![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
+ يوئيل + غارات الجراد ![]() افتتح النبي السفر بقوله: "قول الرب الذي صار إلى يوئيل بن فثوئيل" [1]. فإن كانت كلمة "فثوئيل" في العبرية تعنى "فتح الله"، فانه قد أنجب "يوئيل" الذي يعنى: "يهوه هو الله". وكأنه إذ يفتح الله بصيرتنا الداخلية يعلن ذاته لنا. إنه يهوه! إى "هو الكائن"! الله هو الكائن الذي بجواره يصير الكل كأنهم غير كائنين. ففي أول لقاء لله مع أول قائد للشعب، قال له: "هكذا تقول لبنى إسرائيل: يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلنى إليكم. هذا اسمى إلى الأبد. وهذا ذكرى إلى دور فدور" (خر 3: 15). وكما يقول فيلون اليهودى الاسكندرى معلقًا على قول الله لموسى: [أخبرهم أولاً أنيّ أنا هو الكائن حتى تعرفوا الفارق بين من هو كائن وما هو ليس بموجود[8]]. ليكن في داخلنا فثوئيل، أي ليفتح الله بصيرتنا فندرك أسراره. فنتجه إليه ونوجد معه بكونه الكائن السرمدي. ولا نعطيه القفا لئلا نعود إلى العدم، إذ يقول القديس أغسطينوس: [من يأخذ الاتجاه المضاد لله إنما يسير إلى العدم[9]]. بعد هذه المقدمة المختصرة للغاية حدثهم عن غارات الجراد، قائلاً: اسمعوا هذا أيها الشيوخ. واصغوا يا جميع سكان الأرض. هل حدث هذا في أيامكم، أو في أيام آبائكم؟! اخبروا بنيكم عنه، وبنوكم بنيهم. وبنوهم دورًا (جيلاً) آخر. فضلة القمص أكلها الزحاف. وفضلة الزحاف أكلها الغوغاء. وفضلة الغوغاء أكلها الطيار. [2-4] إن كان النبي يطلب من الشيوخ أن يسمعوا لقول الرب، فإنه يسأل جميع سكان الأرض أن يصغوا، فإن الله يود أن يتحدث مع كل البشر بلا محاباة!! إن كان الله يتحدث بلغة أو أخرى فإنه يطلب أن يلتقى مع كل إنسان ليعلن عن معاملات حبه له. هذا ويطلب النبي منهم أن يخبروا بنيهم بالأمر، أي بصوت الرب ومعاملاته. لكى يقدموا خبرة حياة للجيل القادم، وهكذا كل جيل يسلم غيره ما قد تسلمه. هذا هو "التسليم" أو "التقليد" الذي هو في جوهره "معاملات الله مع بنى البشر". لهذا يقول الرسول بولس: "ما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا" (في 4: 9). ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يكفينا للبرهنة على عبادتنا ذلك التقليد (التسليم) المنحدر إلينا من الآباء بكونه الميراث الذي تناقلناه بالتتابع منذ الرسل خلال القديسين الذين تبعوهم[10]]... فكل جيل ملتزم بتسليم الجيل الجديد إنجيل الرب كسرّ حياة عملية خلال العقيدة السليمة والعبادة الحيّة والسلوك الروحي. أما بخصوص غارات الجراد المذكورة هنا فقد رأى غالبية الدارسين أنها حملات حقيقية شاهدها النبي بينما ظن البعض أنها مجرد تعبير رؤيوى يكشف عما يتحقق فيما بعد، خاصة في الأزمنة الأخيرة... القمص هو الجراد عندما يخرج من بيضه عاجزًا عن الحركة. والزحاف هو الجراد عندما يبدأ في الحركة فيزحف أو يمشى. والغوغاء عندما ينبت له جناحان صغيران. والطيار ينطلق ليطير في الجو. يرى كثير من علماء اليهود حتى أيام القديس جيروم أن هذه الغارات الأربع تُشير إلى أربع حملات قام بها سنحاريب ملك أشور ضد يهوذا (إش 1 ذ: 36)، أو إلى أربع ممالك سادت إسرائيل ويهوذا وهي: أشور وبابل؛ مادى وفارس؛ والمقدونيون؛ الرومان؛ أو: مصر وأشور وبابل واليونان... على أي الأحوال قبلت الكنيسة الأولى الفكر الرمزى لهذه الحملات دون إنكار حدوثها. ويلاحظ في هذه الحملات الأربع (القمص. الزحاف. الغوغاء. الطيار) الآتى: أولاً: نحن نعلم أن رقم 4 يُشير إلى العالم بجهاته الأربع: الشرق والغرب والشمال والجنوب. وإلى الجسد المأخوذ من الأرض أي من العالم. وكأن هذه الغارات تمثل حرب محبة العالم ضد المؤمن، وهجوم شهوات الجسد ضد الروح. فإذ يسقط الإنسان تحت الخطية، يسمح الله له بالتأديب خلال خطيته، إذ تحمل الخطية في ذاتها فسادها ومرارتها. فالمؤمن الذي ينحرف نحو محبة العالم وشهوات الجسد، يسمح الله أن يتركه إلى حين لهجمات محبة العالم وشهوات الجسد، ليدرك المؤمن أن الخطية تحمل في داخلها فسادها، فيتأدب بذات الخطأ الذي ارتكبه. هذا ما يؤكده لنا الله باستمرار: أن ما يحل بنا من تأديب هو ثمرة طبيعية لعمل ارتكبناه، فيقول: "أما صنعتِ هذا بنفسك؟!" (إر 2: 17). "طريقكِ وأعمالكِ صنعت هذه لكِ، هذا شركِ فإنه مرّ، فإنه قد بلغ قلبك" (إر 4: 18). فإذ يترك الإنسان الله الحق ويرتبط بمحبة العالم الباطل وشهوات الجسد الوقتية لا يتوقع إلاَّ أن يصير هو نفسه باطلاً، يفقد كل ما هو حق. لقد أحب يهوذا العالم لا الله، شهوات الجسد لا الروح، لهذا صار أرضًا لا سماءً، وجسدًا بلا روح. من محبة الله لنا إذ نقبل بإرادتنا أن نصير أرضًا لا سماءً، يسمح بكوارث زمنية أرضية عنيفة من براكين وزلازل وفيضانات وسيول وعواصف وأوبئة وقحط غارات الجراد والخسائر المادية تهز أرضنا، فنتركها هاربين إلى الله الذي وحده يجدد أرضنا ويجعلها سماءً له!! إن كانت أرضنا، أى جسدنا، قد أثمر من ذاته شهوات جسدية، يسمح الله فيرسل غارات الجراد كثمر طبيعي لخطايانا يحطم ما ظنناه ثمرًا مفرحًا. فنهرب إلى الله الذي وحده يقدر أن يقدسنا. يجردنا من أعمالنا الذاتية الشريرة، لا ليحطمنا، وإنما ليحطم ما قد سكن فينا من شر واحتل مركز قلبنا. يطرد الشر ليملك هو فينا، واهبًا إيانا بروحه القدوس ثمرًا جديدًا يليق بالإنسان الجديد. لهذا، فلا عجب إن بدأ السفر بغزوات الجراد ليعلن غزو الروح القدس لقلوبنا (2: 28-32)، إذ نفقد ثمر الإنسان القديم وأعماله الميتة وننعم بثمر الإنسان الجديد على مستوى إلهي فائق!! لتسمح يارب بتأديباتك ليّ مهما كانت مرارتها، فإننى إذ أتلمس خلالها مرارة خطاياي، تتعلق نفسي بعمل روحك القدوس واهب الحياة الساكن فيّ!! لقد أوضح الله لسليمان الحكيم غاية التأديب بغارات الجراد، قائلاً: "إن أمرت الجراد أن يأكل الأرض، وإن أرسلت وبأ على شعبي، فإذا تواضع شعبي الذي دُعىِ اسمي عليهم وصلوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الردية، فإنني أسمع من السماء، وأغفر خطيتهم، وأبرىء أرضهم" (2 أي 7: 13-14). إنه يسمح بالجراد لا لهدمنا، بل لهدم شرنا، لطلب وجهه والتجاوب مع روحه القدوس الساكن فينا، فننال غفران الخطايا. لكن للأسف كثيرًا ما يعاند الإنسان نفسه كما فعل بنو إسرائيل إذ يوبخهم، قائلاً: "كثيرًا ما أكل القمص جناتكم وكرومكم وتينكم وزيتونكم فلم ترجعوا" (عا 4: 9). ثانيًا: يبدأ الله في تأديبه للإنسان بالسماح لغارة القمص الصغير أن تهاجمنا. فإن لم نرجع إليه يسمح بالزحاف، وإن لم نتب فالغوغاء ثم الطيار، وإذ لا نقبل تأديباته هذه كلها يسمح بغزو الأعداء. وأخيرًا يأتى يوم الرب ظلامًا قاتمًا لمن لم يقبل كل أنواع التأديبات. إنه يتدرج معنا في تأديباته حتى متى خضعنا له يترفق بنا. ثالثًا: لعل هذه المرحلة من الجراد: القمص والزحاف والغوغاء والطيار، تُشير إلى حرب الخطيئة ضدنا وغزوها للقلب. تبدأ بالقمص الصغير جدًا، الذي يتسلل إلى القلب أو الفكر أو الحواس خفية كالثعالب الصغيرة المفسدة للكروم (نش 2: 15)، هذه التي يُستهين بها الإنسان فتملك على القلب وتفسده. وإذ يقوم القمص بدوره الخفي ينفتح الباب للزحاف حيث تزحف إلينا خطايا أخرى، فتسلمنا خطية إلى خطية، ونصبح ألعوبة في أيديهم. وإذ يسحبنا الزحاف إلى خطايا جديدة لم نكن نظن أننا نسقط فيها يتجرأ العدو علينا فتتسرب خطايا أبشع وأمر تمثل الخطايا في أبشع صورها أي الطيار، هذه التي تنطلق بنا إلى أعماق الهاوية، هذه التي وصفها سفر الرؤيا (9: 1-12) أنها خارجة من بئر أعماق الهاوية، مفسدة لنور الشمس تلدغ كالعقرب وصوت كصوت مركبات خيل كثيرة تجري إلى قتال. بمعنى آخر كل تهاون يسحبنا إلى مرحلة أخطر حتى يستسلم الإنسان لجراد الهاوية المهلك. يقول القديس مرقس الناسك: [يقدم لنا الشيطان خطايا صغيرة تبدو كأنها تافهة في أعيننا، لأنه بغير هذا لا يقدر أن يقودنا إلى الخطايا العظيمة[11]]. |
![]() |
|