوه كان له مَعنًا عميقًا يجهلونه. الاعتناء الإنسان بأخيه الإنسان المحتاج والمتألم والمريض وليس لديه ما يبادله، فإنه دون أن يعرف يلتقي بالرَّبِّ. أراد يسوع أن يُرينا أنّه الضامن الحقيقيّ للفقراء والمُحتاجين. فإنَّ ما نعمله للقريب نعمله ليسوع. لا توجد عبادة لله لا تمرُّ من خلال المَحَبَّة الأخويَّة. ويُعلق القِدّيس قيصاريوس "فكّروا يا إخوتي وأخواتي وانظروا إلى المًثل الذي أعطاه ربّنا، الذي جعل منّا مُسافرين وأمرنا بالمَجيء إلى "الوَطَنِ السَّماوِيّ" (العبرانيين 11: 16) عبر السَّير في طريق المَحَبَّة. وهو على الرّغم من كونه في السَّماء، ورحمةً منه لأعضاء جسده المتألّمة، قال: "أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه" (عظات للشعب، العظة 24). وقد أوضح يسوع ذلك لشاول (بولس) الذي كان في طريقه إلى دمشق لاضطهاد المسيحيين " الذي سأله: ((مَن أَنتَ يا ربّ؟)) قال: ((أَنا يسوعُ الَّذي أَنتَ تَضطَهِدُه" (أعمال الرسل 9: 5). وفي موضع آخر قال يسوع " مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (متى 10: 40). "ومَن قَبِلَ طِفْلاً مِثلَه إِكْرامًا لاسمي، فقَد قَبِلَني أَنا" (متى 18: 5)، وكذلك في إنجيل لوقا نجد قول يسوع " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني" (لوقا 10: 16). ويُعلق القِديس ايرونيموس "كل مرّة تبسط يدك بالعطاء أذكر المسيح" وفي هذا الصَّدد، قالت القِديسة تريزا دي كالكوتا: "إنّ الأمر الوحيد الذي يمكن أن يجعلني حزينة هو إهانة الرَّبّ بسبب أنانيّتي أو لتمنّعي عن مساعدة الآخرين، وعندما نؤذي الفقراء، إنّما نؤذي الرَّبّ؛ أمَّا عبارة "إِخوتي" فتشير إلى تلاميذ المسيح (يوحنا 20: 17) وشركائه في ضيقه (العبرانيين 2: 10-11) وأعضاء في الكنيسة الحقيقيَّة. "لأَنَّ كُلاًّ مِنَ المُقَدِّسِ والمُقَدَّسينَ لَه أَصْلٌ واحِد، ولِذلِكَ لا يَستَحْيي أَن يَدعُوَهم إِخوَةً حَيثُ يَقول: ((سأُبَشِّرُ بِاسمِكَ إِخوَتي"(عبرانيين 2: 10)، ثم امتدَّ معناها إشارة إلى جميع النَّاس. وهكذا استبدلت كلمة "التَّلاميذ" بكلمة " إخوتي" لا لاقتصار صفة الأخ على التَّلاميذ وحدهم، بل لإعلان الصِّلة التي تجمع بين يسوع وكل إنسان محتاجٍ، إذ أراد يسوع أن يتقمّص شخصيَّة الفقراء المُهمَّشين، فيطابق بينه وبين جميع هؤلاء البؤساء الذي يعتبرهم إخوته. فصانع الرَّحمة للآخرين من أي دين كان، إنَّما هو صانعها للمسيح. فيكشف لصانع الرَّحْمة أن ما عمله كان له معنى عميق يجهله. أمَّا عبارة "الصِّغار" فتشير إلى المؤمنين الذِين هم أقل اعتبارًا من غيرهم والمُحتقرين عند سائر العَالَم، ولكن في الواقع، يدل يسوع على "التَّلاميذ" وحدهم " ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع” (متى 10: 42). إن الأهميَّة المِحوريَّة هي العلاقة بالمسيح. يجازي يسوع المَلِك الدَّيَّان الأبرار عن ممارسة المَحَبَّة الأخويَّة تُجاه الذِين يعيشون على هامش المجتمع. ويجازيهم على أعمالهم بحسب ما قاموا به من أعمال الرَّحمة نحو المحتاجين إليهم. ويعلق البابا فرنسيس "نعرف جيّدًا أننا في النهاية سوف نُحاسب على الحب، ونعرف أيضا أسئلة الامتحان في الدينونة الأخيرة: إنها أعمال الرحمة" (الإنجيل وعلامات الأزمنة، 14/3/2019). 41 ثُمَّ يقولُ لِلَّذينَ عنِ الشِّمال: إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه تشير عبارة " إِليكُم عَنِّي " في الأصل اليوناني Πορεύεσθε (معناها أذهبوا) إلى قول المسيح الذي قال سابقًا "تَعالَوا إِليَّ "(متى 11: 28) " قال لهم أخيرًا "أذهبوا عني". للذِين قالوا لله في حياتهم على الأرض " ابتَعِدْ عَنَّا. وماذا يَصنَع بِنا القَدير" (أيوب 22: 17) سيسمعونه يقول لهم "ابعدوا عني"، وهذا الأمر بداية عذاب جَهَنَّم، لان القُرْب من الله شبعٌ وسرورٌ (مرقس 16: 11)، والبُعد عنه موت وهلاك. أمَّا عبارة "المَلاعين" فتشير إلى الأشرار الذِين جَحدوا إيمانهم. والحُكم هنا على الذِين رفضوا أن يُعينوا إخوتهم في وقت الشِّدَّة فحُرموا من كل خير ومسرِّة ونالوا عِقاب الآلام والأحزان بعكس الأبرار الذي قال لهم الرَّب "يا مَن بارَكَهم أَبي "، ولم يقل لهم " يا ملاعين أبي "، لانَّ من الله الخلاص، وأمَّا الهلاك فيأتي من أعمال النَّاس، فهم لعنة على أنفسهم، كما ورد في نبوءة أشعيا: " هكذا قالَ الرَّبّ: إِنَّما آثامُكم باعَتْكم ومَعاصيكم طَلَّقَت أُمَّكم"(أشعيا 50: 1). وهذا ما يوضِّحه يوحنا الإنجيلي بقوله: "كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل وتَعلَمونَ أَنْ ما مِن قاتلٍ لَه الحَياةُ الأَبدِيَّةُ مُقيمَةٌ فيه" (1 يوحنا 3: 14). أمَّا عبارة " النَّارِ الأَبَدِيَّةِ " فتشير إلى العقاب الأبدي في الجَحيم الذي هو مكان القَصاص بعد الموت لكل من يرفض التَّوبة (متى 5: 29). وهناك كلمتان تستخدمان للتعبير عن الجَحيم: كلمة عبريَّة שְׁאוֹל معناها الهاوية والتي استخدمت في العهد القديم للإشارة إلى القبر، مثوى الأموات (مزمور 16: 10)، واستخدمت كلمة أخرى وهي جَهَنَّم גֵּיהִנּם نسبة إلى وادي هنوم حيث كان الأطفال يُحرقون بالنَّار قربانا للآلهة الوثنيَّة (2 ملوك 23: 10)، وهو مكان النَّار الأبديَّة (متى 18: 8) المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه وكلِّ من لا يؤمنون بالله (متى 25: 46). وهذه هي الحالة الأبديَّة والنِّهائيَّة للأشرار بعد القِيامة والدَيْنونَة الأخيرة. وهذه النَّار ليست للتطهير بل للعذاب، وهي علامة غضب الله على الخطأة لأنه تعالى بالنسبة إليهم " نارٌ آكِلَة" (العبرانيين 12: 29). أمَّا عبارة "لإِبليسَ وملائِكَتِه" فتشير إلى الله الذي لم يُعِّدْ النَّار الأبديَّة للإنسان بل للشَّيطان (رؤيا 19: 20)، كما سبق وقال إلى الأبرار "رِثوا المَلِكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم" (متى 25: 34)، لذلك لم يقل أنَّ جَهَنَّم معدة للأشرار من النَّاس بل للشَّياطين. والشَّياطين هم الملائكة السَّاقطون. أعدّ لهم محل العذاب الذي استحقوه (رؤيا 12: 8-9)، وكل من يختار بنفسه أن يكون ابنًا للشَّيطان يذهب معه للنار الأبديَّة، كما جاء في تعليم يسوع " أَنتُم أَولادُ أَبيكُم إِبليس تُريدونَ إتمامَ شَهَواتِ أَبيكم. كانَ مُنذُ البَدءِ قَتَّالاً لِلنَّاس ولَم يَثبُتْ على الحَقّ لأَنَّه ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ الحقّ. فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب" (يوحنا 8: 44). الله أعدّ المَلِكوت السَّماوي للإنسان. لكن الأشرار اختاروا بأنفسهم لأنفسهم أن يُلقوا في النَّار الأبديَّة التي أُعِدّت لإبليس وجنود، كما حدث مع يهوذا الإسخريوطي الذي ذهب إلى مكانه (أعمال الرسل 1: 25) فإذا دينونتهم عادلة. 42 لأِنِّي جُعتُ فَما أَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيتُموني، 43 وكُنتُ غَريبًا فما آوَيتُموني، وعُريانًا فما كَسوتُموني، ومَريضًا وسَجينًا فما زُرتُموني)). 44 فيُجيبُه هؤلاءِ أيضًا: ((يا رَبّ، متى رَأَيناكَ جائعًا أَو عَطشان، غَريبًا أَو عُريانًا، مريضًا أَو سجينًا، وما أَسعَفْناك؟)) تشير هذه الآيات (42، 43، 44،) إلى دهشة الأشرار الذِين دِينوا هنا لا لارتكاب سرقة أو قتل أو غيرها من التَّعديات والمُنكرات، بل لمجرد إهمالهم واجبات المُحتاجين، إذ لم يٌظهروا الرحمة لهم ولا لمسيحهم بواسطتهم، وذلك بعدم اعتنائهم بالفقراء والمساكين والغرباء والمرضى والسجناء بل عاشوا لأنفسهم. لم يتمكنوا هؤلاء الأشرار رؤية الآخر وعبئه، لأن نظرتهم مرتكزة على ذواتهم ولم يدركوا آلام الآخرين الذين التقوا بهم. 45 فيُجيبُهم: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه تشير عبارة "أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه " إلى التَّقصير أو الإهمال، أي عِلة أولئك الذِين يُدانون كأشرار. إن التَّقصير سَبَبه عدم وجود محبّة في حياتهم ترحم الآخرين. لقد دفنوا الإنجيل في أتربة الهوى والأنانيَّة وأطفأوا مصابيح الرَّحمة في قلوبهم تُجاه المُحتاجين والفقراء. أمَّا عبارة "فَلي" فتشير إلى المسيح الذي هو أساس الذي يُبنى عليه ما يستحق الثواب من الأعمال. 46 فيَذهَبُ هؤُلاءِ إلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إلى الحَياةِ الأَبدِيَّة تشير الآية "فيَذهَبُ هؤُلاءِ إلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إلى الحَياةِ الأَبدِيَّة" إلى اقتباس هذه الآية من نبوءة دانيال "كثيرٌ مِنَ الرَّاقِدينَ في أَرضِ التَّرابِ يَستَيقِظون، بَعضهم لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، وبَعضُهم لِلعارِ والرَّذلِ الأَبَدِيّ." (دانيال 12: 2) وجاء نصُّ إنجيل يوحنا يؤكد ذلك "يَخُرجونَ مِن القبور أمَّا الذِين عَمِلوا الصَّالحات فيَقومون لِلحيَاة وأمَّا الذِين عَمِلوا السَّيِّئات فيقومونَ للقضاء" (يوحنا 5: 29). وتشير هذه الآية أيضًا إلى قيامة الأموات، ولكنَّها تصف أيضًا الحالة الأبديَّة والنِّهائيَّة للأبرار والأشرار بعد القِيامة والدَيْنونَة الأخيرة. وعندما يحذّر الرَّب يسوع من العَذاب الأبدي، فهو إنَّما يسعى لانقادنا من هذا العَذاب الرَّهيب، ويحثُّنا للعمل الصالح لنيل السَّعادة الأبديَّة. أمَّا عبارة " العَذابِ الأَبديّ فتشير إلى العَذاب الذي اُعتبر عِقابًا للخطيئة الشَّخصيَّة (تكوين 3 :14-19) أو الجَماعيَّة (أشعيا 1 :4-8). والعذاب الأبدي هو عِقاب أبدي الذي هو البُعد عن وَجْهِ الرَّبِّ. ومن الشَّواهد على ابديه العقاب بعد الموت ما ورد في الكتاب المقدس " أَظهَرَ الرَّبُّ نَفْسَه وأَصدَرَ القَضاء وأُخِذَ الشِّرِّيرُ بِمَا فَعَلَت يَدَاه (مزمور 9: 8) "قد فَزعَ الخاطِئونَ في صِهْيون والرَّعدَةُ أَخَذَتِ الكُفَّار. مَن مِنَّا يَسكُنُ في النَّارِ الآكِلَة؟ ومَن مِنَّا يَسكُنُ في المَواقِدِ الأَبَدِيَّة؟ " وأشعيا 33:14) "ومع هذا كُلِّه، فبَيننا وبَينَكم أُقيمَت هُوَّةٌ عَميقة، لِكَيلا يَستَطيعَ الذِين يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا" (لوقا 16: 26) " مَن آمَنَ بِالابن فلهُ الحَياةُ الأَبديَّة ومَن لم يُؤمِنْ بالابن لا يَرَ الحَياة بل يَحِلُّ علَيه غَضَبُ الله" (يوحنا 3: 36 )، "وأَن يُجازِيَكم أَنتُمُ المُضايَقينَ وإِيَّانا بِالرَّاحَة عِندَ ظُهورِ الرَّبِّ يَسوع، يَومَ يَأتي مِنَ السَّماءِ تُواكِبُه مَلائِكَةُ قُدرَتِه في لَهَبِ نار ويَنتَقِمُ مِنَ الذِين لا يَعرِفونَ الله ولا يُطيعونَ بِشارةَ رَبِّنا يسوع. فإِنَّهم سيُعاقَبونَ بِالهَلاكِ الأَبَدِيّ مُبعَدينَ عن وَجْهِ الرَّبِّ وعَن قُوَّ تِه المَجيدة" (2 تسالونيقي 1: 7-9). والعَذاب الأبدي كناية عن تَمام الشَّقاء والإثم. أمَّا عبارة "الحَياةِ الأَبدِيَّة" فتشير إلى أتحاد الإنسان بالله، وهو حالة أقرب القُرب إلى الله، وهي كناية عن كمال السَّعادة والقِداسة والاتحاد بالرؤية الكاملة، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "نَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه" (1 قورنتس 13: 12)؛ فالإنسان لا يجد راحته واستقراره إلا في الله، كما يقول القِديس أوغسطينوس "صنعتنا لك، يا الله، ويبقى قلبنا مضطربا حتى يجد راحته وقراره فيك". وليس النَّعيم الكامل يدخل قلوب أهل النَّعيم، بل أهل النَّعِيم بأكملهم يدخلون نَعِيم الله والحياة الأبديَّة. ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (25: 31-46) بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (متى 25: 14-30)، نستنتج انه يتمحور حول الدَيْنونَة العُظمى ويسوع المَلِك الدَّيَّان. ومن هنا نتساءل ما هو مضمون الدَيْنونَة في المسيحيَّة؟ وما هي أعمال الرَّحمة التي سيُديننا يسوع المَلِك عليها في يوم الدَيْنونَة؟ 1) ما هو مضمون الدَيْنونَة في المسيحيَّة؟ إن اللفْظ الأصْلي للدَيْنونَة هو שׁפָט" الذي يلي عادة الحُكم حيث أن كلمة שֹׁפְטֵ تعني الدَّيَّان أو الحَاكم الذي يسوس شعبًا ما (دانيال 9: 12). إن إحدى الوظائف الهامة لكل الحكاَّم تقوم خاصة على البَتِّ في النَّزاعات لكي تسود العدالة في المجتمع، وقد مارسها موسى والشيوخ معاونوه (خروج 18: 13-26)، وصموئيل (1 صموئيل 7: 16-8: 3)، والملوك (2 صموئيل 15: 1-6، 1 ملوك 3: 16-28)، وبعض القُضاة المَحلِّيين، ولاسيما الكهنة (تثنية 16: 18 -20، 17: 8-13). الأنبياء هم الذِين أعلنوا أن الله يدين العَالَم بالنَّار (أشعيا 66: 16)، وأنَّه سيجمع الأمم في وادي يوشافاط יְהוֹשָׁפָט (معناها الله الدَّيَّان): إذ ذاك يكون الحصادِّ في الأزمنة الأخيرة (يوئيل 4: 12 – 14). وينطبق ذلك أيضًا على سفر الحِكمة، حيث نرى الأخيار والأشرار يمثلون معًا لإداء الحِساب (حكمة 4: 20-5: 23). يستلهم مدونو الكتاب المُقدس هنا الاختبار البشري عندما يتحدثون عن دَيْنونَة الله. فإن دَيْنونَة الله تُشكِّل تَهديدًا مُتواصلاً للبشر، لا في الآخرة فحسب، بل في التَّاريخ أيضًا، إنه من المستحيل على خاطئ واحد أن يفلت منها. ويصف كتاب دانيال بصور مُذهلة هذه الدَيْنونَة التي ستختتم الزمن وتَفتتح مَلَكوت ابنِ البَشر الأبدي (دانيال 7: 9-12 و26). في أيام السَّيد المسيح، كان انتظار دَيْنونَة الله بآخر الأزمنة حَدثًا عامًا. ويشير يوحنا المعمدان في مطلع الإنجيل إلى الدَيْنونَة، عندما يُنذر سامعيه بالغَضب الآتي، ويُحثُّهم على قبول معموديته، علامة للتَّوبة (متى 3: 7-12). وبدأت ساعة الأزمنة الأخيرة مع السَّاعة التي ظهر فيها يسوع في العَالَم، فدَيْنونَة الأزمنة الأخيرة هي حاضرة منذ تلك السَّاعة، وإن كان ينبغي انتظار عودة المسيح المَجيدة، حتى نراها مُتمَّمة في مِلئها. أشارت كرازة يسوع مرَّات عديدة إلى دَيْنونَة اليوم الأخير حيث لا بدَّ لكل البشر أن يؤدُّوا الحِساب (متى 25: 14-30). وإن سبب الدَيْنونَة الإلهيَّة الأساسي هو المَوقف الذي يتخذه النَّاس إزاء الإنجيل، وإزاء القريب، على حد سواء: سيُدان كل واحد طبقًا للدَيْنونَة التي يكون قد دان بها القريب "فكَما تَدينونَ تُدانون، ويُكالُ لكُم بِما تَكيلون "(متى 7: 2). صف القِديس يوحنا الإنجيلي يسوع، ابن الإنسان، الذي أُقيم من الآب دَيَّانًا في اليوم الأخير (يوحنا 5: 26-30). إلاَّ أن الدَيْنونَة في الواقع ستحقق منذ اللحظة التي يرسل فيها الآب الابن إلى العَالَم. وهذا لا يعني أنه قد أرسل ليدين العَالَم: إنه بالعكس يأتي ليُخلِّصه (يوحنا 3: 17، 8: 15-16). ولكن تبعًا للموقف الذي يختاره كل واحد تُجاه يسوع، تتمَّ الدَيْنونَة فورًا: مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد"(يوحنا 3: 18 -20). ونستنتج من ذلك، أنَّ الدَيْنونَة هي كشف خطايا القلوب البشريَّة، أكثر منها حكم إلهي. فالقوم الذِين أعمالهم شريرة، يُفضّلون الظَّلام على النُّور (يوحنا 3: 9-20). إن الدَيْنونَة الأخيرة تُظهر عَلنًا ما قد تمَّ منذ الآن من تفريق من حيث خفايا القلوب. تُعلن الكرازة الرَّسوليَّة في الجَماعة المسيحيَّة الأولى أنَّ الله حدَّد يومًا ليَدين العَالَم بعَدل عن طريق المسيح الذي أقامه من بين الأموات (أعمال 17: 31). وان الدَيْنونَة ستبدأ في بيت الله، قبل أن تمتدَّ إلى الأشرار (1 بطرس 4: 17)، وسيُدين الله كلَّ واحدٍ بحسب أعماله، دون محاباة للوجوه (1 بطرس 1: 17). والمسيح هو الذي سيقوم بوظيفة ديَّان للأحياء والأموات (2 طيموتاوس 4). وأخيرًا فإن جميع البشر، في آخر الزمن، سيمرُّون بالنَّار التي ستمتحن قيمة أعمالهم، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 13:3). قاعدة الدَيْنونَة هي "الشَّريعة الموسويَّة" المفروضة على من يلتمسون هذه الشَّريعة (رومة 2: 12)، والشَّريعة المكتوبة في الضَّمير هي قاعدة الدَيْنونَة إلى من لم يعرفوا غير هذه الشَّريعة (رومة 2: 14-15). وشريعة الحريَّة هي قاعدة الدَيْنونَة إلى من قبلوا الإنجيل (يعقوب 2: 12). ولكنّ الوَيل لمن يكون قد أدان القَريب (رومة 2: 1-3). إنه سيُدان هو نفسه طِبقًا للمِقياس الذي طبّقه على الآخرين، كما أوضح يعقوب الرَّسول "التَفتُّم إلى صاحِبِ الثِّيابِ البَهِيَّة وقُلتُم له: ((اِجلِسْ أَنتَ ههُنا في الصَّدْر))، وقُلتُم لِلفَقير: ((أَنتَ قِفْ)) أَو ((اِجلِسْ عِندَ مَوطِئِ قَدَمَيَّ)) "(يعقوب 2: 3). يُجيب يسوع عن موضوع الدَيْنونَة بقوله " فيُجيبُهُمُ المَلِك: الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). إنَّ المسيح يَحسب ما صُنع من المعروف لتلاميذه إكرامًا له، انه صُنع له بدليل قوله "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني. ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن." (متى 10: 40، 42))، وقول المسيح لشاول وهو يضطهد الكنيسة "شاوُل، شاوُل، لِماذا تَضطَهِدُني؟ " (أعمال الرسل 9: 4). وهذا دليل على شِدَّة الاتِّحاد والشَّركة في الشَّعور بين المسيح وشعبه حتى انه يحضر معهم حيث كانوا، ويشاركهم في فقرهم وضيقهم واضطهادهم؛ ألم يقلْ بولس الرَّسول "أَنَّ المسيحَ رَأسُ الكَنيسةِ الَّتي هي جَسَدُه وهو مُخلِّصُها" (أفسس 5: 23). إنَّ المسيح عندما يُجازي الأبْرار لا يقتصِر على أعمالهم بل غاياتهم من تلك الأعمال. وان الفضيلة المسيحيَّة التي جُعلت علامة الإيمان الصحيح هي المَحَبَّة، لأنَّها أعظم الفضائل بدليل قول بولس الرَّسول "فالآن تَبقى هذه الأُمورُ الثَّلاثة: الإِيمانُ والرَّجاءُ والمَحَبَّة، ولَكنَّ أَعظَمَها المَحَبَّة" (1قورنتس 13: 13، والمَحَبَّة إكليل صفات الله، لأنَّ " اللّهَ مَحبَّة." (1 يوحنا 4: 8) فاذا وجدت المَحَبَّة في الإنسان وُجدت فيه سائر الفضائل، وان فقدها فقد الكل، "المَحَبَّة كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13: 10)"وإنَّها رِباطُ الكَمال"(قولسي 3: 14). لا بُدَّ لنا جميعًا من الوقوف يوم الدَّين عن يمين الدَّيَّان أو عن شماله، فلنا الآن أن نختار الموقف الذي نحبه، إذ لا اختيار لنا في ذلك اليوم؛ ولا بدّ من أنَّ جميعنا من السماع إما قوله: تعالوا إليَّ" إمّا قوله " اذهبوا عني". ولنا أن نختار سماع الصوت الذي نُحبُّه. ولا بُدَّ لنا جميعًا من النيل إمَّا الحياة الأبديَّة وإمَّا العذاب الأبدي. فحياتنا الزمنيَّة ووسائط النعمة وُهبت لنا من الله لكي نتمسك بالحياة الأبديَّة والاَّ نعرض نفوسنا للموت والهلاك. وأمَّا الحكم على الملاعين أي الأشرار (متى 25: 41-46) فعِلَّتهم هي التَّقصير أي الإهمال؛ إن التَّقصير كان بسبب عدم وجود محبَّة في حياتهم. فقد رفضوا أن يُعينوا إخوتهم في الشِدَّة؛ من لا يحب كان في البغض كما قال يوحنا الرَّسول " نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إلى الحَياة لأَنَّنا نُحِبُّ إِخوَتَنا. مَن لا يُحِبُّ بَقِيَ رَهْنَ المَوت. كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل وتَعلَمونَ أَنْ ما مِن قاتلٍ لَه الحَياةُ الأَبدِيَّةُ مُقيمَةٌ فيه"(1 يوحنا 3: 14-15). فقد كتب القِدّيس أوغسطينوس، "لست أتكلّم، عن الفاسدين الذِين يجدّفون ضدّ المسيح. والواقع قليلون هم الذِين يجدّفون بالفم، غير أنّ من يجدّفون بسلوكهم فهم كثيرون". 2) ما هي أعمال الرَّحمة التي سيُديننا عليها يسوع المَلِك في يوم الدَيْنونَة؟ إن انتظار عودة المسيح كديّان للأحياء والأموات هو جزء لا يتجزأ من قانون الإيمان المسيحي: " أؤمن بربٍّ واحدٍ يسوع المسيح ... سياتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات". يصف إنجيل متى تصويرًا نبويًا للدَيْنونَة الأخيرة، كأنَّه يراها بعينيه على ضوء كلام الله. يأتي ابن الإنسان كدَيَّان في نهاية الأزمنة، وهو يأتي من السَّماء ليدين لا الشَّعب المختار فحسب إنَّما الشعوب كلها (مرقس 14: 62). الرَّب يسوع يأتي في مجده (متى 16: 27) كالمَلِك فيدين جميع الشُّعوب، كما وصفه صاحب الرؤيا "رَأَيتُ الأَمواتَ كِبارًا وصِغارًا قائِمينَ أَمامَ العَرْش. وفُتِحَت كُتُبٌ، وفُتِحَ كِتابٌ آخَرُ هو سِفرُ الحَياة، فحوكِمَ الأَمواتُ وَفقًا لِما دُوِّنَ في الكُتُب، على قَدرِ أَعْمالِهم"(رؤية 20: 12). يُحشر النَّاس في يومه لدى عرشه المجيد ليَدينهم على أعمال الرَّحمة. الرَّحمة هي فضيلة تُؤثر على إرادة الشَّخص جاعلة إياه يشعر بالتَّعاطف مع الآخرين وتخفيف شِدَّتهم. ويُعلق البابا فرنسيس "حيث تغيب الرَّحمة يغيب العدل، وشعب الله يعاني اليوم من العدالة الخالية من الرَّحمة. ويعدد التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيَّة " أعمال الرَّحمة هي أعمال المَحَبَّة التي تساعد بها القريب في ضروراته الجَسديَّة والرُّوحيَّة. التَّعليم، والنُصح، والتَّعزية، وتقوية العَزم، وأعمال رحمة روحيَّة مثل المَغفرة والاحتمال بصبر. وتقوم أعمال الرَّحمة الجَسديَّة خصوصًا على إطعام الجِياع، وإيواء من ليس لهم منزل، وإكساء ذوي الثياب الرَّثة، وعيادة المرضى وزيارة السُّجناء ودفن الموتى"(التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيَّة، 2447). وسمَّت الكنيسة هذه التَّصرّفات "أعمال الرَّحمة الجَسديَّة" لأنّها تُنقذ الأشخاص في حاجاتهم الماديَّة". ويشهد صاحب المزامير على علامات الرحمة الجسدية التي تجعلنا نتمثل بالله الرحيم: "مُجْري الحُكْمِ لِلمظْلومين رازِقِ الجِياعِ خُبزًا. الرَّبُّ يَحُلُّ قُيودَ الأَسْرى. الرَّبُّ يَفتَحُ عُيونَ العُمْيان الرَّبّ يُنهِضُ الرَّازِحين. الرَّبّ يُحِبُّ الأبْرار. الرَّبُّ يَحفَظُ النّزلاء ويؤَيّدُ اليَتيم والأَرمَلَة ويُضِلُّ الأَشْرارَ في طَريقِهم" (مزمور 146، 7-9). ويعلق البابا فرنسيس " إّن أعمال الرَّحمة هذه هي ملامح وجه يسوع المسيح الّذي يعتني بإخوته الصّغار ليحمل لكلّ واحد منهم حنانَ الله وقُرْبَه" (مقابلة 12/10/2016). الأساس الإنجيلي لأعمال الرَّحمة ما علمه عن الدَيْنونَة الأخيرة وكيف أن الله سيُحاسبنا على تعاملنا مع إخوته: يقف كل إنسان بين يدي الرَّبَّ يسوع المَلِك ليُؤدِّي له حِسابًا. ولا يسال النَّاس عن أديانهم، ولا عن طوائفهم، ولا عن أموالهم، ولا عن بنوكهم، ولا عن قصورهم، وعلى عن مناصبهم، ولا عن بطولاتهم، ولا عن تكنولوجيَّاتهم، إنما يسألهم عن موقفهم تُجاه الفقراء والمساكين. يسألهم عن أعمال الرَّحمة التي مارسوها أو لم يمارسوها تُجاه المُحتاجين من جياع وعطاش وغرباء ومرضى وسجناء كما ورد في إنجيل متى: "يَقولُ المَلِك لِلَّذينَ عن يَمينِه: تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلِكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآويتُموني وعُريانًا فَكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إِلَيَّ"(متى 25: 34-35). فالأساس الإنجيلي لأعمال الرَّحمة ما علَّمه يسوع عن الدَّينونة الأخيرة. ومن هذا المنطلق يذكر النَّص الإنجيلي أعمال الرَّحمة الجسديَّة التَّاليَّة: 1) إطعام الجَائعين "جُعتُ فأَطعَمتُموني": أوصى الله بالفقير قائلا: "اِفتحْ يَدَكَ لأَخيكَ المِسْكينِ والفَقيرِ الَّذي في أَرضِكَ" (تثنية 15: 11)، وقال يسوع "مَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك" (لوقا 3: 11) شعر يسوع في عمق قلبه بشفقة كبيرة يسوع، إزاء الجموع التي كانت تتبعه، وإذ رأى أنهم تعبون ورازحون، بالقليل من الخبز والسمك أشبعهم (متى 15، 37). "إذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان. فطوبى لَكَ إِذ ذاكَ لِأَنَّهم لَيسَ بِإِمكانِهِم أَن يُكافِئوكَ فتُكافَأُ في قِيامَةِ الأَبرار" (لوقا 14: 13-14) ويُعلق القِديس قبريانس "كيف يُمكنه أن يَحُثُّنا على أعمال البِرّ والرَّحمة أكثر من قوله إن ما نعطيه للفقراء والمحتاجين إنّما نقدّمه له هو نفسه". ومن أمثلة إطعام الجِياع ما جاء في سفر الملوك، إذ أطعم إيليا النَّبي ارمله صرفت (1ملوك 17: 10-15)؛ وأطعم بوعز صاحب الحقول وراعوتُ الموآبِيَّةُ، كما جاء في سفر راعوت: "لَمَّا كانَ وَقتُ الأَكْل، قالَ لَها بوعَز: هَلُمِّي إلى ههُنا وكُلي مِنَ الخُبزِ واغمِسي لُقمَتَكِ في الخَلّ " (راعوت 2: 14-17). ولا ننسى ما جاء في الوحي: "مَن يَرحَمِ الفَقير َيُقرِضِ الرَّبّ فهُو يُجازيه على صَنيعِه" (أمثال 19: 17). ويُعلق القِدّيس أوغسطينوس "الذِين أظهروا الرَّحمة، سيُحكمون بالرَّحمة (لوقا 6: 37). لأنّه يَنسب لهم أعمال الرَّحمة، "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني" (متى 25: 41) " (حديث عن المزمور 96: 14-15). نستنتج مما سبق أنَّ الرَّب سيحاكمنا بموجب علاقتنا معه من خلالهم. انه يتقمص نفسيَّة هؤلاء الصغار والفقراء "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). ويعلق البابا فرنسيس في أول يوم عالمي للفقراء 2017: "هؤلاء الأخوة الصغار المفضّلون لدي يسوع، هم الجَائع والمريض، الغَريب والسَّجين، الفقير والمتروك، والمتألم الذي لا يتلقى المساعدة، والمُحتاج المهمّش. وأشار أيضًا إلى أنه عن طريق الفقير يقرع يسوع باب قلبنا" (عظة 62/2/2016). يسوع قريب من كلِّ واحدٍ، ويقابل كلَّ واحد. هو ليس فقط فوقنا في سمائه البعيدة. بل بيننا، على شوارعنا المُغْبَرَّة، وفي سجوننا وفي مستشفياتنا، ساكنا بين الذِين لا سُكنى لهم، يرافق النَّازحين والمطرودين من بلادهم، لذلك لا داعي للمسيحي أن يخاف يوم الحِساب، لانَّ المبدأ الذي يجري يسوع حسابه عليه هو أفعال الرَّحمة التي يفعلها بالبشر. وهي تحسب إنَّها فعلت بالمسيح، وهذا خير اطمئنان له. 2) سقي العطاش: "عَطِشتُ فسَقَيتُموني" عمل الرَّحمة الثاني "عَطِشتُ فسَقَيتُموني" ومن الأمثلة على ذلك قول المسيح: "مَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع " (متى 10: 42)، إذ "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). لذا يُوصينا القِديس أمبروسيوس بقوله: "اخدموا الفقراء تخدمون المسيح". ويُعلق التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيَّة " الإحسان إلى الفقراء هو من الدَّلالات الرَّئيسة على المَحَبَّة الأخويَّة: وهو ممارسة للعدالة ترضي الله (متى 6: 2-4)" (بند 2447). 3) إيواء الغرباء: "كُنتُ غَريبًا فآويتُموني" الغَريب حسب الإنجيل هم الوَثنيُّون، السَّامريُّون، العشَّارون، البُّرص، الزناة... أي شخص غير يهودي كان غريبًا. وإن الغَريب في كل الثقافات هو مصدر خَوف، لأنَّه مُختلف عنَّا في التَّفكير، غَريب في أسلوب الحديث، غَريب في أسلوب إقامة العلاقة. وأوَّل ما نصادف شخصًا هكذا، نقول: "لا"، وممكن أن ننتقد، نتذمر، نتجنب ونهرب. لكنَّ يسوع يقول لنا هنا أن نأوي الغَريب، وضرب مثل السامري الرحيم الذي أسعف الغريب الذي وقع بين أيدي اللصوص: " ووَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتاً وخَمراً، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه. وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إِلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: " اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي" (لوقا 10: 33-36). وفي موضع آخر قال يسوع: " مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني. مَن قَبِلَ نَبِيًّا لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقًا لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال " (متى 10: 40-42) " كُونوا لِلقِدِّيسينَ في حاجاتِهِم مُشارِكين وإلى ضِيافةِ الغُرَباءِ مُبادِرين" (رومة 12: 13)، "لا تَنسَوُا الضِّيافَة فإِنَّها جَعَلَت بَعضَهم يُضيفونَ المَلائِكَةَ وهُم لا يَدْرون" (عبرانيين 13: 2)، كما حدث في ضِيافة أبانا إبراهيم إلى ثلاث رجال حلوّا عليه ضُيوفًا في خيمته في مَمْر الخليل. (التَّكوين 18: 2-5)، وضيافة لوط إلى الرَّجال الذِين حلُّوا عليه في سدوم (التَّكوين 19: 1-3). وكيف نستقبل الضُّيوف؟ وتجيب القِديسة تريزا للطفل يسوع: إن أتى أحدٌ إليك، لا تدعه يتركك إلاّ وهو أفضل حالاً، وأكثر سعادة ممّا كان عليه قبل زيارتك. يكن التَّعبير الحيّ عن محبة الله: في وجهك، في عينيك، في ابتسامتك، وفي ترحابك الحارّ". وفي هذا الصدد يقول البابا فرنسيس: "الرحمة هي الشريعة الأساسية التي تسكن في قلب كل من ينظر بعيون صادقة إلى الأخ الذي يلتقي به على طريق الحياة" (المرسوم للسنة اليوبيلية الاستثنائية تحت شعار "رحماء كالآب"، رقم 2). 4) إكساء العراة: " كُنتُ عُريانًا فَكسَوتُموني" يوضَّح يوحنا المَعمدان عن إكساء العراة بقوله "مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه" (لوقا 3: 11)، وفي موضع آخر يقول الإنجيل " فتَصَدَّقوا بِما فيهِما، يَكُنْ كُلُّ شَيءٍ لكُم طاهِرًا" (لوقا 11: 41) ويُشدّد يعقوب الرَّسول على العمل لا على الكلام بقوله: " فإِن كانَ فيكُم أَخٌ عُريانٌ أَو أُختٌ عُريانَةٌ يَنقُصُهما قُوتُ يَومِهِما، وقالَ لَهما أَحدُكم: ((اِذْهَبا بِسَلام فاستَدفِئا واشبَعا)) ولم تُعطوهما ما يَحتاجُ إِلَيه الجَسَد، ماذا يَنفَعُ قَولُكُم؟" (يعقوب 2: 15-16). ومن أمثلة كساء العريان ما قامت به طابيثة للأرامل في يافا، إذ لما وَصَلَ بطرس إليها "أَقبلَت علَيه جَميعُ الأَرامِل باكِياتٍ يُرينَهُ الأَقمِصَةَ والأَردِيَةَ التي صَنَعَتها ظَبيَةُ إِذ كانَت معَهُنَّ" (أعمال الرسل 9: 39). 5) زيارة المرضى: " كُنتُ مَريضًا فعُدتُموني شعر يسوع في عمق قلبه بشفقة كبيرة تجاه المرضى وشفى الذين كانوا يُقدَّمون له (متى 14، 14). وعلى خطى يسوع علينا أن نشفق على المرضى ونزورهم. لا تعني زيارة المرضى تعزيتهم فقط، بل الاعتناء بهم وخدمتهم ومساعدتهم، كما فعل السامري الرحيم (لوقا 10). فلا عَجب أن يُوصي يعقوب الرَّسول " هل فيكُم مَريض؟ فلْيَدْعُ شُيوخَ الكَنيسة، ولِيُصَلُّوا عليه بَعدَ أَن يَمسَحوه بِالزَّيتِ بِاسمِ الرَّبّ" (يعقوب 5: 14). والأمثلة على ذلك ما فعل السَّامري الرَّحيم "وَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتًا وخَمرًا، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه. وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: ((اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي" (لوقا 10: 33-35)، ومثال آخر على ذلك فرنسيس الأسيزي، الذي أحتضن الأبرص وقبّله، وأبدى له الرَّحمة؛ وبعد القيام بذلك، وأدرك مدى حضور الرَّب في ذلك الشَّخص الذي غيّر حياته. ومن يقدر أن ينسى كلمات الأم تريزا حيث قالت: "في المُناولة نقابل يسوع تحت شكلي الخبز والخمر، بينما في شوارع كالكوتا فإنّنا نلمس جسده في المرضى". 6) زيارة المَسْجونينَ: "كُنتُ سَجينًا فجِئتُم إِلَيَّ" لا تنحصر زيارة المَسْجونينَ بتوجيه كلمات التَّعزية والمُواساة لهم، بل افتقادهم في حاجاتهم واتخاذ الوسائل المشروعة إذا كانوا أبرياء لتخلية سبيلهم من السُّجون كما وصّى بولس الرَّسول" أُذكُروا المَسْجونينَ كأَنَّكم مَسْجونونَ مَعَهم" (عبرانيين 13: 2). ومن أمثلة زيارة المَسْجونينَ هي زيارة المَلِك صِدقِيَّا إلى إرميا الذي كان في جُب أَمَرَ المَلِك عَبدَ مَلِكَ الكوشيَّ قائِلاً: " خُذْ مِن هُنا ثَلاثينَ رَجُلاً تَحتَ يَدِكَ وأَخرِجْ إِرمِيا النَّبِيَّ مِنَ الجُبِّ قَبلَ أَن يَموت"(ارميا 38: 7-13)؛ وزيارة بولس الرَّسول إلى أُونِسِفورُس الذي كان في السِّجن في روما فعبَّر بولس عن زيارته " فإِنَّه شَرَحَ صَدْري مِرارًا ولَم يَستَحْيِ بِقُيودي" ( 2طيموتاوس 1 : 16-17)، فعلمنا المسيح أن نمارس أعمال الرَّحمة لجميع المُتضايقين والمُتألمين الذِين نلتقي بهم على دروب هذه الحياة. والعَالَم بحاجة إلى قلوب تنبض محبةً وعطفًا على من يحتاجون إلى خدمة القريب التي علّمنا إياها المسيح، هي الحلُّ الوحيد للمشاكل العَالَميَّة. إنّها الخِدْمَة التي تشفي العَالَم من الأنانيَّة، والبغضاء والظلم. الخِدْمَة التي تجمع ما تفرّق، وتبني ما تهدّم، وترفع من عثر وسقط. الخِدْمَة التي تعيد الأمل والرَّجاء إلى اليائسين، وإلى الذِين طعنتهم الأيام بحرابها ومزَّقتهم بنصالها. تبرهن أعمال الرَّحمة على صدق محبتنا، كما يقول يوحنا الرَّسول " لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ " (1 يوحنا 3: 18)، وهذا ما أوصى به طوبيا البَار لابنه: "تَصَدَّقْ مِن مالِكَ ولا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير، فوَجْهُ اللهِ لا يُحوَّلُ عنكَ. تَصَدَّقْ بِما عِندَكَ وبِحَسَبِ ما يَتَوفَّرُ لَكَ. إِن كانَ لَكَ كَثير فآبذُلْ كَثيرًا، وإِن كانَ لكَ قَليل فآبذُلْ قليلاً، ولكِن لا تَخَفْ أَن تَتَصَدَّق. فإِنَّكَ تَذَّخِرُ لَكَ كَنْزًا حَسَنًا إلى يَومِ العَوَز. لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُنقِذُ مِنَ المَوت ولا تَدَعُ النَّفْسَ تَصيرُ إلى الظُّلمَة" (طوبيا 13: 6-10). فالرَّبّ يسوع يطلب منَّا الاهتمام الشَّخصي والعِناية باحتياجات الآخرين "أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟" (أشعيا 58: 7). دفن الموتى ذكر العهد القديم دفن الموتى باحترام (طوبيا 2: 1-9). وذكر المسيح ستة أعمال فعلها الأبرار وأظهروا بها رحمتهم واستعدادهم ببذل أموالهم وأوقاتهم وقواهم وراحتهم في سبيل إخوة المسيح لأجل المسيح، ولم يذكر دفن الموتى. فهذا هو واجب طبيعي وبديهي على كل إنسان وفي جميع الشُّعوب والدَّيَّانات والحَضارات. ونظرًا إلى أهميَّة هذا الواجب الإيمانيّ أصبح عملاً من أعمال الرَّحمة، إذ يكمن في الإيمان في كرامة الشَّخص حتى لو كان ميتًا. ولا عجب إذا أدخلت الكنيسة في قانون الإيمان نفسه ذكر دفن السيد المسيح وجعلته جزءًا لا تجزأ من نواة الكرازة الرسولية الأساسية: "سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شيَءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أَيضًا، وهو أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب" (2 قورنتس 15: 3-4). يُقدّم لنا الكتاب المقدس بعض النَّماذج في كيفيَّة دفن الموتى، وذلك في دفن إبراهيم خليل الله بكل محبَّة واحترام (التَّكوين 25). ومثال آخر في طوبيا الذي أصبح مثالاً في هذا العمل الذي يتطلب أحيانًا شجاعة وبطولة، كما جاء في سفره: "ولَمَّا غَرَبَتِ الشَّمسُ، ذَهَبتُ فحَفَرتُ حُفرَةً ودَفَنت الجُثَّة. وكانَ جيراني يقولونَ ساخِرين: لم يَعُدْ يَخاف، فقَد سَبَقَ أَن سَعَوا إلى قَتلِه بِسَبَبِ مِثلِ هذا الأَمرِ، فهَرَب خُفيَةً، وها هوذا يَعودُ إلى دَفْنِ المَوت... فحينَ كُنتَ تُصَلِّي أَنتَ وسارة، كُنتُ أَنا أَرفعُ ذِكْرَ صَلاتِكُما إلى حَضرَةِ مَجْدِ الرَّبّ، وكذلك حينَ كُنتَ تَدفِنُ المَوتى" (طوبيا 2: 3-4). وفي الإنجيل المقدس أروع قدوة في هذا العمل، هو قدوة النِّساء التَّقيات، حاملات الطَّيب، ويوسف الرَّامي ونيقوديموس الذِين قاموا بدفن جسد السَّيد المسيح "في قبر جديد وبالطَّيب...اللفائف والكتّان"، (يوحنا 19: 41) أي بكل إيمان ومحبّة ورجاء فصحي. يُعلق التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيَّة "يجب معاملة أجساد الموتى باحترام ومحبة، في الإيمان ورجاء القيامة. ودفن الموتى من أعمال الرَّحمة الجَسديَّة، لإكرام أولاد ألله، هياكل الرُّوح القُدُس" (بند 2300). ولا عجب إذا أدخلت الكنيسة في قانون الإيمان نفسه ذكر دفن السَّيد المسيح وجعلته جزءًا لا تجزأ من نواة الكرازة الرَّسوليَّة الأساسيَّة: “سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شيَءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أيضًا، وهو أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب" (2 قورنتس 15: 3-4). يعبّر عمل الرَّحمة في دفن الموتى خاصة عن الحقيقة الحاسمة: ليست للموت الكلمة الأخيرة: " فأَينَ يا مَوتُ نَصْرُكَ؟ وأَينَ يا مَوتُ شَوكَتُكَ؟ ... فالشُّكرُ للهِ الَّذي آتانا النَّصْرَ عَن يَدِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (1 قورنتس 15: 55-57). وبينما نرافق إخوتنا وأخواتنا المتوفّين إلى مقرّ الرَّاحة نملأ قلوبنا برجاء القيامة: " غَيرَ أَنَّنا نَنتَظِرُ، كما وَعَدَ الله، سَمَواتٍ جَديدةً وأَرضًا جديدةً يُقيمُ فيها البِرّ" (2 بطرس 3: 13). نستنتج مما سبق أنَّ إنجيل اليوم هي دعوة ملحَّة إلى مدِّ يد المساعدة إلى جميع إخوتنا الفقراء المعوزين وان نقابل القسوة والعنف بالرحمة "وأنْ أَن نُعَزِّيَ الَّذينَ هُم في أَيَّةِ شِدَّةٍ كانَت" (2 قورنتس 1: 4). وفي هذا الصدد يقول صاحب سفر الأمثال " البارّ يَعرِفُ قَضِيَّةَ الفُقَراء والشَريرُ لا يَفطَنُ لِمَعرِفَتِها" (أمثال 29: 7). إن ملكوت الله موجود، ولكن يجب البحث عنه في الأخرين الذِين لا يذكرهم التَّاريخ، وتحديدًا في أولئك الذِين طوّبهم يسوع في بداية كرازته: الفقراء والودعاء والجِياع والعطاش والغرباء والذِين بلا مأوى، والعريان والمرضى والمساجين، والمضطهدين والمشردين والغرباء هم أعضاء مملكته (متى 5: 1-12). ويعلق بيّوس الحادي عشر " المسيح المَلِك "لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ" (متى 20: 28)، وقد أعطى نفسه مثالاً عن التَّواضع وجعل من التَّواضع، في صلته بمبدأ المَحَبَّة، قانونه الرَّئيسيّ " (الرّسالة العامّة: في البَدءِ (Quas Primas)، سنة 1925). سفك يسوع دمَه حبَّا لنا، كي نُحبّ الآخرين كما أحبنا، وان نضحّي، كما ضحّى بحياته على الصليب من أجلنا، وان نُحب جميع النَّاس ونَخدم كلَّ إنسانٍ حسبما نستطيع؛ فهذه المَحَبَّة للآخرين تمجِّد الله لأنها تعكس محبتنا له وعليه نُدان. ويعلق القِديس خوسيه ماريا" إعطاء حياتنا للآخرين، هذه هي الوسيلة الوحيدة الّتي نمتلكها لنعيش حياة يسوع المسيح، ونتّحد به" (درب الصليب"، المرحلة 14). في حين من لا يقوم بأعمال المحبة والرَّحمة تُجاه الآخرين لن يجلس عن يمين الله. الخلاصة: علم يسوع تلاميذه بمثل العذارى العشر وجوب السَّهر، وبمثل الوزنات وجوب الاجتهاد، ويعلمهم الآن في الدينونة العامة أمام يسوع الملك الدَّيان إظهار أعمال الرَّحمة للمساكين والمصابين استعداد لمجيئه الثاني. فيسوع ملك الكون والتَّاريخ (عبرانيين 2: 8) سيعودُ ثانية ديانًا في آخر الأزمنة لكي يُحاسب النَّاس أجمعين ويعطي كلَّ واحدٍ ما يستحقهُ جزاء أعمالهِ، خيرًا كان أم شرًا في الدَيْنونَة العامة. إنَّ تلك الدَيْنونَة ستفاجئ الجَميع: " كنتُ جائعًا فأطعمتموني " " كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). لا يُمكننا أن ندخل المَلِكوت الذي أعلن عنه الرَّب يسوع المسيح إلاّ من أعمال الرَّحمة للقريب التي تعكس رحمة الله الرحيم. ورحمة الله هي القلب النابض للإنجيل وفقًا لقول يسوع "كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم" (لوقا 6: 36). وأشار القديس يوحنا بولس الثاني: "لا وجود لمصدر رجاء للجنس البشري خارج رحمة الله!". لا يدين يسوع المَلِك المؤمنين فقط، بل يدين جميع البشر انطلاقا من هذه المَحَبَّة العمليَّة المترجمة في أعمال الرَّحمة. والدَيْنونَة هي عاقبة تقرِّرها أعمالنا. لن يحكم يسوع المَلِك علينا بموجب نيَّاتنا الصَّالحة، ولا بموجب عواطفنا السَّاميَّة، بل بموجب المُساعدات المَاديَّة والخدمات الإنسانيَّة التي قدَّمناها لإخوتنا، في فقرهم المدقع. فإن أردْتَم أن تنالَوا رحمةً كُونوا أنتَم رحماء قبلَ أن يأتيَ الرَّب الدَّيَّان. ومن هذا المنطلق، تأخذ جميع الأشياء الأرضيَّة أبعادًا جديدة. العَالَم بحاجة إلى المسيح الإنساني، المسيح الفقير، المسيح المتألم، المسيح المُشرّد، المسيح المصلوب، إنّ ابن الإنسان ينتظرنا في كل محتاج. ولذلك فإن خدمة القريب هي خدمة لله. تتمُّ الدَيْنونَة اليوم على المَحَبَّة التي نكنَّها لإخوتنا من خلال أعمال الرَّحمة. يسوع الدَّيَّان الذي يظنُّ النَّاس أنَّه سيرونه يوم مجيء المجيد، لقد التقوه به في الواقع من زمن طويل وطوال حياتهم اليوميَّة. الإنسان على صلة بالدَّيَّان كلما كان أمام قريبه، والحقيقة إنَّ الدَيْنونَة تتم ومصير كلِّ واحد يُبتُّ فيه منذ الآن. فاللحظة الحاضرة هي حاسمة. وهذه اللحظة تتسم بخطورة لامتناهيَّة، لأنها ابن الإنسان والله نفسه في الإنسان الذي أمام الله، سوف يدخل الذِين حفظوا إنجيله في الحياة، إلى حياة لا يكون للموت عليها من سلطان، فالرَّحماء يُرحمون. فصانع الرحمة للآخرين من أي دين كان، إنما هو صانعها للمسيح: كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). ويوم الدَيْنونَة فقط، سيعرَفُ أن كل إنسان هو أخ ليسوع، وكل عمل محبةٍ أعطي أو رُفضَ لهذا الأخ، أعطي أو رُفض ليسوع نفسه. وإن حبَّ المسيح اللامتناهي للإنسان هي حقيقة مُذهلة لن تبقَ إلى آخر الأيام، بل على العكس، يُظهر قيمتها وأهميتها، لنا ألان حتى نعرفها في وقتٍ لا يُمكنُ فيه العَودة إلى الوراء. دعونا نعيد اكتشاف أعمال الرحمة الجسدية: نُطعم الجائع، نسقي العطشان، نكسو العريان، نستقبل الغريب، نعتني بالمريض، نزور المسجون وندفن الميت. عندئذ يملك الله على قلوبنا وأفكارنا وأجسادنا بإتمامنا بأعمال الرَّحمة فتصبح حياتنا مُلكًا له في الدَّنيا وفي الآخرة، لأننا أحببناه في الآخر، كما هو أحبَّنا وضحى بحياته على الصليب من أجلنا. ومن هذا المنطلق، فإن إنجيله دعوة ملحة إلى مدِّ يد المُساعدة إلى جميع إخوتنا الفقراء المعوزين من أجل المسيح المَلِك، وفي هذا الصدد يقول البابا فرنسيس "كما الآب هو رحيم هكذا نحن أيضًا مدعوون لنكون رحماء مع بعضنا البعض" (يوبيل الرحمة، 2015، 9)، ويقول القديس توما الأكويني "استعمال الرحمة هو من ميزات الله وبهذا الأمر تظهر قدرته بشكل خاص" (الخلاصة اللاهوتية)، لننتظر بكلّ ثقة مجيء الملك الديّان الذي "يَدينُ الدّنيا بِالبِرّ والشُّعوبَ بأمانَتِه"، وبذلك يُفسح لنا المجال للدخول إلى المَلِكوت الأبدي، ملكوت يسوع المسيح ربنا. الدَّعاء أيها الآب السَّماوي، أنت الذي أرسلت لنا ابنك يسوع، ملك الكون، وسيد الأزمان، وديان العَالَمين، لا ليُدينَ العَالَم بل ليُخلِّص به العَالَم، اجعلنا أن نراه في إخوتنا الصغار، من الفقراء والمَساكين والمُشرَّدين والمَرضى والمَنْبوذين والمُهمّشين فنكون رُحماء تُجاههم في شدِّتهم فنستحِقَّ أن نسمع يوم الدَّين تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلِكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم ". فارحمنا أيَّها المسيح، ملكَ المُلوك وربَّ الأرباب الذي صار إنسانا وحلَّ فينا. آمين قصة: الفقراء والأم تريزا سأل أحدهم الأم تيريز دي كالكوتا: "لماذا تقومين بهذه الخدمات للفقراء والمساكين؟" وكانوا يتوقعون إجابتها: أعملهم من أجل الله، أو حبًا بالله. لكنها ابتسمت وقالت: "لأني أحبُّ". " فاستطرد السَّائل قائلاً: لأنك تحبين الله، من أجل الله. فأجابت: لا، " لأن آلامهم تلمس قلبي". فسألها من جديد. ولو لم يكن موجود الله؟ فأجابت، لا أحبهم من أجل الله، أحببت دائما من هو أمامي" وبما أن في الإنسان موجود الله، فأنت تحبُّ الله من خلال حبِّك للإنسان. ثم اختتمت قائلة: "أنا لا أعرف إذا كان أولئك الذِين يقولون إنهم يحبون الله، هم يحبونه حقًا، لكنني أعرف تمامًا أنّ مَن يحب الإنسان فهو يحب الله بالتَّأكيد". |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|