20 - 04 - 2015, 07:37 PM
|
رقم المشاركة : ( 6 )
|
..::| الاشراف العام |::..
|
رد: الكفـــــــن المقـــــــدس
ماذا يقول التاريخ
يجدّ المؤرّخون في البحث عن أكبر عدد ممكن من الوثائق لرسم مسيرة كفن تورينو المتواصلة، وتنقلاته عبر الأماكن والأزمان. فمن قبر أورشليم الفارغ إلى كاتدرائية تورينو، عدد من المحطّات الأساسيّة، منها ما هو موثَّق ومضمون، ومنها ما جاء في التقليد، نعرضها في مراحل أربعة هي:
المرحلة الأولى: من قبر أورشليم إلى مجد القسطنطينية (...-944)
لَمّا ركض بطرس ويوحنا إلى القبر، وأَبصرا "اللفائف ممدودة"،كان من الطبيعي أن يلتقطاها بطريقةٍ عفوية، ويحفظانها بكلّ اهتمام وعناية. ولكن، هل كانت آثار الجسم ظاهرة على الكفن في حينه؟
هل وجب علينا الأخذ حرفيًّا بكلام بولس في رسالته إلى أهل غلاطية عندما يقول لهم: "أنتم الذين عُرضت أمام أعينهم صورة يسوع المسيح المصلوب" (غلاطية 1:3)؟ وهل علينا مطابقة الكفن بالرداء الذي يشير إليه بولس، في رسالته إلى تلميذه طيموتاوس، عندما يقول له: "أحضر عند قدومك الرّداء الذي تركته في طرواس" (2 طيموتاوس 4 : 13)؟ وما هو الكفن الذي جيء على ذكره في الإنجيل المنحول بحسب العبرانيين، الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني، حيث ورد: "حين أعطى الرب كفنه خادم الكاهن، توجَّه إلى قرب يعقوب وظهر له..."؟ أو الكفن الوارد ذكره في إنجيل بطرس المنحول، الذي يعود تاريخه أيضًا إلى القرن الثاني، حيث أتى: "وأخذ يوسف الربّ، وغسله، ولفَّه بكفن، وحمله إلى قبره الخاصّ المدعو حديقة يوسف"؟ كلّها تساؤلات تشير إلى أنّه، منذ اللحظة الأولى، تداول المسيحيّون أخبار الكفن والرداء و"الصورة"، وجميعها أغراض تخصّ معلّمهم وحبيبهم.
إلى هذه التساؤلات، نضيف رواية أبجر الخامس، ملك إديسّا (الرَّها) في أيّام المسيح. تقول الرواية أنّ هذا الملك كان مصاباً بالبَرص، ولم يستطع أحدٌ شفاءه. فلمّا سمع بعجائب يسوع أَرسَل مَن يطلب إليه أن يأتي ليشفيه. لكنّ يسوع لم يستطع الذهاب إليه، فاغتنم الرسل الفرصة، بعد موته وقيامته، ليهِّربوا الكفن من أمام أعدائهم، ويرسلوه، مع تدّاوس الرسول، إلى الملك، كهدّية من يسوع وتذكار منه. ولكي يقدّموه بشكل لائق، طووه أربع طيّات بحجم المنديل، بحيث لا يرى عليه سوى شكل الوجه. تَسلَّمه الملك من الرسول تدّاوس، ولَمّا لمسه شُفي تماماً، فآمن بالمسيح، واعتمد وتبعه الكثير من شعبه. حافظ الملك على "المنديل" ووضعه في مكانٍ خاصّ تكريماً له. أمّا الرسول تدّاوس فقد تابع رسالته التبشيريّة في إديسّا ومحيطها، حتّى وصل إلى بيروت حيث مات ودُفن.
أيقونة محفوظة في دير القديسة كاترينا في سيناء، وتعود إلى الأعوام 945 - 975 ، تمثل استلام أبجر "الصورة". ما زالت هذه الرواية حيّة في أيامنا الحاضرة، خصوصًا في الليتورجيا السريانيّة المعمول بها في طقس نصف الصوم. كما أنّها وردت بقلم مؤِّرخين كبار، في تلوينات مختلفة، زادت فيها بعض التفاصيل، ونقصت أخرى. إنّ "تعليم آداي" (القرن الرابع أو السادس) يَذكر رسالة خطيّة من الملك أبجر إلى المسيح، وجواب شفهي من المسيح إليه، وفيه وعدًا بمباركة المدينة، وبأنّ الأعداء لن يسيطروا عليها أبدًا؛ كما يذكر "الصورة" التي رسمها حنّان، المبعوث الشخصي للملك أبجر. أمّا أوسابيوس القيصري (263-339) فيذكر رسالة أبجر الخطيّة إلى المسيح، والرسالة الجوابية، التي خَلَت من الوعد المذكور سابقًا، من دون أن يأتي على ذكر "الصورة". كذالك فعلت إيجيريا الرحّالة (أواخر القرن الرابع) التي ذكرت الرسالتين مع الوعد، لكنّها لا تشير أبدًا إلى وجود "صورة المسيح "في مدينة الرَّها التي زارتها في نيسان سنة 384. لاحقًا، كتب عن هذا كلّه أغابيوس، أسقف منبج (القرن العاشر) في تاريخه "العنوان" وميخائيل الكبير (1126- 1199)، بطريرك السريان، في "كتاب الحوليات".
بالرغم من تلك الاختلافات في تفاصيل الرواية، تناقل التقليد الشعبي وجود "صورة المسيح" في إديسّا، أَطلق عليها تسمية "الصورة غير المصنوعة بيد إنسان"acheiropita، فأعطى لها الناس القدرة على المعجزات، وآمنوا بالوعد الذي أعطاه المسيح للمدينة. إنّ إيفاغرُس المؤرِّخ، الذي عاش في القرن السادس، يروي تقهقر جيوش الفرس أمام أسوار إديسّا، سنة 544 ، بفضل شفاعة "الصورة".
عندما بدأتْ بدعة تحطيم الأيقونات، في القرن الثامن، قام العديد من الغيارى بالدفاع عن حقّ إقامة الشعائر للأيقونات، داعمين موقفهم بحجّة وجود "صورة" للمسيح أَرسلَها بذاته إلى ملك إديسّا، ومنهم على سبيل المثال: جرمانُس الأوّل (634-733) بطريرك القسطنطينيّة، في خطابه إلى الإمبراطور البيزنطي لاون الأيزوري؛ وإندراوس (660-740) رئيس أساقفة كريت، في خطابه عن تكريم الأيقونات؛ ويوحنا الدمشقي (675-749) في خطابه الأوَّل سنة 726 دفاعًا عن الأيقونات؛ وثيودورس الأستودي (759-826) واضع كتاب الألحان الثمانية (أُكتوئيخس)، في خطابه إلى الإمبراطور البيزنطي لاون الخامس.
ألاليوس، مطران إديسا، يشير إلى المكان المخبأ فيه المنديل، كما أوحي له في الحلم. الأيقونة من عمل الرسّام الروسي زوبوف Fedor Zubov العام 1679 وهي جزء من إيكونوستاز كنيسة المخلّص في الكرملين في موسكو. ومنهم مَن يسأل: أيجوز لأفرام السريانيّ، ملفان الكنيسة الجامعة، الذي عاش في القرن الرابع، وقطن مدينة الرَّها، وعَلَّم في مدرستها، أنْ لا يذكر شيئًا عن "الصورة"؟ الجواب يعطيه الإنكليزي يان ويلسون، إذ يقول أنّه، بعد موت الملك أبجر الخامس أوكاما، خَلَفه ابنه مَعنو السادس، الذي رفض الإيمان بالمسيح، فقام باضطهاد المسيحيين الذين سارعوا إلى إخفاء الصورة-الكفن-المنديل، فبقي منسيًا لعدّة قرون، ولم يتمّ اكتشافه إلاّ بعد الفيضان الرهيب الذي أصاب المدينة في العام 525، وأودى بحياة 30 ألف شخص، وهدم المراكز الكبيرة العامّة كلّها. فعند البدء بترميم أسوار المدينة، عُثر على "الصورة" مخبّأة في طاقة ضمن السور. فأمر الإمبراطور البيزنطي يوستينيانُس الأوَّل (482- 565) بتشييد كاتدرائيّة ضخمة على اسم القدّيسة صوفيا، تكون على مثال شبيهتها في القسطنطينيّة، حيث وُضعت "الصورة" لتكريمها.
إذًا، هنالك محطّة شبه أكيدة، استقرّ فيها الكفن-المنديل-الصورة غير المصنوعة بيد إنسان، في مدينة إديسّا (الرَّها) الزاهرة. ولكن، ما كان خطّ سيره من أورشليم إليها؟ هل مرّ عبر لبنان؟ هل مرّ في أنطاكية؟ هناك تقليد يقول بأنّ بطرس الرسول اصطحب معه الكفن أو ربّما المنديل الذي وُضع على رأس يسوع، إلى أنطاكية، حيث كان "يلفّ به رأسه في الأعياد الجليلة وفي سيامة الأساقفة" (راجع: البطريرك اسطفان الدويهي، منارة الأقداس، المنارة الثالثة، الشرح الثالث، الفصل الخامس، صفحة 298). في كلِّ الأحوال، بقي الكفن في إديسّا عدّة قرون، إلى أن غادرها إلى القسطنطينيّة سنة 944.
المرحلة الثانية : في ربوع القسطنطينية (944-1204)
في تلك الايّام، كانت الحروب على أشدّها بين البيزنطيين والمسلمين، ومدينة إديسّا واقعة تحت السيطرة الإسلاميّة. في ربيع العام 943، حاصر إديسّا جيش إمبراطور بيزنطيا، بإمرة القائد كوركواس، الذي وعد أمير المدينة بعدم مهاجمتها، وبإطلاق 200 سجين مسلم، وبدفع مبلغ 12000 قطعة من الفضّة، شرط أن يسلّمه "الصورة". وبعد أخذٍ وردّ، وافق الأمير على عرض القائد، فجاء إبراهيم، مطران سميساط القريبة، لتَسَلُّم "الصورة"، فأخذها، بعد التثبّت من أصالتها، وفَرَّ بها باتجاه القسطنطينيّة، حيث وصلها في 15آب العام 944، عيد رقاد السيّدة. وفي اليوم التالي، طاف بها الشعب على أسوار المدينة، في زيّاح إحتفالي، ثمّ وُضعت في قصر الإمبراطور، على عرشه، كي تكون له عونًا في تقديس حياته، ولكي يحكم بالعدل. وما زالت الكنيسة البيزنطيّة، حتّى أيّامنا هذه، تحتفل بهذه الذكرى، في 16آب من كلّ عام.
ما هي طبيعة هذه "الصورة" ؟
بعد عشرات السنين من التردّد، استطاع الباحثون في تاريخ الكفن اكتشاف وثائق ثلاث مَكّنتهم من إزالة الإلتباس حول طبيعة "الصورة"، التي وصلت من إديسّا إلى القسطنطينيّة، وصار باستطاعتهم التأكيد على أنّ "الصورة غير المصنوعة بيد إنسان" التي ذاع صيتها، والتي قيل أنّها صورة المسيح المطبوعة على منديل، هي بالواقع كفنه الموجود عليه، ليس صورة وجهه فقط، بل آثار جسمه كلّه. الوثائق الثلاث هي التالية:
أ- عظة غريغوريوس Grégoire le Référendaire
عندما وُضعت "الصورة" على عرش الإمبراطور، وأُلقي عليها التاج الملوكي، قام غريغوريوس،
المتقدِّم بين شمامسة القسطنطينيّة، والمنسِّق العام للعلاقات بين البطريرك والإمبراطور، بإلقاء عظة بليغة، يروي فيها سيرة "الصورة" الآتية من إديسّا، متوقّفًا عند تفصيل هام: أنّه يرى "الوجه والجنب مع الدم والماء ...". اكتشف الوثيقة العالم الإيطالي جينو زانينوتو، في العام 1986، في المكتبة الفاتيكانيّة، ونشرها وعَلَّق عليها الأب أندري ماري دوبارل الدومنيكي، في العام 1997.
ب-أخبار جان سكيليتزيس Jean Skylitzes المزيّنة بالرسوم
يُظهر هذا المخطوط، المحفوظ في المكتبة الوطنيّة في مدريد، رسمًا للإمبراطور البيزنطي رومانُس لوكابينُس (†948) يَنحني أمام "الصورة" القادمة حديثًا من إديسّا، والموجودة على منديل أبيض في طرفه شراريب حمراء، ويبرز منه وجه مستقلّ، وهو يمسكها بواسطة قطعة طويلة من القماش، مطويّة عدّة مرّات كي لا تقع على الأرض، ويقدّمها أحد المسؤولين في البلاط الملكي إلى الأمبراطور، ماسكًا إيّاها بين يديه، وجاعلاً القسم الباقي منها على كتفيه نزولاً إلى خصره.
ج-مخطوط پراي Codex Pray
يعود هذا المخطوط الشهير، المحفوظ في المكتبة الوطنيّة في بودابست (هنغاريا)، إلى أواخر القرن الثاني عشر (العام 1190). سُمِّي نسبة إلى الأب جاورجيوس پراي اليسوعي، الذي يعود له الفضل باكتشافه، في العام 1770، في مكتبة كاتدرائيّة براتيسلافا (سلوفاكيا).
يحتوي هذا المخطوط على عدّة منمنمات عن صلب المسيح، وإيداعه في القبر، فيها تفاصيل مطابقة للآثار التي نراها على الكفن، ما يدلّ على أنّ رسّام تلك الأيّام كان على علمٍ بوجود الكفن، واستطاع معاينته عن قرب، في القسطنطينيّة. ومن المرجَّح أنّه من الذين رافقوا ملك هنغاريا، بيلا الثالث Bella III، إلى بلاط الإمبراطور البيزنطي مانويل الأوّل، حيث مكث عنده أكثر من عشر سنوات. وقد قام البروفسور جيروم لوجون Jérôme Lejeune †1994، في العام 1993، برحلة خاصّة إلى بودابست، حيث عاين المخطوط عن كثب، وكتب تقريرًا مفصلاً يبيّن فيه التطابق الكلّي بين كفن تورينو و"كفن پراي".
إذاً، بقي الكفن عدّة قرون في القسطنطينيّة، حيث استطاع العديد من الحجّاج والملوك معاينته والتبرّك منه. عندها، خَفَّ الكلام عن "الصورة غير المصنوعة بيد إنسان" ليحلّ مكانه الكلام عن كفن المسيح الموجود عليه صورة وجهه وجسمه، الذي كان يُعرض للجمهور في بعض المناسبات. يروي لنا التاريخ قصّة أبو نصر يحيى، من يعاقبة تكريت، الذي شاهده معروضًا في كنيسة القدّيسة صوفيا، في العام 1058.
كان آخر ظهور للكفن في القسطنطينيّة، في العام 1204، وذلك استنادًا إلى شهادة الفارس روبير دي كلاري Robert de Clari ,ونصّها الأصلي محفوظ في المكتبة الملَكيّة في كوبنهاغن. لقد اشترك ذلك الفارس الفرنسيّ في الحملة الصليبيّة الرابعة. وفي كتابه "قصّة الذين دخلوا القسطنطينيّة " روى الملابسات السياسيّة التي رافقت عمليّة الهجوم، واصفًا قصور المدينة وكنائسها والذخائر المحفوظة فيها، آتيًا على ذكر الكفن، إذ قال :
"كان هناك كنيسة أخرى على اسم القدّيسة مريم بلاشيرن، حيث كان يحفظ الكفن الذي لفّ به ربّنا، والذي كان ينتصب بطوله كلّ يوم جمعة، بحيث كان يمكن مشاهدة قامة ربّنا كاملة. ولم يعرف أحد بعدها، لا من الروم ولا من الفرنسيين، ماذا حلّ بالكفن بعد سقوط المدينة".
المرحلة الثالثة : الرحلة من الشرق إلى الغرب (1204-1355)
استولى الصليبيّون على كنوز القسطنطينيّة وذخائرها، واصطحبوا معهم الكفن إلى جهة مجهولة. عندها، أرسل ثيوذورس أنغلس Théodore Ange ، أحد أعضاء العائلة المالكة في القسطنطينيّة، رسالة إلى البابا إنّوقنطيوس الثالث، العام 1205، قائلاً بأنّه "يَترك للغزاة الآتين من فرنسا وفينيتسيا Venezia كنوز الذهب والفضّة" ، لكنّه يطالب باسترجاع الذخائر، بخاصّة "الذخيرة الأكثر قداسة، أي الكفن الذي لُفَّ به المسيح بعد موته"، وهو يتَّكل على "عدالة بطرس"، أي البابا ، ليقوم بمسعى لاسترجاع الذخائر.
لكن، مَن هو الشخص الذي أصبح الكفن بحوزته، وإلى أين أخذه؟ هل هو أوتون دي لا روش Othon de la Roche ،أحد القادة الصليبييّن، الذي قيل أنّه أخذه إلى مقرِّه في أثينا؟ هل هم فرسان الهيكل Les Templiers الذين أخذوه إلى مقرٍّ لهم في إنكلترا؟ هل أوُدع مدينة بيزنسون في فرنسا؟ أم "الكنيسة المقدّسة" la Sainte Chapelle في باريس؟ يحاول المؤرِّخون دراسة جميع هذه الاحتمالات، لكنّهم لم يحسموا أمرهم بعد. إنّ تتبّع أثر الكفن، بعد خروجه من القسطنطينيّة، أمر صعب، إذ تعوز المؤرّخين الوثائق الدقيقة.
المؤكّد هو أنّ الكفن ظهر في مدينة ليريه Lirey في فرنسا، حوالي العام 1355، حيث عُرض للجمهور، مفتتحًا مرحلة جديدة من مسيرته التاريخيّة. وإنْ لاقت المرحلة السابقة بعض التحفّظ، من قبل المؤرِّخين، فالمرحلة هذه لاقت إجماعًا منهم.
المرحلة الرابعة : الاستقرار في أوروبا (1355-...)
كنيسة ليريه يجمع المؤرّخون على أنّ العرض العلني الأوّل للكفن في أوروبا أُقيم في كنيسة مدينة ليريه الفرنسية، حوالي العام 1355، بمسعى من الفارس الفرنسيّ جوفروا دي شارني الأوّل Geoffroie de Charny I الذي يُعتبر المالِك الأوّل للكفن في الغرب، من دون أن نعرف بالتحديد كيف حصل عليه ! للمناسبة، جرى نقش قلاّدات من الرصاص، عليها شكل الكفن، وآثار الجسم، من الأمام ومن الوراء، مع شعار عائلة دي شارني، وشعار عائلة دي فرجي، يحتفظ متحف كلوني Cluny في باريس بنموذج وحيد عنها عَثر عليه أحد هواة الصيد في نهر السين Seine.
قلادة الرصاص التي نُقشت بمناسبة عرض الكفن في ليريه بعد "استشهاد" زوجها في معركة بواتييه Poitiers، في 19 أيلول 1356، قامت جان دي فرجي Jeanne de Vergy، بتسليم الكفن إلى شناونة chanoines ليريه، فعملوا على تنظيم عروضات علنيّة، ودعوا الناس لمشاهدة "كفن المسيح" والتبّرك منه.
أثارت هذه العروضات ردّات فعل مختلفة. فبينما لاقت حماسًا شعبيًّا، وتَدفَّق الناس على ليريه، حاملين معهم النذور والتقادم، ما أنعش اقتصاد المدينة، ورفَعَ من شأن عائلة دي شارني، لاقت اعتراضًا من الأسقف المحلّي هنري دي بواتييه Henri de poitiers، بحجّة أنّ الدافع إلى العروضات هو "الطمع المادي وليس الورع"، مبديًا عدم اقتناعه بصحّة الشكل الموجود على الكفن، لأنّ "الإنجيل المقدّس لم يأتِ على ذكر طبع مشابه". فقام الأسقف "بتحقيق لبق وفعّال، واكتشف التزوير، وكيف رُسم هذا القماش الذائع الصيت بأسلوب فنّي... وأنه صُنع يدٍ بشريّة ولم يُصنع أو يوهب بمعجزة". عندها، توقَّفت العروضات، وخُبِّئ الكفن، تجنّبًا للمواجهة مع الأسقف.
بعد فترة من الزمن، قام آل دي شارني وشناونة ليريه بإعادة العروضات العلنيّة، ما أدّى إلى اعتراض آخر من الأسقف المحلّي الجديد بيار دارسي Pierre d'Arcis الذي سارع برفع القضيّة إلى البابا الزور في أڤينيون Avignon، إكليمنضُس السابع، في رسالة طويلة، في تشرين الثاني العام 1389، يكرِّر فيها حجج سلفه المعارضة للعروضات، طالبًا من البابا التدخّل لوقفها. لكنّ البابا، في رسالة جوابيّة إلى الأسقف، طلب منه السكوت عن القضيّة، تحت أمر الطاعة، وبعث رسالة أخرى إلى سيّد ليريه الجديد، جوفروا دي شارني الثاني، فارضًا شروطه لاستمرار العروضات. على كلّ حال، لم يعد من قيمة لهذه الرسائل الإعتراضيّة، بعد أن أثبت العِلم الحديث عدم وجود أيّ مادّة تلوينيّة على النسيج، وبالتالي، من المستحيل أن يكون الكفن من صنع رسّام، مهما كان متحاذقًا.
الدوق لويس الأوّل دي ساڤوا بعد موت جوفروا دي شارني الثاني، في 22 أيار 1398، إنتقلت ملكيّة الكفن إلى ابنته مارغريت دي شارني، التي أرادت التصرّف به بحريّة، والإستغناء عن "خدمات" شناونة ليريه. عندها حصل خلاف بينها وبين الشناونة، أدى إلى انتقال القضيّة إلى المحاكم، ما دفع مارغريت إلى التخلّص من الكفن، وبيعه إلى لويس الأوّل، دوق ساڤوا، في 22 آذار 1453. وهكذا أصبح الكفن مُلكًا لهذه العائلة، ذات النفوذ القويّ، يرافقها في تنقلاتها من مدينةٍ إلى أخرى، ومن قصرٍ إلى آخر، إلى أن استقرَّ في كنيسة مدينة شامبيري Chambery، في 11حزيران العام 1502 .
وفي ليل 3كانون الأوّل العام 1532، شبّ حريقٌ في الكنيسة، فوصل إلى المكان المحفوظ فيه الكفن، وطال بعض أطرافه، مسبِّبًا بعض الخروقات في القماشة ما زالت ظاهرة حتّى اليوم.
بعد فترة من الزمن، قام دوق الساڤوا بإرساله إلى دير الراهبات الكلاريّات القريب لِرَتقه في الأماكن التي أتت عليها النيران.
الدوق شارل الثالث دي ساڨوا امتدت عملية الإصلاح من 16نيسان لغاية 2أيار1534، حين أُعيد الكفن إلى مكانه في كنيسة شامبيري. وحصل أنّه، بعد بضعة أشهر، اجتاحت الجيوش الفرنسيّة مملكة آل ساڤوا، ما اضطرّ الدوق شارل الثالث الانتقال إلى مدينة تورينو، مصطحبًا معه "الكفن المقدس"، حيث أقام له العرض العلنيّ الأوّل في هذه المدينة، في 4 أيار، العام 1535، الموافق "عيد الكفن المقدّس"، الذي كان البابا يوليوس الثاني أسَّسه العام 1506. ثمّ راح دوقات الساڤوا يجوبون به المدن المختلفة، فانتقلوا به من تورينو إلى ميلانو Milano، وإلى فرشللي Vercelli، وإلى نيس Nice ، ليعودوا به إلى شامبيري في العام 1561، ثمّ إلى تورينو، ليستقرّ فيها في الرابع عشر من شهر أيلول العام 1578، ولم يزل.
أثناء وجوده في تورينو، زاره أسقف ميلانو المحبوب، القدّيس شارل بوروميه، سيرًا على الأقدام، من ميلانو إلى تورينو، يرافقه اثنا عشر شخصًا من المختارين، في أواسط تشرين الأوّل، العام 1578، وفاءً لنذر قام به، كي تخلص أبرشيّته من مرض الطاعون.
وفي الرابع من أيار، العام 1613، عُرض الكفن للجمهور، بحضور أسقف جنيڤ، القدّيس فرنسيس دي سال، الذي كان يحمله بيديه. يتذكر الأسقف القدّيس هذا الحدث، في رسالة له إلى القدّيسة جان دي شانتال.
كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في تورينو وفي الأوّل من حزيران العام 1694، وُضع الكفن في مقرٍّ جديد لا يزال فيه حتّى اليوم. وهذا المقرّ كناية عن كنيسة ملاصقة لكاتدرائيّة القدّيس يوحنا المعمدان في تورينو، من عمل المعماري الإيطالي غوارينو غواريني Guarino Guarini.
إنّ أهالي تورينو متعلّقون جدّاً بالكفن، بحيث لا يدعونه يترك المدينة إلاّ في حالات استثنائيّة، كما حصل مع بداية الحرب العالميّة الثانية، عندما تمَّ نقله إلى دير مونتي فرجينه Montevergine للآباء البنديكتيين، في جنوب إيطاليا، حيث مكث فيه من أيلول العام 1939 حتّى تشرين الأوّل العام 1946، حين عاد إلى مقرّه الأساسيّ.
الجدير بالذكر أنّ الكفن بقي مُلكًا لآل ساڤوا حتى آخر مَلك لهذه السلالة، واسمه أومبرتو الثاني، الذي توفّي معزولاً في البرتغال، في 18آذار العام 1983. وقد ضَمَّن وصيّته بندًا بالتنازل عن حقّه في ملكيّة الكفن لكرسي روما الرسّولي، شرط أن يبقى في مدينة تورينو. فقام البابا بتعيين رئيس أساقفة المدينة حارسًا للكفن، فعيّن، بدوره ، "اللجنة الأبرشيّة للمحافظة على الكفن" مؤلّفة من إكليروس وعلمانيين اختصاصيين.
البابا يوحنا بولس الثاني وأومبرتو الثاني دي ساڤوا
أثناء وجوده في تورينو عُرض للجمهور مرّات عديدة، كان آخرها في العام 2010.
|
|
|
|