|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الصليب برهان بطلان الحكمة البشرية إن صليب المسيح هو مركز مقاصد الله ومشوراته الصالحة، والتي هي بحق أعماق الله (1كو2: 10). ونحن بصدد الحديث عن صليب المسيح في إحدى جوانبه، ألا وهو الصليب كتعبير عن حكمة الله طارحين أمام القارئ - بنعمة الله - سبعة عناصر يحتويها هذا الموضوع: حكمة الله يحدِّثنا الرسول بولس باعتبار أن الله مصدر الحكمة الإلهية المتنوعة والتي سنطلع عليها في هذا المقال، إلا أننا نرى أن هذه الحكمة تتحدث عن ثلاث مراحل زمنية تبدأ بالأزل مروراً بالزمن لتمتد إلى الأبد. فلنحاول بنعمة الله أن نستكشف هذه المراحل من خلال كلمة الله (1كو2: 7). أولاً: هذه الحكمة مُخفاة عن الإنسان، فهي الحكمة المطوية في سِر. فهي الحكمة المكتومة في الله أزلاً، فلم يمكن لإنسان أن يعرف هذه الحكمة في كل الأجيال السابقة لصليب المسيح، حتى أنبياء وقديسي العهد القديم. ثانياً: بالنسبة للزمان الحاضر، فقد أُعلنت لنا هذه الحكمة عن طريق الروح القدس بعدما أُعلنت لبولس والرسل (1كو2: 10). فبعد صليب المسيح نزل الروح القدس ليُطلع المؤمنين على هذه الحكمة التي هى «أعماق الله»، والتي بمقتضاها عرفنا كل مقاصد الله الصالحة لبركة الإنسان بواسطة «صليب المسيح». ثالثاً: إن هذه الحكمة، التي كانت في فكر الله أزلاً كَسِّر، غرضها مجد المؤمنين فيما يختص بالمستقبل - الحكمة التي سبق الله فعيّنها قبل الدهور «لمجدنا». فأمجاد الكنيسة في المستقبل مرتبطة بهذه الحكمة وإن كان لنا الآن نصيب في التمتع بنتائج حكمة الله في الصليب، إلا أن في المستقبل سيكون لنا نصيب أبدي في التمتع بحرية مجد أولاد الله (رو8: 21). حكمة الله في صليب المسيح: إن صليب المسيح هو المكان الوحيد الذي استُعلنت فيه حكمة الله بصورة مُطلقة، إذ في الصليب استُعلنت صفات الله المطلقة مجتمعة معاً دون أدنى تعارض أو اصطدام، بل استُعلنت في انسجام وتوافق عجيب، حيث في الوقت الذي استُعلنت فيه قداسة الله وبره في دينونة الخطية، استُعلنت محبة الله ورحمته لخلاص الإنسان. ففي الصليب فقط: الرحمة والحق التقيا، البر والسلام تلاثما (مز85: 10). ففي توافق عجيب لهذه الصفات اتجهت العدالة لإيفاء مطاليب الله، واتجهت الرحمة لخلاص الإنسان. فالحكمة تتجه في الصليب لإيفاء مطاليب السماء من فوق وتسديد أعواز الإنسان على الأرض. صليب المسيح برهان بُطلان الحكمة البشرية إن الله اتخذ من صليب المسيح واسطة يبرهن بها على بُطلان كل حكمة بشرية، بل إن الله في الصليب اعتبر هذه الحكمة، التي يتشدق بها الإنسان، ما هي إلا جهالة في نظر الله، وذلك للأسباب التالية: 1- عجز هذه الحكمة البشرية عن معرفة الله معرفة حقيقية. لأنه إذ كان العالم لم يعرف الله بحكمته البشرية، رغم أن الله أعلن عن نفسه في المصنوعات (رو1: 19،20)، أي في ما أبدعته يد الخالق العظيم (مز19: 1)، ففي هذا فشلت الحكمة البشرية في إدراك الله ومعرفته معرفة حقيقية (رو1: 22،23). 2- عجز هذه الحكمة البشرية عن الارتقاء بمستوى الإنسان روحياً ليكون في علاقة حية حقيقية مع الله. فقد تتخذ الحكمة البشرية طريقاً في تعليم المثاليات والأدبيات، وتجتهد في تهذيب الإنسان والارتقاء به اجتماعياً، لكنها لا يمكن أن تصل به إلى علاقة حقيقية مع الله أو الارتقاء بمستواه روحياً ليكون متوافقاً ومنسجماً مع طبيعة الله وصفاته، الأمر الذي لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال صليب المسيح (كو1: 20-22). 3- عجز الحكمة البشرية عن إيجاد وسيلة لخلاص الإنسان من عبودية الخطية وعقوبتها. فتارة تنادي الحكمة الإنسانية بممارسات دينية لإرضاء الله لتفادي القضاء المروع والدينونة، وتارة تنادي بإذلال وقهر الجسد في محاولة التحرر من عبودية الخطية، الأمر الذي يبدو أمام العين البشرية أن له مظهر الحكمة (كو2: 23). إلا أن حكمة الله في صليب المسيح أعلنت خلاص الإنسان خلاصاً كاملاً وشاملاً. فبالنسبة للأمم فقد سامح الله الأمم بجميع الخطايا، فلن يعود الله للمطالبة بحقوقه إذ وفيت في صليب المسيح (كو2: 13). وبالنسبة لليهودي فقد تم محو (إلغاء) الصك (فاتورة الديون) المسجَّلة ضده، بتسمير هذه الفاتورة في الصليب. وقد قام الله بنفسه بتسمير هذه الفاتورة التي أصبحت إعلاناً ظاهراً بإلغاء الدين (كو2: 15). إن هذا وذاك؛ الأممي واليهودي، لم يكن لأي منهما خلاص بواسطة الحكمة البشرية، بل في صليب المسيح البرهان الكامل على عجز الحكمة البشرية في خلاص الإنسان. 4- في اختيار الله لأردأ النوعيات من البشر لهو بُطلان للحكمة البشرية. فمن الأمور التي تدعو إلى العَجَب في حكمة الله، اتخاذها طريقاً يُبطل افتخار الإنسان. فاختيار الله للجهال (غير المتعلمين) علمياً، لنوال الخلاص الأبدي بصليب المسيح، ليقف الحكيم بحكمته البشرية موقف التعجب والاندهاش: أ يتخطى الله عقلاً ممتلئاً بالمعرفة والعلم نظيره إلى جاهل ليحظى بالحياة والفرح والسلام دونه هو؟ أنه أمر يضع الحكمة البشرية في التراب. أ يقف الأقوياء أصحاب النفوذ والمراكز الاجتماعية المرموقة خارجاً يرقبون خلاص المساكين الفقراء؟ أ يُستبعد الشرفاء سليلي العائلات الراقية، وذَوي الأنساب والألقاب الطنانة في المجتمع، ويُرَحَب بالأدنياء والذين لا شأن ولا قيمة لهم؟ أ ليس في كل هذا حكمة، لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه. فهذه هي حكمة الله التي تجتذب إلى صليب المسيح كل هؤلاء، لنرى في حكمة الصليب كيف يخلص الجاهل ولا يخلص الحكيم، كيف يخلص الضعيف ولا يخلص القوي، كيف يخلص الدنيء ولا يخلص الشريف. وحتى عندما يتعامل الله في اتساع نعمته مع البعض من الحكماء والشرفاء، فإنه يقودهم للإقرار بعدم أهليتهم مع الشعور بنعمة الله المتفاضلة عليهم في الصليب. في الكرازة بالمسيح مصلوباً إبطال للحكمة البشرية: في الكرازة بالمسيح مصلوباً نرى وجهاً آخر لحكمة الله. فالصليب مظهر من مظاهر الضعف المطلق حيث نرى المسيح وقد أخضع نفسه لحكم الموت، وهذا ما عبَّر عنه الرسول «بضعف الله»، فهل الله ضعيف؟ حاشا. بل إن الله رأى في مشهد الضعف هذا - أي موت المسيح مصلوباً - الطريق الوحيد لخلاص الإنسان، الأمر الذي أصبح يمثِّل عقبة كبيرة أمام اليهود في طريق إيمانهم بالمسيح. فالصليب لليهود عثرة، فكيف يؤمن اليهودي بمخلِّص «مصلوب» وطبقاً للناموس يعلم اليهودي إن المعلَّق على خشبة مرفوض من الله (تث21: 22،23). فإلى أي جانب يقف اليهودي.. أ مع الناموس أم مع المسيح؟ كما أن مما مثل عقبة أمام اليهودي: كيف أن يكون مخلّصهم ومسيّاهم بهذا الاتضاع والمذلة، فأين جلاله الملكي؟ وأين غناه؟ وأين سلطانه السياسي وقوته الساحقة للأعداء؟ لقد عثروا بابن النجار، ومازالوا حتى يومنا هذا يعثرون في المسيح مصلوباً، إذ مازالوا يحملون في قلوبهم وأفكارهم ما اعتقده اليهود قديماً: هل يمكن لمن مات مصلوباً أن يكون مخلصاً؟ لكن هل توقفت الكرازة بالمسيح مصلوباً لأن هذه الكرازة عقبة أمام اليهود ومَنْ على شاكلتهم؟ حاشا وكلا، بل يقول الرسول نحن نكرز (بولس والرسل) بالمسيح مصلوباً. فليس الغرض أن نحاول التوفيق بين منطق اليهودي وفكرة الخلاص بالصليب. فبالرغم من عدم الترحاب بالكرازة بالصليب لأنه لليهود عثرة، إلا أننا سنستمر نكرز بالمسيح مصلوباً. كما أن الكرازة بالصليب كانت عقبة أيضاً في طريق إيمان الأمم اليونانيين بالمسيح. لماذا؟ لأن اليونانيين اعتبروا قصة الصليب نوعاً من الجهالة، ولا يمكن أن يقبلها العقل البشري، لأن الفكر الذي اعتنقه اليونانيون أن الله منزه تماماً عن المشاعر الحسية التي تصيب البشر كالألم والفرح والمعاناة والمذلة من البشر. فكيف يتسنّى للإله المنزه عن كل هذه، أن يأتي في صورة بشرية، ويتألم من أيدي البشر ويُقتل، فهل هذا منطقي ومعقول؟ إنه غير منطقي وغير معقول للعقل البشري، لذلك اعتبر الأمم اليونانيون ومَنْ على شاكلتهم، أن قصة صلب المسيح نوعاً من الجهل. كما أن فكرة ظهور الله في الجسد غير مقبولة، وأن موته على صليب هو شيء من الكُفر - وذلك في عين الحكمة البشرية - ولكن هل حاول الرسول بولس في كرازته أن يُرضي ذوق ومنطق الأمم، كلا. فإن اختيار الله للصليب إنما هو لإبطال هذه الحكمة البشرية، بل إن الرسول عقد العزم على أن لا يشهد في كرازته إلا بيسوع المسيح وإياه مصلوباً. فهو الطريق الوحيد للالتقاء بالله ومعرفته، والطريق الوحيد لنوال الخلاص الأبدي، فسنكرز بالمسيح مصلوباً. حكمة الله تجلت في آنية الكرازة: إن حكمة الله لم تتجلَ في اختيار ودعوة أردأ النوعيات من البشر للتمتع بالخلاص، بل إن حكمة الله أرادت أن تُبطل كل ما هو من الحكمة والقوة البشرية حتى بعد الإيمان بالمسيح. فالرسول بولس يُستعرَض أمامنا كإحدى الأواني البشرية التي ظهرت فيها حكمة الله. في حديث الرسول عن شعوره الشخصي فيما هو يكرز بصليب المسيح في كورنثوس يقول: «وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة». فالرسول يصف حالته الشخصية وصفاً ثلاثياً: أولاً: في ضعف. فقد كان الرسول في ضعف، ونعلم من 2كورنثوس12: 9 أنه ضعف في البنية الصحية لدى الرسول، مما يعطي شعوراً باطنياً لدى الرسول بأنه قد يُنظر إليه نظرة التحقير والازدراء بسبب الشوكة، الأمر الذي جعله يمدح الغلاطيين الذين بالرغم من وجود هذا الضعف في الرسول إلا أنهم لم يزدروا بها (تجربته الجسدية) ولا بالرسول، بل قبلوه كملاك الله (غل4: 13،14). فكثيراً ما يطوف خدام الله حاملين قوة الله «الإنجيل» في جسد ضعيف، بل حاملين كنزاً في أوانٍ خزفية، وفي هذا تتعظم نعمة المسيح وقوته وحكمته. ثانياً: في خوف. إن خوف الرسول لم يكن خوفاً من الاضطهاد أو الآلام، فهو الذي كان يعلم أن وُثقاً وشدائد تنتظره في كل مدينة، بالرغم من ذلك لم يكن يحتسب لشيء، ولم تكن نفسه ثمينة عنده (أع20: 23،24)، إلا أن الخوف هنا من جسامة المسئولية في الخدمة والكرازة، فهو لم يَقُم بالخدمة غير مُبالِ بجسامتها، بل كان كل كيانه بل وحتى أنفاسه تستشعر جسامة الخدمة حينما يقتضي الأمر القيام بها. فهل لنا نحن نفس أفكار ومشاعر الرسول في الخدمة؟ أم أنها وظيفة تؤدى بطريقة ميكانيكية؟ ثالثاً: ورعدة كثيرة. أ ليس من العجيب أن نرى الرسول العظيم في رعدة كثيرة؟ لماذا؟ لأنه كان يدرك ما سيصيب صليب المسيح لو استخدم بولس حكمته وأضاف من ابتكاراته ما يحاول به أن يُطنب السامعين بسمو الكلام وفصاحته. لقد كان يرتعد لمجرد أن يرى صليب المسيح وقد تعطل (أي أصبح بلا فاعلية ولا قوة في المستمعين) بسبب الحكمة الإنسانية الظاهرة في سمو الكلام، فيا له من خادم سعى لمجد الله، أولاً وأخيراً فليتنا نسعى من هذا الأمر حسناً. حكمة الله تجلت في مادة الكرازة: قبل أن يأتي الرسول بولس إلى كورنثوس، كان في أثينا وهناك احتدت روحه إذ رأى المدينة مملوة أصناماً. فقد تقابل مع بعض الفلاسفة الأبيكوريين والرواقيين، فأخذوه وذهبوا به إلى أريوس باغوس، وهناك طفق يتكلم بصورة منطقية وصحيحة عن ذلك الإله الذي يتقونه، ولكنهم في الحقيقة يجهلونه. فقال لهم إن هذا الإله ليس بعيداً عنهم، بل إنه هو الذي صنعهم وهو الذي يُحييهم، وهو الآن يأمرهم بالتوبة. فماذا كانت نتيجة هذه الخدمة المنطقية التي خلت من الكرازة بصليب المسيح؟ النتيجة خلاص رجل وامرأة مع عدد قليل (أع17: 22-34). وهذا شيء مبارك حتى لو خلصت نفساً واحدة. إلا أن الرسول استشعر أنه لم يكرز لهؤلاء الفلاسفة بصورة تختفي معها الحكمة الإنسانية المُقنعة تماماً، الأمر الذي حدا بالرسول وهو في طريقه من أثينا إلى كورنثوس أن يعزم من قلبه ألا يعرف بينهم في كرازته شيئاً سوى يسوع المسيح وإياه مصلوباً. فهو مادة الكرازة التي تأتي بالكثيرين للخلاص وكأن بالرسول وقد استوعب درس أثينا فلم يتكرر في كورنثوس. ألا يقودنا هذا إلى تقديم إنجيل المسيح في بساطته، فيكون للإنجيل قوته المباشرة على النفس فيخلِّصها. إننا نستمع كثيراً إلى شكوى لِما يدور في أماكن كثيرة: أن ما يقدم على المنابر بديلاً عن كلمة الله، مجرد فلسفات وشطحات عقل الإنسان ومحاولة اجتذاب المستمع برونق الكلام وابتكار أفكار جديدة للتأثير على عقل السامع، للإعجاب بالمتكلم أكثر من التأثر القلبي بكلمة الله. فيا ليتنا نخدم بكلمة الله بلا غش، وفي كرازتنا أن نقدم المسيح وإياه مصلوباً. حكمة الله تجلت في قوة الكرازة ونجاحها: هنا نرى مصدر القوة التي اقتضتها حكمة الله لإبطال القوة البشرية، ألا وهى قوة الروح القدس. لقد استند بولس تماماً على الروح القدس في إقناع القلوب بالشهادة التي كان يقدمها عن المسيح مصلوباً. ويثبّت الروح القدس هذه الشهادة في قلوب السامعين. ومما لا شك فيه أن الشهادة عن المسيح وإياه مصلوباً - أي عن شخص المسيح وعمله على الصليب - تكتسب تأييداً مباشراً وقوياً من الروح القدس. لذلك فقد كان إيمان هؤلاء الكورنثيين لا بحكمة الناس، بل بقوة الله. والحديث بعيداً عن كلمة الله وبعيداً عن المسيح وإياه مصلوباً، لا يمكن أن ينال تأييداً من الروح القدس، فيصبح المتكلم فارغاً من القوة، والكلام بلا ثمر. ولنلاحظ أنه قد يستعين أحدهم في خدمته بقوة شخصيته أو سمو كلامه للتأثير العاطفي والنفسي على المستمعين، وقد يستند آخر على شهرته أو مكانته كنسياً، والبعض الآخر يعتمد على مُحبيه ومُريديه. فلا كل هذا، ولا واحد منها، يصلح أن يكون بديلاً عن الروح القدس كالقوة الوحيدة للخدمة، ولا حتى أن من هذه الأشياء تصلح معواناً لصاحبها بجانب الروح القدس. ولذلك يجب الاتكال الكامل على روح الله لإمدادنا بالقوة التي تأتي أثمارها في الخدمة والشهادة. فليت قلوبنا تَعي هذه الحكمة الإلهية التي تُبطل كل ما هو من الإنسان لتتعظم حكمة الله من خلال صليب المسيح. له كل المجد |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
لا يقف عمل الحكمة عند النداء العملي لكل البشرية |
خطورة الحكمة البشرية |
الانطلاق من الحكمة البشرية أيضًا |
الحكمة والمعرفة البشرية |
ما هو شكل تماثيل البواسير البشرية؟ وما الحكمة! |