![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الحياة أُظهرت ![]() من وحي القيامة.. كان من المألوف أن نرى يسوع سائراً في الطرقات، من مدينة إلى مدينة، يحيط به تلاميذ، وجمع من أفراد الشعب. كان يجول يصنع خيراً، ويلقي تعاليمه الإلهية المثرة على الجموع. وفي صباح أحد الأيام قال لتلاميذه: لنعبر إلى نايين وهمَّ الجميع بالصعود قاصدين المدينة. كانت نايين مدينة جميلة تقع على بعد ستة أميال جنوب شرقي الناصرة على الحافة الشمالية لجل حرمون الصغير. وكانت هذه المدينة تتميز بطراز معماري خاص: فالمنزل أشبه بالقصور ذات شرفات تطل على حدائق عنّاء، تمتلئ بأشجار الكروم المتسلقة على الجدارن وأشجار التين والزيتون. والمنازل ذات طلاء أبيض ثلجي، وأسطحها جمالونية الشكل مكسوة بالقرميد الأحمر الجميل. وكانت طرقات المدينة مستقيمة يتوسطها ميدان متسع به نافورات ذات أعمدة رخامية تتدفق فيها المياه الصافية التي تنحدر في قنوات ضيقة من قمة جبل حرمون المعطى بالجليد طوال العام. ويحيط بالمدينة سور مبني من الحجارة الجيرية البيضاء. كانت نايين جدير بأن تسمى المدينة البيضاء.. بدت المدينة البديعة من بعيد وهم يصعدون ويتطلعون إليها في شغف. قال التلاميذ في دهشة: ما أجمل المدينة.. فردوس على الأرض هي! ونظر إليهم يسوع وعلّق قائلاً: فردوس بالحق هي.. وأضاف في أسى: لكنها بغتتها ظلمة الموت! واستمر يسوع في سيره قاصداً المدينة يتبعه التلاميذ، وهم يتعجبون لكلماته. وأخيراً دلف يسوع وتلاميذه والجمع من باب المدينة الخشبي الكبير المزين بنقوش محفورة تمثل نجمة داود، وسنابل القمح وأغصان الزيتون الدقيقة. وبوغت الزائرون بموكب مثير! سكان المدينة خرجوا عن بكرة أبيهم وهم يحملون نعشاً لإنسان مات تواً ليشيعوه إلى مثواه الأخير وهم يبكون ويولولون، والمزمرين يتبعونهم وهم ينشدون أناشيد الحزن. ويتقدم الموكب امرأة تنتحب بصوت بح من كثرة النواح، وهي تتهافت على النعش لكأنما جزء من كيانها قد انتزع منها ووضع داخل الصندوق الخشبي، وهي تنوح قائلة : ولدي.. ولدي.. أهكذا يا بتوئيل كنسمة تزول .. كبخار تضمحل.. كنت كبرعم جديد يتفتح.. أهكذا تذبل.. بهذه السرعة! ثم تدنو إلى النعش، تريد أن تكشف وجه ابنها المسجى، والرجال يمنعونها، وهم يبكون لبكائها، ويشاركونها حزنها الأليم.. يبدو أنها امرأة محبوبة وصاحبة فضل على الجميع. وتقدم الموكب الحزين مقتربا للخروج من نفس باب المدينة الذي دخل منه يسوع، ليتمموا مراسم الدفن في القبور التي تقع خارج المدينة بحسب التقليد المتبع، بينما ظل يسوع يتأمل ويهمس في أسى: نايين..! وأضاف بنفس الأسى هامساً: أصيب بالقبح.. لقد بعته الموت..! ظل برهة يتطلع إلى الموكب الحزين الذي يتحرك في بطء، والمرأة الباكية والجمع الذي يشاركها النحيب، وهم ينظرون إليها في أسى عظيم.. نظر التلاميذ في دهشة إلى معلمهم، وهم يتساءلون في صمت، بينما قال السيد: ها هي مخالب الموت تختطف وحيد الأرملة .. لتلوذ به إلى الجحيم! وأضاف: البشرية تستنزف من العدو..! ونظر يسوع إلى بعيد .. بعيد كما إلى الصليب، وقال: حقاً.. إن أجرة الخطية هي موت..! كل هذا بينما الموكب الحزين يسترسل في تقدمه إلى النهاية المحتومة والمشيعون ينتحبون لنحيب الأرملة الثكلى التي فقدت وحيدها الحبيب بتوئيل بعد فقد رجلها، قال يسوع: المدينة المضيئة بغتتها ظلمة حالكة! والفردوس الجميل الذي كان يرفل بالحياة ساد عليه الموت ! وهمس في عمق وهو يزفر زفرة طويلة: واأسافاه! وأضاف: ما أشبه المدينة الجميلة بالعالم الذي خلق جميلاً.. ثم علق قائلاً: الخطيئة شوهت كل ما هو جميل.. بل واغتالت الحياة! كان التلاميذ ينظرون إلى المعلم في دهش.. لماذا يقف هكذا متأملاً؟ وينتظرون ماذا سيفعل.. عجباً إنه في غاية الإنفعال بالروح.. قال بطرس وهو يسكب همسه في أذن يوحنا الواقف بجانبه: المعلم سيفعل شيئاً رهيباً ! ونظر يوحنا إلى وجه يسوع المتوهج بالحب دون أن يتكلم ! وأخيراً تقدم المعلم بثبات وسرعة كأنه لمح البصر، حتى ظانه سبق الرجال الأشداء الذين يحملون النعش، واستدار ليعترض النعش المتقدم بإصرار إلى باب المدينة، ثم مد يديه ، ولمس النعش.. فقط لَمَسَه ! فتوقف الموكب بعنف فجأة حتى زج الناس بعئهم بعضاً!.. لكأنما قوة خرجت منه فأوقفت الجميع.. فنظروا في دهشة شديدة إلى وجه المعلم الممتلئ بكل علامات الحياة.. ويا للعجب، فقد مد يسوع يده فرفع الغطاء الذي يحجب النور عن وجه الشاب، فظهر وجه الميت.. نظر إليه يسوع بتأثر: شاب في مقتبل العمر، قد أطفأ الموت ما فيه من جمال. بوغتت الأم الثكلى بهذا العمل المدهش، فأسرعت إلى النعش تمطر ولدها دموعاً وقبلات، وهي تقول في نحيب مهول: أخذك الموت يا ولدي.. فليواروني معك إلى التراب يا من تحبه نفسي.. فأستريح من آلام الثكل .. وآلام الترمل.. نظر إليها يسوع، فرأى الإنسانية المعذبة، ومشاعر الأمومة المتأججة تتحطم على صخرة الموت القاسية .. كانت تنتحب بلا امل، ولا تجد من يضمد جراحاتها أو يجفف دموعها.. وا أسفاه البشرية كلها سقطت في هوة الموت، وظلمته اكتنفت حياة الجميع، الشيطان ينطلق معربداً، ينشب مخالب الموت في صدر الحياة.. التفت يسوع إلى المرأة .. قال: لا تبكي.. يا امرأة كانت كلمته في قوتها، كافية لكي تبعث الأمل والرجاء في قلوب الجميع فصاحوا لكأنما هم في صلاة جماعية مرفوعة إ‘لى السماء قائلين: افعل شيئاً يبهجنا ! فأجاب يسوع: "أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا". فقالوا بفم واحد: نؤمن.. كان هو الحياة .. يقف في مواجهة الموت .. وكان الموت يبهت، ويتلاشى ويضمحل، بينما الحياة في وجه يسوع تلمع وتتوهج لتهيمن على كل شئ في هذا الوجود ! وبوغت الجميع بصوت يسوع يحطم الصمت الرهيب، صمت الموت. حين قال موجهاً نداءه إلى الشاب الميت: - أيها الشاب.. لك أقول قم كان صوته العميق هو صوت السماء الرحبة الرحيمة يحتضن الأرض وكل من عليها، صوت الحياة الذي يدوي في الكون، يبدد سطوة الموت، لكأنما النور الكوني يشمل كل ذرة في الأرض التي أظلمت فيحيلها نوراً، ويبث في ترابها المائت مقومات الحياة من جديد.. وعلى الفور اشتعل وجه الشاب الذي كانت تنتابه صفرة الموت اشتعل بالحياة، فأصبح كشعلة من النور أُشعلت من فوق، فور أن نطق يسوع بكلمات الحياة: لك أقول قم.. بدأ الشاب يتحرك ويجلس.. بدا جميلاً ليس فيه عيب البتة لكأنما هو آدم الأول وقد عاد إلى فردوس النعيم ! أقامه يسوع، وفك رباطاته، ثم دفعه إلى أمه التي احتضنت ولدها قائلة: ولدي.. ولدي عاش من جديد ! وأضافت، ونحيبها يتحول رويداً رويداً إلى نغمات الفرح: وا فرحتاه.. بتوئيل عاد إلى الحياة ! ثم جاءت وانطرحت عند قدمي يسوع تمطرهما قبلاً، وتفرقهما بدموع.. هي دموع جديدة .. بينما أقامها يسوع، هو يوجه حديثه للشاب العائد إلى الحياة قائلاً: عش حياتك الجديدة للرب.. أيها الشاب. ومضى يسوع ليكمل مسيرة الخلاص، وإعادة الحياة إلى الجسد البشري من جديد، ولحق به تلاميذه بينما قالت الجموع: "قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه" وهكذا عادت الحياة من جديد إلى نايين.. عادت تصدح فيها موسيقى الفرح.. فرح جديد ليس كأفراح الأرض الأولى.. لكنه فرح له مذاقة الروح المتهلل.. فرح الارتباط بالسماء. القمص جرجس توفيق أنيس |
|