لكن الطريق لم يكن ممهدًا

[Mary Naeem]

لكن الطريق لم يكن ممهدًا


في بداية القرن العشرين، حينما كان العالم العلمي يكاد يكون حكرًا على الرجال، وُلدت فتاة إنجليزية تُدعى سيسيليا باين. منذ طفولتها، أظهرت شغفًا غريبًا بالنظر إلى السماء، وكأن النجوم تهمس لها بأسرار لا يسمعها غيرها.
لكن الطريق لم يكن ممهدًا…
فأمها، التي فقدت زوجها مبكرًا، كانت ترى أن التعليم العالي للبنات مجرد ترف لا طائل منه. رفضت أن تدفع لها تكاليف الدراسة، وكأنها تقول لها: "مكانك في البيت، لا في قاعات العلم."
إلا أن سيسيليا لم تقبل أن تُحاصر أحلامها بين جدران منزل.
بذكائها وتفوقها الدراسي، حصلت على منحة للدراسة في جامعة كامبريدج. وهناك درست الفيزياء وعلم الفلك، متفوقة بين أقرانها الذكور في زمن لم يكن يتقبل بسهولة فكرة أن امرأة يمكن أن تنافس في ميادين العلم الصعبة.
لكن المفارقة المؤ*لمة أنّ كامبريدج وقتها لم تكن تمنح النساء درجات علمية رسمية! درست، تعبت، تفوقت… ثم اكتشفت أن كل ذلك لن يُكلَّل بورقة تُثبت إنجازها.
لم تيأس… بل قررت أن تبحث عن مكان آخر يقدّر عقول النساء. شدّت الرحال إلى الولايات المتحدة، وهناك وجدت ضالتها في مرصد كلية هارفارد، الذي كان يفتح أبوابه أمام الباحثات الموهوبات.
في هارفارد، كتبت سيسيليا أطروحتها للدكتوراه عام 1925، والتي وصفتها لاحقًا الأوساط العلمية بأنها "أطروحة هي الأروع في تاريخ الفلك". ففيها قدّمت كشفًا ثوريًا قلب الموازين:
النجوم ليست مكونة من نفس العناصر الموجودة في الأرض كما كان يُعتقد، بل معظمها هيدروجين وهيليوم.
كان اكتشافًا مزلزلًا… فقد غيّر الطريقة التي ينظر بها الإنسان إلى الكون وإلى نفسه. لقد كشفت سيسيليا أن مادة الكون الأساسية مختلفة تمامًا عمّا نعرفه في كوكبنا الصغير، وأننا لسنا "مقياس كل شيء" كما كان يظن البشر.
ورغم عظمة هذا الإنجاز، قوبلت أطروحتها في البداية بالتشكيك، حتى أن بعض العلماء حاولوا تثبيطها أو نسب الاكتشاف لغيرها. لكنها تمسكت بالعلم والحقائق، ومع مرور الوقت، أثبت التاريخ صحة ما توصلت إليه.
سنوات قليلة بعد ذلك، حققت إنجازًا آخر لا يقل أهمية: أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة قسم الفلك في جامعة هارفارد، متخطية بذلك كل الحواجز الاجتماعية والفكرية التي كانت تُقيد النساء في عصرها.
قصة سيسيليا ليست مجرد سيرة ذاتية لعالمة، بل هي درس خالد في الإصرار والعزيمة وكسر القيود.
هي حكاية فتاة قهرت الصعاب، وأثبتت أن العقل لا يعرف جنسًا، وأن النجوم التي سكنت خيالها طفلةً، أصبحت في النهاية الشاهد الأكبر على عبقريتها.