01 - 06 - 2013, 05:50 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
الناموسي «وإذا ناموسي قام يجربه قائلاً يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية» (لو 10 : 25(
مقدمة
لست أظن أننا في حاجة إلى ذلك الخيال البعيد الذي أخذ به بعض المفسرين وهم يجتهدون في تفسير مثل السامري الصالح الذي جاء في حديث المسيح مع الناموسي، فذهبوا المذهب الرمزي الذي كان من أبطاله أوريجانوس : إن الإنسان الذي تعرض له اللصوص في الطريق ما بين أورشليم وأريحا، هو آدم أبو البشر الذي كان في الجنة أورشليم الروحية، ونزل بسقوطه إلى أريحا مدينة اللعنة، وأن اللصوص هم إبليس وملائكته الذي جرحوه وعروه وتركوه بين حي وميت، حي بالجسد وميت بالروح، وأن هذا الجريح التقى بالكاهن واللاوي اللذين يرمزان للشريعة والناموس، ولكنهما لم يستطيعا معونته حتى جاءه السامري الصالح الذي أخذه إلى فندق الذي هو الكنيسة، وترك له دينارين اللذين هما فريضتا المعمودية والعشاء الرباني، إلى أن يعود المسيح مرة أخرى، في مجيئه الثاني العتيد، لسنا نظن أن المسيح قصد بهذا المثل هذه الأبعاد الممتدة، ولكن الواضح الذي لا شبهة فيه، أن الناموسي قصد أن يمتحن المسيح، لعله يصطاده بصورة ما، ولم يدر أنه هو الذي اصطيد على نحو عجيب، لقد خرج به السيد من العقيدة إلى الحياة، ومثل السامري الصالح أعطى أعمق صورتين للعقيدة الصحيحة، والتطبيق الصحيح، ولعله من المناسب أن نتأمل بعد ذلك هذا الناموسي في لقائه بالمسيح من الجوانب التالية :
الناموسي والسؤال العظيم
لا نعلم أسم هذا الرجل، ولكننا نستطيع أن نتعرف على شخصيته من خلال اللقب الذي تسمى به، فهو ناموسي وقد كانت هناك ثلاث كلمات في اللغة اليونانية ترجمت في العهد الجديد «معلم» «كاتب» «ناموسي» وهي على الأغلب لشخص واحد، كان له عمله في أيام المسيح، ولم يكن معروفًا في أيام موسى، ومن المرجح أن هذا النظام بدأ بعزرا الكاتب واستمر طوال العصور اللاحقة حتى أيام المسيح، والناموسي على هذا الأساس هو الرجل الخبير في الشريعة، والذي يستطيع شرح الناموس، وتعليمه، وعلى وجه الخصوص للشباب، وهو الذي يفحص التقاليد المختلفة المتوارثة في تفسير الناموس، وهو الذي يمارس الأحكام القضائية، كقاضي يحكم بين الناس وفق الشريعة والناموس! ومن ثم فنحن أمام رجل بارز المكانة بين الناس، ولعله وهو يضع سؤاله أمام المسيح لم يكن يقصد تجربة المسيح بمعنى محاصرته لاسقاطه في الامتحان، فان التعبير في الأصل اليوناني هو أدنى إلى عجم العود، واختبار القدرة حتى يمكن معرفة مدى فهم المسيحللشريعة واستيعابه لها،
طرح الناموسي أمام المسيح السؤال العظيم الذي يعد من أهم وأعظم الأسئلة التي تخطر على الذهن البشري في مختلف العصور والأجيال : «ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية» ومن اللازم ونحن نناقش هذا السؤال العظيم، وحاجة الإنسان إلى الجواب الصحيح عليه، أن نبدأ أول كل شيء، بمعرفة ان الإحساس العام للإنسان في العالم، هو أنه لا يعيش الحياة في الأرض، بل هو في واقع الأمر يعيش على هامش الحياة ويكفي أن نسأل المفكرين والعلماء والفلاسفة عن الحياة، لقد دعاها مرقس أوريليس معركة، وإدوارد كوك قال إنها فقاعة جوفاء، وروبرت براوننج وصفها بالحلم الفارغ، وجيمس باري أطلق عليها : فنجان شاي، واعتقد روي كامبل أنها ممر مغبر مغلق من الناحيتين، ووصفها وهنلي بالدخان، وجون ماسفيلد بالصراع الطويل في شارع مملوء بالضوضاء، وكريستوفر مدرلي بلعبة الورق بين الإنسان والطبيعة، وعندما هنأ تشارلس إيفانز هيوز رئيس المحكمة العليا في الولايات المتحدة أوليفز هولمز لبلوغه التسعين من عمره بما أسماه الحياة الغنية الكاملة، كتب هولمز بأن الحياة تبدو له كالصورة اليابانية التي لا تحقق آمالها المرجوة، وإذ نصوب سهامنا إلى شبهها، تسقط هذه الشبه محترقة رمادًا على الأرض!!
في الواقع إن أمل الإنسان في الحياة الأبدية، لم يكن الأمل الذي انفرد به الناموسي وحده، بل رأينا أن الشاب الغني - مع ما كان يتمتع به من ميراث يحسده الناس عليها - لم يكن سعيدًا بالحياة، ويعوزه شيء أعمق وأبعد وأعظم، من مظهر الحياة التي كان يعيشها، وجميع من تقلهم هذه الأرض عندما يتعمقون في فهم وجودهم فيما يطلق عليه الحياة لا يجدون أنفسهم أحياء، بل لعلهم يجدون أنفسهم يعيشون، وشتان ما بين المعيشة والحياة، إن الإنسان يعيش في الواقع، «الموت» لا الحياة ومن ثم فهو في لغة الكتاب المقدس «ميت» حتى ولو تحرك وسعى وذهب هنا وهناك، وترددت الأنفاس في صدره، ومارس مظاهر الحياة المختلفة في أعماله وحركاته، إن الحياة الأبدية شيء يبدأ من لمسة الله للإنسان الذي يقيمه من الموت الذي جلبته الخطية عليه، وهي حياة لا تعني الأبدية فيها مجرد الطول، بل العمق والارتفاع والعرض،بكل ما تعنيه لمسة الله لوجوده الخالد الذي جبله عليه، وإلا فهل يمكن أن نعتبرها حياة تلك التي يعيشها سجين محكوم عليه بالسجن المؤبد في زنزانة ضيقة بدون أمل في تحرر أو إفلات، وهل يمكن أن تكون حياة تلك التي يعيشها إنسان مشلول بدون أمل بالانطلاق والحركة، وهل يمكن أن نطلق على ما يعيشه حياة، وهو معذب يتلوى في عذاباته من غير راحة ولو لثانية واحدة من الزمن!! ومع هذا كله، فالحياة حتى ولو تحررت من هذه جميعها، فهي ليست السلبية أو الانعدام، بل هي الإيجابية التي تموج بالقوة والثمرة والاخضرار والبهجة والحركة الدائبة نحو آفاق ممتدة بغير حدود أو سدود أو قيود، ... هن الحياة كما أودع الله الأبدية في قلب الإنسان على قول الجامعة : «قد رأيت الشغل الذي أعطاه الله بني البشر ليشتغلوا به صنع الكل حسنًا في وقته وأيضًا جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله في البداية إلى النهاية» (جا 3 : 10 و11(.
على أنه من الواضح أن الناموسي، كالشاب الغني، كجميع الناس على الأرض، وهم في سبيل البحث عن هذه الحياة، يقعون في الحيرة والتناقض، وعندما يسعون للحصول عليها، أهي شيء يورث؟ أم هي شيء يبذل في سبيله عمل وجهد للوصول إليه؟ فإن الميراث في الواقع ينشأ عن مركز قانوني، وليس عن جهد يبذل أو تعب لابد منه قبل الوصول إلى الحياة، والحياة الطبيعية لكل إنسان لم يتعب صاحبها قط في الوصول إليها، بل جاءت ميراثًا لحياة أخرى، ولذلك فالسؤال : «ماذا أعمل لأرث» فيه الكثير من غموض التعبير أو على الأقل الحيرة في مفهوم الوصول إلى الحياة الأبدية!!
بالإضافة إلى هذا كله، إن الناموسي لم يكن يعلم، وهو يسأل المسيح ممتحنًا، أنه يسأل الشخص الوحيد الذي يملك الإجابة الكاملة لأنه هو وحده الذي به نحيا ونتحرك ونوجد، وهو الذي جاء لتكون لنا حياة وليكون لنا أفضل، وهو نبع الحياة ومصدرها، وسر وجودها!!
وعلى أي حال فإن الناموسي، وهو يضع هذا السؤال أمام المسيح، كان يضع السؤال الذي يعتبر في مقدمة الأسئلة التي يلزم أن يسألها الإنسان في كل جيل وعصر، إذا رام أن يعرف معنى وجوده، وفلسفة حياته، وطعمها، ومذاقها، وغايتها، أو في عبارة أخرى، هذه هي فلسفة الوجود الصحيحة، وليست تلك التي أقعدتها اللا أدارية الملحدة عن العثور على الجواب!!
الناموسي والقراءة الصحيحة
أراد الناموسي أن يدخل المسيح في الأمتحان، ولكن المسيح ببراعة فائقة أدخله هو في الامتحان، ان اسمه مستمد من الناموس،وصلته وثيقة بدراسته، فإذا كان ناموسيًا صحيحًا، فإن أقرب الأفكار إلى ذهنه وقلبه يحب أن تكون مستمدة من الناموس، وقد أجاب المسيح على السؤال بسؤال، وقد كانت هذه عادته في الكثير من الأحيان، وهي درس ينبغي أن نلم به، ونحن في سبيلنا إلى أحكم الإجابات، على وجه الخصوص إذ اتسم السؤال بالتواء القصد أو خبث التفكير، إذ كانت الإجابة المباشرة الصريحة أعلى من مستوى فهم السامع، أو أصعب وقفًا على احساساته ومشاعره، ومما يسترعي أن السيد المسيح لم يسأله «ماذا يقرأ» بل «كيف تقرأ» إذ أن القراءة الصحيحة السليمة الواعية، هي الأساس والمفتاح الصحيح إلى كل نور وفهم!! وقد كان الكثيرون من اليهود يقرأون الكتاب قراءات خاطئة، فهم مثلاً الذين اهتموا على ما يقول ليتفوت بحصر حروفه لكي لا يسقط حرف واحد من هذا الكتاب المقدس، وفي الكتاب ثمانمائة وثمانية وأربعون حاشية لضبط الكلمات، وفي نصف كل عدد علامة، وأعداد الكتاب مجموعة محفوظة، ولا توجد حركة تقتضيها اللغة إلا وهي مثبته فيه، مثل هذه القراءة التي تهتم بالشكل والحرف لا تسطيع أن تصل إلى عمق معانيه وأفكاره، وكان الناموسيون في كثير من الأحايين يصنعونه كواجب ثقيل على الناموس والمجامع لابد من أن يتموا حفظه في أوقات معينة، ... كان مستر هورن - مؤلف «كتاب كل يوم» - في أول حياته كثير الشكوك من جهة الكتاب، وكان مسافرًا في ويلز.. فوقف ذات يوم أمام باب كوخ وطلب قليلاً من الماء، فأجابته من الداخل فتاة صغيرة وقالت : تفضل أدخل فإني أوكد لك أن أبي يعطيك شيئاً من اللبن، تفضل، فدخل وجلس وكانت الفتاة تقرأ في الكتاب المقدس فقال لها : أرى أنك تستذكرين درسك يا فتاة، فأجابته : كلا يا سيدي فاني أقرأ الكتاب المقدس، فقال نعم : أقصد أنك تستذكرين درسك منه!! فأجابته : كلا إن قراءة الكتاب المقدس ليست واجبًا مدرسياً عندي، فأنا أقرأه حبًا جمًا. فسألها : ولماذا تحبينه؟ فأجابت : ظننت أن كل واحد في العالم يحبه!!… قال أحد رجال الله : إن الكتاب المقدس عند الكثيرين من الناس عديم اللذة وعديم الفائدة وذلك لأنهم يقرؤونه بسرعة زائدة وبدون تعمق في الدرس. فهم أشبه بالفراشة المشهورة بجمالها وروعة شكلها، ولكن رحلتها مع الحياة قصيرة، لأنها لا تمتص الرحيق كما تمتصه النحلة الرمادية الأقل جمالاً.. ولكنها لا تكف عن الطيران إلى كل مكان تجد فيه عسلاً أو ما تصنع منه عسلاً، فإذا كان مدخل المكان عميقًا نزلت إلى قاعة، وإذا كان مغلقًا لا ترجععنه حتى تفتحه، وإذا كان العصير جديدًا عليها أو غامضًا بحثت فيه ودرسته درسًا وافيًا حتى تعرف كل شيء عنه، وعندما تتناول من رحيقه الحلو ترجع ممتلئة مبتهجة!! وكل إنسان يمكن أن يكون فراشة أو نحلة بالنسبة لكلمة الله، فيوجد من يمر بالكلمة الإلهية مرور الفراشة ويوجد من يأخذها كما تأخذ النحلة عصارتها، فيستخرج منها المعنى العميق والحق الكبير والدرس الثمين، أو بعبارة أخرى تسكن فيه الكلمة بغنى، وتعينه في ظروف الحياة المختلفة لإدراك الحق الإلهي والتمتع به!!
ومن الثابت أن المسيح لم يوجه الناموسي إلى شيء جديد، يمكن أن يدرك منه الطريق إلى الحياة الأبدية، بل أكد له أن القديم الذي بين يديه يمكن أن يعطيه الجواب الصحيح إذا أراد الحقيقة، فإذا نقلنا هذه الصورة إلى أبعادها الحقيقية، لعرفنا كيف تفعل كلمة الله فعلها الصحيح، لو تنبه إليها الناس أو كما كتب أحد البراهمة إلى مرسل من المرسلين يقول : لقد كشفنا أمركم، إنكم لستم صالحين نظير كتابكم لو أن شعبكم كان في صلاح كتابكم لكسبتم الهند للمسيح في خمس سنوات، ... ومن الواضح أن الناموسي لم يكن يعوزه الفهم أو العقيدة الصحيحة إذ أنه لخص الناموس تلخيصًا دقيقًا في آيتين وردتا في العهد القديم : «فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك» (تث 6 : 5) و«تحب قريبك كنفسك» (لا 19 : 18) وقد ربط الرجل - يدري أو لا يدري - الحياة الأبدية بالحب، وكلما أحببنا الله حبًا صحيحًا حقيقيًا يبلغ الأعماق من القلب والنفس والقدرة والفكر، وصلنا إلى الجذور العميقة للحياة الأبدية، ولأحببنا بعضنا بعضًا كانعكاس للحب الإلهي الذي يملأ قلوبنا!!
الناموسي والتطبيق السليم
من العجيب أن الناموسي لخص الدين في كلمة واحدة هي الحب، وهذا الحب ليس جهدًا بشريًا، ولا يمكن أن يتحقق للإنسان بطبيعته الساقطة، بل لابد له من الولادة الجديدة أو كما يقول الرسول يوحنا : «أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضًا لأن المحبة هي من الله وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة.... أيها الأحباء إن كان الله قد أحبنا هكذا ينبغي لنا أيضًا أن يحب بعضنا بعضاً، الله لم ينظره أحد قط، إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبته وقد تكملت فينا، بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحة» (1يو 4 : 7 و8 و11 و12 و13) فإذا كان من الصعب على الإنسان أن يحدد مدى حبه لله، وعمقه وبعده، فإن برهان هذا الحب، وتجسيده، وقوته تظهر في حبه للآخرين، واهتمامه بهم وحرصه على معونتهم في السراء والضراء كما يقولون، ويبدو أن الناموسي كان سليم العقيدة، مخطئ التطبيق، ومثل هذا الإنسان كثيرًا ما يصطدم بنداء الضمير أو همسة من روح الله الذي يناديه في الأعماق، ولعل توجيه المسيح، أيقظ هذا الإحساس في نفسه، وإذ أراد تجنبه أو مراوغته أو مداورته، سأل المسيح سؤاله الثاني : «ومن هو قريبي» ولم يدر أنه بهذا السؤال فتح أمام الجنس البشري أعظم وأوسع صورة للحياة العملية المسيحية في كل التاريخ في مثل السامري الصالح ولعله من اللازم أن نقف قليلاً من هذا المثل الذي صنف البشر جميعهم أربعة أصناف لا أكثر ولا أقل.
الإنسان الجريح
وهو الشخصية الأولى في المثل : «إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا» وقد حرص السيد ألا يعطينا شيئًا من النور عن شخصية هذا الإنسان : من هو .. وما اسمه.. وما عمله.. وما مركزه، سوى أنه إنسان على صورة الله حتى ولا تتأثر المعاملة الإنسانية بالأوضاع والظروف المدنية أو الاجتماعية التي يكون عليها الفرد، وهذا الجريح هو كل إنسان في فترة أو فترات من الحياة، إذ لا يمكن لأي إنسان أن يدخل إلى الحياة على الأرض دون أن يجرح بصورة ما جسديًا أو أدبيًا أو روحيًا بأية حال من الأحوال، وما أكثر الجراح التي تأتي إلى البشر أفرادًا أو بيوتًا أو جماعات أو أممًا، ومنذ ذلك الوقت الذي انقض فيه قايين على هابيل أخيه وسفك دمه، مازال النزيف الدموي من الإنسان يتدفق كالأنهار دون توقف ولو للحظة واحدة!!
الإنسان اللص
وهذا هو الصنف الثاني من البشر، ومن الواضح في المثل أن المسافر تعرض لمهاجمة اللصوص ربما لأنه تاجر أو يحمل ثروة، وكانت الطريق بين أورشليم وأريحا وعرة مخيفة، وقد لام البعض التاجر لغفلته أو عدم تحرزه في طريق غير مأمونة، وكانت الثروة التي في يده، والبضاعة التي يسافر بها، السبب في الاعتداء الذي وقع عليه، ومع أننا لسنا بصدد مناقشة الجريح أو لومه على ما حدث، إلا أنه ينبغي أن نذكر أن اللصوص يملئون الأرض على الدوام، ويتربصون أفراداً أو جماعات - بالعابرين في الأرض، وهم لا يكتفون بما يأخذونه في الخفاء، بالسرقة ولو في الظلام، بل يتجاوزون الأمر إلى النهب والسلب بالإكراه، وفي العلانية، ... أمسك الاسكندر الأكبر بأحد القراصنة وشرع في محاكمته، وقال القرصان : يا سيدي نحن نعتدي على سفينة ونعتبر لصوصًا، وأنت القرصان الأكبر تعبث في الأرض فسادًا وتدميرًا، ومع ذلك تعظم وتكبر!! في الواقع إن الطريق البشري منكوب دائمًا بالسراق واللصوص، مهما اختلفت درجات النهب والسلب والسرقة، وما تترك وراءها من آثار مؤلمة في حياة الناس والبشر!!
الإنسان المحايد
ومن المؤسف أن المحايد يمثله رجل الدين ومساعده، أي الكاهن واللاوي، وهنا تتعمق الظلال وتبدو داكنة قاسية. والقصة تقول : «فعرض أن كاهنًا نزل في تلك الطريق» (لو 10 : 31) ولعله من اللازم أن نتوقف قليلاً عن الكلمة عرض، إذ أن البعض لا يراها إلا مجرد صدفة.. ولكن هذه الصدفة في الحقيقة لم تكن إلا ترتيبًا إلهيًا دقيقًا لرسالة تقف في طريق حياتنا، ويعتبر الكاهن أو رجل الله هو أول من يحمل رسالة المعونة للآخرين في هذه الأرض، وليس من قبيل الصدفة أن يكون هو أول المارين بالجريح، ويبدو أن أملا كبيرًا راود المنكوب وهو يرى رجل الله يقترب من الطريق، فمن ذا الذي ينتظر أن يمد له يد العون أكثر من الكاهن، لكن الكاهن للأسف لم يكلف نفسه حتى مشقة النظر إليه أو التفكير فيه، ونحن نسأل لماذا فعل هكذا؟! هل لأنه مثل الكثيرين ممن يحاولون فصل الدين العقائدي عن الدين العملي في الحياة، أو ربما لأنه كان مرهقًا متعبًا وقابل بين تعبه وإرهاقه وبين المنظر المؤلم أمامه، وأحس أنه أخذ نصيبه من التعب، وأنه لا يجمل به أن يحمل متاعب أكثر، وهو ذاهب إلى بيته ليستريح، على أي حال لقد كان منظرًا مؤسفًا في كل الأجيال أن يعبر رجل الله دون أن يلتفت إلى آلام الآخرين وجراحهم!! وليس له من عذر مهما كانت الأسباب!! وجاء بعده اللاوي وهو مساعد الكاهن، «جاء ونظر وجاز مقابله» ونلاحظ بأنه لم يتجاهله تمامًا كما فعل الكاهن بل «نظر» وربما سكب بعض الدموع أو رثى لحال الرجل، ومع ذلك لم يفعل شيئًا.. ترى هل التمس لنفسه العذر لأن الكاهن، وهو الأولى بالمسئولية، لم يهتم، ونحن كثيرًا ما نحاول إسكات الضمير بأن الرسالة التي لميؤدها من هو أولى بالأداء، تعفينا من الواجب أو تكلف المشقة في خدمة الآخرين!!
إنسان الرحمة
وإذا كانت القصة قد طرحت ظلالها السوداء على اللصوص أو الكاهن واللاوي، فإنها تلقي أنوارها الباهرة على إنسان الرحمة الذي مد يده إلى التعس الجريح، ومن المناسب أن نلاحظأن هذا الإنسان كان سامريًا، والجريح على الأغلب رجلاً يهوديًا، ومع ذلك فقد تخطى السامري كل حواجز التعصب والحقد والكراهية التي كانت بين الشعبين، ... كان شعار باستير : «لا أعرف من أنت، ومن أي جنس أو لغة أو دين أو معتقد، إنما يكفي أنك إنسان متألم أمامي» ترى ماذا يقول المتعصبون الذين يفرقون بين الناس بسبب لونهم الأبيض أو الأسود أو الأصفر، أو أولئك الذين يفرقون بينهم بسبب الدين أو المعتقد أو الثقافة أو الدم؟ إنهم لم يقرءوا بعد مثل السامري الصالح كما وينبغي أو يلزم، ... تعجب المسافر على الباخرة من أن زميله في الغرفة رفض أن يحضر خدمة الأحد على ظهر السفينة، لأن الواعظ كان من طائفة تختلف عن طائفة هذا الزميل، مع أن الرسالة كانت باسم المسيح الذي التف حوله المجتمعون!! ولكنها الحماقة التي ترفض مجرد الاجتماع في العبادة مع من يختلفون معنا في المذهب!! إن المسيح يعبر هنا كلخلاف أو تعصب، أمام آلام الآخرين واحتياجاتهم!1 على أن السامري لم ير في سوء حالة الرجل، مانعًا من المعونة، ولعله يذكرنا بأن ازدياد الآلام، أدعى إلى الرفق والمساعدة والإحسان، كما أن الظروف الخاصة لا يجوز أن تمنع من تقديم المعونة، فالسامري كان وحيد ًا في طريقه ومسافرًا وقد يتعرض مثل الجريح لخطر اللصوص، ولكنه تجاوز كل الموانع على الصورة النبيلة الكريمة التي حدثنا عنها السيد المسيح!!
ترى هل نتوقف هنا أم نمتد أكثر لنسأل هل مثل السامري الصالح مجرد مثل وضعه السيد المسيح، ليكشف عن أوضاع الناس في حياتهم على هذه الأرض!! أم هو قصة واقعية أخذ منها المسيح الصورة التي قصد أن يضعها أمام الناموس جواب على سؤاله من هو قريبي!!؟ لا نعرف!! لكن الذي لا شبهة فيه، أنه هو بحبه وإحسانه وجلاله وصليبه كان القصة الصحيحة الحقيقية التي مرت بنا في الطريق الإنساني المنكوب، ليأخذنا بجراحنا القاسية، إلى حيث السلامة والأمان والصحة والسلام!! وهو مازال إلى اليوم يعلم كل تلميذ وتابع وخادم له أن يجد في كل إنسان آخر على ظهر الأرض أخاً يلزم إسعافه ومعاونته!!
كان الغلام في ضجعة الموت، وكان الطبيب يعوده في كوخه الصغير، وسمع أحد رجال الله عن آلام الصبي ومرضه الميئوس منه، ورغم مشاغله الكثيرة، وضع في قلبه أن يزوره يوميًا، وكان يرسم له رسومات مختلفة، وهو جالس إلى جواره، وكان الولد يسر أبلغ السرور، وينتظر زيارة هذا الصديق الذي يؤنسه ويرسم له، وسأله من أنت!!؟ وقال الزائر : أنا قريبك!! وامتلأت غرفة الصبي بالرسومات الجميلة، والتي كانت تخفف من آلام علته كلما نظر إليها حتى فاضت روحه!! وعاشت هذه الصور تعطي الجواب لأسرة الغلام عمن هو قريبي!! ليت أنظارنا تتسع وتبلغ هذه الرؤيا العظيمة البعيدة، فتعرف من أي صنف ينبغي أن نكون ونحن نقف من آلام الآخرين وأحزانهم مآسيهم ومتاعبهم في هذا الوادي التعس وادي الدموع!!
|