![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
من تعاليم القديس برصنوفيوس
ليكن الأخُ الذي يقيمُ معك مثلَ ابنٍ وتلميذٍ، وإن هو أخطأ وأفسدَ شيئاً فعظه واكشف له خطأه لكي ما يرجع عنه، وإن هو كتجربةٍ نيَّح آخرَ أكثرَ منك، فلا تحزن، فلعل الله أراد ذلك. فاصطبر لكلِّ محنةٍ لأنه بالصبرِ على الأحزانِ نقتني أنفسَنا، وبالأحزانِ نشارك يسوعَ في أوجاعهِ، وإذا شاركناه في أوجاعهِ، فإننا نشاركه في مجدِه. كذلك عظ ابنَك بخوفِ الله، صافحاً عن خطايا أخيك، ألا تعلم أنه إنسانٌ تحت التجارب، والله يعطيكما طقسَ السلامةِ بخوفهِ. اعلم أن الشيطان يريدُ أن يبلبلك بالغضبِ بسببِ الأخِ الذي معك قائلاً لك: «إذا كلَّمتَه مرةً ومرتين فاتركه يعمل حسبَ هواه وكن بلا همٍ كما قال الآباء». فاعلم أن هذا الفكرَ ليس بحسبِ مشيئةِ الله، لأن ما تجمعه وتستزيده في أيامٍ كثيرةٍ، تفرغ الكيسُ منه في لحظةٍ واحدةٍ فتبقى مفلساً. أما طولُ الروحِ الذي بحسب مشيئةِ الله، فهو بالصبرِ إلى التمامِ بدون قلقٍ، وأما طولُ الروحِ الكاذب الذي أصابك من خداعِ الشيطانِ، الذي يولِّد للأخِ سجساً وغضباً، فإنه يصيب قليلي الرأي. وهذا ما أقوله لك، فإذا علمتَ أنك مع تلميذِك مثلُ الأبِ مع ابنِه، فبدلاً من أن تلكز نيَّة الأخِ دفعةً واحدةً كلَّ يومٍ وتُعرِّفه خطأه كما هو واجبٌ عليك، نراك وقد صيَّرته بسكوتِك لا يعلم غَلَطَه، وبعد أن تطيلَ روحَك عليه أياماً كثيرةً، إذا بك تلكزه لكزةً واحدةً في موضعٍ يصيبُ منه مقتلاً، فتنزع روحَه منه. فاعلم يا أخي أنك مخدوعٌ، إذ تقول إن خطايا الأخ كائنةٌ حقاً، فقل لي: إذا كنتَ تعلم باستقصاءٍ أن خطاياه حقٌ، فهل وصفتَ له العلاج ليصِحَّ منها؟ أليس هذا من الإعجابِ والكبرياءِ؟ وأيضاً بشأنِ أيِّ الخطايا قال الربُّ: إن لم تتركوا للناسِ خطاياهم، لا يترك لكم أبوكم خطاياكم. أليس بشأنِ الخطايا الحقانية؟ فكيف تدين أنت أخاك من أجلِ ما لا صحة له، فأنت بذلك تُلقي نفسَك في أشدِّ العذاب. لأنك إذا طالبتَ أخاك هكذا، طالبَك الله بشأنِ خطاياك، فأما المكتوب فهو: لا تدع الشمسَ تغرُب على غيظِكم، واحملوا ثِقلَ بعضِكم بعضاً. وكيف يخدمك الأخ؟ أليس في شأنِ الله؟ فإذا قرعت فكرَه، فأمسك أنت لفكرِك، ولا تحسب نفسَك شيئاً وأنت تتنيح، وقاتل الأفكار التي تجلب لك السجسَ وأنت تُعان. سؤال: «إني قد وعظتُ الأخَ بحبِّ الله، وقد تسجستُ بسببِ كونهِ لم يقبل مني، فماذا أفعل»؟ الجواب: «أنت لا تفهم ما تقول، فإن كنتَ من أجلِ الله وعظتَه فكيف تسجَّستَ؟ لأن العظةَ من أجلِ اللهِ لا تدع الإنسانَ يتسجس، حتى ولو وقع الموعوظُ في الواعظِ لاحتمل ثقلَه ولم يتسجس، وإنما كلُّ عظةٍ تدع السجس يدخلُ في قلبِ الإنسانِ فهي ليست في ذاتِ الله، لكنها شيطانيةٌ، مختلطةٌ بتزكيةِ الذاتِ. فقد بان إذن أن الأمرَ تجربةٌ، ولكن اللهَ يُبطلها عنكما ويمنحكما معرفةً لتفهما حيلَ العدو، وينجيكما منه، فصليا من أجلي». سؤال: «يا أبي، إن الأخ يحتقرني جداً، وأحبُّ أن أُبدِّله بتلميذٍ آخر، أو أبقى وحدي، لأن فكري يقول لي: لو كنتَ وحدك ما كنت تحزن». الجواب: «لا يجب أن تقبل تزكيةَ نفسِك، ولا تقل: لو كنتُ وحدي ما كنتُ أحزن، لأنه لا يكون خلاصٌ بدونِ أحزان، لأنك بقولِك هذا تُبطل الكتابَ القائل: كثيرةٌ هي أحزان الصديقين ومن جميعِها ينجيهم الربُّ. وأيضاً: كثيرةٌ هي جلدات الخطاة. فإن كنتَ صدِّيقاً أو كنتَ خاطئاً، فواجبٌ عليك قبول الأحزان، وليست هناك أشياء يتساوى الأمر في فائدتِها مثلَ الأحزان، لأن الأحزانَ هي مقدمة الخلاص، لأن الرسولَ يقول: إننا بأحزانٍ كثيرةٍ ندخل ملكوت السموات. فالذي يطلبُ النياحَ في كلِّ شيءٍ ليسمع: إنك قد أخذتَ خيراتك في حياتِك. فإن كان ربنا قد صبر من أجلِنا على الأوجاعِ، فواجبٌ علينا أن نصبرَ على الأحزانِ لنكونَ شركاءَه في آلامهِ المحيية. أما بخصوص استبدال تلميذك بتلميذٍ آخر، فالأمر واحدٌ، لأنك إذا اتخذتَ آخر، وصادفك منه ما يحزنك، فماذا عملتَ؟ فيجب عليك إذن احتمال التلميذ الذي لك، وسياسته، ويلزمه هو القبول منك، على أن تحتمل أنت ثقله بخوفِ الله». من أجلِ العملِ الداخلي، قال: «العملُ الداخل هو وجعُ القلبِ الذي يجلبُ الطهارةَ، والطهارةُ تلد سكوتَ القلبِ الحقاني، وهذا السكوتُ يلدُ التواضعَ، والتواضع يصيِّر الإنسانَ مسكناً لله. وهذه السكنى تطرد الأعداءَ الأشرارَ مع كافةِ الأوجاعِ الوسخةِ، وتحطم الشيطانَ رئيسَها، فيصير الإنسانُ هيكلاً لله طاهراً مقدساً مستنيراً فرحاً ممتلئاً من كلِّ رائحةٍ طيبةٍ وصلاحٍ وسرورٍ، ويصبح الإنسانُ لابساً لله، نعم، ويصير إلهاً، لأنه قال: أنا قلتُ إنكم آلهةٌ، وبني العليِّ تُدعَون. وحينئذ تنفتح عينا قلبهِ، وينظر النورَ الحقاني، ويفهم أن يقولَ: إني بالنعمةِ تخلصت بالرب يسوع المسيح. فالذي يريد أن يُرضي الله، فليقطع هواه لأخيه ومعلمِه، لأنه إذا فعل ذلك فهو يجد نياحاً بالربِ». سؤال: «كيف أعرف الفكرَ الذي من الله والفكرَ الذي من الطبيعةِ والفكرَ الذي من الشيطان»؟ الجواب: «إفراز هذه المسألة إنما يكون للذين قد بلغوا إلى التمامِ، لأنه إن لم تَطهُر العينُ الداخلةُ بالعرقِ والعناءِ الكثير، فلا تقدر أن تفرزَ، فاقطع هواكَ للهِ في كلِّ شيءٍ وقل: ليس كما أريدُ أنا، بل ليكن ما تريده أنت يا ربي وإلهي، وهو يعمل معك كهواه. فاسمع الآن فرزَ هذه الأفكارِ الثلاثةِ: إذا تحرَّك في قلبِك فكرٌ في ذاتِ الله، ووجدتَ فرحاً، وحزناً يساوي هذا الفرح، فاعلم أن ذلك الفكرَ هو من اللهِ، فداوم فيه. فإن جاء عليك فكرٌ طبيعيٌ الذي هو الهوى الجَسَداني فادفعه، وأتمم القول القائل: أن تكفرَ بنفسِك، أي أنك تكفر بالمشيئات الطبيعية وتقطع هواك الجَسَداني. وأما أفكار الشيطان فتكون مبلبلِةً وممتلئةً أحزاناً، وهي تجرُّ إلى الخلفِ، فكلُّ أمرٍ تفكر فيه وتحس في قلبك ببلبلةٍ ولو بمقدارِ شعرةٍ، فاعلم أن ذلك من الشياطين واعلم أن ضوءَ الشياطين آخره ظلمةٌ». وقال أيضاً: «الذين يريدون أن يسلكوا طريقاً ما، فإن لم يمشوا مع من يُريهم الطريقَ من أولهِا إلى آخرها، فلن يستطيعوا بلوغَ المدينةِ، فإن لم يترك التلميذُ هواه خلفَه ويخضع في كلِّ شيءٍ ويتضع، فلن يبلغَ مدينةَ السلامِ». سؤال: «ما هو الاتضاع»؟ الجواب: «الاتضاع هو أن يحسبَ الإنسانُ نفسَه تراباً ورماداً، ويقول: أنا من أنا، ومن يحسبني أنا شيئاً، ومالي أنا مع الناسِ، لأني عاجزٌ. ولا يقول عن أمرٍ: ماذا؟ أو ماذا يكون هذا؟ ويكون ماشياً بخضوعٍ كثيرٍ في طرقِهِ، ولا يساوي نفسَه بغيرِه، وإذا اُحتقر ورُذل لا يغضب». سؤال: «أخبرني يا أبي كيف يقتني الإنسانُ الاتضاعَ الكاملَ والصلاةَ الحقانية»؟ الجواب: أمّا كيف يقتني الإنسانُ الاتضاعَ الكاملَ، فالربُ قد علَّمنا ذلك بقولِه: «تعلَّموا مني فإني وديعٌ ومتواضعُ القلبِ، فستجدوا راحةً لنفوسِكم». إن كنتَ تريدَ أن تقتني الاتضاعَ فافهم ماذا عَمِلَ وتأمَّل صبرَه، واصّبر مثلَه، واقطع هواكَ لكلِّ أحدٍ، لأنه قال: «إني ما نزلتُ من السماءِ لأعمل مشيئتي، بل مشيئةَ مَن أرسلني». هذا هو الاتضاعُ الكامل، أن نحتملَ الشتيمةَ والعارَ وكلَّ شيءٍ أصاب مُعلِّمَ الفضيلةِ ربنا يسوع المسيح. وأما الصلاةُ الحقانية فهي أن يكونَ الإنسانُ مخاطباً للهِ بلا طياشةٍ، ناظراً إليه بجملتِه وأفكارِه وحواسِه والذي يسوقُ الإنسانَ إلى ذلك، هو أن يموتَ من كلِّ إنسانٍ، ومن العالمِ وكلِّ ما فيه، ويُصوِّر في عقلِه أنه قائمٌ قدام الله وإياه يُكلِّم. وهكذا يكون قد انفلتَ من الطياشةِ وانعتق منها وصار عقلُه فرحاً مضيئاً بالربِّ. وعلامته إذا وصل إلى الصلاةِ الكاملةِ، فإنه لا يتسجس البتة، ولو سجَّسه كلُّ العالمِ، لأن المصلي بالكمالِ، قد مات من العالمِ ونياحِه كلِّه، وكلُّ شيءٍ يعمله من أمورِه يكون فيه بلا طياشةٍ. سؤال: «كيف أقدر أن أُمسكَ بطني وأن آكلَ دون حاجتي، لأني لا أستطيعُ صبراً»؟ الجواب: ليس أحدٌ يفلِتُ من هذا الأمرِ، إلا الذي بلغ إلى مقدارِ ذلك الذي قال: «إني نَسيْتُ أكْلَ خبزي من صوتِ تنهدي، وقد لَصِقَ لحمي بعظمي». فمَن كانت حالهُ هكذا، فإنه يأتي بسرعةٍ إلى قلةِ الطعامِ لأن دموعَه تصيرُ له مثلَ الخبزِ، ويبدأ إذ ذاك يتغذى من نعمةِ الروحِ القدس. صدقني يا أخي، إني أعرفُ إنساناً يعلم الربُّ أنه قد بلغ إلى هذا المقدارِ الذي ذكرتُ، حتى أنه كان لا يأكل في كلِّ أسبوعٍ مرةً أو مرتين، وكان مراراً كثيرةً يُسبى في النظرِ الروحاني، ومن حلاوةِ ذلك كان ينسى أكْلَ الطعامِ المحسوس، وكان إذا أراد أن يأكلَ يشعر كأنه شبعانٌ، ولا يجدُ لذّةً للطعامِ، وكان يأكلُ بدونِ شهوةٍ، لأنه كان يشتهي أن يكونَ دائماً مع الله، وكان يقول: «أين نحن»؟ فقال الأخُ السائل: «أنا أطلبُ إليك يا أبي أن توضِّحَ لي قوةَ هذا الأمرِ، وكيف يصيرُ الإنسانُ إلى ما ذكرتَ، فإني أجهلُ ذلك، وإذا أنا بدأتُ أقلِّل طعامي، فما يدعني الضعفُ حتى أعودَ إلى المقدارِ الأولِ، وأنت قلتَ لي إن الذي يبلغُ إلى المقدارِ الذي قيل فيه: إن لحمي لصق بعظمي من صوتِ تنهدي، هذا يصير إلى قلةِ الطعام، فبيِّن لي هذا الأمرَ»؟ قال الشيخ: هذا هو التصاقُ اللحمِ بالعظمِ، أن تصيرَ جميعُ أعضاءِ الإنسانِ ملتصقةً، أي أن تكونَ أفكارُ الإنسانِ كلُّها فكراً واحداً بالله، عند ذلك يلتصق الجَسَداني ويصير روحانياً، ويلحق الجسدُ بالفكرِ الإلهي، وحينئذ يصيرُ الفرحُ الروحاني في القلبِ يُغذِّي النفسَ ويُشبعُ الجسدَ، ويقوى كلاهُما حتى لا يكون فيهما ضعفٌ ولا ملل، لأن ربَنا يسوعَ المسيح إذ ذاك يكون الوسيطَ ويوقف الإنسانَ بالقربِ من الأبوابِ التي ليس داخلها حزنٌ ولا وجعٌ ولا تنهد. وحينئذ يتمُّ القولُ: «حيث يكون كنزُك، فهناك يكون عقلُك». فالذي يبلغُ إلى هذا المقدارِ فقد اقتنى الاتضاعَ الكاملَ بيسوعَ المسيحِ ربنا الذي له المجد إلى الأبد آمين. من كلام القديس سمعان العمودي: «إذا كانت حُمَّى الجسدِ تمنعه من أن يعملَ أعمالَه الجَسَدَانية، كذلك مرضُ النفسِ بالخطيةِ يمنعها من ممارسةِ أعمالِ الحياةِ الروحانية، فالله يريدُ من النفسِ أن تحبَّه وتطلبه بحرصٍ، فإذا أحبَّته وطلبته بكلِّ قوَّتِها، فحينئذ يسكنُ فيها ويملك على أفكارِها فيهديها إلى ما يريدُ لها». قال شيخٌ: «إنَّ الله يطالبُ الإنسانَ بثلاثةٍ: العقلَ، الكلامَ الروحاني، والعملَ به. المجدُ الباطل يتولَّد من ثلاثةٍ: طلب التعليم، وطلب الاتساع في الأشياءِ، وطلب الأخذ والعطاء. وثلاثةٌ تسبقُ كلَّ خطيةٍ: الغفلة، النسيان، والشهوة. حاملُ الأمواتِ يأخذُ الأجرةَ من الناسِ، وحاملُ الأحياءِ، أعني المحتمل، يأخذُ الأجرةَ من الله». سأل أخٌ الأنبا بيمين قائلاً: «كيف ينبغي للراهبِ أن يجلسَ في قلايتهِ»؟ فقال له: «أما الظاهر من الجلوسِ في القلايةِ فهو أن تعملَ بيدِك، وتأكلَ مرةً واحدةً فقط كلَّ يومٍ، والهذيذ في الزبور وقراءة الكتب والتعليم، أما غيرُ الظاهرِ والسرِّي من الأمور فهو أن تلوم نفسَك في كلِّ أمرٍ تصنعه وحيثما توجهتَ، وفي ساعة صلاتك لا تتوانَ من جهةِ أفكارك، وإن أردتَ أن تقوم من عمل يديك إلى الصلاةِ، فقم وأكمل صلاتك بلا سجس، وتمام هذا كله أن تسكن مع جماعةٍ صالحةٍ، وتتباعد من جماعة السوء». وقال له أخٌ: «إني خاطئ فماذا أعملُ»؟ فقال له: «مكتوبٌ: خطيئتي أمامي في كلِّ حينٍ، فأنا أهتمُّ بآثامي وأعترفُ بذنبي، فقلتُ أكشف خطيئتي أمامَ الربِّ وهو يغفرُ لي نفاقَ قلبي». وقال: «من يضبط فَمَه فإن أفكارَه تموت، كالجَرَّةِ التي يوجد فيها حياتٌ وعقارب وسُدَّ فمها فإنها تموت». وسُئل: «أيهما أصلحُ، الكلامُ أم الصمت»؟ فقال: «إن الصمتَ من أجلِ الله جيدٌ، كما أن الكلامَ من أجلِ اللهِ جيدٌ كذلك». وقال: «من يُكثر من الاختلاطِ بالناسِ، لا يمكنه أن ينجوَ من النميمةِ». وقال كذلك: «إن اللجاجةَ والحسدَ يتولَّدان من السُبحِ الباطل، لأن الإنسانَ الذي يطلبُ مجدَ الناسِ فإنه يناصبُ الذي يعملُ وينجحُ ويُمجَّد، ويحسده. والاتضاعُ هو دواءُ ذلك». سُئل القديس باسيليوس: «كيف يكون حالُ من صَعُبَ عليه إتمام قانونِ التوبةِ»؟ فأجاب وقال: «حالُ ذاك يجب أن يكونَ كحالِ ابنٍ مريضٍ وفي شدةِ الموتِ بالنسبةِ لأبيه الخبير بصناعةِ الطبِّ والذي يرغب في مداواته، فلمعرفتِه بصعوبةِ وصفِ الأدويةِ والتعبِ الكثير في صناعتها، وبخبرةِ أبيه في الطبِ، ولأن قلبَه يطيبُ بمحبةِ أبيه له، ولرغبتهِ كذلك في الشفاء، فكلُّ هذه العوامل تجعله يرسخ لمداواته، فيمكِّنه من نفسِه ليتداوى ويحيا، لذلك من يَصْعُب عليه قانون التوبةِ، فليترك الأمرَ بين يدي معلمهِ». وسُئل أيضاً: «كيف ينبغي للإنسانِ أن ينتهرَ»؟ قال: «كما ينتهرُ الأبُ ابنَه، وكالطبيبِ الذي يقصد شفاءَ المريض». كما سُئل: «كيف يجب أن يُقبل الانتهار»؟ فقال: «كما يَقبل الولدُ تأديبَ والدِهِ، والمريضُ مداواةَ طبيبهِ». وسُئل كذلك: «كيف ينبغي للإنسان أن يحبَّ قريبَه»؟ فقال: «كالمكتوبِ: تحب قريبَك مثلَ نفسِك، وأيضاً ما من حبٍ أعظمُ من هذا أن يبذلَ الإنسانُ نفسَه عن أحبائِهِ». وأيضاً سُئل هكذا: «ما هي الكلمةُ البطالة التي نعطي عنها جواباً»؟ فقال: «هي تلك التي ليست للبنيان، كقول الرسولِ: كلُّ كلمةٍ قبيحةٍ لا تخرجُ من أفواهكم، بل الكلمةُ الصالحةُ التي تكون للبنيان، وتُعطي نعمةً للذين يسمعونها». وقال أيضاً: «إن الصومَ الحقيقي هو سجنُ الرذائل، أعني ضبطَ اللسانِ، وإمساكَ الغضبِ، وقهرَ الشهواتِ الدنسة. الذي يُصالح نفسَه خيرٌ من الذي يُصالح الغضوبين، والذي يُدبِّر نفسَه خيرٌ من الذي يُدبِّر غيرَه. ابتداءُ المحبةِ حُسنُ الثناءِ، وابتداءُ البُغضَةِ الوقيعةُ. عوِّد جسدَك طاعةَ نفسِك، ونفسَك طاعةَ اللهِ. ما لا ينبغي أن تفعله لا تفكر فيه ولا تذكره. إن أردتَ أن تكونَ معروفاً عندَ الله، فاحرص ألا تكون معروفاً عندَ الناسِ. عاتب نفسَك فهذا أفضلُ من أن تعاتبَ غيرَك. ابتعد من نظرِ وسماعِ ما لا يفيد، فتتخلص من فِعلِ ما لا يفيد. جيدٌ ألا تخطئَ، وإن أخطأتَ فجيدٌ ألا تؤخرَ التوبةَ، وإن تُبتَ فجيدٌ أن لا تعاودَ الخطيةَ، وإذا لم تعاودها فجيدٌ أن تعرفَ أن ذلك بمعونةِ اللهِ، وإذا عرفتَ ذلك فجيدٌ أن تشكرَه على نعمتِهِ وتلازمَ سؤاله في إدامة معونته. إن كان ليس بجيدٍ أن تستشهد بإنسانٍ شريفٍ على أمرٍ حقيرٍ، فكم بالحري الله تعالى. علامةُ الخوفِ من الله، الهربُ من العيوبِ الصغارِ، حذراً من الوقوعِ في الذنوبِ الكبارِ. علامةُ مَن غلبَ الشيطانَ أن يحتملَ شرَّ أخيه ولا يدينه. علامةُ الخلوةِ مع الله هي الابتعادُ من القلقِ، والبغضةُ لسيرةِ العالم. علامةُ التكبِر قنوعُ الإنسانِ برأي نفسه. عمومُ الناسِ يظنون أن الله في الهياكلِ فقط، فيحسِّنون سيرتَهم فيها فقط، وذوو المعرفةِ يعلمون أن اللهَ في كلِّ موضعٍ، فينبغي أن يحسِّنوا سيرتَهم في كلِّ موضعٍ. كما أن الجسديين لا يقدرون أن يَغضبوا بحضرةِ الملك، كذلك الذين يتدبرون بالروحانيةِ يمنعهم من الغضبِ الخوفُ من اللهِ الملك المعقول الناظر إليهم دائماً. الحكيمُ لا يتقي غيرَ المخوفِ، ولا يرجو غيرَ المدرَكِ، ولذلك لا يخافُ الآلام ولا يرجو دوام اللّذات العالمية، لأنها سريعةُ الزوالِ، فإذ لا يخاف هذه الآلام احتملها، وإذ لا يرجو هذه الّلذات فلا يطلبها». قال شيخٌ: «إذا قوتِلَ راهبٌ بالزنى وحفظ بطنَه ولسانَه وغربتَه، فلي إيمانٌ أنه لا يسقط بمعونةِ اللهِ». قال أخٌ لشيخٍ: «لستُ قادراً على إتمامِ الطاعة الكاملة». فقال له: «اعمل بقدرِ قوتِك، وأنا أؤمن أن اللهَ يحسبك مع من يُكمِل الطاعةَ». وقد قال: «لا تختنق إذا سقطتَ، بل انهض وتُب. فقد قال سليمان الحكيم: إنَّ الصديقَ إذا سقطَ سبعَ مراتٍ في اليومِ فهو يقوم سبعَ مراتٍ». قال شيخٌ: «إذا شَتَمَ الراهبُ أخاه بذكرِ شيءٍ من الخطأِ مثل أن يقول: يا زانٍ، يا سارق، ويا كذاب، فإن سَكَتَ المشتوم وغفر للشاتم وقال في نفسِه: بالحقيقة إني خاطئ؛ فإن تلك الخطية التي شُتم بذِكرها والتي أشار إليها بقولِهِ: بالحقيقةِ إني خاطئٌ، تُغفر له، وتصبح على الشاتم له بذِكرها، لأنه ترك الاعترافَ بخطيئتهِ وأظهر خطيةَ أخيه، ولكون المشتوم احتمل إشهار خطيئتهِ فحُسب له اعترافاً، ولكونه غفر لأخيه نال المغفرةَ». ثلاثةٌ من الرهبانِ تآخوا في الربِ، فاختار أحدُهم الصلحَ بين الناسِ كقولِ الربِّ: «طوبى لصانعي السلام فإنهم بني الله يُدعَوْن». واختار الآخرُ خدمةَ المرضى وتعاهدهم كقوله: «كنتُ مريضاً فتعهدتموني». أما الأخير فقد اختار لنفسِه الوحدةَ ليتفرغَ لخدمةِ الربِّ وحده والصلاةِ كلَّ حينٍ كقولِ الرسول. فأما الأول فإنه ضجر من خصومةٍ الناسِ ولم يقدر أن يرضيهم كلَّهم، فلما تعب مضى إلى صاحبهِ الذي يفتقدُ المرضى فوجده قد ضجر هو الآخر مما هو فيه، فقاما معاً وأتيا إلى المتوحدِ، وأعلماه بحالِهما واستخبراه عن حالهِ، فسكت قليلاً، ثم سكب ماءً في إناءٍ وقال لهما: «تأمَّلا هذا الماء»، فتأمَّلاه مضطرباً ولم ينظرا فيه شيئاً. وبعد أن سكن الماءُ قال لهما: «انظرا الآن». فنظرا، وإذا الماءُ يريهما وجهيهما مثل المرآةِ. فقال لهما: «هكذا تكون حالُ من يكون بين الناسِ، فإنه لأجل اضطرابهم لا يمكنه أن ينظرَ ما فيه، أما إذا انفرد ولا سيما في بريةٍ، فحينئذ يرى نقائصَه». قيل إن شيخاً كان يأكلُ أثناءِ تأدية عمله، فسُئل عن ذلك فقال: «إني لا أؤثر أن أجعلَ الطعامَ عملاً يُتفرغ له، حتى لا تحس نفسي بتلذذ في الطعامِ». وهو قال: «ليس شيءٌ يغسلُ دنسَ الزنى مثل دموعِ التوبةِ، لأن الزنى يخرج من الجسد والقلب، وكذلك الدموع تخرج من الجسد والقلب». قال شيخٌ: «يجبُ أن نحاسبَ نفوسَنا كلَّ يومٍ ونفتقد حياتنا بالتوبةِ». وقال أيضاً: يجبُ أن نشكرَ الله على الأوجاعِ الجسمانية، فإن الرسولَ يقول: «إذا ما فسد إنسانُنا الخارجي، فإن الداخلي يتجدد يوماً فيوماً». فلن نشاركَ المسيحَ في مجدِه إلا إذا شاركناه في أوجاعِه، ولا نقدر أن نشاركه في أوجاعِه، إلا بالصبرِ على الشدائدِ. الشكرُ في الشدةِ يعينُ على الخلاصِ منها. ينبغي ألا نرغب في نياح هذا العالمِ لئلا يُقال لنا: «قد أخذتَ خيراتك في حياتك». لا تظن أنك أكملتَ شيئاً من الخيرِ، فيُحفَظ لك أجرُ برِّك. لا تحسب نفسك أنك شيءٌ، فتكون أفكارُك هادئةً. إن الشياطين يخفون شرَهم وراءهم، ونورُهم آخره ظلامٌ، فلا تعمل شيئاً بغير مشورةِ الآباءِ العارفين بقتالهم. الزم الصلاةَ في التجارب، فإن الربَّ قد قال: «الله ينتقم لعبيدهِ الصارخين إليه». ينبغي للمجاهدِ أن يبتعدَ عن كلِّ امتلاءٍ، ولو من الخبزِ والماء، وأن يجمعَ عقلَه في صلاتِه، ليكمل قربانَه الروحاني، ويتذكر خطاياه دائماً ويحزن عليها، وليكن كلَّ ما يعمله ويقوله من أجلِ مرضاة الله لا من أجلِ مجدِ الناس، وأن يفحصَ تدبيرَه دائماً، لكي لا تكون سكناه في البريةِ على غيرِ مذهب الرهبنة، فإنه قد سكن البريةَ كثيرٌ من اللصوصِ وهي مأوى للوحوشِ والطيورِ المؤذية، أما الراهب فإنه يسكنها هرباً من سجسِ العالم الذي يشغل عن عبادةِ الله التامة، كما ينبغي أن يصبرَ على البلايا ويكلِّف نفسَه في كلِّ شيءٍ، وأن يقدِّم حبَّ الله على حبِّ القريب، وحبَّ القريبِ على حبِّ نفسه، وحبَّ نفسه على حبِّ كلِّ ما سواها، وليكن له إيمانٌ قويٌ بالله ورجاءٌ واتضاع وإمساكٌ وصمتٌ وصلاةٌ دائمة وتهاونٌ بالأرضيات وتذكر الموت والمجازاة، وقراءة الكتب وتمييز كلِّ الأمور وحفظُ العقلِ والقلبِ، وطاعةٌ للآباء والوصايا من أجلِ الله. قال أحدُ الإخوةِ لشيخٍ من الرهبان: «يا أبي، إني أطلبُ إلى الشيوخِ فيكلموني فيما هو لخلاصِ نفسي، ولكني لستُ عاملاً بشيءٍ مما يقولون لي، فما الذي أنتفعُ به من هذا الأمر، وأنا ممتلئٌ من الوسخِ». وكان عند الشيخِ كوزان فارغان، فقال له الشيخُ: «أحضر أحدَ هذين الكوزين وصبّ فيه ماءً وخضخضه». فجعله الشيخُ يغسل الكوزَ مراتٍ كثيرةً ثم قال له: «ضعه عند الكوز الآخر». ففعل، وبعد ساعةٍ قال له: «أحضر الكوزين معاً، وانظر أيَّ الكوزين أنقى». فقال له الأخُ: «الذي صببنا فيه الماءَ أنقى». قال له الشيخُ: «كذلك تكون نفسُ من يسأل الشيوخَ ولا يعمل بما يقولونه، أنقى من نفسِ من لا يسأل ولا يعمل معاً». قال شيخٌ: «ينبغي للمتوحدِ في قلايتهِ أن يكون له إفرازٌ ومعرفةٌ وحرصٌ وتيقظٌ، كما يكون ضابطاً لحواسهِ حافظاً لعقلِه، لا يفكر في إنسانٍ، ولا يَفْتُر في الصلاةِ والقراءةِ». قال أحدُ الشيوخِ: «إن الإفرازَ الحقيقي، لا يكون إلا من الاتضاع، والاتضاع هو أن نكشف لآبائِنا أفكارَنا وأعمالَنا، ولا نثق برأينا، بل نستشير الشيوخَ المجرَّبين الذين نالوا نعمةَ الإفرازِ، ونعمل بكلِّ ما يشيرون به علينا، فالذي يكشفُ أفكارَه الرديئة لآبائهِ فإنها تخف عنه، وكما أن الحيةَ إذا خرجت من موضعٍ مظلمٍ إلى ضوءٍ تهرب بسرعةٍ، كذلك الأفكارُ الرديئةُ إذا كُشفت تبطل من أجلِ فضيلةِ الاتضاع. وإذا كانت الصناعات التي نبصرها بعيوننا ونسمعها بآذاننا ونعملها بأيدينا، لا نقدر أن نمارسها بذواتنا إن لم نتعلمها أولاً من معلميها، أفليست إذن جهالةً وحماقةً ممن يريد أن يمارسَ الصناعةَ الروحانية غيرَ المرئية بغير معلمٍ؟، علماً بأنها أكثر خفاءً من جميعِ الصنائعِ، والغلط فيها أعظمُ خسارة من كلِّ ما عداها»؟ قال شيخٌ: «من اجتمع يإخوةٍ عمَّالين، فلو كان هو غيرَ عمَّالٍ فإن لم يتقدم إلى قدام، فلن يتأخر إلى وراء، كذلك من يجتمع بإخوةٍ متهاونين فلو كان عمَّالاً، فإن لم يخسر، فلن يربح. الساقطُ فلينهض لئلا يهلك، والقائمُ فليتحفظ لئلا يسقط». وقال آخر: «إذا مشيْتَ مع رفيقٍ صالحٍ من قلايتك إلى الكنيسة، فإنه يقدِّمك ستة أشهر، وإذا مشيتَ مع رفيقٍ رديء من قلايتك إلى الكنيسة فهو يؤخرك سنةً». سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «يا أبي، لماذا لا يثبت جيلُنا هذا في أتعابِ الآباء الأولين»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «لأنه لا يحبُّ الله ولا يفرُّ من الناسِ ولا يبغض قشاش العالم، إن كلَّ شخصٍ يفرُّ من الناسِ ومن المقتنيات فإن تعبَ الرهبنةِ يأتيه قبلَ سِنهِ، فكمثل إنسانٍ يريدُ أن يطفئ ناراً قد اشتعلت في بقعةٍ، فما لم يسبق ويبعد القشَ من قدام النار، لا يمكنه إطفاءَها، كذلك الإنسان، إن لم يذهب إلى موضعٍ لا يجد فيه الخبزَ والماءَ إلا بشدةٍ، فلا يستطيع أن يقتني تعبَ الرهبنةِ، لأن النفسَ ما لم تبصر فلا تشتهي سريعاً». قيل إن أحدَ الآباءِ كان يجلسُ في البراري البعيدة ويسكت، وفي يومٍ من الأيامِ سأله تلميذُه قائلاً: «لماذا يا أبي تفرُّ هارباً في البراري البعيدة، مع أني أسمعُ أن الناسَ تقولُ إن الذي يسكن بقربِ العالمِ ويقاتل أفكارَه من أجلِ اللهِ، يصير أكثرَ أجراً»؟ أجابه الشيخُ: «إن الذي ينتفع من قربهِ للعالمِ فهو ذاك الإنسان الذي يصل إلى أن ينظرَ مناظرَ موسى النبي ويصير ابناً لله، أما أنا فإني ابن آدم، وأنا مثل آدم أبي الذي بمجرد أن أبصرَ ثمرةَ الخطيةِ اشتهاها فأخذ وأكل منها ومات. من أجل ذلك كان آباؤنا يهربون إلى البراري، وهناك كانوا يقتلون شهوةَ البطنِ لعدم الأطعمة، إذ كانوا لا يجدون هناك الأشياءَ التي تلد الأوجاعَ كلَّها». وقال أيضاً: «إن كلَّ إنسانٍ يُسلِّم نفسَه لشدةٍ بهواه من أجلِ الله فلي إيمانٌ أن الله يحسبه مع الشهداءِ، وذلك البكاء الذي يأتيه في تلك الشدةِ يحسبه الله عوضَ الدمِ». قال شيخٌ: «من لا يقتني تعبَ الرهبنةِ فلن يقتني فضائلها، ومن لا يقتني فضائلها فلن يقتني مواهبها». قال القديس أنطونيوس: «إن أفضلَ ما يقتنيه الإنسانُ هو أن يُقرَّ بخطاياه قدام الله ويلوم نفسَه، وأن يكون متأنياً لكلِّ بليةٍ تأتيه حتى آخر نسمةٍ من حياتِه». قال شيخٌ: «يجبُ على الراهبِ في كلِّ بُكرةِ وعشية أن يحاسبَ نفسَه ويقول: ماذا عملنا مما يحبُّه الله؟ وماذا عملنا مما لا يحبُّه الله؟ لأنه يجب علينا أن نفتقدَ حياتَنا بالتوبةِ هكذا، وبهذه السيرةِ عاش أرسانيوس، لأن من عمل كثيراً ولم يحفظه، أتلفه، ومن يعمل قليلاً ويحفظه، يبقى معه. وقال أيضاً: «من أجلِ هذا لسنا نفلحُ، لأننا لا نعرفُ أقدارنا، وليس لنا صبرٌ في عملٍ نبدأ به، ولكننا نريد أن نقتني الفضائلَ بلا تعبٍ». وقال شيخٌ: «إذا حلَّت بليةٌ بإنسانٍ فإن الأحزانَ تحيطُ به من كلِّ ناحيةٍ لكي ما تُضجره وتزعجه، وبيان ذلك في أنه كان أخٌ في القلالي، هذا جاءت عليه بليةٌ لدرجةِ أنه إذا أبصرَه أحدٌ ما، فكان لا يسلِّم عليه ولا يُدخله قلايته، وإن احتاج إلى خبزٍ، ما كان أحدٌ يُقرضه، وإذا جاء من الحصادِ، ما كان أحدٌ يدعوه للكنيسةِ لأجل المحبةِ كالمعتاد. وحدث أن جاء مرةً من ذلك الحصاد فلم يجد في قلايته خبزاً، ومع ذلك كلِّه، كان يشكر الله على ما يأتي عليه من الأحزانِ. فلما أبصر الله صبرَه رفع عنه قتال البليةِ، وإذا إنسانٌ قد جاء فضرب بابَ قلايتهِ ومعه جملٌ موثقٌ خبزاً جاءه من مصرَ، فبدأ الأخ يبكي ويحزن ويقول: يا ربُّ، ما أنا بأهلٍ أن تتركني أحزنُ قليلاً، لكني يا ربُّ أنا مستوجبٌ لذلك، ولستُ أهلاً لشيءٍ من النياحِ، فلما جازت عنه تلك البليةِ، صار الإخوةُ يأخذونه وينيحونه في قلاليهم وفي الكنيسة». قال شيخٌ: «إن الراهبَ يُدعى راهباً من جهتين: الأولى: أن يبتعدَ من مناظرِ النساءِ، ويرفض العالمَ وكلَّ ما فيه ولا يهتم بشيءٍ البتة. والثانية، أن ينقي عقلَه من الآلام ويتحد بالربِّ وحده، وحينئذ يثمر ثمرَ الروحِ الذي هو الحب والفرح والسلامة والخيرية، وطول الروح والإيمان والود والوداعة والإمساك، ومن كان هكذا فلن يوجد له ناموسٌ يقاومه. وبقدر ما تكون همةُ الإنسانِ ملازمةً لله بلا طياشةٍ، بقدر ما تكون نعمةُ اللهِ متضاعفةً عليه، وبقدر ما نتقرَّب إليه بقدر ما يهتم هو بنا، وبقدر ما نبتعد عنه بهمتنا بقدر ذلك يبتعد هو منا، لأنه جعل الاختيارَ لنا في ذلك، إذ خلق نفسَ الإنسانِ على صورتهِ، فهي بطبعها تحبُّه وتشتاقُ إليه، وهي روحانية، فهي تشتاقُ إلى الأمورِ الروحانية المناسبة لها، وأما الجسدُ فَخَلقَه من الأرض، فهو يحبُّ الأرضيات وإليها يميل بطبعِه، والشيطان بتحريك الشهوات الجَسَدَانية يجذبُ النفسَ إلى الأمورِ الأرضية. فينبغي للراهب أن يكون له إفراز، ويطلب من الله الهدايةَ والمعونةَ حتى لا ينخدع، ويعتمد عليه بإيمانٍ تام، لأنه بغير معونةٍ من الله لا يقدر أن يناصب الشيطانَ ولا يبعد منه الأفكارَ الرديئة. لكنه إذا سلَّم نفسَه لله ولازم الصلاةَ، فإن الله حينئذ يملك على نفسِه ويجعل فيه هواه، ويُكمِّل فيه وصاياه. فالذي يعلم أنه لا يقدر أن يعملَ شيئاً بغير الله، فلا يفتخر كأنه قد عمل شيئاً، لكنه يشكر الله الذي عمل فيه، والشيطان إذا رأى إنساناً مجاهداً، فإنه يُحرِّك عليه الأوجاع الخبيثة، وقد يُفسح الله له المجال في ذلك، حتى لا يتعظم بأنه جاهد، حتى يلتصق به بالصلاةِ الدائمة، فإذا هو عرف ضعفَه، فإن الله يُبطلها عنه، أعني الأوجاعَ الخبيثة، وتصير نفسُه في هدوءٍ وسلامٍ». من أقوال سمعان العمودي: «كما أن الجسدَ إذا عَدِمَ أصغرَ أعضائه كان ذلك نُقصاناً له، هكذا النفسَ إذا عجزت عن ممارسةِ أصغرِ أجزاء الفضيلةِ، كان ذلك نقصاناً لها. وكما أن الإنسانَ إذا مشى كثيراً نحو المدينةِ ونقص سَيْرُهُ ميلاً واحداً، فقد أضاع كلَّ تعبهِ ولم يدخلها، كذلك الراهب إذا لم يجاهد إلى النفسِ الأخيرِ لا يدرك مدينةَ الأطهار. وكما أن الإنسانَ إذا عَدِمَ آلةً واحدةً لا يقدر أن يُكمِّل الصناعةَ اللازمة لها تلك الآلة، هكذا الراهب إذا عَدِمَ وصيةً واحدةً، لا يقدر أن يُكمِّل سيرته. فليس يكفيه أن يمنع جسدَه من الزنى فقط، بل وأن يضبطَ فكرَه ونظرَه وشهوةَ لسانهِ من الكذبِ والنميمة والشتم والتعيير والمداينة والمزاح والمماحكة، وبالإجمالِ من كلِّ كلامٍ بطَّال، كما ينبغي له أيضاً أن يُعلِّم أعضاءَه الخضوعَ لإرادةِ الله، وليست أعضاء بشريتهِ فقط، بل وأعضاء إنسانه الجواني كذلك. وكما أن الجسدَ يهلك بكلِّ واحدٍ من الوحوش النفاثة إذا ألقى فيه سمَّه، كذلك النفسَ تهلك بكلِّ واحدٍ من الأرواح الخبيثةِ إذا ألقى فيها فكرَه». وقال أيضاً: «كما أن الخبزَ يُقيتُ الجسدَ ويحييه، كذلك الكلام الروحاني يُقيتُ النفسَ ويحييها، وهو نورٌ للعينين ومرآةٌ للقديسين، يشفي من أمراضِ الخطية، وكلُّ من لا يعمل بكلام الناموسِ فقد احتقر واضعَ الناموسِ. وليس يكفي استماع الناموس والتكلم به من دونِ العمل بما قيل فيه. فكما نؤمن أنّ الله رحيمٌ، كذلك نؤمن أنه صادقٌ وأنه عادلٌ، ويجازي كلَّ واحدٍ كنحو عملهِ، له المجد». كما قال أيضاً: «لتكن أسماءُ الإخوةِ حُلوةً في فيك، ومناظرهم جميلةً محبوبةً في عينيك، وخدمتهم سهلةً ميسورةً في يديك، اعمل برغبةٍ واتضاع، وعلِّم بلا حسدٍ ولا بُخلٍ، ولا تنحلَّ في الشدائد لتكون مُرضياً لله، عالماً أنه لو أراد لرفع عنك الشدةَ، وإذا لم يرفعها عنك، فإنما يريد نفعَك، فاشكر في كلِّ حالٍ. كما أن الذهبَ لا يمكن أن يُعمل منه إناءٌ مختارٌ للملك بدون سبكٍ وصياغةٍ، وكذلك الشمع لا يقبل الانطباع بالصورةِ الملكية بدون تليين، هكذا النفس لا تصلح لأن تُنقش فيها صورةُ المسيح الملك بدونِ أدبٍ كثيرٍ ظاهر وباطن، ورياضةٍ وافرة، ومحنٍ شديدةٍ». قال شيخٌ: «كما أن الإنسانَ الذي ترك المملكةَ وترهب يُمدح من كلِّ العقلاءِ والفضلاءِ، لأن الرهبنةَ أفضلُ من كلِّ ما تركه، إذ هي توصِّل إلى المملكةِ السمائية الدائمة، كذلك إذا ترك إنسانٌ الرهبنةَ وصار ملكاً، فإنه يُذمُّ من كلِّ الفضلاءِ». وقال أيضاً: «لقد كان الإنسانُ في البدءِ شبهَ الملائكةِ، فلما سقطَ صار شبهَ البهائمِ، لكن إذا كانت الطبيعةُ الإنسانية تسوقُ إلى الشهواتِ البهيميةِ، فإن الشريعةَ المسيحية تؤدي إلى الغاية الملائكية، لأن المسيحَ وعد الذين يعملون إرادتَه أنهم سيكونون مثل ملائكةِ الله. فاعلم يا أخي أنه ليس شيءٌ يُقرِّب إلى الله مثلَ الطهارةِ والاتضاع، ويمكن اقتناؤهما بالصومِ والصلاةِ والسهرِ والتعب، وإتمام الخيرات بقطع رأسِ الشرِّ الذي هو حب المقتنيات». وقال شيخٌ: «كلُّ راهبٍ يجلس في قلايته ويدرس في مزاميرِه، فهو يشبه مَن يجري في طلب الملكِ، والذي يداوم في الصلاةِ فهو يشبه إنساناً يكلِّم الملكَ، وأما الذي يسأل ببكاءٍ فهو يشبه من هو ممسكٌ برجليْ الملك يطلب منه المغفرةَ». قيل: سَمع أخٌ بأخبارِ القديسين فظن أنه يمكنه أن يقتني فضائلهم بلا تعبٍ، فسأل شيخاً كبيراً، فقال له: «إن أردتَ أن تقتني فضائلَ القديسين، فصيِّر نفسَك مثلَ صبيٍ يكتب كلَّ يومٍ آيةً من معلمِه، فإذا حفظها كتب غيرَها، فافعل أنت كذلك هكذا: قاتل بطنَك في هذه السنةِ بالجوعِ، فإذا أحكمتَ ذلك، قاتل حينئذ السُبحَ الباطل لتبغضه كالعدوِ. وإذا قوَّمتَ هذين فاحرص على أن تزهد في أمورِ الدنيا وتطرح همَّك على الله، فإن تيقنتَ أنك قوَّمت هذه الثلاث خصال، فستلقَى المسيحَ بدالةٍ كثيرةٍ». سُئل شيخٌ من أحدِ الإخوةِ: «ما هي فلاحةُ النفسِ لتثمرَ»؟ فقال له: «السكوتُ والإمساك وتعبُ الجسد والصلاةُ الدائمة. وأن لا يجعل الإنسانُ بالَه من عيوبِ غيره، بل من عيوبهِ فقط، فمن دام في هذه الخصال، أثمر سريعاً». قال شيخٌ: «لا تملأ بطنَك من الخبزِ والماءِ، ولا تشبع من نومِ الليلِ، فإن الجوعَ والسهرَ ينقيان أوساخَ القلبِ من الأفكارِ، والجسدَ من قتالِ النجاسةِ، فيسكنه الروح القدس. لا تقل: اليومَ عيدٌ، آكل وأشرب! فإن الرهبانَ ليس لهم عيدٌ على الأرضِ، وإنما فصحهم هو خروجهم من الشرِّ، وعنصرتهم تكميل وصايا المسيح، ومظالّهم حصولهم ملكوت السماوات. فأما الشبع من الخبزِ فإنما هو والد الخطيةِ. حصنُ الراهبِ هو الصوم، وسلاحُه هو الصلاة، فمَن ليس له صومٌ دائمٌ فلا يوجد له حصنٌ يمنع عنه العدو، ومن ليست له صلاةٌ نقية، فليس له سلاحٌ يقاتل به الأعداءَ. كلُّ من يجعل الموتَ مقابله كلَّ حين، فإنه يغلب الضجرَ وصغرَ النفسِ». وقال أيضاً: «إذا تمسكنت النفسُ فإنها تزداد قوةً على قوتها، كالجلود التي تُدبغ وتداس وتبيَّض وتجفف». قال أنبا دانيال: «مادام الجسدُ يَنبُتُ، فبقدر ذلك تذبل النفسُ وتضعف، وكلما ذبل الجسد نبتت النفسُ». طلب إخوةٌ إلى شيخٍ أن يترفَّقَ بنفسِه من كثرةِ الجهاد، فقال: «حقاً أقولُ لكم يا إخوتي: كان مصيرُ إبراهيم خليل الله أن يندمَ إذا رأى كثرة مواهب الله، وذلك إن لم يجاهد ويتعب أكثرَ مما فعل». قال أخٌ لشيخٍ: «إن أفكاري تدور وتحزنني جداً». فقال له الشيخُ: «اجلس في قلايتك ولا تخرج منها، والأفكار تعودُ إليك، كمثل حمارةٍ مربوطةٍ وجحشُها يدورُ ثم يرجعُ إليها، هكذا من يصبر في قلايتهِ من أجلِ الله، فإن دارت الأفكارُ فإنها ترجعُ إليه». وقال أيضاً: «كما أن الغرسَ إذا قُلع من موضعٍ وغُرس في غيرهِ لا يثمر ما لم يثبت في موضعٍ واحدٍ، كذلك الراهب الذي ينتقل من ديرٍ إلى ديرٍ، لا يثمر ما دام متنقلاً». كان أخٌ يقاتَل بأن يخرجَ من ديرِه، فذهب وأعلم رئيسَ الدير. فقال له الرئيسُ: «اذهب واجلس في قلايتك، وارهن جسدَكَ رهينةً لحائط القلاية، واترك الفكرَ يهيمُ حيثما يشاء، وأنت لا تبرح من القلايةِ قط». وقال شيخٌ: «ينبغي للراهب أن يقاتل بجهادٍ كثيرٍ شيطانَ الضجر وصِغر النفسِ وبخاصة وقت الصلاةِ، فإذا قَوِيَ على هذا، فليحذر من شيطان الكبرياء، وليقل: إن لم يبنِ الربُّ البيتَ فباطلاً يتعب البناءون، وإن لم يحرس الربُ المدينةَ فباطلاً يسهر الحراسُ. كما يذكر كلامَ النبي: إن الله يعاند المستكبرين ويعطي المتواضعين النعمةَ». رأى شيخٌ مغنيةً مزيَّنةً، فدمعت عيناه وتنهَّد، فسُئل عن السببِ، فقال: «لقد حرَّكني أمران؛ أحدهما إهلاك هذه المرأة لنفسِها، والآخر أنه ليس فيَّ من الحرصِ في سبيلِ إرضاءِ الله، بقدر حرص هذه في سبيلِ إرضاءِ الناس». قال شيخٌ بخصوص لعازر المسكين: «إننا لم نجده عمل شيئاً من الفضيلةِ غير أنه لم يدمدم قط على ذلك الغني الذي لم يرحمه، كما كان شاكراً الله على ما كان فيه، فمن أجلِ هذا فقط رحمه الله». وقع أخٌ في بليةٍ، ومع الحزنِ أتلف عملَ رهبانيتهِ، وإذا أراد أن يبدأ بالعملِ من الرأسِ، كان يستثقل ذلك ويقول: «متى أبلُغ إلى ما كنتُ فيه»؟ وكان يضجر، وتصغر نفسُه، فلا يقدر أن يبدأ بعملِ الرهبنةِ مرةً أخرى، وأخيراً ذهب إلى أحدِ الشيوخ وقصَّ عليه أمرَه، فلما رأى الشيخُ حزنَه، ضرب مثلاً قائلاً له: «كان إنسانٌ له بقيع، فمن توانيه امتلأ ذلك البقيع شوكاً، وإنه بعد ذلك انتبه، وأراد أن ينقي ذلك البقيع من الشوكِ، فقال لابنِه: يا بُني، اذهب إلى البقيع ونقهِ واقلع شوكَه. فلما ذهب ابنهُ وأبصر كثرةَ الشوكِ، سئم وملَّ، ونام. وبعد أيامٍ كثيرةٍ، أتاه أبوه لينظرَ ماذا عمل الغلام، فلما رآه لم يعمل شيئاً، قال له: حتى الآن لم تنقِّ شيئاً؟ فقال الغلامُ: أخبرك يا أبتاه، كلما عزمتُ على البدءِ في العملِ، أبصر كثرةَ الشوكِ فأحزن، ومن كثرةِ الحزنِ كنتُ أضع رأسي وأنام. فقال أبوه: لا يكون الأمرُ هكذا يا ابني، ولكن نقِّ كلَّ يومٍ قدرَ مفرشك فقط، قليلاً قليلاً. ففعل الغلام كما أمره أبوه، وداوم على ذلك حتى فرغ الشوكُ من ذلك البقيع. وأنت كذلك يا حبيبي، ابدأ بالعمل شيئاً فشيئاً ولا تضجر، والله بطيبهِ ونعمتهِ يردُّك إلى سيرتك الأولى». فذهب ذلك الأخُ وعمل وصبر كما علَّمه الشيخُ فوجد نياحاً وأفلح. قال شيخٌ: «احذر أن تصنعَ خطيةً بهواك، لئلا تعتادها فتصنعها بغير هواك، كالضحك». وسُئل: «كيف أسكنُ في ديرٍ بغيرِ قلقٍ»؟ فقال: «ذلك بأن تَعُدَّ نفسَك غريباً، ولا تطلب أن يكون لك فيه كلمةٌ مسموعةٌ، كما تقطع هواك ولا تحسب نفسَك شيئاً». كما سُئل عن الغربةِ، فقال: «هي الصمتُ، وترك الالتفاتِ إلى الأمورِ». قال أخٌ لشيخٍ: «إني أرى فكري دائماً مع الله». فقال له: «الأعجب من هذا أن ترى نفسَك تحت جميعِ الخليقةِ، فلا سقوط مع الاتضاع». وسُئل: «ما هو الاتضاع»؟ فقال: «أن تحسن إلى من أساء إليك، وتسكت في جميع الأمور». قال أحدُ الشيوخِ: «إذا صرنا في السلامِ غيَر مُقاتَلين فسبيلُنا أن نتضعَ كثيراً، لئلا نُدخل علينا فرحاً غريباً، فنفتخر وننسب ذلك إلى جهادِنا ونتعظَّم في أنفسِنا فيتركنا من عنايتهِ، ونُسلَّم إلى القتالِ فنسقط، لأن الله لأجلِ ضعفِنا، مراراً كثيرة يرفع عنا القتالَ». سأل الأنبا آمونالأنبا بيمينعن الأفكارِ النجسةِ التي تتولد في قلبِ الإنسانِ والحسيات البطالة، فقال له: «هل يقطع الفأسُ بغير إنسانٍ يقطعُ به؟ فلا تحادث أنت هذه الأفكار وهي تبطل». وسأله أيضاً أنبا إشعياء عن هذه المسألة فأجابه: «إن وضع إنسانٌ ثيابَ صوفٍ في صندوق ولم يتعاهدها، أكلتها العثة وهلكت، كذلك الأفكار إن لم تفعلها جسدانياً بطلت». وأيضاً سأله أنبا يوسف بهذا الخصوص، فقال له: «كما أنه إذا دخلت حيةٌ أو عقربٌ في جرابٍ، فإن ربطتَّه ولم تدعها تدخل وتخرج فهي تموت مع طول الزمان، وإن تركته مفتوحاً فهي تخرجُ وتؤذيك، كذلك الأفكار السوء التي تعرض لنا تبطل بالحراسة والصبرِ». قال أخٌ لشيخٍ: «إن أصابني ثِقَلُ النومِ أو فاتني وقتُ صلاةٍ ثم انتبهتُ ولم تنبسط نفسي للصلاة حزناً، فماذا أعمل»؟ فقال له: «ولو نمتَ إلى الصباح فقم وأغلق بابك واعمل قانونك، فالنبي داود يقول مخاطباً الله: لك النهار ولك الليل، وإلهنا لكثرةِ جودِه ورحمتِه في أي وقتٍ دُعيَ أجاب». قال شيخٌ: «الذي يأكلُ كثيراً ويقومُ عن المائدةِ وهو جائعٌ، أفضل من الذي يأكلُ قليلاً ويبطئ أمام المائدةِ حتى يشبعَ». وقال آخر: «إذا رأيتَ شاباً يصعدُ إلى السماءِ بهواه، فَشِدْ رِجلَه واطرحه فإن هذا أنفع له». كان أحدُ الرهبان المجاهدين إذا قالت له الشياطين في فكرِه: «ها قد ارتفعتَ وصرتَ كبيراً»، كان يتذكَّر ذنوبَه قائلاً: «ماذا أصنعُ من أجل خطاياي الكثيرة». وإذا قالوا له: «لقد فعلتَ ذنوباً كثيرةً وما بقي لك خلاصٌ»، يقول: «وأين رحمة الله الكثيرة». فانهزمت عنه الشياطين قائلين: «لقد قهرتنا، إن رفعناك اتضعتَ، وإن وضعناك ارتفعتَ». أخبر أبٌ أنه أبصرَ أربع مراتب مرتفعةً في السماءِ، الأولى: مريضٌ شاكرٌ لله. والثانية: صحيحٌ يضيفُ الغرباء وينيح الضعفاء. والثالثة: منفردٌ في البريةِ مجتهدٌ. والرابعة: تلميذٌ ملازمٌ لطاعةِ أبيه من أجلِ الله. ووجد أن مرتبةَ التلميذ أسمى من المراتب الثلاث الأخرى، وزعم أنه سأل الذي أراه ذلك قائلاً: «كيف صار هذا هكذا وهو أصغرهم، فأصبح أكبرهم مرتبةً»؟ فقال: «إن كلَّ واحدٍ منهم يعمل الخيرَ بهواه، وأما هذا فقد قطع هواه لله، وأطاع معلمه، والطاعة لأجلِ اللهِ أفضل الفضائل». قال شيخٌ لتلميذهِ: «ويحٌ لي يا ابني، فإنني ربما إذا مضيْتُ بالليلِ إلى موضعٍ يُبعدني من اللهِ، وسمعتُ صوتَ الكلابِ، أخرج لساعتي فزعاً منها، فالخطأ الذي لا يردُّني عنه خوفُ اللهِ، ردَّني عنه خوفُ الكلابِ». وقال أيضاً: «لو أننا نحبُّ اللهَ مثلما نحبُّ أصدقاءَنا، لكنا مغبوطين، لأنني رأيتُ مَن أحزن صديقَه، فلم يجد هدوءاً حتى تجدَّدت المودةُ بينهم بالمراسلة وبالاعتذار وبالاستغفار وبالهدايا، أما الله فنغضبه بذنوبنا ولا نكترث لذلك». قال شيخٌ: ذهبنا مع إخوةٍ إلى ديرٍ خارج الإسكندرية على بعد خمسة عشر ميلاً، فلقينا أنبا تودري، وقد كان رجلاً كثيرَ التعبِ في الرهبنةِ، ومعه موهبة الصبر، فحدثنا عن أخٍ كان ساكناً في القلالي الكائنة خارج الإسكندرية، وكان قد اقتنى له موهبة البكاء، وفي يومٍ من الأيامِ أوجعه قلبُه وجاءه بكاءٌ كثير، فلما رأى كثرةَ البكاءِ، قال لنفسِه: «هذه علامةٌ دالةٌ على أن يومَ موتي قد دنا»، فكان كلما تفكَّر في ذلك، كان البكاء يزداد ويكثر كلَّ يوم. فلما انتفعنا من حديثِ الشيخِ سألناه عن الدموع: «لأي سببٍ يا أبانا تأتي الدموع من نفسِها مرةً ولا تأتي من نفسِها مرةً أخرى»؟ فقال لنا الشيخُ: «الدموعُ مثل المطر، والراهبُ مثل الفلاح، فينبغي له إذا أبصر المطرَ قد جاء، أن يحرصَ ألا يفوته شيءٌ منه، بل يصرفه كلَّه إلى أرضهِ، حقاً أقول لكم يا بَنيَّ إنه ربما يكون يومٌ واحدٌ ممطر أخيَر من السنةِ كلِّها. فمن أجل ذلك، إذا رأينا المطرَ قد جاءنا، فلنحرص أن نحفظَ أنفسَنا ونتفرغ إلى التضرع إلى الله دائماً، إذ لا ندري هل نجد يوماً آخرَ مثلَ اليوم الذي جاءنا فيه البكاءُ أم لا». فسألناه نحن أيضاً وقلنا: «أخبرنا يا أبانا كيف ينبغي للإنسان أن يحفظَ ذلك البكاء إذا جاء»؟ فقال لنا الشيخ: «من قبل كلِّ شيءٍ، لا يتوجه ذلك الإنساُن الذي يأتيه البكاء في ذلك اليوم، أو تلك الساعة، أو تلك السنة، إلى إنسانٍ، ويتحفَّظ ألا يملأ بطنَه وألا يستكبر في قلبهِ، ويُفضَّل أن يبكي وأن يتفرَّغ للصلاةِ والقراءة، فإذا جاء النوحُ فهو يعلِّمه الأمورَ التي تضره، والأمورَ التي تأتي به». ثم إن الشيخ حدثنا وقال: «إني أعرفُ أخاً كان جالساً في قلايته يعمل في الضفيرةِ، وكانت الدموعُ تأتيه بغزارةٍ، فكان إذا رجع إلى العمل في الضفيرة، يجمع عقلَه ويأتيه البكاء، حتى في القراءةِ كذلك، فإنه إذا أخذ المصحفَ جاءه البكاءُ، وإذا تركه ذهب البكاء عنه، حينئذ قال لنفسه: حسناً قال الآباءُ، إنَّ النوحَ هو معلمٌ، يعلِّم الإنسانَ كلَّ شيءٍ ينفع نفسَه». مضى أخٌ إلى الأب سلوانس وأخبره بأن له عدواً قد كثر شرُّه، وقد سأل السحرةَ في إهلاكِه، وأنه يريدُ أن يسلِّمه إلى السلطان ليؤدِّبه وتنفع نفسه. فقال له الشيخ: «اعمل ما شئتَ». فقال الأخ: «اصنع لي صلاةً». فقام الشيخُ ليصلي، ولما بلغ إلى قولهِ: «اغفر لنا يا ربُّ خطايانا كما نغفر نحن لمن أخطأ إلينا»، قال: «لا تغفر لنا يا ربُّ خطايانا، كما لا نغفر نحن لمن أخطأ إلينا». فقال الأخ: «لا تقل هكذا يا أبي». فأجابه الشيخُ: «إذا كنتَ تريدَ أن تنتقمَ ممن أساء إليك، فهذا ما يجب أن يقال يا ولدي وهكذا يكون». فصنع الأخُ مطانية وصفح عن عدوهِ. فسَّر أحدُ الشيوخِ قولَ الله: «على خطيتين وثلاث خطايا صبور، وأما الرابعة فلا أحتمل». فقال: «الأولى هي التفكير في الشرِّ، والثانية هي الخضوع للفكر، والثالثة هي التحدث باللسان، والرابعة هي إتمام الفعل، وعن هذه ينتقم». قال شيخٌ: «إن من يحب السكوت ينجو من سهام العدو، أما الذي يحب الجماعات فإنه يُصاب بجراحات كثيرةٍ». كان إنسانٌ يريد أن يترهب، وكانت أمُه تمنعه، ولم يزل يلحُّ عليها قائلاً أريد أن أخلِّص نفسي، حتى توفيت أمه بعد قليل، فمضى وترهب، وصار متوانياً في رهبنته. فحدث أن مرض جداً، وخُطف عقلُه إلى موضع الدينونةِ، فرأى أمَه مع الذين يُعذَّبون، ولما رأته قالت: «ما هذا يا ولدي، وكيف جئتَ إلى ها هنا، وأين قولك: أريد أن أخلِّص نفسي»؟ فبقي حائراً ولم يدرِ كيف يجيبها. فرجع إلى نفسِه وقام من مرضِه، وعلم أن الله الرحوم قد افتقده ونبهه، فحبس ذاته في قلايةٍ لطيفة، وجلس يهتم بخلاص نفسِه بالتوبةِ، والبكاء على ما سلف من توانيه، حتى كان الآباء يطلبون إليه أن يكفَّ عن البكاء قليلاً، فكان يجيبهم: «إن كنتُ لم أحتمل تعيير أمي، فكيف يكون حالي إذا وقفتُ قدام المسيح بحضرةِ الملائكة يوم الدينونة. أيمكنني أن أحتمل ذلك الخزي المعد للخطاة»؟ قال شيخٌ: أراد إنسانٌ موسر أن يعلِّم أولاده النشاطَ، فقال لهم: «هل تعلمون كيف صرتُ غنياً؟ إن سمعتم مشورتي استغنيتم مثلي». فسألوه عنها، فقال لهم: «في كلِّ سنةٍ يوجد يومٌ من أيامِها كلُّ من عمل فيه باجتهادٍ استغنى، إلا أني لشيخوختي قد نسيت أيَّ يومٍ هو، فلا تتوانوا أنتم في العمل كلَّ يومٍ، لئلا يفوتكم العمل في ذلك اليوم المبارك، فيضيع تعبُكم في السنةِ كلِّها». ثم قال الشيخُ: «هكذا نحن أيضاً لسنا نعرفُ يومَ وفاتِنا، فإن توانينا حين وفاتنا، فاتنا مقصدنا وضاع كلُّ تعبنا، وإن اجتهدنا إلى الآخر وجدنا ملكوت السماوات». وقال أخٌ آخر: «كما أن الكنزَ إذا ظهر نقص، كذلك الفضائل إذا اشتهرت وعُرفت تبيد كلُّها، وكما يذوب الشمع من أمام وجه النار، كذلك تسترخي النفس وتهلك وينقطع نشاطُها من مديحِ الناسِ». كان أحدُ الإخوةِ يرى نعمةَ الله على الهيكلِ، فلما قال لأخيه: «لِمَ تأكل مبكراً»؟ ارتفعت ولم يرها بعد. أخبر أحدُ الآباء إنه كان ساكناً بالقربِ من أخٍ عمَّال مع الله، فاعتراه توانٍ وكسل، وبعد مدة انتبه من توانيه ولام نفسَه قائلاً: «يا نفسي، إلى متى تتوانين عن خلاصِك؟ أما تخافين من دينونة الله يا شقية وأنت في مثل هذا التواني، فتُسلَّمين للعذاب الدائم»؟ فلما تفكَّر في مثل هذا، أنهضَ نفسَه في عملِ الله. ففي بعض الأيام وهو واقفٌ يصلي، أحاطت به الشياطين وعذَّبته، فقال لهم: «إلى متى تؤذونني؟ أما كفى ما قاسيته في زماني من التواني»؟ فقالت له الشياطين: «لما كنا نراك متوانياً، كنا متوانين عنك، ولما رأيناك قمتَ وتجردت لنا، قمنا نحن أيضاً عليك، فتلقَّى ما يأتيك». فعندما سمع ذلك، أخذته غيرةٌ، وازداد نشاطاً وحرارةً في عمل الله. وبنعمة الله حصل على الغَلَبة. كان شيخٌ قديس له عادة إذا جلس في عمل يديه ينظر إلى الأرضِ، ويجمع عقلَه ثم يحرِّك رأسه ويقول بتنهدٍ: «تُرى ماذا يكون»؟ ثم يسكتُ قليلاً ويرجع إلى عملِه في الضفيرة، ثم يعيد القول، وهكذا استمر على هذه الحال جميع أيام حياتهِ. أخٌ أغلق على نفسِه بابَ قلايته زماناً يسيراً، فقاتلته أفكارٌ مكتومة وأحلامٌ سمجة، فأراد الامتناعَ من شربِ الخمر، فبعث إلى شيخٍ قديس يستشيره في ذلك، فأجابه الشيخُ قائلاً: «إن كنتَ تريد أن تخلص فاهرب من شيطانِ العظمةِ، واجعل لك قليلَ محقرةٍ لأن المحقرةَ تُهلك العظمةَ وتبعدها، ولا تدع أحداً يخدمك، بل اخدم أنت نفسك، وأنت تخلص بمعونة الله، والآن فلا تغلق البابَ الخشب، بل بالحري أغلق بابَ لسانِك». قال شيخٌ: «إذا كنتَ جالساً في قلايتك بسكوتٍ، فلا تظن أنك تفعل أمراً كبيراً، بل افتكر أنك كلبٌ عَقُور مسجون، كيلا تبصر الناسَ فتعقرهم». قال أحدُ الشيوخِ: «عوِّد نفسَك يا ابني عند كلامِك عن الرهبان أن تقول: إن هذا أخيَرُ مني، وهذا أحرصُ مني في رهبانيته، وهذا أبرُّ مني. على أن تقول ذلك بنيةٍ صادقةٍ من كلِّ قلبك، لأن ذلك يجعلك تنظر ذاتَك تحت الخليقةِ كلِّها، وحينئذ يسكن فيك روحُ الله، أما إن كنتَ تزدري بإخوتك وتحتقرهم وتَعُدَّ نفسَك شيئاً وتستكبر، فإن نعمة الله تبعد عنك، وتُسلَّم إلى دنس الجسد الذي يقسِّي قلبَك مثل الحجرِ». قال أحدُ الشيوخ: «إذا كان الراهبُ حريصاً مجاهداً، فإن الله يطلب منه ألا يرتبطَ بشيءٍ من أمورِ هذه الدنيا، لئلا يشغله ذلك عن ذِكر ربِّهِ، وعليه أن يطلبَ إليه بلجاجةٍ وبكاءٍ ليغفرَ الله خطاياه». وقال شيخٌ: «كلُّ من ذاق حلاوةَ المسكنةِ، فإنه يستثقل ثوبَه الذي يلبسه وكوزَ الماء الذي يشرب به، لأن عقلَه قد اشتغل بالروحانيات. فإذا ما ارتبط الراهبُ بالدنيا وما فيها، وصنع هواه، فإن جميعَ تعبهِ يذهبُ باطلاً». وقال أيضاً: «الجوعُ والتعبُ يُبطلان قتالَ الزنى، وطولُ الروحِ والرحمةُ يهدئان الغضبَ، وقراءةُ الكتبِ والسهرُ في الصلاةِ يجمعان العقلَ الطوَّاف». قال شيخ: «كلُّ من يحاربه إبليس وجنوده بالقتال، وهو لأجل ذلك ينوح ويبكي ساهراً، طالباً معونة الله، فهو يُستجابُ، لأن السهرَ يحلُّ الخطيةَ، والبكاءُ يغسلُ الذنوبَ». كما قال شيخٌ: «إن الهدوءَ هو أولُ زكاوة النفس، لأن اللسانَ حينئذ لا يتكلم بكلام الناس، والعينان لا تنظران الجمالَ والحسنَ المنحرف عن الواجب، والأذنان لا تسمعان الأصوات اللذيذة التي ترخي قوة النفس، مع كلام الضحك واللعب، والقلب لا يتبدد بالعلل البرانية، ولا الحواس تنصبُّ إلى العالم، ولكنه يرفع نفسه ويهتم بالله». كان شابٌ في المدينةِ قد صنع شروراً كثيرةً، وكان منغمساً في الخطايا، وبرحمةِ الله، أحسَّ بعد ذلك بكثرةِ خطاياه، فحبس نفسَه في قبرٍ لكي ما يتوب عما صدر منه، وطرح وجهَه على الأرضِ وهو يقول: «لا ينبغي لي أن أرفعَ نظري إلى السماءِ لكثرة خطاياي، ولا أن أذكرَ اسمَ الله بفمي النجس، ولا أن أصلي». وكان يقول في نفسِه: «إني لا أستأهل السُكنى مع الناسِ الأحياء، ولكن مع الموتى». فحبس نفسَه في القبرِ وهو يائسٌ من الحياةِ، وكان يتنهد من وجعِ قلبهِ، فلما انقضى أسبوعٌ وهو على هذه الحال، أتاه بالليلِ أجنادُ الشياطين وهم يصيحون قائلين: «أين ذلك النجس الذي لم يشبع من الدنس، هل يريد الآن أن يصير نصرانياً؟ ألا تنطلق بعجلةٍ من ههنا، لأن الزناةَ والخمارين أصحابك يتوقعون حضورك إليهم، فاطرح عنك هذا الأمرَّ البطال، فما الذي يحملك على أن تقتلَ نفسَك أيها الأرعن، إنما أنت بجملتك لنا وقت وهبت لنا حياتك بعهودٍ، فأنت غريمٌ لنا، لماذا تهرب منا؟ ألا تردَّ علينا جواباً؟ ألا تقوم وتذهب معنا»؟ أمَّا هو، فمن وجعِ قلبهِ لزم السكوتَ، فلما كثُرَ عليه الكلامُ ولم يجبهم، حينئذ بدءوا يضربونه، واستمروا يضربونه حتى مزَّقوا جسَده، فلم يستطع أن يتحركَ، كما لم يقدروا أن يُزيغوه عن فكرِه الصالح. فتركوه مثل ميتٍ وانصرفوا وهو في تنهدٍ شديدٍ مسلِّماً نفسَه لله، ثم أن أهل بيتهِ خرجوا يطلبونه، فلما وجدوه سألوه عن أمرهِ، فأخبرهم بما حلَّ به، فأرادوا أن يأخذوه معهم، فامتنع. وفي الليلةِ التالية، عاد إليه الشياطين، وضربوه، ولما كانت الليلة الثالثة، أتوه أيضاً وضربوه حتى بقي فيه قليلُ نفسٍ، فلما رأى الله انكسارَ قلبهِ، منعهم عنه، فهربوا وهم يقولون: «قد غلبتنا». ولم يعودوا إليه بعد ذلك، فسكن في ذلك القبر بقية حياته بالزكاوةِ، واقتنى رهبنةً فاضلةً، وصار سبباً لرجوع خطاةٍ كثيرين إلى التوبةِ». قال شيخٌ: «الاتضاع هو شجرة الحياة، التي لا يموت آكلوها». وقال أيضاً: «تشبَّه بالعشارِ، لئلا تُدان مع الفريسي». |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
تصميم | القديس برشنوفيوس الراهب |
القديس برشنوفيوس الراهب|تصميم |
القديس برشنوفيوس الراهب |تصميم |
استشهاد القديس برشنوفيوس الراهب |
القديس الأب برصنوفيوس |