لكل كائن رسالة وعمل
الذي يحيا بلا رسالة، لا قيمة لحياته.
قيمة حياة الإنسان، تنبع من قيمة الرسالة التي يقوم بها. إن كان بلا رسالة، يموت فتنتهي حياته. ولكهن تبقى حياة أصحاب الرسالات، حتى بعد موتهم.
الذي بلا رسالة، لا يشعر بقيمة للوقت، فيبحث عن طريقة يقضي بها وقته، أو يقتل بها وقته! وما أكثر ما يحاربه السأم والملل والضجر، وربما القلق واليأس. لأن الحياة بلا رسالة لا طعم لها. يحاول أن يجد لها طعمًا باللذة واللهو، وهذا أيضًا لا يكفي، وربما لا يجده!
الإنسان الذي بلا رسالة، يتمركز حول ذاته، ولكن تبدأ رسالته حينما يهتم بالآخرين، ويعمل خيرًا لغيره..
الكل له رسالة، حتى الملائكة، والطبيعة الجامدة.
الملائكة لهم رسالة حب، نحو الله والناس: نحو الله في التسبيح، ونحو الناس في الخدمة "أليسوا جميعًا أرواحًا خادمة، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب14:1).
والشياطين أيضًا لهن رسالة يعملون لها، ويتعبون لأجلها. ولكنها رسالة هدامة ضد مشيئة الله، وضد الحب والنقاوة.
وقد جعل الله رسالة، حتى لأولاد صغار، استخدمهم الرب لتنفيذ مشيئته، مثل صموئيل، وداود، وإرمياء..
والطبيعة لها رسالة، الشمس والقمر والنجوم تؤدي رسالة جوهرية لإنارة الكون، والهواء له رسالة، وكذلك الرياح والأمطار. والأرض ذاتها، التي نفلحها، أو نبني عليها.. وباطن الأرض له رسالة.
لو لم تكن هناك رسالة لكل هذه، ما خلقها الله.
فالله لا يخلق شيئًا عبثًا، بدون رسالة وفائدة..
حياتك لها رسالة، وستؤدي حسابًا على هذه الحياة. وكذلك كل مواهبك وزنات، لها رسالة ولها حساب..
كلما كانت مواهب أكثر، كلما اتسع نطاق رسالتك:
سواء كانت هذه المواهب ذكاء وعقلًا، أو فكرًا، أو خيالًا، أو فنًا، رسمًا أو شعرًا، أو أية قدرات أخرى، تستطيع أن تضمها جميعًا في يدي الله، وتؤدي بها رسالة لخير العالم والمجتمع الذي تعيش فيه..
والإنسان قد تكون له رسالة محددة. أو متسعة..
الرسالة المحددة قد يحددها نطاق مهنة، أو نطاق مجتمع ضيق، أو مكان محدود، أو زمن محدود.
كأن يقول إنسان: رسالتي هي الطب، أعالج أمراض الناس في قرية معينة، طوال حياتي على الأرض، أو في فترات عملي..
إنها رسالة محددة، ومثلها أية مهنة أخرى، تؤدي خيرًا، ولكنه خير في نطاق محدد، وينتهي..
ومثله أيضًا أية خدمة إجتماعية، على نطاق الأسرة، أو في محيط العمل، أو في مجتمع محدود..
وهناك أشخاص يسيئون فهم رسالتهم في الحياة:
كالأم التي تظن أن كل مهمتها، هي الإهتمام بطعام إبنها، وملبسه، وصحته، وتعليمه، ورفاهيته.. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ولا شيء غير ذلك. كأن روحيات الإبن لا وزن لها في رسالة هذه الأم! وكأن مصيره الأبدي لا يستحق أن يكون رسالة في حد ذاته!..
ونفس الكلام نقوله عن الأب الذي يشعر أن رسالته نحو أبنائه قد إنتهت على خير وجه، حينما يتوظف أولاده، وتتزوج بناته!! أم المصير الأبدي فليس رسالته!
والبعض للأسف الشديد، قد تكون له رسالة محطمة.
كبعض الذين يرون رسالتهم في منح اللذة للناس، وقد تكون لذة خاطئة، أو مجرد الترفيه عنهم، وقد يكون مضيعة لوقتهم إن زاد عن حده، أو متلفًا إن فسدت وسيلته. وقد يرى أحد أن رسالته هي نوع من الفن ربما يكون فنًا رخيصًا ضالًا.
ولكن هناك رسالات أخرى من الله، رسالات مقدسة.. الله يختار لها من أبنائه من يراهم صالحين لذلك..
قد قال الرسول "الذي سبق فعرفهم، سبق فيعنهم" (رو29:8). ولعلك تقول: ما ذنبي أنا، إذا كان الله لم يخترني لرسالة هامة؟ أقول لك: لو كانت لك صلاحية لها لأختارك الله بلا شك..
حقًا إن الفخاري حر في أن يجعل أنية للكرامة، وأخرى للهوان (رو9)، ولكنه حسب نوعية الطينة التي تقع في يده، يشكلها. إن وجدها طينة ناعمة جيدة تصلح أنية للكرامة، يجعلها كذلك. وإن وجدها طينة رديئة لا تصلح للكرامة. تصير أنية للهوان..
والله له أسلوبه في إعداد أصحاب الرسالات:
لقد أعد رسله بالتلمذة على يديه مدى سنوات طويلة، ثم أعدهم بالتدريب العملي حينما أرسلهم إثنين إثنين، وصحح لهم أخطاءهم (مت10، لو10). وأعدهم أيضًا بقوة الروح القدس، وقال لهم "لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وحينئذ تكونون لي شهودًا" (أع8:1).
ويوسف الصديق، الإبن المدلل لأبيه، صاحب القميص الملون وصاحب الأحلام، أعده الرب بالضيق وبالتجارب.
ما كان ممكنًا ليوسف المدلل أن يصلح لرسالته الكبيرة، لذلك سمح الله له أن يلقي في البئر، وأن يخونه أخوته ويتآمروا عليه، ويباع كعبد. وسمح أن يتهم ظلمًا من امرأة فوطيفار، وأن يلقى في السجن. كل ذلك لإعداده للرسالة..
وموسى الذي تربى في قصر فرعون، في جو السلطة.
أعده الرب لاحتمال شعب صلب الرقبة، ينقله من الإمارة إلى الرعي، من حياة القصر إلى البرية، في الإشفاق على الغنم، حتى يشفق على الشعب العاصي..
وهكذا كان الله بأنواع وطرق شتى يعد أولاده للرسالات:
وكثيرًا ما كان يستخدم أسلوب التشجيع كما فعل مع موسى، والوعود كما فعل مع يشوع وإرمياء..
في كل ما يحيط بك من ضيقات وأحداث، أعلم أن الله يعدك للقيام برسالتك، إن عرفت كيف تستخدم الضيقات لخيرك، لا للتذمر والشكوى.
لقد أعد إبراهيم في حياة الغربة، وأعد يونان بالعواصف والأمواج وبطن الحوت، وأعد بطرس باختبار الضعف البشري حتى لا يظن أنه أفضل من باقي التلاميذ..
بل إن إعداد أصحاب الرسالات الكبيرة، يسبق أحيانًا ولادتهم: إرميا النبي، قال له الرب "قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب" (أر5:1). ويوحنا المعمدان: من بطن أمه إمتلأ من الروح القدس (لو15:1) وبولس الرسول يقول عن نفسه "لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي، ودعاني بنعمته.." (غل15:1).
والرسالات عند الله تتنوع، ويختار لها أشخاصًا أكفاء..
إن توبيخ آخاب الملك الفاسد، والتخلص من كل أنبياء البعل، رسالة تحتاج إلى نبي شديد مثل إيليا، يقول بضمير مستريح "لتنزل نار من السماء وتحرق الخمسين" (2مل10:1، 12).
وقيادة شعب معاند مقاوم رسالة صعبة، تحتاج إلى الرجل موسى الذي "كان حليمًا جدًا، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عدد 3:12).
وقد يختار الله من لا مواهب لهم، ثم يهبهم بنعمته كل ما تحتاج إليه الخدمة من مقدرات..
قد يتختار جهال العالم، ويخزي بهم الحكماء. ويختار ضعفاء العالم، ويخزي بهم الأقوياء (1كو27:1، 28)، ويختار أواني خزفية ضعيفة لتحمل رسالته، حتى يكون فضل القوة لله وليس لنا كما قال الرسول (2كو7:4).
إن الرسالات في الدنيا عديدة، ولكن أعظمها هو العمل على خلاص الناس، وحفظ أبديتهم من الهلاك.
والذي يعملون في هذا الميدان، "يضيئون كالجلد، وكالكواكب إلى أبد الدهور" (دا3:12). وقد قال يعقوب الرسول "من رد خاطئًا عن طريق ضلاله، ينقذ نفسًا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا" (يع20:5).
ما أعظم إنقاذ نفس من الموت: فكم بالأولى إن كانت الرسالة هي إنقاذ نفوس عديدة..
والذي يعلمون في هذا المجال، إنما يعملون مع الله. كما قال بولس الرسول عن نفسه وعن سيلا "فإننا نحن عاملان مع الله" (1كو9:3). وقال في موضع آخر "كأن الله يعظ بنا" (2كو20:5).. حقًا إنها شركة مع الروح القدس في العمل. وهذه الشركة تعطي هذه الرسالة أهمية وخطورة..
النفوس التي تعمل في هذا المجال، هي بلا شك نفوس كبيرة: إن يوحنا المعمدان، أعد الطريق امام المسيح، في أقل من سنة واحدة. لقد بدأ عمله وهو في سن الثلاثين، وبعد ستة أشهر بدأ المسيح عمله. وكانت معمودية التوبة قد إكتسحت الكل. وفي شهور أعد يوحنا الطريق.
والرسل الإثنى عشر في سنوات قليلة، أوصلوا الكرازة بالإنجيل إلى أقصى الأرض، وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم (مز4:19). وكانت كلمة الرب تنمو وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا، وجماهير تنضم إلى الإيمان (أع7:6)، وقد "أتى ملكوت الله بقوة.." (مر1:9).
إن أصحاب الرسالات الكبيرة، أشخاص جادون في عملهم.. حياتهم دسمة، كشجرة ضخمة محملة بالثمار..
تذكرني بقول القديس الأنبا أنطونيوس عن القديس الأنبا مقاريوس "إن قوة عظيمة تخرج من هاتين اليدين"..
إن حياة أصحاب الرسالات، لم تقتصر على جيلهم.
لقد عبروا الزمان، فلم يستفد جيلهم فقط من رسالتهم، بل كل الأجيال، وكان لرسالتهم إمتداد حتى بعد موتهم أيضًا، واستمر عملهم.. قديسون كثيرون، حتى بعد موتهم كلفهم الله برسالة.