يعلن الجامعة أن القهر هو سمة كل أعمال الإنسان [1]؛ ويظهر المقهورون عاجزين عن التصرف، فيمزق صراخهم قلب الجامعة. كان سليمان رقيق المشاعر جدًا فلم يحتمل دموع المظلومين، حاسبًا الأموات أكثر غبطة من الأحياء الذين يرون الظلم سائدًا في العالم، والسقط الذي لا يولد بل يموت كجنين في أحشاء أمه هو أكثر غبطة من الكل، لأنه "لم يَر العمل الرديء الذي عُمل تحت الشمس" [3].
لم يكن الجامعة متشائمًا في اشتهائه الموت، وإنما كان رقيقًا كل الرقة، لا يحتمل معاينة المظلومين، متشبهًا بسيِّده القائل: "حوِّلي عني عيناكِ فإنهما غلبتاني" (نش 6: 5)... وربما خشيَ الجامعة نفسه لئلاَّ يُشارك الكل الظلم ويكون ساقطًا فريسة له.
يعبِّر القديس أمبروسيوسعن مشاعر الجامعة الذي اشتهى الموت عن معاينة الظلم، قائلًا: [يؤكد الجامعة أن المولود ميتًا أفضل من المتقدم في العمر، لأنه لم يَر الشرور التي حلَّت في هذا العالم. إنه لم يأتِ إلى تلك الظلمة، ولم يمشِ في بطلان العالم، لذا فإن من لم يأتِ إلى تلك الحياة هو في أكثر راحة من الذي جاء إليها. حقًا، ما هو خير الإنسان في هذه الحياة؟ إنه يحيا في ظلام ولا يشبع في رغباته، وإذا ما أُتخم بالغنى يفتقد الراحة، إذ يلتزم بحراسة ما اقتناه من ممتلكات بسبب طمعه الشرير. لأنه اقتنى تلك القنية بشراهته وطمعه، فإنه يرى أنها لا تهبه خيرًا. ما أقسى أن يحرس الإنسان مقتنياته ويتعذب ولا يستفيد بوفرتها].
إن كان الجامعة يمتدح من مات في أحشاء أمه حتى لا يُعاين الظلم أو لئلاَّ يُشارك الناس ظلمهم وطمعهم وجشعهم، أليس بالأولى نطوّب من يموت بإرادته الحرة مع مسيحه المصلوب حبًا لله والناس.
وكما يقول العلامة أوريجانوس: [من ذا الذي يُمتدح بأكثر استحقاق من ذلك الذي يموت بكامل حرية إرادته من أجل دينه (إيمانه)؟!].